ترجمة للمقابلة التي أجرتها مجلة أناليست لمعهد دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا التركية مع الدكتور برهان غليون ك١، ٢٠١٥
أجرت
المقابلة بشرى نور اوزغولير
سؤال:
لم يأت عام ٢٠١٤ بأي تقدم ايجابي أو ذي معنى في التوصل إلى حل للأزمة. وقد وضعت تعقيدات الأوضاع السورية البلاد في حالة مختلفة عن جميع تلك التي شهدتها بلدان الربيع العربي. ما هو الخطأ في سورية؟ هل سبب ماحصل يرجع إلى عوامل تاريخية أو سياسية أو اجتماعية؟
غليون:
ليس هناك في سورية أي خطأ. بالعكس سورية من حيث الثقافة والتكوين السكاني المتنوع أكثر البلدان تاهيلا لشعبها على استخدام لغة الحوار والبحث عن الحلول السلمية والتشجيع على الانسجام وتدوير الزوايا وتجنب النزاعات الداخلية. وتاريخها يكاد يكون خال من مثل هذه النزاعات..
الخطأ موجود في طبيعة النظام السوري القائم أولا، وفي طبيعة تحالفاته ثانيا، وفي ما نسميه بالمجتمع الدولي، أي الأمم المتحدة ومجلس الامن الذين أطهرا فشلا ذريعا في تحمل مسؤولياتهما تجاه الشعب السوري، ثالثا..
فالنظام السياسي السوري الذي ولد من انقلاب عسكري فئوي فقد فيه الشعب السيطرة على مصيره، واحتكرت الحكم طغمة عسكرية مقطوعة عن المجتمع، ما كان يستطيع أن يستمر ويضمن استقراره من دون تأمين قاعدة اجتماعية تابعة له ومفصولة عن الشعب، والعمل على نسج تحالفات أجنبية تمكنه من مقاومة الضغوط الدولية والإقليميه . وهذا ما فعله بالضبط. حيث نجح في أن يتجاوز عزلته الاجتماعية والسياسية بتشكيل قاعدة اجتماعية زبائنية، أي مكونة من جميع أؤلئك الباحثين عن المنفعة الشخصية والذين لا يحركهم أي هم وطني أو أخلاقي، ومعتمدة في تماسكها على نخبة عشائرية مؤلفة من أبناء الجماعات الأهلية التي ينتمي إليها أهل الحكم، من الذين فقدوا ارتباطاتهم الأصلية وأصبحوا في حكم المرتزقة المستعدين لبيع خدماتهم وولائهم لمن يدفع لهم. وكانت النتيجة تشكيل قاعدة اجتماعية من أصحاب المصالح الخاصة والوصوليين الذين يفتقرون للحد الأدنى من الشعور الاجتماعي أو الالتزام السياسي، ولا يهمهم مصير بلدهم أو مستقبله في شيء، كل ما يبحثون عنه هو تعظيم مكاسبهم وتخليد النظام الذي مكنهم من موارد الدولة والبلاد. فلم يعد هناك فرق كبير بين الحكم والغزو، حتى لو كان هذا الغزو هذه المرة داخليا وليس اجنبيا. وهذا ما يفسر تماسك القاعدة الاجتماعية الرئيسية للنظام الحاكم بالرغم من كل الهمجية التي أظهرها قادتها في التعامل مع المجتمع والشعب، والحرب التدميرية التي شنتها قوات الجيش المحلية بالمشاركة مع ميليشيات أجنبية، ولا تزال مستمرة فيها منذ ما يقارب السنوات الأربع..
