مؤسسة الفكر العربي القاهرة 29 اكتوبر 2002
هناك علاقة تلازم حتمية بين النظام السياسي والنظام الاجتماعي. ذلك أن كل نظام سياسي هو علاقة قوى تضمن إعادة انتاج توزيع السلطة المادية والمعنوية.
ولا شك أن النظام الاجتماعي مزتبط أيضا بالنظام الاقتصادي. لكن من الممكن تغيير النظام الاقتصادي سياسيا وفكريا وبالتالي تغيير النظام الاجتماعي. هذا هو دور الحركات التغييرية التي تفترض حصول طفرة في الوعي وقوة في الإرادة نتيجة تراكم الخبرة والمعرفة في التاريخ والتي يعاد من خلالها صهر الشعوب وإعطائها وجهة ومعنى وتزويدها بمباديء وقيم وغايات تجعلها لا تعيش كما تعيش التجمعات الحيوانية سجينة منطق الصراع الهمجي الدائم أي كمجتمعات طبيعية ولكنها تحولها إلى مجتمعات عقلية أي مسلمة لمنطق العقل الذي يجعلها تسيطر على نفسها ونزاعاتها الداخلية ويوحد سلوكها وينشر التناغم والانسجام في صفوفها فتتحول إلى نظام حي يتميز بالاتساق والتضامن والتفاعل الايجابي. فجوهر هذه العملية كلها هو تحرر الجماعات من منطق الصراع الوحشي غير الواعي الذي يحل محله منطق الوعي والإرادة وتقرير المصير.
ولا شك أن من الصعب القول إن مجتمعاتنا قد خرجت نهائيا من المنطق الطبيعي الوحشي وانها بدأت تخضع في سلوكها الجمعي وفي تقرير مصيرها إلى الوعي والإرادة الحرة المختارة. ولا يزال الكثير منها يعيش على قاعدة القوة الوحشية ومنطق العنف الأشد الذي يحدد الرابح والخاسر فيها كما يحدد مصير السياسات المطبقة ونوعيتها. ولا يتجلى هذا المنطق الطبيعي في سيطرة القوى العسكرية المدججة بالسلاح على النخب الحاكمة في أغلب البلاد العربية فحسب ولكن أكثر من ذلك في سيطرة أصحاب المصالح الكبرى الاقتصادية أو السياسية أو الدينية. إن الفرد هو الوحيد الذي لا خيار له ولا إرادة. وما دامت المجتمعات غير قادرة على توفير مثل هذا الاختيار وممارسة الإرادة الحرة لدى الأفراد الذين يكونونها فليس هناك ولا يمكن أن يكون هناك منطق آخر يحكمها سوى منطق القوة والعنف الأشد.
لذلك يمكن القول إن النظام الاجتماعي الموجود اليوم في البلاد العربية هو ثمرة التنازع الحر على الموارد من دون توسط عقلي أو سياسي أو أخلاقي. ونحن نعيش بالتالي، وبسبب انعدام هذا التوسط العقلي والسياسي والأخلاقي، أي بسبب استمرار خضوعنا لمنطق القوة لا لمنطق العقل والتفاهم في إدارة شؤوننا العامة وبناء العلاقات التي تربط بيننا، في مجتمعات وحشية يفتك فيها القوي بالضعيف لا في مجتمعات متمدنة أو مدنية.
الطبقات الموجودة طبقات مفترسة وافتراسية لا يمكن أن تقوم بالديمقراطية أو تطمح إليها.
النظرية الغربية السائدة المستمدة من التجربة الأوروبية الامريكية تقول إنه مع نمو القطاع الخاص والليبرالية الاقتصادية لا بد أن تنشأ ليبرالية سياسية ويزيد الاتجاه نحو الديمقراطية. فالديمقراطية هي من إنتاج الطبقة الوسطى.
في الواقع نوعية القطاع الخاص والطبقة التي يفرزها في البلاد النامية والتي تعتمد في وجودها على المضاربة والسيطرة السياسية كيما تعوض فرق القيمة في الاستثمار بالمقارنة مع الرأسماليات السائدة لا يمكن أن تتماشى مع الديمقراطية.
الديمقراطية لا أساس عميق ليها إذن في مجتمعاتنا بعد اللهم إلا إذا نجحنا في الخروج من نظام التوزيع القائم حاليا نحو نظام إنتاجي يكون في التنافس على النوعية ومردود العمل أقوى للوصول إلى النتائج الاقتصادية والسياسية من استخدام منظق التلاعب والقوة المادية والعسكرية. وهذا يحتاج إلى اقتصاد لديه الحد الأدنى من الاستقلال والديناميات الداخلية. وهذا يتطلب اقتصادا كبيرا وسوقا واسعة في منظور منظق الاستثمار ومردوده في الحقبة الراهنة. وهو ما يستدعي إذن تغييرا أيضا في البنية الجيوستراتيجية.
لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نخرج من نظام الشمولي الذي يعامل الناس كالحيوانات ويكرشهم كرشا ولا يترك لأحد مجالا للقول أو المشاركة. فبين العشق والاغتصاب هناك امكانيات أخرى عديدة. فهناك زواج العقل وزواج المصلحة وزواج القرابة وزواج المتعة وزواج المسيار الجديد بل وزواج التجحيش. وكل هذه الزواجات تلتقي في شيء واحد وهو أن هناك قاعدة تقوم عليها ويعرفها الطرفان منذ البدء وهي قاعدة قانونية.
وكل هذه الزواجات ممكنة ومقبولة ومفضلة على الاغتصاب بما في ذلكك زواج التجحيش الذي بدأ يسود في بعض الاقطار. حيث يزوج الشعب برلمانا لا قيمة له على الاطلاق ولكن فقط للكيد من الزوج الحقيقي وقطع الظريق على النخب الوطنية.
وفي اعتقادي أن نمط الحكم السائد في العالم العربي ليس له أي مبرر لا أمني ولا غير أمني. فلا شيء يمكن أن يفسر محاكمة شخص عشر سنوات على تعرضه بالنقد للأوضاع الاجتماعية المزرية إلا الثقافة السياسية البدائية أو بالأحرى انعدام أي ثقافة سياسية لدى العديد من النخب الحاكمة والأشخاص الذين استولوا على الحكم بطرق لا شرعية واستيلائية واستفادوا من ظروف خاصة واستثنائية خارجية وداخلية.
أن الجهل والأمية والوحشية الكامنة في فئات بقيت خارج الحضارة والتاريخ لعقود طويلة هو الذي يفسر التدهور الخطير الذي أصاب قيم الممارسة السياسية في البلدان العربية وقضى على روح المدنية لصالح انماط سيطرة وحشية وحيوانية بالمعنى الحقيقي للكملة وليس المجازي, أي لا مرجع لها سوى القوة المادية المجردة.
إن المجرم الحقيقي ليس ذاك الذي انتقد الدستور ولكن حامي الدستور الذي قبل بأن يقضي على حياة إنسان ويرمي به في السجن الأبدى لا لشيء إلا لأنه تحدث عن ضرورة تغيير الدستور أو إصلاح مواده اللاعقلانية.