وإلى جانب الطبيعة الوصولية لهذه القاعدة الاجتماعية، عزز النظام السوري استقلاله عن المجتمع بتحالفات استراتيجية مع طهران التي تطمح إلى لعب دور قيادي في مصير منطقة المشرق التي تعتبرها جزءا من مجالها الحيوي. وأصبح من المعروف اليوم أنه من دون تدخل الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية والايرانية المدربة والممولة والمسلحة من قبل الحرس الثوري الايراني والمعبأة بعقيدة مذهبية وطائفية، كان نظام الاسد قد سقط في منتصف عام ٢٠١٢، عندما وصل الثوار السوريون إلى كفر سوسة، أو إلى أقل من ثلاث كيلو ميترات من القصر الرئاسي في دمشق. ولا يخفي حزب الله ولا المسؤولون الايرانيون أنهم هم الذين انقذوا النظام من السقوط، وأن ميليشياتهم هي التي تخوض الحرب اليوم بدل جيش النظام المتهالك، وأن لهم مطامع شرعية في السيطرة على سورية بوصفها حلقة الوصل بين لبنان حزب الله والعراق والحلقة الضرورية لتكوين ما يسمونه هم أنفسهم في طهران: الهلال الشيعي. ولهم في ذلك أهداف استراتيجية متعددة. أولها فك الحصار الذي ضربه الغرب والولايات المتحدة خاصة عليهم بسبب برنامجهم النووي، وثانيا تهديد بلدان الخليج كجزء من الضغط على الغرب للتنازل في مفاوضات الملف النووي الايراني، وثالثا الاحتفاظ بقوة ردع في جنوب لبنان لمنع الغرب من التعرض للمنشآت النووية الايرانية، ورابعا قطع تركيا عن المشرق العربي من أجل التحكم الاحادي باسواقه وموقعه الاستراتيجي وفرض طهران نفسها فاعلا رئيسيا إن لم تكن الفاعل الوحيد في مصير الشرق الأوسط كله.
لكن العامل الأكبر الذي مكن النظام السوري وايران من تحقيق خططهما والاستمرار في الحرب على الشعب السوري واستخدام أبشع الوسائل والاسلحة المحرمة، بما فيها الكيماوية، من دون عقاب، هو شلل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ونجاح روسية، حليفة النظام وايران، في تحييد القرارات الصادرة عنه بخصوص الأزمة السورية، ودعمها المستمر لحلفائها في دمشق وطهران. فمن دون هذا الشلل الذي فرض على مجلس الأمن ما كان من الممكن للنظام أن يصمد أمام المقاومة البطولية للشعب السوري وما قدمه من تضحيات في سبيل نيل حريته واستقلاله وحقوقه الاساسية.
والكل يعرف اليوم أن هذا التدخل الايراني الواسع والشامل، السياسي والايديولوجي والعسكري والمالي والاعلامي، والدعم الروسي المستمر بالسلاح، هو أصل المشكل وسبب استمرار المأساة السورية
سؤال: في مصر كانت للمعارضة تجربة كبيرة في مواجهة النظام في ا لسنوات العشرة السابقة للثورة. أما في سورية فلم تشهد البلاد سوى ربيعا قصيرا وبعض الجهود المتعلقة بإعلان دمشق، وقد حطمهما النظام بقوة مستخدما استراتيجيات مختلفة. وقد كنتم منخرطين بعمق في كلاهما. لو أردنا الحديث عن تماسك المعارضة السورية، هل تعتقدون أن هذه المعارضة تمتلك رؤية واستراتيجية واضحتين لمواجهة النظام أو هل تعتقدون أن رد فعل المعارضة على النظام كانت مرتجلة خلال موجات الاحتجاج التي أطلق عليها في المنطقة اسم الربيع العربي؟
غليون:
أثير الكثير من النقاش حول ضعف المعارضة السورية وانقساماتها. وهذا صحيح. لكنه السمة المشتركة بين جميع المعارضات الناشئة عن انهيار النظم الشمولية. من طبيعة هذه النظم أن تحرم المجتمعات من التواصل والحوار والنشاط الفكري والسياسي الحر، وبالتالي من تكوين منظمات معارضة متماسكة فكريا وسياسيا وذات قاعدة اجتماعية قوية وثابتة. وفي جميع الحالات تبقى هذه المعارضات معزولة ومحصورة في أقبية تحت الأرض لا يعرفها الناس ولا تعرفهم. وهذا ينطبق على المعارضة السورية.
ومع ذلك، نجحت المعارضة السورية في المرحلة الأولى من تشكيل المجلس الوطني السوري، الذي تشرفت برئاسته في مرحلة انشائه، في ايجاد واجهة وعنوان مرضيين وشعبيين في سورية والعالم للثورة، وبلورت رؤية واضحة وشفافة لسورية المستقبل، كدولة ديمقراطية مدنية تعددية تساوي بين جميع مواطنيها، بصرف النظر عن أصلهم وجنسهم وانتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية. وقد أصدر المجلس الوطني السوري هذه الوثيقة ونشرها تحت اسم العهد الوطني لسورية المستقبل. كما تمكنت المعارضة من عقد مؤتمر موحد في القاهرة تحت رعاية جامعة الدول العربية بتاريخ 3/7/2012، تبنى الوثيقة ذاتها وأصدرها مع بعض التعديلات باسم وثيقة العهد الوطني.
لكن المعارضة السورية لم تتلق الدعم الكافي الذي كان ضروريا لها كي تكون مواكبة في برامجها وخطابها للتحولات الجارية على الارض، ولتطور ديناميات الصراع العسكري والسياسي والاجتماعي ، بعد أن تحولت ثورة السوريين من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة. فقد بقيت المعارضة بعيدة أو مبعدة عن أهم ركيزتين لهذه التطورات على الأرض وهما تسليح وتمويل الكتائب المقاتلة الذي استفردت به دول أجنبية صديقة، وأعمال الإغاثة الانسانية التي ازدادت أهميتها مع استشراس النظام وايغاله في القتل والدمار، والتي تولت شأنها منظمات الإغاثة الدولية. وكان من الطبيعي أن يضعف ذلك موقع المعارضة القيادي، ويثير الخلافات في ما بين أطرافها، ويزيد من تدخل القوى الصديقة في شؤونها، وكذلك من اختراقات القوى العدوة لصفوفها. وفي النهاية، وهذا هو الأهم، أن يباعد بينها كمعارضة سياسية وبين قوى الثورة المقاتلة على الأرض والناشطين المواكبين لها، وأن يقلل، في النهاية، من صدقيتها وتمثيليتها. ومع تراجع الأمل بحسم سريع للصراع، وتردد السياسة الأمريكية، وتخبط تجمع أصدقاء الشعب السوري، بدأت المعارضة أيضا تفقد التفاعل مع الأرض، وظهر التناقض عميقا بين أداء المعارضة الهزيل وكفاح الثوار البطولي على الارض.
:سؤال
لا يزال للنظام حتى الآن قاعدة دعم اجتماعية وسياسية. ما السبب في بقاء تحالف النخب في سورية قويا؟ ولماذا لم تنجح الاحتجاجات في إحداث صدى داخلي وإقليمي ودولي أكبر ؟
غليون:
في ردي على السؤال الأول جزء من الإجابة، عندما تحدثت عن الطبيعة الزبائنية والارتزاقية للقاعدة الاجتماعية للنظام، وعلى رأسها جماعات المصالح العسكرية والأمنية التي أصبحت شريكا رسميا لرجال الأعمال المرتطبين هم أنفسهم بالجماعات الاهلية ذاتها التي ينتمي إليها رجال السلطة. مما شكل طبقة حاكمة ومسيطرة متكاملة، تملك مواردها المستقلة من السلاح والمال والسلطة والنفوذ، التي تمكنها من إخضاع الشعب وحكمه من دون أي حاجة إلى القانون أو التشاور مع ممثليه أو الاستشارة. وهذا ما وحد الدولة ومؤسساتها مع الفئات المالكة والمسيطرة، وحولها إلى إطار لإدارة شؤون الطبقة الحاكمة ودفع بهذه الاخيرة إلى أن تتصرف أكثر فأكثر كمافيا لها ارتباطات قوية إقليمية ودولية. وسأضيف عليها أن الانتهازية والوصولية المشجعة على البحث عن المصالح الخاصة وانعدام التفكير بالمصالح العمومية تحولت خلال أكثر من نصف قرن من الحكم العرفي وقانون الطواريء والقوانين الاستثنائية، إلى ما يشبه الثقافة العامة، وكادت تزول نهائيا عند الناس أي رؤية لمعنى ومفهوم المصالح الوطنية، باستثناء العداء للأجنبي الذي لعب عليه نظام البعث كثيرا ليخفي رهانه على إحياء المصالح الفردية والفئوية والجهوية عامة على حساب الرؤية والمصلحة الوطنية.
وقد أثارت الثورة السورية في بداياتها حماسا كبيرا في الداخل وفي العالم العربي والعالم أجمع. وتشكلت مجموعة أصدقاء الشعب السوري من أكثر من مئة دولة، وساهمت في اصدار قرار من الجمعية العامة يدعم مطالب الثورة ويطالب الاسد بالرحيل )شباط١٦ / فبراير ٢٠١٢ (. لكن مع تردد المجتمع الدولي في اتخاذ اجراءات فعالة ضد نظامي الاسد وطهران التي تورطت منذ الايام الاولى للثورة معه، والتصعيد في الاعمال الوحشية لميليشيات النظام، وما نجم عنها من ظواهر القتل بالجملة والمذابح اليومية وتشريد ملايين السوريين وتفاقم قضية اللاجئين، ثم في ما بعد تطور الأبعاد الطائفية للحرب، وتنامي اعداد التنظيمات المتطرفة مثل القاعدة، وظهور تنظيم الدولة الاسلامية )داعش( التي لعبت دورا مهما في ضرب قوى الثورة المدنية ومساعدة النظام، بدأ الرأي العام العربي والدولي يتغير، ودخل الشك حول اهداف الثورة ومآلها إلى نفوس الكثيرين، بما في ذلك داخل سورية نفسها. وهذا ما كانت تراهن عليه طهران ودمشق لعزل الثورة وتشويه صورتها وإظهارها على انها من صنع منظمات إرهابية وليست ثورة شعبية. ولا شك أنه كان لضعف المعارضة وبشكل خاص لسوء إعلامها دور أيضا في تراجع صورة الثورة وتشوشها عند الرأي العام.
سؤال:
منذ البداية ادعى النظام أن المحتجين كانوا مجموعة من المجرمين بل الارهابيين. وحاول أن يبني واقعا افتراضيا بهذا الخصوص. والآن، بعد أربع سنوات نحن نواجه ظاهر تنظيم الدولة الاسلامية المطابقة للصورة السابقة. ومن الممكن القول إن ادعاءات النظام قد تحولت إلى واقع. هل توافق على هذا القول؟
غليون:
بالفعل عمل النظام السوري كل ما يستطيع من أجل أن يغير صورة الثورة السياسية الديمقراية السلمية التي تحظى بتعاطف العالم، ويشوه سمعتها حتى يسهل عزلها وتبرير الوحشية التي يواجه بها مقاومة الشعب السوري البطولية وصموده. وكانت الاستراتيجية بسيطة وواضحة وهي إتاحة الفرصة بكل الوسائل لنشوء داعش والقوى المتطرفة التي كان على علاقة وثيقة مع الكثير من قادتها منذ أعوام طويلة، وكان قد استخدمها في لبنان وغيره، لكن بشكل خاص، منذ حرب الصحوات عام ٢٠٠٧ ضد القوات الأمريكية في العراق. وكان يكفي من أجل ذلك إطلاق سراح المتطرفين القابعين منذ سنوات في سجن صيدنايا، ثم أؤلئك الذين كانوا يقبعون في سجن ابو غريب قرب بغداد، حتى يبدأ السباق. وخلال أقل من سنتين نجح داعش بإعادة تنظيم نفسه واستقطاب عناصر من خارج المنطقة. وتحول إلى طرف رئيسي في الصراع على الارض السورية بفضل تحالفه الضمني مع جيش النظام أو تجنبه الصدام معه، ومحاولته السيطرة على المناطق المحررة من قبل الجيش الحر .
وكما ذكرت، منذ البداية كانت خطة النظام ان يحرف الثورة عن أهدافها ويشجع على ظهور الارهاب حتى يضع العالم الذي وقف ضده أمام خيار مستحيل: نظام الأسد أو داعش. على أمل أن يختار المجتمع الدولي النظام كأهون الشرين.
وفي الواقع نجح إلى حد كبير في رهانه، ليس لأنه أقنع العالم بأنه أفضل خيار، وإنما لأنه استطاع أن يشوش على الثورة القائمة ضده، وأن يخلط الأوراق، ويدفع الرأي العام الدولي، الرسمي والشعبي، إلى التشكيك في حقيقة الثورة السورية ومآلاتها.
لكنه وإن استطاع أن يغش بعض الاوساط الدولية، ويدفع بعضها إلى التردد، كما هو الحال في بعض أوساط الإدارة الأمريكية والاوروبية، إلا أنه لم ينجح في أن يعيد تاهيل نفسه كخيار محتمل. ولا يزال الجميع ينظر إليه بوصفه السبب الأول في نشوء الارهاب وتطوره، وأن القضاء على نظام الارهاب الذي يمثله الأسد هو شرط لا غنى عنه للنجاح في محاربة ارهاب داعش.
كما أنه لم ينجح في التغطية على وجود الجيش الحر والمعارضة الوطنية الديمقراطية التي لاتزال تحقق انتصارات حقيقية في العديد من جبهات القتال، كما هو الحال في ريف دمشق والقلمون والقنيطرة وحوران وحماة وحلب وادلب وغيرها. ولا يزال المجتمع الدولي يراهن على تعزيز دور المعارضة الوطنية في مواجهة داعش ونظام الأسد في الوقت نفسه.
سؤال:
ما هي توقعاتكم حول تنظيم الدولة؟ كيف تتصورون أن يكون القتال ضده؟ وكيف ينبغي على السلطات الاقليمية والدولية أن تتعامل معه؟ وما هي مقاربة مجموعات المعارضة السورية لهذا الموضوع؟
غليون:
أنا اعتقد أن قوة داعش ليست ذاتية وإنما هي ناجمة عن استفادته من الثغرات التي نجمت عن غياب التفاهمات الوطنية والاقليمية والدولية، وسعي العديد من الاطراف الداخلة في الصراع إلى استغلال التطرف وتجيير قوته لتغيير التوازنات العسكرية أو لتحقيق أهداف متباينة. وأعتقد كذلك أنه لو أصبح القضاء على تنظيم داعش هدفا مشتركا في الداخل السوري والخارج الاقليمي والدولي لما استمر حتى الآن . وهذا هو أصلا سبب تطور قوته وانتشاره أيضا. على سبيل المثال ليس من مصلحة الأسد القضاء عليه، ولا من مصلحة المعارضة الوطنية ترك جبهات الصراع العديدة ضد الأسد والتوجه لجبهة داعش، وبالتالي إراحة الاسد، ولا تريد الولايات المتحدة والغرب الاستثمار الكبير في قتال داعش في الوقت الذي لا تزل طهران تدعم سياسة طائفية إقليمية وتعزز من قوة ميليشياتها ونفوذها في سورية والدول العربية. وبالمثل ليس من مصلحة طهران الاستثمار في القضاء على داعش من أجل تعزيز استقلال وتحرر شعبي العراق وسورية وتخفيف الضغط عن بلدان الجزيرة العربية. باختصار لا أحد يريد القضاء على داعش لحساب نظام الأسد الذي فقد الشرعية وأظهر وحشية لا تقل عن وحشية داعش، أو لحساب مشاريع طهران التوسعية وانتصار ميليشياتها التي لاتقل وحشية عنه..
وعلى أغلب الظن، إذا لم يتم التوصل إلى تفاهم دولي وإقليمي لوضع حد لتغول طهران على القوى الديمقراطية في سورية والعراق ولبنان واليمن وبقية البلاد العربية، أو التوصل إلى تفاهم دولي معها يفرض على جميع دول المنقطة احترام سيادة بعضها البعض واستقلالها وحق شعوبها في تقرير مصيرها من دون تدخلات وضغوط خارجية، سوف نسير نحو حرب استنزاف إقليمية طويلة، تشكل داعش طرفا فيها، من دون أن يعني ذلك وقف الهجمات الأمريكية التي تهدف إلى تحديد نفوذ داعش وتوجيهه، كما حصل في عين العرب في الشهرين الماضيين، بعيدا عن المواقع الاستراتيجية الحساسة مثل اربيل وبغداد.
وتحجيم داعش والقضاء عليه يمر بطريق إنهاء الأزمة السياسية والوطنية والطائفية التي فجرتها سياسات طهران الاقليمية وضغوطها المتواصلة على الدول العربية - التي تعاني هي نفسها من أزمة سياسية داخلية- لتحرير نفسها من الضغوط الغربية ومن الحصار، واستخدامها هي ذاتها حصار الدولة العربية وشلها، كما في لبنان والعراق واليمن وسورية، وسيلة للضغط على الغرب وابتزاز التنازلات. هذا يعني أن الطريق إلى وضع حد لتطور داعش ولاستقطابه المزيد من المقاتلين في سورية والعراق والعالم، يستدعي الانكباب على الأزمة السورية وعلى الفراغ الذي احدثه الصراع الطويل والمرير بين النظام الاسدي وقوى الثورة، وغياب آفاق الحسم، وايجاد مخرج منها، كما يستدعي إنهاء السياسات الطائفية والانتقامية للسلطة التي نشات بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق. وفي السياق ذاته، يستدعي إعادة بناء الجيش والأمن العراقي على قاعدة وطنية لا طائفية، ووضع حد لاختطاف الدولة والرهان على دعم الميليشيات المحلية التي تتحكم بها سلطة مذهبية مقرها الرئيسي في طهران. وبالمقدار نفسه، تمكين الجيش الحر والسوريين عموما من حسم معركة الصراع لتغيير السلطة وتحرير البلاد من الميليشيات الاجنبية، العراقية والايرانية والافغانية واللبنانية والسورية التابعة لايران مثل ما يسمى جيش الدفاع الوطني، بموازاة العمل على حصار تنظيم داعش ودفع العناصر السورية المغرر بها فيه إلى مراجعة نفسه والانشقاق عنها.
، وبالنسبة لموقف المعارضة السورية، فهي تدرك أن الحرب ضد الارهاب لن تكون مجدية، وسوف تخدم الأسد وحده وتخفف عنه العبء مالم تكن جزءا من مشروع للحل السياسي ليس للازمة السورية فحسب ولكن للأزمة الاقليمية التي تسببها سياسات ايران الهيمنية في المنطقة. وهي ترفض أي خطة دولية لا يكون تغيير النظام القائم وسقوط حكم الأسد، هدفها المركزي، بموازاة العمل لإخراج جميع الميليشيات الأجنبية من سورية، سواء أكانت ضد الأسد أو معه، حتى لو اضطر الأمر إلى اتخاذ قرار في مجلس الأمن بذلك. .
سؤال:
هل بإمكانكم أن تشرحوا لنا مباديء المواطنة في سورية؟ )على سبيل المثال، الهوية، الحقوق، السياسة الخارجية، إلخ(؟
غليون:
لن تخرج سورية من الفوضى والصراع والانقسام ما لم يجمع السوريون وفي مقدمهم النخبة السياسية والمعارضة منها بشكل خاص، على مباديء أساسية للحكم، وعلى القيم التي تحكم العلاقات بين الأفراد في ما بينهم وبينهم وبين الدولة والسلطة العمومية. وهذه المباديء تلخصها فكرة الجمهورية الديمقراطية التي هي اليوم الشكل الوحيد للسياسة الشرعية التي تستمد سلطتها وقتها واتساقها من الشعب. فالجمهورية تعني صدور السلطة من الشعب، والمساواة التامة بين جميع أبنائه بوصفهم مواطنين أحرارا لكل واحد منهم الحقوق والواجبات ذاتها. والديمقراطية تعني التعبير عن هذه السلطة الشعبية من خلال آليات ضمان شرعية العمل والتنظيم السياسي والمدني الحر، والاقتراع العام النزيه، والتداول على السلطة، والإشراف على ممارستها ومراقبتها من قبل برلمان يمثل الشعب ويعبر عن خياراته. دولة حرة لأفراد أحرار. وهذا هو أيضا مصدر الشعور بالسيادة والكرامة عند أي فرد وأساس تحوله من رعية تابع للملك أو الأمير إلى مواطن سيد امره، يقرر مصيره ومصير الجماعة السياسية مع شركائه الآخرين.
هذا هو المضمون الطبيعي والمعروف للمواطنة في كل الجمهوريات الديمقراطية. لكن تجسيده في الواقع السوري يحتاج ، بالاضافة إلى ذلك، وبشكل خاص في سياق الخروج من الحرب التي اتخذت بعدا طائفيا وأهليا، إلى بلورة أمرين. الاول يتعلق بضمان الحقوق الخاصة الجماعية للأقليات الدينية والمذهبية والقومية، وهي حقوق ثقافية واجتماعية وسياسية، تتعلق باللغة والهوية والممارسة الدينية، والتفاعل مع المحيط الإقليمي، كما تتعلق بالإدارة اللامركزية، وبالحقوق السياسية النوعية المرتبطة بالحكم الذاتي، الذي يفتح البلاد نحو شراكات إقليمية مثرية، ما لم تمس بوحدة القرار الوطني السوري واستقلاله. ونجاح مثل هذا النظام يتوقف على الاعتراف بالمواطنة كأساس للعلاقة بين الدولة والفرد، ورفض نظام المحاصصة الطائفية والقومية في مؤسسات الدولة، والتي لا يمكن إلا أن تهدد وحدة السلطة وسلامة آليات اتخاذ القرار.
ويحتاج تحقيق هذا النظام الديمقراطية إلى حوارات وطنية ومفاوضات تؤسس لعهد وطني جديد يخلف العقد الوطني المنهار الذي قام على التسليم الساذج بوحدة المصالح والمطالب والتطلعات.
وبالنسبة للسياسة الخارجية، لم يكن من اهداف ثورة الشعب السوري تغيير موقع سورية في الاصطفافات الدولية ونقلها من محور إلى محور. بالعكس كان الهدف تحرير سورية من الارتهان للأحلاف والمحاور الخارجية وتحويلها إلى حلقة وصل بين جميع الدول والقوى والتكتلات الاقليمية والدولية، وهذه هي رسالتها التاريخية، وهذا هو أيضا جوهر ثقافة شعبها التي هي محصلة تمازج ثقافات مجموع الشعوب والأمم الكبرى التي كانت ولا تزال تحيط بها منذ أقدم العصور، والتي كانت مصهرا لتنوعها وابداعاتها. سورية هي واحة الشرق الاوسط، كانت ولا تزال، ومركز للسلام والتعايش والتفاهم والاندماج والتفاعل والشراكات التاريخية الكبرى. لن تكون سورية ما بعد الاسد مزرعة لأحد، ولا دولتها اداة في يد فئة مهما كانت، اكثرية او أقلية. ستكون سورية المستقبل ستكون دولة مستقلة حرة، خاضعة في اختياراتها الاقليمية والدولية لقرار ممثليها المنتخبين وبرلمانها، وستلعب دورا كبيرا في إعادة بناء التفاهم بين دول الإقليم والسباقة للعمل على مشروع تشكيل منظمة إقليمية شرق أوسطية للامن والتعاون والتنمية، وبالتالي تعزيز استقرار الاقليم الشرق أوسطي ودوره ومشاركته في الحياة الدولية الثقافية و السياسية والاقتصادية. هذه ينبغي أن تكون رسالتها الخارجية.
سؤال :
كيف يمكنكم أن تصفوا التحول في المواطنة السورية، كوضعية قانونية وممارسة، منذ بداية عهد البعث في سورية؟ وما الفرق الأبرز بين فترة حافظ الأسد وفترد بشار الأسد؟ وهل حصل هناك أي تغيير في قاعدة النظام الاجتماعية؟ وهل بمكنكم أن تبينوا لنا إلى أي حد، وبأي طريقة، ترتبط أحداث عام ٢٠١١ بالتغيرات التي طرأت على ممارسة المواطنة في سورية؟
غليون:
أهم ما ميز نظام الأسد هو تقويض حكم القانون، مثله في ذلك مثل جميع النظم الشمولية والاستبدادية الفردية. ولذلك ليس هناك في سورية علاقة بين الواجهة القانونية التي هي جزء من الديكور الخارجي والدعائي للنظام وبين الممارسة الفعلية. فالدستور الذي طبقه الأسد حتى ثورة آذار المدنية كان يعترف بالمواطنة المتساوية عموما وبالحريات والحقوق العادية التي يعترف بها أي دستور حديث للأفراد. لكن تكفي مادة واحدة كي تصادر هذه الحقوق وهي المادة الثامنة التي تنص على أن حزب البعث، ومن ورائه ميليشياته وأجهزة أمنه، هو القائد للدولة والمجتمع . وهو الأمر الذي فسر على أساس ان جميع مراكز الإدارة والسلطة في كل الميادين ينبغي أن تكون بيد أعضاء الحزب، وفي الحقيقة أجهزة الامن. لكن أكثر من ذلك اتخذ النظام احتياطا أكبر لتعليق الدستور هو الحكم تحت ظل قانون الطواريء الذي تم العمل فيه بشكل مستمر منذ عام ١٩٦٣ حتى ٢٠٠١١ حيث حل محله قانون الحرب على الارهاب، أي على الثورة السلمية المطالبة بالحقوق والحريات.
أما الفرق بين مكانة المواطن في ظل حكم الأب والابن، فهو يكمن في أن الأب كان يتحكم بالأجهزة الأمنية التي كونها بنفسه، وكان بالتالي قادرا على ضمان حد أدنى من وحدة السلطة، والحد من تغول شبكات المصالح، المتباينة والمتضاربة في ما بينها، على الدولة والمجتمع..
مع بشار الأسد انتقلت السلطة من هيمنة بيرقراطية الحزب والدولة التي تميز النظم الشمولية والعقائدية عموما إلى هيمنة رجال المافيا العائلية أنفسهم، وأصبحت العلاقة بين أصحاب السلطة والمال والقوة العسكرية والأمنية علاقة انصهار كامل. وحصل ذلك بموازاة سياسات التخصيص وتصفية القطاع العام الذي أعطى مافيا الاقتصاد والمال العائلية والزبونية دفعة لم تعرفها من قبل، ومكنها من إخضاع الدولة وبيرقراطيتها لمنطقها وحساباتها. وهذا الانصهار لشبكات المصالح المافيوية بالسلطة العمومية وما قاد إليه من تغول على موارد الدولة والمجتمع، خارج أي ضابط قانوني أو سياسي أو أخلاقي، بالاضافة إلى انحسار دور بيرقراطية الدولة وتهميشها، هو ما يفسر ما حصل من استهتار بكيان الدولة وبالملكية العامة، ومن ورائها الافتقار إلى أي مفهوم للوطنية والمسؤولية العمومية، كما يفسر عدم تردد السلطة القائمة في الذهاب بعيدا في تدمير الدولة وحرق البلاد، حسب الشعار الذي رفعه ممثلوها: الأسد أو نحرق البلد. وهذا ما حصل بالفعل
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire