vendredi, décembre 20, 2013

حين تصبح إدانة قصف المدنيين السوريين مستحيلة في مجلس الأمن

أمام إخفاق هجومه الهمجي الاخير، على جبهات ريف دمشق وحلب والقلمون وإدلب وحمص والرقة والدير ودرعا وغيرها من الجبهات، على طريق التحضير لمؤتمر جنيف٢، والخسائر الهائلة التي تكبدتها الميليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية، لم يبق أمام النظام المجرم، للتغطية على هزيمته ورفع معنويات مقاتليه المنهارة، سوى الانتقام من السكان المدنيين وصب حقده براميلا متفجرة وحارقة على المدن والأحياء السكنية، لقتل أكثر ما يستطيع من الأطفال والنساء والرجال، وإحداث أكبر كم من الخراب والدمار.

حملات الحقد والانتقام البدائية هذه ليست جديدة على السوريين. لكن وقوف الحكومة الروسية ضد قرار يدين هذه الأعمال الوحشية الفاضحة ضد المدنيين، اليوم في مجلس الأمن، يضفي على حرب البراميل المتفجرة والحارقة المصنوعة في موسكو، معنى جديدا يجعل من روسيا طرفا ضالعا في التغطية على جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وشريكا في عمليات القتل المنظم للشعب السوري، ويفقدها أي صدقية في أن تكون وسيطا أو راعيا للسلام في مؤتمر جنيف٢ الموعود. والتبرير  الذي تسعى بعض الأوساط لتقديمه تبريرا للمجازر الوحشية ضد المدنيين، وهو فتح الطريق أمام إخراج السلاح الكيماوي وتدميره، يفضح بشكل أكبر روح التشفي والانتقام التي توحد جميع أولئك الذين لا يرون في سورية شعبا وبشرا لهم حقوق وتستحق حياتهم الحماية وإنما مصالح انانية، سياسية أو استراتيجية، ويبرز مدى السقوط الأخلاقي وانعدام الشعور والضمير والانسانية التي وصل إليها هؤلاء، وهم يقفون متفرجين على مأساة السوريين وعذاباتهم.
لكن مسؤولية ما يحصل من انتهاكات لا توصف لحقوق البشر في سورية لا تقتصر على نظام القتلة وحلفاء السوء الذين لم يعرفوا يوما معنى المباديء واحترام حياة الإنسان وحقوقه، وإنما يشارك فيها أولئك الأصدقاء الغربيون الذين شجعوا هذه العصابة الحاكمة والميليشيات الطائفية المتحالفة معها على الذهاب أبعد ما يمكن في غيها والتعبير عن حقدها وانتقامها، عندما تخلوا عن واجبهم في حماية شعب يذبح، وجعلوا من عدم التدخل لحماية الناس المهددين، بأي شكل وفي أية ظروف، عقيدة مقدسة، مكتفين باللعب بورقة الإدانة السطحية في مجلس الأمن بدل أن يوجهوا لنظام القتلة الإنذار الذي يستحق. هؤلاء جميعا هم الشركاء في مذبحة شعب  ليس له من ذنب سوى التطلع إلى أن يعيش مثل بقية الشعوب، بامان، وحرية وتحت حكم القانون. هؤلاء الذين سلموه، مقيدا بالسلاسل، لنظام قاتل، ورفضوا أن يصغو لحظة إلى معاناته وصرخات آلامه، منذ خمسين عاما، هم أنفسهم الذين يشتركون، لمصالح متباينة لكن متقاطعة، في قتله، ولا يتورعون بعد ثلاثة سنوات من الجرائم الموصوفة عن الدفاع عن قاتله وتحويله إلى شريك. هكذا أصبحت إدانة الانتهاكات الخطيرة في مجلس الأمن مهمة شاقة ومستحيلة على المجتمع الدولي في سورية الروسية والايرانية والطائفية .
كلاهما: الذين وقفوا ضد إدانة نظام القتل والحقد والانتقام في مجلس الأمن، وأؤلئك الذين لم يجدوا وسيلة أقوى، لمواجهة هذا النظام سوى قرارات الإدانة الشكلية، مسؤولين عن الجريمة، وشركاء في تقويض مستقبل العلاقات الدولية، وتدمير الأسس والمباديء التي قام عليها حلم البشرية بالسلام والأمن واحترام الإرادة الحرة للأفراد والشعوب، والقضاء على ما تبقى من صدقية للثقافة والمجتمعات الغربية.، 

نحو مائدة حوار وطني للرد على استحقاقات المرحلة القادمة


بالرغم من الضربات الموجعة التي يوجهها مقاتلو الحرية لميليشيات السلطة والمرتزقة الأجانب في ريف دمشق وبعض المناطق الاخرى، تمر ثورة الكرام السورية بمرحلة صعبة وجديدة، نتيجة تجنب الدول والأمم المتحدة القيام بواجباتها تجاه حماية الشعب السوري من حرب الابادة الجماعية، وضعف الهياكل التنظيمية للمعارضة والجيش الحر، ونقص الذخيرة والامداد لدى الأغلبية العظمى من الكتائب المقاتلة، ودخول منظمة القاعدة على الخط لوضع الجيش الحر بين كماشة النظام الخائن لشعبه وأصحاب المشاريع والأجندات الخاصة التي ليس لها علاقة بمشروع الشعب السوري التحرري والوطني.
يعزز من مخاطر هذه المرحلة، الفتور الذي بدأ يدب في معسكر أصدقاء الشعب السوري الذي راهنا عليه خلال السنتين الماضيتين لتأمين الدعم السياسي والقانوني والعسكري، والاختلاف المتنامي في وجهات نظر وتوجهات العديد من أطرافه، نتيجة المنافسات السياسية الإقليمية والتطورات الدولية، مما يهدد تماسك هذا المعسكر ووحدته، ويؤثر على موقفه الموحد من دعم الثورة السورية.
أمام هذا الواقع الجديد، وتبدل الرهانات، وتفاقم التحديات، وتزايد المصاعب، تتغير الأفكار، وتتباين الرؤى، وتنمو أسباب الانقسام والتنازع والتنافس بين أطراف الشعب السوري الثائر، وتغيب البوصلة التي توجه الجميع نحو هدف واحد، يتماشى مع تحقيق مطالب الشعب وضمان حقوقه الأساسية.
يضاف إلى ذلك التحدي الذي يمثله انحياز أصدقاء سورية وحلفاؤها إلى خيار الحل السياسي، وتخليهم عن فكرة الحسم العسكري، وبالتالي تحويل مؤتمر جنيف٢ إلى البند الاول والحلقة الرئيسية في كل النشاط السياسي والدبلوماسي والعسكري في جدول أعمال مواجهة الأزمة السورية.
لجميع هذه الأسباب، أصبح من الملح والعاجل اجتماع كافة القوى المعنية بتغيير نظام القتل والدمار وبانتصار حقوق الشعب وضمان مستقبل سورية ومستقبل أبنائها، حول طاولة حوار مستديرة، تضم كل أؤلئك الذين يعلنون انتماءهم إلى مشروع ثورة الكرامة والحرية، ويرفضون استمرار النظام كما يرفضون الانحراف بالثورة عن أهدافها الحقيقية التي ضحى من أجلها مئات آلاف السوريين، بأرواحهم وأمنهم وأرزاقهم وممتلكاتهم، من معارضة سياسية على مختلف أطيافها، وكتائب مقاتلة بكل تلويناتها الايديولوجية، والمكونات الاخرى من كوادر الدولية المنشقين، المدنيين والعسكريين، الذين ضحوا بكل مالديهم أيضا لمناصرة ثورة شعبهم والقطع مع نظام العنف والإجرام، بالإضافة إلى الشخصيات الوطنية والدينية المعروفة بدعمها حقوق الشعب وكرامته وحرياته.
يهدف هذا الحوار، الذي ينبغي أن يبدأ في الأيام القليلة القادمة وليس الأسابيع، إلى قطع الطريق على منحى التدهور السياسي والتباين في الخيارات الفكرية والتباعد بين القوى المقاتلة، وتدارس المرحلة القادمة ومستحقاتها، والاتفاق على قاعدة للعمل تنظم العلاقات بين جميع الأطراف المعنية بانتصار الثورة، وتنزع فتيل النزاعات فيما بينها، وتبني الأرضية المشتركة للعمل الوطني، على الصعيد الداخلي والخارجي، وتنسيق العلاقات الوطنية والدولة، وبلورة برنامج عمل واستراتيجيات متفق عليها من قبل الجميع للرد على استحقاقات المرحلة القادمة، سواء أتعلق الامر بتحديد الطريق، أو التفاهم على الأهداف المرحلية، أو بلورة أسلوب التعامل الوطني والديمقراطي بين الأطراف، أو وضع التصور المشترك لسورية الجديدة التي كادت تفتقر إلى أي رؤية مشتركة بعد أن تبخر العقد الوطني الذي تم الاتفاق عليه في بداية الثورة، تحت ضغط العنف المنفلت وأنقاض المدن والقرى المدمرة بالحرب العدوانية، وبموازاة ذلك ما شهدته الساحة السورية من التحولات الفكرية والسياسية خلال المرحلة الطويلة السابقة.
من موقعي المستقل تماما، فكريا وسياسيا، والمنحاز لقضية واحدة هي استرجاع حقوق الشعب السوري وضمان وحدته ومستقبله ووحدة وطننا واستقلاله وسيادته، أدعو جميع الأطراف المعنية، بصرف النظر عن اختياراتهم الايديولوجية، إلى الارتفاع إلى مستوى المسؤولية التاريخية، والرد بالايجاب على دعوة الحوار الوطني، داخل صفوف معسكر الكرامة والحرية، لترتيب أوضاع الثورة وتنظيم شؤونها وإدارتها، وتفكيك الألغام التي وضعت في طريقها، وإعادة صياغة جدول أعمالها وبرنامجها والتوافق على الاستراتيجية الأمثل للانتصار في معركة الحرية والكرامة والعدالة والمساواة القائمة.
لن نستطيع ان نواجه، مشتتين ومختلفين، متنازعين ومتنافسين، مثلما أصبحنا الآن، أي استحقاق من استحقاقات المرحلة القادمة، وليس استحقاق جنيف سوى واحد من بين استحقاقات عديدة تحتاج منا جميعا إلى بذل جهد جدي، من أجل التوصل إلى فهم مشترك للمخاطر والتحديات، وإلى بناء استراتيجية واضحة توحد الجهود وتوجهها الوجهة السليمة التي تضمن تحقيق الأهداف النبيلة لشعبنا الحر الذي ضحى بالغالي والرخيص من أجل نيل حريته واستقلاله وكرامته واستقلال بلده وسلامته.


المجد والخلود لشهداء الحرية والنصر لسورية الأبية المكافحة 

mardi, décembre 17, 2013

حتى لا يتحول جنيف٢ إلى جنازة للسلام


في الثالث عشر من الشهر الجاري عقد اجتماع لندن لنواة مجموعة أصدقاء الشعب السوري، وكان مؤتمر جنيف٢، المفترض أن يكون مؤتمرا للسلام، في قلب المحادثات مع المعارضة. وفي ٢٢ من هذا الشهر نفسه سيناقش وزراء خارجية أوربا الموضوع ذاته، قبل أن يطرحوه مع المعارضة من جديد في الثامن من الشهر القادم للمرة الألف. 

لكن بينما يؤكد الجميع، الدول والأمم المتحدة والمنظمات الدولية، أنه لا يوجد حل للأزمة السورية خارج مؤتمر جنيف، أي إلا الحل السياسي، يستجمع نظام الأسد كل ما لديه من براميل حارقة وقنابل وصواريخ ومدفعية ميدان، مفتتحا جنيف قبل أوانه، للقضاء على مواقع المعارضة، وايقاع أكبر ما يمكن من القتلى والجرحى بين المدنيين، وتعميم لغة المجازر والمذابح اليومية، كما حصل أمس في حلب، من دون أن يحرك أحد من الدول أو المنظمات الدولية ساكنا، بينما يموت كل يوم عشرات السوريين، أطفالا ونساءا وكبار سن، من الجوع والبرد ونقص الدواء والمرض.

ما كنا نخشاه قد تحقق بالفعل. أصبح جنيف ورقة التوت التي تخفي عورة سياسات دولية لا نبالغ إذا قلنا أنها مشاركة في الجريمة وضالعة في تشجيع نظام الأسد، بسبب صمتها وتخليها عن مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والسياسية، على المضي في مشروع القضاء على ثورة الشعب بتعميم سياسة الإبادة الجماعية والإرهاب والقتل المنهجي والتدمير المنظم للبيئة الطبيعية للمجتمع.

إقرار مبدأ الحل السياسي والدعوة لتطبيق مباديء جنيف واحد لا يمكن أن تبرر سياسة الخنوع والرضوخ للأمر الواقع، ولا ينبغي أن يعني تبني خيار المفاوضات صرف النظر عن الانتهاكات الخطيرة التي تقوم بها الطغمة الإجرامية في دمشق. وقبول النظام بالمشاركة في جنيف٢ لا يجعل من انتهاكاته المستمرة لحق الحياة سواء أجاء ذلك بالقصف العشوائي للأحياء والمدن لقتل السكان وإرهابهم، أو بتجويع السكان لتركيعهم، أو لجميع الحقوق الأخرى الإنسانية، أمرا طبيعيا ومشروعا، لا يستحق الإدانة ولا أي رد فعل، كما كما يبدو الآن على الدول والمنظمات الانسانية التي أذعنت للأمر الواقع.

كل يوم يسقط فيه صاروخ، أو تصيب فيه قذيفة السكان المدنيين، فتقتل أبناءهم وتدمر بيئة معيشتهم وتجبرهم على الفرار والنزوح، يشكل اغتيالا للحل السياسي، وتقوض حظوظ مؤتمر جنيف في أن يكون بالفعل مؤتمرا للسلام، ويحوله إلى غلالة، هدفها التغطية على استمرار الحرب العدوانية المعلنة من قبل طاغية تحول إلى دمية في يد المصالح الأجنبية، على شعب أعزل فقد أي أمل بالخلاص، وترك لمصيره أمام جلادين قساة وعنصريين طائفيين لا يفهمون إلا لغة القوة والقتل والدمار.

لن يكون لأي اجتماع للسلام في جنيف معنى أو قيمة، ولا ينبغي على المعارضة أن تشارك في أي حوار جديد حول مؤتمر جنيف٢ قبل أن تتحمل الدول الراعية وغير الراعية له مسؤولياتها، وتقف بقوة أمام استمرار النظام في تعميم الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان السوري، واستغلال الظروف البيئية الصعبة لإنزال أقسى العقوبات الجماعية بالشعب، وكذلك قبل أن تقوم بواجبها في ردع من وصفتهم منظمات حقوق الانسان بالضالعين في جرائم ضد الانسانية.

اللهم إلا إذا كانت الدول الكبرى والصغرى ترى أن قبول نظام القتلة في دمشق بالمشاركة في مؤتمر جنيف٢ يجعله يستحق مكافآة خاصة، ويمكنه من شرعنة الاستمرار في الانتهاكات الخطيرة لحقوق شعبه وقتل المدنيين بالجملة، من دون مساءلة.

من دون موفف حاسم من الدول والأمم المتحدة يوقف نزيف الدم السوري البريء، ويضع حدا لعسف نظام مارق وإجرامي، لن يكون هناك لا جنيف١ ولا جنيف٢، وإذا حصل وتم عقده بالضغط والقوة فلن يكون مؤتمر صلح وإنما جنازة كبيرة للسلام.

samedi, décembre 14, 2013

اجتماع لندن، والحفاظ على الهدف المشترك

نتائج مباحثاتنا في لندن ليست عظيمة، لكن لم تكن زيارتنا من دون نتيجة. اعتقد أن أهم ما حققناه هو تطمين الاطراف الدولية على أن خط الثورة الرئيسي لم ولن يتغير، وأن الهدف المشترك الذي يجمعنا لا يزال العمل سوية لتمكين الشعب السوري من تقرير مصيره بحرية، مما يعني ضرورة أن تلتزم الدول التي تزعم صداقتها للشعب السوري بهدف إزالة نظام القتل والحرب والعنف والعسف الاعمى، ولا تجعل من الحرب ضد الارهاب التي يريد الاسد أن يدفع الغرب إليها ليستعيد وظيفته التاريخية كشرطي حراسة في خدمة الدول الكبرى، هدفها أو أجندتها الرئيسية.
وما كنت أتخوف منه قد حصل. كان البيان الختامي الذي اتفقت عليه الدول المشاركة فاقدا للتوازن ومركزا بشكل رئيسي على مسألة التشدد والتطرف. وكان لا بد من معركة شاقة كي ننجح في تعديل البيان الذي سيصدر عن اجتماع الدول الاحدى عشر.
بالتأكيد، وهذه كانت حجة المجتمعين، البيان موقع من الدول ولا علاقة لنا نحن به. لكن ما كان من الممكن ان نقبل أن يتجاهل من يدعي صداقة الشعب السوري أولويات نضال هذا الشعب، ولا أن يحول قضيته من كفاح ضد النظام الذي يجسد الارهاب بكل أشكاله ومعانيه النظام، وكذلك ضد سياسة القتل المنظم والمجازر الجماعية وحرب الابادة والحصار والتجويع والتهجير المتعمد، إلى صراع بين متطرفين ومعتدلين.
ولا يمكن أن نقبل بتجاهل تضحيات مقاتلي الحرية وكفاحهم البطولي، باسم التركيز على مخاطر التطرف، وننسى مسؤوليات الدول وسياسة الخذلان والتردد والانتظار التي اتبعتها تجاه هذا الكفاح، والتي كانت ولا تزال المسؤولة الأولى عن صعود التيارات التي تدعي اليوم أولوية الوقوف ضدها.
على سؤال: هل لا يزال الهدف المشترك الذي يجمعنا تمكين الشعب السوري من تقرير مصيره بحرية والانتقال نحو دولة ديمقراطية تلغي حكم الارهاب الأسدي أم أصبحت الأولوية عند الدول الصديقة أو بعضها لمكافحة التطرف والتشدد، كان الجواب أن الهدف الأول لا يزال هو الأساس، لكن هناك مخاوف وقلق لدى الغرب من تطور التيارات المتطرفة، وهذا ما يحد من الحماس والدعم لقضيتنا.
نحن نتفهم مخاوف الدول وقلقها من مخاطر التطرف، على الشعب السوري أولا كما هو الحال على الشعوب الأخرى، لكن أولويات الشعب السوري هي الآن الخلاص من نظام القتلة ووقف سفك الدماء ووضع حد لمعاناة ملايين السوريين القابعين في مخيمات اللجوء في مواجهة الفقر والبرد والجوع والمرض والاذلال. ولا ينبغي أن تتقدم أي أجندة على أجندة إنهاء نظام القتل والدمار، الذي هو التطرف بذاته، والمولد الأول لكل أشكال التطرف الأخرى. ومن دون القضاء عليه لن يمكن التوصل إلى أي حل لمعاناة الشعب السوري وفوضى العنف والسلاح والاقتتال. ويخشى أن يخفي التركيز على التطرف، بدل حشد الجهد ضد النظام الذي ينتج التطرف كل يوم في سياساته القاتلة، نزوع البعض من بين الدول الصديقة إلى إعادة الرهان على نظم القهر والفاشية، والاستعداد من جديد للتضحية بالحقوق والحريات التي كانت ولا تزال الحافز الأول لثورة الكرامة والحرية في سورية وبقية البلاد العربية، باسم حماية الشعب من التطرف والارهاب.
باختصار. إن الرد على اجتياح اركان الجيش الحر من قبل قوى متشددة لا يكون بإعلان الحرب على هذه القوى وإنما بدعم مشروع إعادة هيكلة كتائب المقاتلين من أجل الحرية وتزويدها بما يلزمها للانتصار في معركة التغيير، والحفاظ على ما تبقى من أجهزة الدولة، وضمان وحدة الأرض والشعب.

vendredi, décembre 13, 2013

في انقساماتنا العسكرية بعد السياسية




أنا اليوم في لندن. ولدينا جلسة طويلة مع الدول الغربية لشرح الوضع في اطمة، أي وضع وتوجهات الثورة والمعارضة، بعد اجتياح الجبهة الاسلامية للاركان وإعلان هذه الدول تعليق مساعداتها للجيش الحر. 



قد لا تكون المساعدات المعلقة مهمة كثيرا، بالرغم من أننا نحتاج، في الكارثة التي نعيشها، إلى كل قرش، ولا يحق لنا التفريط بأي معونة ممكنة بينما يموت أطفالنا متجلدين من البرد. لكن الأهم من هذه المساعدات المادية، هو الموقف السياسي. إذا تخلت الدول الغربية عن دعم المعارضة والثورة أو فقدت الثقة بقضيتنا، ونظرت إلى ما يحدث على أنه صراع بين طرفين لا يعنيها نجاح أي منهما، أصبح علينا أن نحمل، إضافة إلى عبء الاصطفاف الصريح الروسي وراء نظام القتلة، عبء الضغط السياسي الغربي، وربما أكثر من ذلك التحالف بين الطرفين ضد المعارضة واتهامها جميعا بالمتطرفة.

هناك بالتأكيد تيارات متباينة داخل صفوف ثورة الكرامة والحرية التي أطلقها شعبنا بكل فئاته وأطيافه. لكن، ونحن نعترف بذلك، هل يمكن أن نؤجل الصراع على من ستكون له الأسبقية أو الغلبة في سورية القادمة، إلى أن ننتهي من هذا الوحش الضاري الذي يحشد كل من يستطيع، في الداخل والخارج، ويكذب على الغربيين والشرقيين والعرب والمسلمين، من أجل أن يقتل أطفالنا ويشرد أبناءنا ويشق صفوفنا ويزعزع ثقتنا ببعضنا وبمستقبل ثورتنا؟ 

لكل طرف من أطراف المعارضة والثورة رأيه ومكانه ودوره في هذا الصراع الذي تجاوز كل حدود المعقول والمتوقع، بدخول كل القوى الاقليمية والدولية عليه. لا بد أن نحترم رأي وموقف وتطلعات الجميع. وإذا كان هناك خلاف أو خطأ أو تقصير فينبغي أن يحل داخل صفوف الثورة بالحوار والمصارحة والتفاهم، من دون اللجوء إلى السلاح. وهذا هو الذي يحفظ لنا احترامنا في نظر الدول وقطاعات الرأي العام العربي والدولي الذي يكاد يشيح بنظره عنا بسبب ما يراه من فوضى وانقسام وتنازع بيننا.

ولا أخفي أن أحد نقاط الضعف الخطيرة في ثورتنا وما يدفع التيارات والأطراف المختلفة منا إلى الدخول في صراعات مسلحة سريعة هو غياب المرجعية. فمن دون هذه المرجعية التي ينبغي أن نفكر فيها، لا يجد كل طيف داخل صفوف قوى الثورة والمعارضة وسيلة أسهل لحسم الخلاف، النابع أحيانا من شكوك وسلوك غير مفكر فيه بما فيه الكفاية، من الاحتكام للسلاح. وهذا أكبر خطر يهدد مسيرتنا التي هي بالأساس شاقة وصعبة.

mercredi, décembre 11, 2013

نظام الإبادة الجماعية في دمشق

أثار بيان اجتماع مجلس التعاون الخليجي الذي أدان بشدة استمرار نظام الأسد في “شن عملية إبادة جماعية ضد الشعب السوري” وأكد على رفض دول الخليج أن يحظى أي من أركان النظام بدور في مستقبل سورية السياسي، أقول أثار هذا البيان حفيظة الطغمة الارهابية في دمشق. ولم يترك لهذه الطغمة إلا أن تكرر على أسماع العرب والعالم من جديد قصصها المعروفة منذ أول أيام الثورة عن المنظمات التكفيرية والوهابية وغيرها. لكن أطرف ما جاء في بيان خارجية الأسد أنه لا يوجد حل للأزمة السورية "سوى الحل السياسي الذي يصنعه السوريون وحدهم".
إذن لماذا هذه الحرب الكارثية؟ ولماذا الاستمرار في قصف المدن والقرى وتدمير المنازل على سكانها وتهجير الأهالي وارهابهم بذبح أبنائهم وبناتهم أمام أعينهم؟ وما الداعي للاستمرار في استخدام صواريخ السكود والبراميل الحارقة والمدفعية والدبابات وجتى استخدام الاسلحة الكيماوية؟
وإذا كان الحل لا يتحقق إلا بيد السوريين وحدهم، لماذا رفضت الطغمة القاتلة كل مبادرات الاصلاح والمصالحة والتسورية، واستنجدت عندما بدأت تفقد الأمل بكل الميليشيات الطائفية وفتحت الأبواب مشرعة أمام الجنود والمرتزقة الاجانب، الايرانيين والعراقيين واللبنانيين، الذين يكادون ينفردون اليوم في القتال، إلى جانب النظام، من دون السوريين، على مختلف الجبهات؟
الكذب ليس سمة من سمات نظام الإبادة الجماعية السوري، إنه جوهره وروحه. فهو بالكذب والخداع والمراوغة تحول إلى نظام حكم سياسي، وهو ليس في الواقع إلا سطو مسلح على بلد حر، وعصابة للجريمة المنظمة. وبالكذب أصبح نظام ممانعة ومقاومة،
وهو أكبر حليف لأعداء الشعب السوري ومناهضي تحرره، من كل الأصناف.
وبالكذب أصبح حكم الاشتراكية والتقدمية وسند العمال والفلاحين، وهو أعظم تجسيد لوباء العنصرية ضد الشعب والفلاحين والعمال، والعدو الأول لمفهوم الحق ومعنى أي تقدم أو عدالة أو مساواة.
النظام السوري فتنة حقيقية، وطنية ودينية وسياسية وأخلاقية، من بدايته حتى نهايته، أساسها الغش والخديعة والجبن والتآمر والخيانة المصممة.

mardi, décembre 10, 2013

معركة رزان زيتونة الجديدة ضد النسيان

عندما كان السوريون يعيشون في العقود الماضية في رعب الفاشية البغيضة لآل الأسد وأزلامهم، ولا يجرؤون على الكلام بغير ما يريده النظام، كانت رزان زيتونة تغامر بحريتها وربما بحياتها في سبيل حماية ما تبقى من كرامة الانسان وحقوقه الأولية في بلد فقد اسمه وصفته، وتكافح مع القلة من رفاقها لفضح جرائم الاختطاف والتعذيب والاعتقال التعسفي وكل انتهاكات حقوق الانسان التي كان نظام الجريمة المنظمة يمارسها على الجميع، ومن دون اعتبار لرأي عام دولي أو قانوني.
اختطافها اليوم مع زوجها وائل حمادة وزملائها سميرة الخليل وناظم الحمادي،من لجنة توثيق الانتهاكات لحقوق الانسان، هو هدية كبيرة ورد اعتبار للجلادين والقتلة ومختطفي النساء والأطفال من أجهزة القمع والمخابرات، في ريف دمشق الذي لم تتركه رزان منذ بداية الثورة السورية حتى تاريخ اختطافها.
جميع الكتائب الموجودة في المنطقة مسؤولة عن حماية سيدة القانون والعدالة التي أصبحت، بتفانيها في الدفاع عن حريات الشعب وحقوقه رمزا من رموز الثورة. وباسم جميع السوريين، الفخورين بابنتهم البارة رزان وبرفاقها الثلاثة، أدعو هذه الكتائب إلى البحث عن المخطوفين، والعمل بكل ما يستطيعون من وسائل، للكشف عن خاطفيهم وإطلاق سراحهم ليعودوا إلى عملهم لخدمة القضية النبيلة التي رهنوا لها حياتهم: حماية السوريين من القهر والذل وانتهاك الحقوق الذي وقعت رزان ورفاقها ضحية له اليوم.

تحية إلى رزان زيتونة السيدو المتفانية من أجل الحق وتحية لرفاقها في معركتهم الجديدة، في غياهب الاعتقال، ضد الجهل والحقد والضغينة والانتقام، ضد انحطاط الانسان.

samedi, décembre 07, 2013

المشكلة في غياب القيادة وتشتت القوى

هناك مشاكل كبيرة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها في تكوين الاركان وأسلوب عملها وتقصيرها الكبير في مهامها العسكرية. وأنا من الذين لم يخفوا لحظة أنها ليست هيئة أركان حقيقية، ولكنها غرفة لتمثيل بعض القوى التي اتفقت الدول على جمعها لتنظيم الدعم والاشراف على توزيع الذخيرة.

والاركان مسؤولة بالتأكيد عما حصل حتى الآن على ارض المعركة، سواء لعجزها عن تكوين قيادة مركزية حقيقية للقوى المقاتلة مع الثورة، أو تلبيتها لحاجات المقاتلين والجبهات من السلاح والذخيرة.

والمسؤول عن ضعف الأركان ليس المعارضة السياسية، الممثلة بالائتلاف أو بغيره، فهي لم تكن وراء تشكيل الاركان، ولا ساهمت فيها ولا سمعت بمشروع تكوينها قبل أن تولد. وإنما الدول الممولة التي اجتمعت تحت ضغط الاحداث من أجل تنسيق العمل العسكري. ووجه عملها تقاسم النفوذ من خلال توزيع المقاعد على قادة الكتائب التي تتعامل معها. وهكذا ولدت الاركان هيئة شكلية تستجيب لأمرين: عدم رغبة الدول الممولة في ايجاد قيادة عسكرية وطنية جدية وفعلية، ورفض قادة الكتائب التي قبلت الصيغة الشكلية الاتحاد والخضوع لقيادة مركزية واحدة.

هذه هي العاهة الولادية للاركان. ولم تنفع محاولات المعارضة في الضغط عليها لإصلاحها، لأن الاركان والمجلس العسكري لا يخضعان لها ولا يدينان لها بشيء، لا بالتشكيل ولا بالتمويل ولا بالتسليح. وهذا الوضع نفسه لم يكن عفويا ولكن مقصودا.

كان الرهان ولا يزال على القادة الذين يتكون منهم المجلس العسكري كي يدفعوا إلى تطوير الصيغة الشكلية والعمل على تحويلها إلى هيئة أركان فاعلة. وقد رفض هؤلاء التطوير لأنه كان يحتاج إلى التعاون مع الضباط الكبار المنشقين، وادماجهم بشكل أو آخر في القيادة العسكرية. وربما شعروا بأن إدخال عسكريين محترفين يمكن أن يحمل مخاطر على نفوذهم ومواقعهم داخل الجيش الحر، ويقلل من استقلاليتهم وسيطرتهم الكلية على كتائبهم وألويتهم التابعة لهم شخصيا في معظم الاحيان.

وفي الحقيقة هذه هي الأسباب التي أفشلت كل محاولات المعارضة السياسة دمج العسكريين المنشقين في كتائب الثورة المقاتلة، أي الخوف من المنافسة والرغبة في الحفاظ على استقلال كل كتيبة، وبالتالي احتكارها لموارد الدعم المرتبطة بهذه الدولة أو تلك.

وهذه هي الاسباب التي منعت الكتائب أيضا من الاتحاد والاندماج، وتكوين قيادة موحدة، من داخل صفوفها، وبشكل مشتقل عما نسميه المعارضة الخارجية أو الداخلية.

كل هذا واضح، ويفسر ما نحن فيه.
المطلوب اليوم ليس تكرار الشكوى من المتدخلين وفشل المعارضة وندب حظنا، وإنما رفض الواقع الفاسد والسعي إلى التغيير والتفكير في كيفية إصلاح هيئة الأركان والوضع العسكري عموما لتحقيق المهام المطلوبة، وتعزيز قدراتنا العسكرية ووقف المجازر والاعدامات الميدانية للأطفال والنساء، كما حصل امس في النبك، من دون عقاب.

لن يفيدنا كثيرا أن نقسم قوانا المقاتلة بين جيوش متنازعة ومتخاصمة ومتنابذة، إسلامية وغير إسلامية بينما نحن بأغلبيتنا مسلمون. هذا ليس خطأ عسكري فحسب، ولكنه ضرب لأي مشروع وطني. ولا يعني ذلك أن يتخلى الاسلامي عن أفكاره أو العلماني، إذا وجد، عن علمانيته، فالمطلوب في هذه المرحلة ليس أن نربح المعركة الفكرية داخل صفوف الثورة وبين تياراتها المختلفة، وإنما أن نحمي شعبنا ونحرر بلادنا من نظام القتلة والمجرمين المحترفين، وبأسرع وقت. ولا أمل لنا بذلك إلا بتوحيد قوانا جميعا، أعني جميع من يقف ضد هذا النظام ويسعى إلى التخلص منه، بصرف النظر عن اعتقاداته وأحلامه وتطلعاته. وانا لا أستثني هنا أحدا من الثوار والمنشقين الذين خسرنا طاقاتهم حتى الآن من دون أي سبب ولا مبرر، وحرمنا أنفسنا من خبراتهم ومعرفتهم بالأرض والنظام ومهنة السلاح.

ولدينا سابقة في هذا التغيير من سيرة منظمة التحرير الفلسطينية التي شكلتها الدول العربية من دون مشاركة القوى الفلسطينية المقاتلة، لكنها تحولت بعد أن دخلت فيها فتح والمنظمات الفلسطينية الشعبية، إلى منظمة وطنية تمثل الشعب الفلسطيني وتجمع أغلب قواه الثورية.

قد يكون إصلاح الاركان من الأمور المستحيلة بالفعل. لكن إذا كان هذا استنتاجنا الأخير، فليس الحل في أن نشتت قوانا خارج الأركان وننقسم إلى جيش إسلامي وجيش غير إسلامي وإنما أن ننشيء هيئة أركان جديدة واحدة تقود القوى المقاتلة الثورية بصرف النظر عن اتجاهاتها الفكرية. وإذا كنا نشعر أننا أكثرية إسلامية فلن يضيرنا أن نعمل مع غيرنا، بل سوف تكون سيطرتنا على هذه الهيئة العسكرية الموحدة قوة إضافية لنا. ورفض ذلك يعني أن نقبل بأن تكون هناك جيوش مختلفة ومتنازعة وهيئات أركان متضاربة، وهذا ما هو قائم اليوم، وهو أصل الضعف والفوضى وإرساء أسس تفكيك وطننا الواحد وتحويله إلى إمارات وممالك ومناطق نفوذ خاصة وأجنبية.

والحل ليس صعبا. وكنت قد اقترحت على المعارضة والائتلاف أن تتم دعوة كبار ضباط الجيش المنشقين والمخلصين، ودعوتهم لوضع مشروع لدعم تشكيل أركان فاعلة وقيادة مركزية وتواصل وترابط بين الكتائب والتشكيلات المقاتلة، يسمح لها بالتعاون للعمل حسب خطة تحرير واحدة وواضحة. ثم دعوة القادة الميدانيين للكتائب إلى اجتماع مع الضباط الكبار لمناقشة المشروع وتعديله إذا كانت هناك ضرورة لذلك. وبعد الاتفاق عليه يطالب الجميع بالالتزام به، وتشكيل القيادة العسكرية من الضباط المحترفين والميدانيين، لكن على أسس عسكرية محترفة، لتنفيذ خطة العمل العسكري المدروسة والمتفق عليها.

هكذا نستطيع أن نتجاوز الاركان الشكلية التي فرضت علينا من دون أن نزرع المزيد من الانقسام داخل صفوفنا، كما نستطيع أن نفرض إرادتنا نحن كسوريين على الدول الداعمة لنا، وتلك التي تستغل نقاط ضعفنا لتوسع مناطق نفوذها في بلدنا وعلى حسابنا. إذا سرنا في مثل هذا الطريق لا يعود موضوع ترك الأركان الشكلية وارادا أو ذا أهمية. لكن إذا كان تركها يهدف إلى الانفراد والانقسام والتشتت، فبقاؤها الرمزي أفضل من زوالها.

vendredi, décembre 06, 2013

حول الاعلان عن انسحاب الجبهة الاسلامية من هيئة أركان الجيش الحر

أصدرت الجبهة الإسلامية صباح الخميس في ٥ كانون الأول ديسمبر بيانا موقعا باسم رئيس مجلس الشورى أحمد الشيخ ورئيس الهيئة العسكرية زهران علوش، أكد على انسحاب كل من ألوية صقور الشام وجيش الإسلام من هيئة الأركان منذ مدة بعيدة.
بالرغم من المشاكل العديدة التي تعرفها هيئة الأركان، على مستوى التنظيم والتخطيط العسكريين، لا يمكن لهذا الانسحاب أن يفيد قوى الثورة في منعطف سياسي وعسكري دقيق من تاريخها. ومثل هذا الانسحاب يؤلم الشعب السوري الذي كان يأمل ويدعو منذ أشهر طويلة لتوحيد الصف وهيكلة القوى المقاتلة وتوحيدها.
وكنا قد رحبنا بتجمع الجبهة الاسلامية كخطوة أولى مهمة على طريق توحيد قوى الثورة جميعا لتكوين جبهة وطنية واحدة في وجه العدوان المستمر الذي يمارسه النظام على الثوار وعلى المدنيين عموما لكسر إرادة الشعب ودفعه إلى التسليم بالأمر الواقع.
لا يمكن إصلاح الأخطاء ولا تحسين الأداء بالانقلاب الدائم على الهياكل القائمة واستبدالها بهياكل ومؤسسات بديلة، وهذه هي تجربة المجلس الوطني والائتلاف. ولن يقود مثل هذا العمل إلا إلى المزيد من الانقسام والتشتت والنزاع داخل صفوف الثورة وبين تياراتها ومكوناتها المختلفة.
لن نتقدم إلا إذا تبنى جميعنا فكرة العمل من داخل مؤسسات الثورة وعمل على إصلاحها ما دامت تعمل في خط الثورة ولا تحيد عنه. فلا تولد المؤسسات كاملة الأوصاف وإنما تتكامل بالتجربة والتطوير والعمل المشترك على بنائها بما يخدم أهداف الثورة ويسمح لجميع الأطراف أن تجد نفسها فيها وتشارك في قرارها. هذا هو الاتجاه الوحيد للخروج من المصاعب التي تشهدها القوى الثورية في أرض الميدان، وعكس ذلك لن يفيد إلا النظام الذي يتربص بالثوار والمقاتلين.
وأنا أدعو قادة الجبهة الاسلامية بدل الانسحاب، تقديم مشروع واضح لاصلاح الاركان وعرضه للمناقشة، والعمل بموازاة ذلك على تكوين الجبهة الوطنية الموحدة التي تضم جميع مقاتلي الحرية ضد نظام القتل والدمار والفساد.
بمثل هذا العمل الجامع وحده يمكن للجبهة أن تؤكد دورها القيادي وتجبر الاركان على استعادة دورها في الوقت نفسه.

mercredi, décembre 04, 2013

الثورة بين الأقوال والأفعال

يحيرني ذاك الذي يرد دائما على ما أكتبه في هذه الصفحة بجواب واحد لا يتغير: مليح، لكن نريد أعمالا لا أقوالا. وهو في الغالب لا يفعل شيئا. 

من قال إن العمل يفترض غياب التفكير، أو أن من يفكر في مجريات الأمور وسبل تحولها، ويعمل على تطوير المواقف والتوجهات، ويسعى إلى مناقشتها مع الآخرين، يمتنع حتما عن أداء أي واجبات عملية أخرى في الإغاثة والسياسة والمجهود الحربي؟ 

ليس هناك عمل ناجع وناجح من دون تفكير، ولا يمكن أن يكون هناك فكر سليم من دون الارتباط بالعمل. لكن للعمل مراتب ومستويات وميادين مختلفة. وفي كل ميدان هناك من يغلب على عمله طابع التنفيذ، وهناك من يخطط، وهناك من يصمم، وهناك من يصوب الأخطاء. وهذا ينطبق على كل الأعمال من صناعة الإبرة إلى صناعة الذرة، وييدأ في المجتمع من مستوى تنظيم الفرد لمشروع حياته، إلى الاسرة إلى الحرب والسياسة والخطط الكبرى، التي تتطلب باستمرار ارتقاءا مستمرا في مستوى النظر وطرائق التحليل والتركيب، وتحتاج جميعا إلى الرأي السديد.

العمل من دون تفكير لا يثمر ولا يقود إلى شيء، وربما انقلب على صاحبه، والتفكير غير المرتبط بعمل ومشروع عملي يخشى عليه أن يتحول بسرعة إلى سفسطة وكلام سائب وتنظير منفصل عن الواقع والعقل السليم.

ومعظم نقائص عملنا اليوم في الثورة، وتأخر إنجازنا فيها، ناجم عن الانفصال بين النظر والعمل، وضعف التفكر، الأخلاقي والانساني والسياسي والعسكري. ولولا الايمان بالله والثقة بنصره لما شهدنا ما شهدناه من صمود اسطوري قام بشكل رئيسي على التضحيات العظيمة بالروح والنفس، التي يقف وراءها الايمان بعدالة القضية والحق، ويغذيها الاعتقاد الصادق، والثقة بالله، والحماس الديني الذي أصبح اليوم المحرك الانفجاري الحقيقي لروح الصمود والتصميم والأمل بالنصر.

dimanche, décembre 01, 2013

الثورة السورية بين الخيار الوطني والايديولوجي


مع فوارق كبيرة بالطبع، يذكرني التنافس، وأحيانا التنابذ بالألقاب للأسف، داخل صفوف معسكر ثورة الكرامة والحرية، بين من يصفون أنفسهم وغيرهم بالعلمانيين أو الاسلاميين، بالصراع الذي حصل داخل معسكر التحرر الوطني بين القوميين العروبيين والاشتراكيين اليساريين، والذي أدى إلى سقوط الطرفين وهزيمتهما، وتسهيل انتزاع السلطة من قبل طغم عسكرية وأمنية طفيلية، بعيدة عن أي قيم، قومية أو اشتراكية، سرعان ما انكفأت على حكم العصبية الطائفية والعشائرية والمذهبية الذي ندفع اليوم ثمنه من دماء أطفالنا وبناتنا وشبابنا. 
واليوم، أيضا، أكثر ما نخشاه، هو أن يقود الصراع المتفاقم على الهيمنة السياسية، داخل معسكر ربيع الثورة السوري، بين جناح يعتقد أن تجسيد مباديء العدالة والحرية والكرامة التي فجرت ثورة آذار المجيدة لا يمكن أن يتمثل إلا من خلال حكم إسلامي ينظر إليه على أنه نقيض الحكم المدني، وضد الجناح العلماني، وجناح علماني لا يرى تحقيقا لمباديء الحرية والكرامة التي رفعتها الثورة ذاتها إلا من خلال تأكيد مركزية الدولة المدنية التي تعتمد القانون والحياد الفكري والمذهبي، وتستبعد الرجوع إلى أي رأي ديني، أقول، أخشى أن يقود هذا الصراع الشديد إلى ضرب التحالف الشعبي الذي كان وراء تفجير الثورة واستمرارها البطولي، والذي جمع قوى الوسطية من الاسلاميين والعلمانيين على مبدأ واحد ومرجعية مشتركة، هو مبدأ الحرية والكرامة للمجتمع والفرد. 
سيكون المستفيد الوحيد من هذا الوضع فلول النظام الهالك نفسه، الذي لم يهدف من الدفع إلى التطرف والعنف إلا إلى تهميش التكتل الشعبي الوسطي الواسع وتحييده، وتحويل الصراع على النظام السياسي والاجتماعي إلى صراع ايديولوجي.

حتى لا ننسى بطولات أبنائنا

تفجر الثورات عادة أعظم ما تتحلى به الشعوب من قيم التضحية والكرم الأخلاقي والغيرية ونكران الذات حتى درجة التضحية بالروح، لكنها تكشف أيضا عن كل العيوب الجماعية والفردية للمجتمعات. 
ولا تشذ الثورة السورية عن القاعدة. فما أظهره السوريون من الشجاعة والبطولة وروح التضحية والفداء، في سبيل قضية الكرامة والحرية ورفض الاستعباد، يكاد يكون من دون سابقة في تاريخ ثورات العالم. لكنها لم تشذ ايضا عن القاعدة في إبرازها الكثير من الملامح السلبية التي تميز الشخصية السورية، من فردية مفرطة، وغياب روح التنظيم الجماعي الذي يرتبط بقبول المراتبية الوظيفية، والمسؤولية، واحترام السلطة الشرعية، والالتزام بخطة العمل الكلية والاندراج فيها. ومن ثغرة الملامح السلبية هذه دخل إلى صفوف الثورة الكثير من المتسلقين والوصوليين والانتهازيين، وعملوا على الإساءة للشعب وللثورة نفسها.
وعلى هذه الإساءة، وما يرتبط بها من أعمال مخلة بروح الثورة وقيمها وأهدافها،
بعد ما يقارب السنوات الثلاث من التضحيات الهائلة، ومع تدهور شروط المعيشة في بعض الأوساط الاجتماعية وبعض المناطق إلى ما فوق الاحتمال، وتهديد مناطق عديدة بالمجاعة، من الطبيعي أن يستند أعداء الشعب والحرية على هذه الإساءة التي يقوم بها أناس ركبوا قطار الثورة ولم يكونوا جزءا منها، لتعبئة الرأي العام وشحنه ضد الثورة ومشروعها.

وإذا كان من الواجب فضح هؤلاء المتسلقين ومعاقبتهم على ما يقومون به من إساءة للشعب ومشروعه التاريخي. فمن الواجب أكثر أن لا ندع الحديث عن السلوكات والمواقف والحوادث السلبية المسيئة يغطى على الأوجه المشرقة العظيمة لثورة السوريين، على تضحيات شاباتها وشبابها الذين لا يزالون يسطرون كل يوم، ملاحم جديدة في مواجهة الألة العسكرية لنظام هالك سلم أمره بعد انهياره إلى القوى الأجنبية التي تتحدث باسمه وتقود خطاه.
وفي هذه الأيام بالذات، لا يمكننا، أمام ما يقوم به أبطال كتائب الجيش الحر من مآثر، كما تظهر ذلك الاندفاعات الجريئة على جبهات غوطة دمشق، وحلب وحماة وحمص والباب وغيرها، واخيرا في درعا البلد التي أصبحت المدينة الثانية المحررة من رجس كتائب الأسد والميليشيات التابعة لايران، إلا أن نهنيئ هؤلاء الشباب الشجعان على إنجازاتهم الرائعة، ونعبر لهم عن اعتراف الشعب وحبه وإجلاله لمواقفهم وبطولاتهم. وأن ندعو لشهدائنا الذين قضوا في ساحات الشرف، فداءا لشعبهم وعقيدتهم، بالرحمة، ونعاهدهم على أن نبقى على مستوى تضحياتهم، أوفياء لدمائهم الطاهرة ومخلصين لذاكرتهم الحية أبدا.

الثورة بين الدولة الدينية والمدنية

يسأل البعض ما المقصود بالتيارات والاتجاهات المدنية التي غالبا ما توضع، في سياق الصراع الراهن في ثورات الربيع العربي على مفهوم الدولة، المدنية والاسلامية، في مقابل التوجهات والتيارات الدينية. 
والجواب هو أن من ينادون بالدولة الاسلامية يعتقدون أن قوانين الدولة وتنظيماتها وإدارتها وكل ما يتعلق بها ينبغي ان يستمد من الأحكام الشرعية، أي الدينية. وبهذا المعنى تصبح السياسة، أي إدارة الدولة وتسييرها، فصلا من فصول الفقه، الذي يقوم عليه رجال الدين المختصون والقيمون على تأويل النصوص الدينية، من كتاب وسنة، وتفسير أهدافها ومقاصدها وغاياتها. وهذا على قاعدة أن الاسلام دين ودنيا، أي أنه يحكم أمور الحياة كلها، العقدية والمادية.

بالمقابل، ينظر أنصار الدولة المدنية إلى الدولة بوصفها تنظيما لشؤون الحياة المادية، ونوعا من التنظيمات التي تستمد مبادءها من الرأي العقلي، وتتطور مع التجربة وتقدم الحضارة، وأن السياسة بالتالي ليست من ميدان الفقه الديني الذي تستمد أحكامه من تأويل النصوص، وإنما هي من ميدان العلم والتجربة والرأي والاجتهاد العقلي. الدولة المدنية تقاد بالعقل، ويشارك في قيادتها وتطوير تنظيماتها وطرائق عملها، وشكل إدارتها، جميع أصحاب الاختصاص، من رجال السياسة والحرب والاستراتيجية والصناعة والزراعة والعلوم المختلفة، وأيضا من رجال الدين، لكن ليس وحدهم، وذلك حسب ميدان الاختصاص وانطلاقا من معايير الفاعلية والخبرة العملية والنجاعة المادية والأخلاقية.

فإذا كان المطلوب من رجل الدين أن يجتهد لايصال روح الرسالة الدينية لجمهور المؤمنين، من أجل ضمان سلامة اعتقادهم، وموافقة ممارستهم الدينية لمقاصد الشرع، وبالتالي مطابقة سلوكهم لأوامر الدين وأخلاقه، وهذا هو السبيل لضمان خلاصهم في الدنيا والآخرة من الناحية الدينية، فإن المطلوب من رجل السياسة ليس خلاص الأفراد الديني تجاه خالقهم بالدرجة الاولى، وإنما تنظيم شؤون حياتهم والارتقاء بقدراتهم العلمية والعملية، ووتعظيم قدراتهم على منافسة غيرهم من المجتمعات في تمثل العلوم والتنقنيات المدنية والعسكرية الارتقاء بمستوى معيشتهم، وكل ذلك من خلال تحسين طرائق الإدارة وسياسة الدولة والصناعة والزراعة والتعليم والصحة وغيرها من النشاطات الاجتماعية. وهذا لا يتحقق إلا باكتساب العلوم واستلهامها في التنظيمات المدنية، في الحرب والصناعة والزراعة والعلوم والبحث، وغير ذلك.

فإذا كانت مهمة رجل الدين مساعدة المؤمن على تطبيق مباديء الدين بصورة سليمة، فإن مهمة رجل الدولة هي تنظيم شؤون المجتمعات بطريقة تسمح لها بتأمين حاجات المجتمعات المادية من غذاء وكساء ودواء وسكن وأمن وسلامة الأرواح والأرزاق. وكلها أهداف مرتبطة بتطوير الوسائل ولا علاقة لها بالغايات، من مثل تحقيق التقدم في تنظيم الجيوش وقوى الأمن ووسائل الانتاج والتعليم وكل ما يتعلق بالتقدم المادي والعلمي والتقني.

والواقع ليس هناك تناقض بين الدولة المستندة في إشادة مؤسساتها على الرأي والعقل، وتحقيق مباديء الدين ورسالته، بل إن العكس هو الصحيح. لأن المجتمعات التي تخفق في تحقيق الحد الأدنى من التقدم المادي في الوسائل، ويتدهور مستوى معيشتها المادي، تنحط أخلاقيا ودينيا في الوقت نفسه. ولأنه لا يوجد تناقض بين الدين والعلم، لأن علم الدولة يتعلق بالوسائل، أي بالآلات والتقنيات والتنظيمات، وعلم الدين يتعلق بالتعريف بالغايات الكبرى والقيم التي تحكم حياة الأفراد والجماعات. وكل مجتمع يستخدم الوسائل ضمن الغايات وحسب القيم التي يستلهمها من عقائده وثقافته. فالصناعة كالحرب والإدارة وتسيير المجتمعات وعلوم الطبيعة، ليست مرتبطة بدين أو محكومة بمذهب معين، وإنما هي من متعلقات العقل الذي هو الهبة المستركة للانسان كإنسان.

وقد جاء في الحديث،"إعقلها وتوكل”. فالعقل هو العمل بالخبرة والتجربة والتامل والاجتهاد بالرأي، والتوكل هو الثقة بالله واستلهام آياته وأحكامه وقيم الدين ومقاصد الشريعة الكبرى وغاياتها المرتبطة بتحقيق العدل والصلاح في الدنيا والآخرة. فالعقل والتوكل أو الايمان، يتكاملان بمقدار ما ينجح المجتمع في تحديد ميدان اختصاص كل منهما، ويعرف كيف يتجنب الخلط بين ما هو من ميدان الرأي والعقل، وما هو من ميدان الوحي والنقل والعبادة. فكلاهما، العقل والوحي، آية من آيات الله وفضله وكرمه على العالمين..

vendredi, novembre 29, 2013

حول ميثاق الجبهة الاسلامية ومشروعها السياسي الجديد

أثار الاعلان عن ميثاق «الجبهة الإسلامية» التي تشكلت في سورية في الأيام الماضية، نقاشا متجددا لدى الرأي العام السوري داخل صفوف مؤيدي الثورة ومعارضيها. ولأن الجبهة تضم قوى رئيسية في الجيش الحر، كان من الطبيعي أن يسقط الكثيرون موقف الجبهة على الثورة نفسها، متسائلين في ما إذا كان هدف الثورة اليوم هو إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة، بدل القانون المعد من قبل ممثلين للشعب يتماشى مع حاجات الشعب المتعدد المذاهب والمشارب الفكرية ومع تطور الحياة الاجتماعية وتزايد الاوضاع الجديدة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والسلوكية، التي تحتاج إلى تقنين دائم ومستمر.
ما خفف من أثر هذا الانعطاف الفكري في مسيرة قوى الثورة السورية التي بدأت سلمية ومدنية بامتياز، هو تمسك البيان بمبدأ الشورى، مما يبقي أفق الحوار والنقاش مفتوحا على مشاركة الشعب في القرار، من جهة وتأكيد أصحاب المشروع السياسي الجديد على حماية حقوق الأقليات، باعتبار أن «التراب السوري يضم نسيجا متنوعا من الأقليات العرقية والدينية تقاسمته مع المسلمين لمئات السنين في ظل الشريعة الغراء التي صانت حقوقها».
يحتاج هذا البيان إلى نقاش مطول وتوضيح للكثير من العبارات والمفاهيم التي تحتمل أكثر من تأويل، بما في ذلك معنى الشورى، وكيف تصح ممارستها، ومن يشارك فيها، وتصور تطبيق الشريعة، بل التأويل الذي تنوي الجبهة الأخذ به في هذا المجال، الذي لم يعد جديدا على المجتمعات العربية والاسلامية، بعد أن شهدت تجارب متعددة ومختلفة فيه، من أفغانستان إلى السودان إلى ايران وغيرها.
وبالمثل، يحتاج مفهوم الدولة المدنية التي وضعها البيان في تناقض او تضاد مع دولة الشريعة الاسلامية أيضا إلى توضيح، خاصة عندما تتم المطابقة بين الشريعة الإلهية وميادينها والتشريع البرلماني الذي هو من باب التنظيمات التي تمس أمورا ترتبط بتنظيم شؤون الحياة المدنية للمجتمعات ويعكس تطور الحضارة وتقنياتها وتنظيماتها، وهو عابر للحدود الدينية والسياسية والجغرافية، وغايته تنظيم شؤون البشر وتامين أمنهم وسلامتهم الجسدية والنفسية وتحسين شروط حياتهم المادية على الأرض، أكثر مما يرتبط بمذهب أو فلسفة أو عقيدة دينية. وتستند معظم هذه التنظيمات كي لا نقول كلها وبشكل كبير إلى الخبرة العملية والتاريخية والتفكير المنطقي والعلمي.
فالفرق كبير بين التشريع الذي هو حق إلهي، لأنه يعنى بالمقاصد الكبرى والغايات العليا للكون والحياة والوجود الكوني والانساني، أي بالمقدسات، والتنظيمات الانسانية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والتقنية وغيرها مما يعنى بتحسين الأداء والفاعلية والانتاجية والعمل في كل الميادين، ويعتمد على العقل والعلم ويتضمن الاختيار بين حلول وطرائق وأساليب مختلفة ومتعددة للتنظيم والترتيب والتنسيق والتحسين لشؤون الحياة المادية والمدنية، اي التي لا تمس الاعتقادات من أي نوع كان. وفي هذا الباب تدخل تنظيمات الصناعة والزراعة والعمل والإدارة والعلم والحرب التي تتطلب جميعا إعمال العقل.
ومن هذا التصور لنوع المهام التي تقوم بها الدولة جاء مفهوم الدولة المدنية، التي تعني أن على السلطة السياسية العمومية أن تقتصر في وظيفتها على تنظيم شؤون الحياة المادية، وأن تترك للفرد والمجتمع أي الناس تنظيم شؤون حياتهم الدينية. مما يعني أن وظيفة الدولة في كل الميادين تنظيمية، أما كل ما يتعلق بالرأي والفكر والمذهب والدين، أي بمحتوى الأفكار المتداولة في المجتمع وبالقيم والأهداف والغايات العليا للجماعات، فهي مسؤولية هذه المجتمعات نفسها وكل فرد فيها، وأن واجب الدولة هو تأمين الفضاء الحر لجميع الناس كي يقرروا في شؤون دينهم تحت إشراف أصحاب الاختصاص من رجال الدين وبهديهم.
غير ذلك يعني أن تفرض الدولة محتوى العقيدة والقيم والمباديء والغايات التي ينبغي على المجتمع وكل فرد أن يأخذ بها ولا تكتفي بتنظيم ممارسة حرية الفكر والاعتقاد.
وقد عرفنا نحن السوريين نموذجا كارثيا لهذه الدولة العقائدية في صورة دولة البعث التي أرادت أن تصبغ المجتمع كله بصبغتها الفكرية والمذهبية والسياسية، وكانت النتيجة تجريد الشعب، باسم إخضاعه للعقيدة البعثية والقومجية الرسمية، من حقوقه وحرياته جميعا، وتسليم البلاد والمجتمع بأكملهما إلى تلك المجموعات الصغيرة التي امسكت بالدولة، واستغلت ما ألحقته بنفسها من حق المراقبة والتفتيش على الضمير والعقل والسلوك، من أجل بناء سلطة مطلقة وغاشمة، لا شيء يوازن جبروتها في المجتمع، دمرت معنى السياسة والعقيدة والفكر والعلم والمعرفة والانسان نفسه.
من حق كل إنسان وأي تكتل أو تجمع أن يقدم التصور الذي يراه مناسبا لتنظيم المجتمع والدولة. لكن من حق كل إنسان أيضا، عضو في هذا المجتمع ومعني بمصيره ومستقبله، بل من واجبه، ان يناقش أي تصور مهما كان، اللهم إلا إذا كان أصحاب هذا التصور يعتبرونه عقيدة مقدسة لا تناقش. ولا أعتقد أن مثل هذا الموقف يمكن أن يكون موقف شباب مؤمن، أخلص لهذا الشعب وفداه ولا يزال بروحه، وساهم في صنع معجزة الثورة وتحطيم صنم نظام الأسد الذميم.

mercredi, novembre 13, 2013

العلمانية في استخداماتنا العامية

 أصبحت العلمانية في الاستخدامات الأخيرة في بلادنا عند البعض تهمة أو شتيمة. والبديل بالتأكيد ليس دينا مجردا وايمانا صافيا وإنما مفهوما أكثر استبدادية للدولة والسلطة.


هذه مقتطفات من مقال نشر في ٢٠٠٧ للاضاءة على المفهوم والفكرة


"لا أحد يستطيع أن ينكر أن العلمانية استخدمت في البلاد العربية ولا تزال، سواء أفهمت كموقف عقلاني وتنويري في مواجهة مجتمع متأخر ومتدين ومتعصب، أو كموقف من الطائفية الدينية ودعوة إلى تجاوزها، لتبرير الحد من الحريات وتقييدها بل إلغاءها. في الحالة الأولى اتقاءا لشر صعود التيارات الاسلامية إلى الحكم، وفي الحالة الثانية نتيجة قصر مضمونها على تجاوز التمييز الطائفي والمساواة بين الجماعات الدينية، وغض النظر عن المساواة السياسية المرتبطة بإقرار الحريات المدنية والسياسية والمساواة القانونية والعدالة الاجتماعية.
ومن هنا لا يزال السؤال الذي طرحه كتاب المسألة الطائفية بصورة جانبية، مطروحا اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى : ما الذي وضع العلمانية العربية، والسورية منها بشكل خاص، في هذا المأزق الذي جعل منها رديف الديكتاتورية ونقيض قيم الثورة السياسية التحررية الحديثة برمتها، وفي المكان الأول حرية الاعتقاد التي تعني تحريم فرض اعتقادات بالقوة على أي إنسان، أو منعه من التعبير عنها ؟
الجواب من شقين. أولا تحول العلمانية إلى ايديولوجية، أي إلى عقيدة فئة من الفئات الاجتماعية، جعلت منها إطار تماهيها وولائها الخاص، ورمز تفاهمها الذي يوحد عناصرها ويربط في ما بينهم ليحولهم إلى قوة فاعلة وشريك في الصراع الاجتماعي الدائم على الثروة والسلطة والنفوذ والجاه. وهو ما فرض عليها الخضوع لأجندة هذه الجماعة الخاصة ومتطلبات استراتيجيتها الاجتماعية والسياسية. وثانيا تعارض مصالح تأمين نفوذ هذه الجماعة/الطائفة واستقرارها مع مصالح التحرر والانعتاق العام للمجتمع، واضطرارها، في سبيل الاحتفاظ بمكاسبها، المادية والمعنوية، إلى خيانة القيم والمباديء العلمانية نفسها، ومن ورائها مباديء الديمقراطية. وهذا هو الذي يفسر أن أحدا من رموز هذه العلمانوية، الذين استشهد بهم وائل سواح، لم ينخرط في أي معركة من معارك الحرية، لا الفكرية ولا السياسية، بل إن معظمهم قد وجد في نقد حركة ربيع دمشق فرصة للتعبير عن رفضه لهذه الحرية ومقته لها. وبعض من جذبته الحركة قليلا قصر جهده على الدعوة إلى ليبرالية فجة تستنجد بالقوى الأجنبية وتدعو إلى تعليق الآمال جميعا عليها.
ما كانت لمصادرة فكرة العلمانية من قبل فريق اجتماعي ليحولها إلى رأسمال خاص به إلا أن تقود إلى أمرين. إفساد المفهوم من جهة وتقويض فرص تعميمه وانتشاره في الوعي وفي المجتمع والدولة معا، وبالتالي قطع الطريق على تقدم فكرة الحداثة وترسخها في الوعي الشعبي.
فبقدر ما أصبحت العلمانية ايديولوجية تغير شكلها ومضمونها ودورها الاجتماعي أيضا. فتحولت من مبدأ مؤسسي ناظم لسلوك الأفراد والجماعات، بصرف النظر عن اعتقاداتهم، إلى عقيدة قائمة بذاتها بديلة للدين، أي إلى دين جديد، يتخذ منها منطلقا لبناء رؤية للمجتمع والعالم معادية للرؤية المرتبطة بالدين القديم، ولرجاله وسلطته وقيمه. وككل عقيدة، صارت العلمانية "دوغما"، أي مذهبية مغلقة، وحقيقة ناجزة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل، لا تحتمل النقاش ولا الجدال، قائمة في مواجهة جوهر آخر مطلق هو الحقيقة، أو بالأحرى "الخطيئة" الدينية. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يربط هؤلاء أو أكثرهم العلمانية بالعلم، وأن يشتقوا مفهومها نفسه منه. هكذا أصبحت العلمانية مساوية للادينية، وراية يجتمع تحتها كل كاره للدين أو داعية للتجرد من تراثه والتحرر منه، في مقابل الاسلامية التي تقف في وجهها وتدعو إلى التمسك بالقيم والمفاهيم الدينية في تقرير كل ما يتعلق بالفرد والمجتمع والتاريخ والحضارة معا. ومن الواضح من مقال وائل سواح وزملائه إلى أي حد تعكس اشكالية العلمانية والاسلامية لديهم الصراع بين العلم، المنظور إليه كرديف للعقل، والدين، رديف الجهل والرؤية الخرافية. ولذلك فإن الاسم الصحيح الذي ينبغي إطلاقه على هذه العقيدة ليس العلمانية وإنما اللادينية أو العداء للدين، التي تختلط مع علموية سوقية، من مخلفات القرن التاسع عشر، تعكس الايمان الساذج والبسيط بالعلم وبقدرته الخارقة. وهي العقيدة التي تسمح بتذويب جميع إشكاليات المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وإلغائها في عقل مطابق للعلم، يعمل كإله محرك ومبدع، قائم خارج أي زمان ومكان. ومن هنا يأتي تماهي الكثير من المثقفين مع هذه الدعوة التي تسمح لهم بالشعور بالتفوق الطبيعي على الغالبية التي ينظرون إليها ككتلة عددية، جاهلة، تفتقر للعلم وللعقل معا، لا كشعب ولا كأمة تمتلك وعيا وإرادة وقادرة على الفعل أو الانجاز من أي نوع كان.
ومن الطبيعي أن تكف العلمانية في هذه الحالة عن أن تكون مفهوما إجرائيا يهدف إلى فهم الواقع وتحليله، يمكن نقده ككل المفاهيم العلمية والاجتماعية، وتعديل مضمونه ودلالاته على ضوء التجربة التاريخية، ومع تغير هذا الواقع او تقدم المعرفة بدقائقه. فككل عقيدة تتحول إلى مذهب ديني، أصبحت العلمانية في نظر عابديها المخلصين ماهية ثابتة وجامدة، لا يدخل عليها تغيير، وصالحة بالتالي، مثل الدين، لكل زمان ومكان، لأنها قائمة فوقهما وخارجهما، تعيش حياتها بمعزل عن الواقع وعن المجتمعات وعن التواريخ، مهما اختلفت تجاربها أو تناقضت سيرها ومساراتها. ويصبح أي مساس بأسطورتها، أي بقدسية فكرتها، أو تغيير في أسلوب ممارسة طقوسها، أو تشكيك في بعض سيرها واستخداماتها، هرطقة وخروجا عنها. لأنه يشكل مساسا بالهوية، وتهديدا لاستقرار الجماعة الايمانية التي تتحول أكثر فأكثر، في مواجهة مجتمع يستعصي على سيطرتها، إلى عصبة منغلقة عدوانية، تتبنى جميع المواقف التي تتبناها الجماعات الدينية المواجهة لها، وتعلن مثلها جهادها، بجميع الوسائل، النظرية والمادية، الشرعية وغير الشرعية، السلمية والعنفية، ضد الكفرة ولجاحدين، لنشر العقيدة التي يكمن فيها خلاص البشرية. ومثلها أيضا، تبني العلموية كنيستها التي توزع بطاقات الخلاص على المخلصين لها وتحرم من تشاء من اعترافها وبركتها.
هذا ما يفسر أيضا الطابع التبشيري الممل للخطاب العلموي، وما يتميز به من الجمود والثبات وتكرار الصيغ والعبارات والشعارات نفسها، دون أدنى مراجعة أو محاولة لتجديد الفكرة أو تعميقها، منذ نصف قرن. فككل المتدينين، يعتقد العلمويون أن أي تغيير او تعديل في سرديتهم الخاصة بهم، لا بد أن يثير الشك في متانة العقيدة، ويقوض ربما أسس بقائها. وأن كل ما أنتجه هذا الخطاب كان مقالات تمجيدية ودفاعية، تهدف إلا صون الفكرة من التغيير والتعديل، والحفاظ على تماميتها وأصولها، في وجه ناقديها، وتستند على الاسترجاع الأبدي للأفكار نفسها، وإعادة إنتاجها عبر نقد خطابات الخصوم أو من يحولون إلى خصوم، والتشهير بهم وإظهار مروقهم او خيانتهم. فعندما تتحول الفكرة إلى عقيدة وتصبح منتجة لهوية وانتماء خاص وولاء جمعي، تكتسب قيمة رمزية أساسية، وتصبح بالتالي موضع قداسة، يصعب النقاش فيها أو الحديث عنها خارج دائرة االاحترام والإجلال والتمجيد والتبرير.
هكذا تغير دور العلمانية أيضا في حياتنا السياسية والاجتماعية. فبعد أن كانت مبدأ جامعا، يقرب بين مختلفين، بدعوة الجميع إلا الارتفاع على خلافاتهم العقائدية للاتفاق على شروط ممارسة هذه العقائد جميعا بحرية، وبالتالي ضمان حيادية السلطة التي ترعى هذه الممارسة الحرة وتحافظ عليها، أصبحت بالعكس أداة للتمييز والفصل بين جماعتين، جماعة المتدينين وجماعة المتحررين من الدين. ولم يعد أنصار الفكرة العلمانية ينشدون، كما كان الأمر في الأصل، إقناع الآخرين بالدخول في منطق السلطة الديمقراطية، والانتماء إلى أمة سياسية مختلفة عن الأمة الدينية، توحد جميع الاطراف من أصحاب العقائد المتنازعة، تحت سقف دولة محايدة، تحترم الجميع بالتساوي وتدافع عن حرياتهم الاعتقادية والسياسية والمساواة والعدالة في ما بينهم، وإنما أصبحوا يدافعون عن مكانهم وموقعهم في التركيبة الاجتماعية، بوصفهم أصحاب كنيسة مستقلة ومتميزة، ذات أسرار وطقوس يصعب استيعابها من قبل العامة الجاهلة والأمية. ولذلك لم يعد تحقيق العلمانية بما تعنيه من ضمان الحرية والمساواة والعدالة، هو الذي يعنيهم حقيقة، ولا حتى التبشير بها والسعي إلى نشرها وإقناع الآخرين بفائدتها، وإنما حمايتها من التحريف، كشرط للمحافظة على الملة، التي صارت إليها العلمانية. وهذا ما يفسر النزعة السائدة عند هؤلاء لتصنيم مفهومها وتحويله إلى حقيقة ثابتة ونموذج جاهز وناجز، لا يقترن تحقيقه بأي حيثية، وجعله أقنوما واحدا مستقلا يتقدم على كل ما عداه من الأقانيم. فهي هدف في ذاتها، لا يهم إذا ما ارتبط تحقيقها بضمان حرية الأفراد أو عبوديتهم، ولا إذا كان على حساب المساواة أو التمييز في ما بينهم. فصل الدين عن الدولة أو إخراجه منها، هو الغاية الأولى والوحيدة، والتي يبرر تحقيقها أو الوصول إليها جميع الوسائل الأخرى، بما في ذلك أقسى الديكتاتوريات العسكرية.
3 – معنى العلمانية
بالمقابل نحن ننظر للعلمانية بوصفها مبدأ من مباديء الثورة السياسية الحديثة التي تقود، في العالم كله، نحو بناء أمم سياسية، ودول/أمم ديمقراطية تعمل على بلورة إرادة هذه الأمم وتؤمن إعادة إنتاجها في الوقت نفسه كجماعة سياسية. ففي موازاة تفكك الايديولوجيات التقليدية وانحسار المناخات اللاهوتية القرسطوية، سوف يتحلل مجتمع الجماعة الدينية المتراصة، وتبرز الاختلافات والتنوعات داخل الدين الواحد، وليس بين الأديان المختلفة فحسب. بل إن الصراع بين المتدينين وغير المتدينين داخل الدين الواحد سوف يحتل، في مرحلة ثانية، أي ما بعد الطائفية، المرتبة الأولى في الصراع، ويدفع إلى تفاقم الجدل بين تيارات الفكر والاعتقاد وتنازعها. وفي هذا السياق ستظهر العلمانية لتؤسس لنهضة فكرية كبرى أساسها توفير مبدأ او قاعدة أخلاقية سياسية تسمح للمجتمعات المتحللة والمتفجرة، ببناء الوحدة السياسية مع الحفاظ على التعددية، والاستمرار في الجدال والمناظرة من دون الانجرار وراء الحرب الاهلية. وليس هذا المبدأ الخطير الذي يكاد في نظري يساوي العلمانية أو يستغرق مفهومها، سوى احترام حرية الضمير، بما تعنيه من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف. ومن هذا المبدأ وما يتضمنه من اعتراف بأصالة الضمير وتحريم انتهاكه، لأي فرد، سوف يشتق مبدأ المساواة بين الافراد، بقدر ما تحولوا جميعا لأفراد أحرار وعاقلين، أي يملكون جميعهم ملكة الضمير والوعي والتفكير. ولأنهم متساوين، فعليهم أن يقروا لأنفسهم ولكل واحد منهم بحقوق واحدة أمام القانون، بصرف النظر عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وظروف معيشتهم، وأن يكونوا مشاركين في تقرير مصيرهم الجماعي، أي في قيادة الدولة والجماعة، ومتكافلين. ومن هنا أصبحت مباديء الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تعني التضامن والتكافل، مؤسسة لجماعة جديدة، هي الأمة أو الجماعة السياسية، في مقابل الجماعة أو الأمة الدينية القديمة. فإذا أخفقت الجماعة السياسية الجديدة، أي الأمة الممثلة في الدولة، في ضمان حرية الأفراد في اختيار اعتقاداتهم والتعبير عن أفكارهم، أو مارست التمييز بينهم بسبب انتماءاتهم، أو لم تنصف في معاملة بعضهم لحساب البعض الآخر، انتفت إمكانية بناء المواطنة كرابطة سياسية جديدة، مضافة إلى رابطة الدين أو موازية لها، وأصبح من المستحيل على الدولة أن تبني أمة أو جماعة سياسية. وتعثرت ولادة الحداثة السياسية، بما في ذلك قيام دولة قانونية.
والقصد أن العلمانية ليست عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محل العقائد الأخرى أو التعويض عنها، وإنما هي قاعدة لإدارة التنافس بينها، وتنظيم طريقة التعبير عن اختلاف كل منها مع غيرها، بما فيها العقائد اللادينية. وهي تقوم على افتراض إمكانية تحييد الاعتقاد الشخصي والفلسفي في الأمور الجماعية التي تتعلق بإدارة الدولة، حتى يمكن للدولة أن تكون دولة الجميع، وليست دولة جماعة اعتقادية واحدة. لكن تحييد الاعتقاد الديني والفكري في دائرة تعامل الدولة مع مواطنيها لا يعني إدانة أي اعتقاد، او التقليل من نفوذه، أو تحييده في المجال الاجتماعي، أو تحويله كما يعتقد البعض إلى اعتقاد شخصي، ومنع معتنقي الدين من تكوين روابطهم الجمعية. فالخاص لا يعني الشخصي والفردي. بل بالعكس، إن العلمانية لا تضمن شرعية وجودها إلا مما تقدمه لجميع الأفراد والجماعات العقائدية من حرية أصيلة وجوهرية، لا يخضع مبدؤها للنقاش، في التعبير عن نفسها وتنظيم كيانها والدفاع عن مصالحها أيضا، ضمن شروط احترام مباديء حرية اعتقاد الآخر والمساواة والعدالة. وتفقد العلمانية مبرر وجودها إذا تحولت إلى عقيدة بديلة تحتكر السلطة السياسية، وتمارس الاضطهاد ضد العقائد الأخرى أو تشجع عليه أو تقبل به، أو تدعو للحد من حريات منافسيها وخصومها الفكرية والمذهبية، وتبرر عدم المساواة القانونية أو الأخلاقية تجاههم، أو لا تكترث للظلم الواقع عليهم.
فالفكرة العلمانية أبسط بكثير مما نعتقد، وهذا مكمن قوتها وانتشارها وشعبيتها أيضا في موطنها الأصلي. فهي تعني باختصار أن الدولة لا تشتغل بأمور العقيدة، أي كل ما يتعلق بموضوعات الايمان وما يشكل مسلمات ايمانية عند الناس، سواء أكانت مسلمات دينية أو عقلية لا دينية. ليس هذا دورها، وليست لديها الإمكانيات والشروط التي تسمح لها بذلك. وإنما تقتصر مهمتها على تحسين شروط حياة أعضائها، المادية والمعنوية، من جميع المذاهب والاعتقادات، والارتقاء بثقافتهم وتكوينهم العلمي والمهني. أما موضوع العقائد فهي متروكة للجماعات المدنية نفسها، تتنازع فيها على قاعدة الحرية الفكرية والاعتقادية والمساواة الكاملة والتنافس السلمي. فشرط القبول بحيادية الدولة الاعتقادية وتجريدها من الدين هو إقرار الحرية الكاملة خارجها لجميع الأديان والمذاهب والعقائد. ومن دون ذلك تصبح العلمانية بالعكس غطاءا لدولة مذهبية مقلوبة، أي تفرض مذهب العقل والعلم على المجتمع بأكمله، أو تكافح ضد العقائد والأديان السائدة في المجتمع وتعمل على إضعافها ومحوها. وهو ما عرفته الدولة الشيوعية في القرن الماضي، وكان مثالا للعلمانية الدينية التي انتهت بكارثة على جميع تلك المجتمعات، لا تزال آثارها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مستمرة بعد أكثر من عشرين عاما على زوالها. وأي علمانية لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول لا محالة إلى أداة لتسويد عقيدة سائدة. هكذا لا تشكل العلمانية إذن عقيدة بحد ذاتها ولكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ التي يكفل ممارسة العقائد جميعا بقدر ما هو مؤسس لمفهوم الحرية الفكرية.
لكن العلمانية، بقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية، تفتح فضاءا جديدا وتخلق ظروفا لا يمكن إلا أن تقود إلى تغير في أفكار الناس واعتقاداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. إنها تشكل إطارا لولادة ثقافة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، هي الثقافة الحديثة، بكل ما تتصف به من استثمار في الفرد والشخصية الإنسانية، ومن قيم الحرية واستقلال الرأي والمساواة والندية، ومن اهتمام بشروط الحياة الدنيوية واعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة على الأرض والتمتع بالحياة الدنيا. لكن هذه الثقافة ليست مشتقة من العلمانية، إنما هي ثمرة الجدل الفكري والاجتماعي الذي يخلقه ضمان الحريات والمساواة وحكم القانون، وما يقود إليه ذلك من إثراء للمعرفة ونضوج للنظم المجتمعية وتطوير للعلوم والإبداعات التقنية.
وملخص القول هنا، أن العلمانية مفهوم تاريخي. وكأي مفهوم تاريخي، تظل مرتبطة بشروط التجربة التي ولدت فيها، بينما يظل الواقع أغنى من المفهوم. والنماذج التي ارتبطت بنشوء الوعي العقلاني وتلك التي جسدت مبدأ الفصل بين السلطات الدينية والزمنية وتكريس استقلال واحدهما عن الآخر، لا يمكن أن تكون هي نفسها، أو تطبق كما هي على المجتمعات كافة، بصرف النظر عن تراث كل منها وتركيبتها الدينية والاجتماعية، وعلاقة الدين بالدولة فيها، وظروف تقدم تجربتها السياسية. وهي جزء من عملية تاريخية شاملة تتعلق بانتقال المجتمعات التقليدية نحو الحداثة، ولا بد أن يتأثر حضورها، من حيث الشدة والامتداد، أو من حيث القوة والضعف أو من حيث الوضوح والاختلاط، بشروط هذا الانتقال، وفرص تحقيق الحداثة في مستوياتها المختلفة.
ولهذا السبب ليس من الممكن تطبيق أي مفهوم تاريخي على مجتمع من المجتمعات من دون نقده مسبقا. ولا يعني النقد التهشيم، وإنما الكشف عن قدرة هذا المفهوم على إنارة تجربة جديدة مختلفة عن التجربة التي ولد فيها، أي عن مدى قدرته على أن يكون مفهوما كونيا ينطبق على جميع التجارب. وفي هذه الحالة يمكنه أن يلعب دورا ايجابيا ومنورا في إعادة بنائها او المساعدة على دفع تجربتها الخاصة إلى الأمام. وإلا فهو بحاجة إلى إعادة صياغة وتعديل وتقويم حتى يتمكن من تفسير التجربة الجديدة والرد على التساؤلات التي تطرحها.


العلمانية ومعركة الحرية
من هنا أعتقد أن نقد العلمانوية، أي العلمانية العقائدية، المحولة إلى خطاب هوية، مرفوع في وجه الأكثرية الاجتماعية، ومبرر لحرمانها من الحرية، أصبح شرطا لتحرير العلمانية من قيودها، وإخراجها من المعزل الذي وضعت فيه، وإطلاق قدراتها على تثوير الثقافة والسياسة العربيتين بالمباديء الإنسانية. وشرط هذا التحرير فصلها عن فكرة اللادينية أو العداء للدين التي عزلتها وحولتها إلى عقيدة فئوية، وفتحها على جميع أولئك المؤمنين بحرية الرأي والضمير، مهما كانت عقائدهم وفلسفاتهم الشخصية. والذين يرفعون سقف العلمانية ليطابقوا بينها والايمان بالعلم عوض الدين، أو التخلي عن الاعتقاد الديني، لا يهمهم انتشارها ولا قبول الناس بها، وإنما يريدون أن يحتفظوا بها متاعا خاصا لهم، يميزهم عن غيرهم من الفئات الاجتماعية. ولكنهم بقدر ما يستخدمونها وسيلة للإقصاء يحكمون على أنفسهم أيضا وعقيدتهم بالإقصاء من المجتمع والعيش في معازل هامشية.
لا يمكن أن تكون العلمانية هي نفسها عقيدة فئة لوحدها، وتسمح في الوقت نفسه للناس بتجاوز مواقفهم العقائدية. ولا أن تكون هوية جماعة خاصة، وفي الوقت نفسه قاعدة لجمع الأمة بأكملها تحت ظل سلطة قانونية. فعندما تصبح هوية وعقيدة لا يمكن أن تؤسس لمعرفة موضوعية مستقلة عن أحكام القيمة الايديولوجية، ولا مبدأ ناظما لدولة سياسية تؤلف بين جميع أصحاب العقائد وتوحد بينهم، الدينية منها والعقلية. والواقع أن العلمانية لا تملك أي مضمون عقائدي، بحد ذاتها. ومن كانت هويته العلمانية فلا هوية له. إنها موقف من العقيدة والهوية. والذين يحولونها إلى عقيدة يخلطون بينها والفلسفة اللادينية. فمن المفروض أن يستطيع المتدين ان يقول عن نفسه ويكون بالفعل علمانيا، وإلا فليس للعلمانية قيمة ولا مبرر على الإطلاق. فهي ممكنة فقط بانضمام المؤمنين لمبدئها، وليست ممكنة أطلاقا بعزلهم أو استبعادهم. ففي هذه الحالة لن تكون مبدأ للحرية وإنما للاضطهاد والقهر الروحي والديني. وسوف تكون نتائج تطبيقها معاكسة تماما لما نشأت من أجله. وهو ما نلاحظه بالفعل في بلادنا حيث يترافق انهيار الضمير والانحلال الفكري مع تفاقم مسألة الحرية وتعميم الاضطهاد وما يعنيه من قتل الذاتية.
هذا ما تشير إليه التجارب التاريخية نفسها. فقد انضم تيار كبير من رجال الدين الشباب إلى الفكرة وأيدوا الفكرة العلمانية، ليس من باب التخلي عن وظيفتهم أو ايمانهم الكاثوليكي، وإنما اعتقادا بأن العلمانية لا تنفي الايمان والاعتقاد، ولا تشكل هي بحد ذاتها ايمانا جديدا، وإنما تنظم العلاقة بين أصحاب الاعتقادات المختلفة على أساس الحرية، أي تأسيس دولة تضمن الحرية للجميع، وتستطيع تحقيقها، بالرغم من اختلاف الآراء. وهذا هو المكسب التاريخي الحقيقي الذي مكن من نشوء الدولة الوطنية، القائمة على الخيار الحر والإرادة الحرة لأعضائها جميعا، مختلفة عن الجماعات أو الأمم الدينية التقليدية التي كانت تتأسس على غلبة جماعة على جماعات أخرى، ولا تستمر إلا مع استمرار هذه الغلبة، وما تنطوي عليه من قبول الجماعات المغلوبة الخضوع والانصياع لإرادة الغالب والتكيف مع عقائده ومطالب سيطرته.
لا يعني نقد العلمانية اليوم، سوى الفصل الكامل والنهائي بينها وبين اللادينية التي تشكل العقيدة الحقيقية لجزء من النخبة الثقافية العربية والعالمية معا. ولا يتضمن هذا الفصل ولا ينبغي أن يتضمن أي مساس بشرعية اللادينية كفلسفة وكهوية جمعية، ولا بحق أصحابها في العمل بحرية داخل الفضاء الاجتماعي، فكرا وتنظيما وصراعا لتحقيق أهدافها وغاياتها. بل إن العكس هو الصحيح. إن هذا الفصل هو شرط انعتاق الفكرة اللادينية والممارسة العلمانية معا. فالتستر وراء مبدأ العلمانية لم يضعف شروط تحقق الفكرة اللادينية فحسب، ولكنه حرمها أيضا من الطموح إلى انتزاع مشروعيتها في حقل الثقافة العربية، وقلل فرص تطويرها في إطار مناظرة عقلية شفافة وضرورية. وليس هناك سوى التقدم على طريق العلمانية الحقيقية، وما يعنيه من تخلي العلمانوية أو اللادينية عن فكرة الدولة العقائدية التي تبشر بعقيدة العقل ضد الظلامية الدينية، تماما كتخلي أصحاب الفكرة الدينية عن السيطرة على الدولة وتحويلها إلى أداة لفرض عقيدتها على الجميع، سبيلا للخروج من الحرب العقائدية وفتح باب المعرفة العلمية. فاحترام حق المؤمنين بالتمسك بايمانهم والاعتراف بأصالة هذا الايمان وشرعيته ولا جداليته هو شرط فرض حق اللامتدينين بالتمسك باعتقادهم والاعتراف بأصالته وشرعية وجوده الذي لا يجادل فيه أيضا.
وبالمثل، إن تحرير العلمانية من اللادينية، وإخراجها من الشرنقة العقيدية، هو شرط تعميمها كمبدأ تنظيم سياسي يتجاوز الاعتقادات الدينية وغير الدينية، ويصب في بناء جماعة سياسية سميت في العصر الحديث، امة دولة، لا يمنع اختلاف الناس في اعتقاداتهم في ظلها من اتحاد إرادتهم وتفاهمهم واتفاقهم على بناء إطار للحياة الجماعية، ساهم أكثر من أي إطار سابق في تفجير طاقات المجتمعات الأخلاقية والفكرية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تجديد النظم الاعتقادية التقليدية وإحيائها.
وهذا هو أيضا شرط تحقيق الفصل بين العقيدة والمعرفة، أي بناء أسس مناظرة معرفية موضوعية جدية، من جهة، وتحرير الرأي العام من نير التحالف الموضوعي بين الطغيان السياسي الممثل بالسلطة الاستبدادية، والطغيان الفكري الممثل بسيطرة الخطابات الدينية. وطالما بقي الاختلاط بين المعرفة والعقيدة، واستمر الدعم المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، أي التفاهم بين النخب الدينية والنخب السياسية ضد الحرية، فلن يكون هناك امل في الخروج من الحالة القائمة التي تفرض على الجميع البقاء ضمن حدود أقليات هامشية، اللادينيين، والدينيين، الاسلاميين والعلمانيين، الأكثريات والأقليات، لصالح فئات سيطرة غاشمة ومحدودة، لا تحتاج لضمان سيطرتها إلى إقناع الرأي العام ولا موافقته، وإنما تستطيع أن تؤمن ذلك من خلال تذرر المجتمعات وتحلل عراها، واستخدام القوة المجردة والارهاب للقضاء على تيارات المقاومة والمعارضة والاحتجاج الضعيفة فيها.
تقف العلمانية في مقدمة المعركة من اجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية ، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة واحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية.
هل يعني هذا أن صعود الحركات الاسلامية لا يهدد العلمانية او أن العلمانية تستطيع أن تستوعب نمو الحركات الإسلامية. بالتأكيد تشكل الحركات الاسلامية تحديا تاريخيا لفكرة العلمانية وممارستها معا. بيد أن الجواب على هذا التحدي لا يكون بالتخلي عن روح العلمانية والقيم التي تبرر وجودها وتؤسس شرعيتها، وإنما بالعكس في إظهار العلمانية بمظهرها الحقيقي الحيادي الذي يشجع الناس على تجاوز نزاعاتهم العقائدية المنتمية للماضي، ويقدم لهم فكرة تساعدهم على الاتحاد او التفاهم لانقاذ الحاضر، أي لبناء حياة قائمة على الاعتراف بحرية الجميع والمساواة بينهم وتضامنهم.
لهذا تستحق العلمانية أن نعود إليها اليوم ونراجعها ونعيد بنائها، أي أن ننقدها. لأنها المفهوم الوحيد الذي يمكننا من التمييز بين الموقف الاعتقادي والموقف المعرفي، ويسمح لنا بانتزاع ساحة جديدة مستقلة عن الايديولوجية نقيم عليها أساس تفاهمنا الجديد، من وراء العقائد العقلانية والأديان السماوية. وليس هناك أي مفهوم آخر يستطيع أن يقوم بذلك. فهي وحدها التي تقدم مفهوما دون مضمون عقائدي، بينما لا يمكن تصور العقلانية إلا كفلسفة أو رؤية مرتبطة بقيم واحكام وتوجهات تشكل اختيارا خاصا لفئة من المجتمع. العلمانية هي الوحيدة التي لا تؤسس لاختيار قيمي آخر سوى حرية الاختيار، وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة، ومنطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.
في هذه الحرب الايديولوجية التي تدمر اليوم أسس وجود الدول والتنظيمات المدنية العربية جميعا، أو تهدد بتدميرها، ليس هناك سوى صيغة الحرية المكفولة للجميع، وسيلة لتطمين الأفراد على عقائدهم ووجودهم، وتحويلهم عن الاقتتال إلى التفاهم والتعاون. وكما أن أصالة العلمانية تنبع مما تقدمه من فرص لتوحيد المختلفين في العقيدة، وبالتالي توسيع دائرة التحالف الضروري لتحطيم نظام الوصايات المتعددة، الذي هو في الوقت نفسه نظام الاقتتال، فإن تحويلها إلى عقيدة وفرضها بالقوة أو تحويلها إلى عقيدة معادية للدين والفكر الديني، يزيل عنها كل السمات التي جعلت منها أداة لتوحيد المختلفين وتجاوز تعددية المذاهب والاعتقادات، ويقوض لا محالة أسس شرعيتها ومبرر وجودها.
باختصار، العلمانية من دون حراسة قيم الحرية والمساواة والعدالة، يمكن أن تتحول اليوم في البلاد العربية إلى أكبر عقيدة قهرية، أو مشرعة للقهر الجماعي، باسم حداثة ليست في جوهرها ومظاهرها نفسها أحيانا سوى قرسطوية مقنعة ببهارج عصرية لا تخدع احدا. فهي حداثة سالبة للانسان ومعطله لضميره وعقله وجسده، ومستلبة لحرياته وإرادته، معادية لفكرة الحق والقانون والمسؤولية الفردية والجماعية معا.
ولذلك كما ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، ينبغي أن ننكر أيضا القطيعة التي عمل الاسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعا ضد سياسات القمع والاضطهاد، علينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تظهر عداءا لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم او تشويه صورتهم لدى الرأي العام. وهذا يعني أننا لا ينبغي أن ننتظر تطبيق الدولة لمبدأ العلمانية حتى نلتزم به، وإنما أن نطبقه نحن منذ الآن على انفسنا وفي ساحة العمل العام، فنكف عن اتهام بعضنا البعض الآخر، أو التشهير به، أو تخوينه او تكفيره، ونعترف بشرعية تعددية وجهات النظر وأصالتها، ونقبل بنسبية المعرفة، بما في ذلك مفاهيم العلمانية والحرية والمساواة والعدالة والقومية والوطنية وجميع المفاهيم الأخرى، وتحولاتها وتبدل دلالاتها أيضا. وهو شرط قبول الآخر والتسامح بين الأطراف المتباينة في النظر. فليس هناك علمانية ولا حرية يمكن أن تعيش بغياب مفهوم الحد الادنى من النسبية. وهذا هو أيضا أساس بناء حقل المعرفة العلمية القائمة على افتراض حد كبير من إمكان التفاهم والتواصل بين بني الانسان، من وراء أفعال الايمان والاختلافات العقائدية.
باختصار، كما يشكل فصل العلمانية عن اللادينية شرطا لإعادة مفهوم العلمانية إلى ذاته كمبدأ حرية، يشكل تحرير العلمانية من توظيفاتها الايديولوجية شرطا لتعميمها واستبطانها من قبل الجمهور وتحويلها إلى قاعدة لحياة سياسية وثقافية وأخلاقية ثرية "ومستقيمة، في الدولة والمجتمع على حد سواء.

العودة للمقال الأصلي
من أجل علمانية إنسانية
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=110200

mardi, novembre 12, 2013

غواية الطائفية في سورية والبلاد العربية جريدة الاتحاد 29 مارس 2006

بالرغم من المقاومة القوية التي أظهرتها الشعوب العربية لمشعلي الفتن الطائفية في السنوات الأخيرة، في العراق وغيره، إلا أن الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها أطراف متعددة، رسمية واهلية، من الخارج والداخل معا، تدفع بشكل متسارع نحو جعل المخرج الطائفي حتمية لا تقاوم في العديد من أقطار العالم العربي. بل إن هناك من بدأ يتحدث بصراحة عن مخاوف انجرار المنطقة برمتها إلى نزاع طائفي لن تكون نتيجته سوى الدمار المعمم. وشيئا فشيئا يكاد الرأي العام العربي يستسلم في بعض الأقطار، بل في أكثرها، لفكرة قبول النزاعات الطائفية كما لو كانت عاهة ولادية مرتبطة ببنية المجتمعات العربية وثقافتها.

والواقع ليس لهذا الانجرار وراء المخرج الطائفي أي علاقة بوجود تعددية دينية أو حتى حساسيات وحزازات قديمة بين الطوائف المتواجدة منذ قرون طويلة على الأرض نفسها. فكما يمكن أن تقود التعددية إلى التعايش المثمر والمثري والمبدع، كما أظهرت ذلك قرون طويلة من الحكم العربي، ليس في اسبانيا وحدها ولكن في بلاد المشرق جميعها، يمكن أن تقود أيضا إلى النزاع وتشريع القتل المأساوي على الهوية. وبعكس ما يعتقد الكثيرون، ليس لهذا النزاع علاقة بطبيعة العقائد ومضمونها واختلافاتها وإنما بالظروف التي تشرط حياة الجماعات وتحدد علاقات واحدتها بالأخرى. فمن الممكن أن تكون العقائد متباينة تماما بين الأطراف ويكون التعايش كبيرا في ما بينها، كما أن من الممكن أن يولد النزاع بين جماعات تنتمي إلى الأصول ذاتها ولها منظومات عقائد وأعراف وتقاليد واحدة، كما تبرهن على ذلك الصراعات التي غالبا ما تندلع داخل القبائل والعشائر والطوائف، بل والعائلات نفسها.
وهكذا، عندما عززت حقبة الاستقلال الانخراط في العالم الحديث وخلقت آمالا كبيرة بالتقدم والارتقاء لدى الجميع، وفي جميع المجالات، ولدت حركة وطنية وقومية واسعة وحدت بين جميع الاطراف ودفعت إلى تجاوز الانقسامات التاريخية الطائفية والأقوامية والاندماج في كل وطني حديث واحد. وبالعكس، يغذي الانسداد والجمود الذين تقود إليهما نظم متحجرة ولا إنسانية، وما ينجم عنهما من حرمان الجميع من فرص التقدم والارتقاء، شعورا عميقا بالاحباط والخوف وانعدام الثقة يشجع الجماعات والأفراد معا على التحلل من قيم التضامن الإنسانية وعلى القبول بجيمع الطرق والوسائل اللاأخلاقية للخروج مما يبدو وكأنه حالة حصار وموت محقق، بأي ثمن وعلى حساب الجماعات والأفراد الآخرين.
ومن هنا يشكل الخيار الطائفي، بالمعنى الديني والأقوامي معا، التعويض المباشر عن غياب الخيار السياسي، أي الجماعي الوطني. وطالما بدت شروط تحقيق هذا الخيار الأخير مفقودة أو مستحيلة التوليف، تنزع الجماعات إلى الحلول الانفرادية لعلها تجد لنفسها مخرجا لا أمل بايجاده مع الغير. فالطائفية هي رديف إعدام السياسة، والقضاء على روح التواصل والألفة، وتمجيد الوصولية والانتهازية والقائمتين على الأنانية، وانهيار مفهوم القانون، بما يعنيه من احترام الحق والعدل أمام استئثار العصبية العمياء التي تقوم على مبدأ نصرة الأخ ظالما أو مظلوما. وهذه الشروط هي ما تشهده العديد من الاوضاع العربية، حيث تشعر جميع الاطراف بأنها في بداية نفق مظلم طويل لا تعرف إذا كانت ستخرج منه أم لا.
وأول من يبدو عليه الضعف أمام إغواء الطائفية هي تلك النخب التي تحكم منذ عقود طويلة من دون مشاركة ولا قيود ولا التزامات واضحة، والتي تواجه اليوم استحقاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية كبيرة من دون أن يكون لديها أي فرصة لتلبيتها او الرد عليها، في الوقت الذي تخضع فيه لضغوط وتحديات خارجية استثنائية تهدد استقرارها وبقاءها نفسه. فهي محاصرة من الداخل والخارج وخائفة من السقوط والانهيار في أي لحظة. ولهذا يزداد الإغراء عند بعض قادتها بالهرب نحو التعبئة الطائفية، كدرع حماية، ووسيلة للعب على تناقضات المجتمعات، واستخدام فئاتها المختلفة وانقساماتها لدفعها إلى تحييد بعضها بعضا. فبقدر ما تسد هي نفسها باب الخيار السياسي، أي، اليوم، الديمقراطي، للخروج من الأزمة الوطنية الشاملة، وتدرك محدودة وسائل القمع التقليدي، تنزع هذه الجماعات المتسلطة إلى أن ترى في التعبئة الطائفية سلاحا مفيدا لخلط الاوراق من جديد، وإجهاض المجتمع من قواه الاحتجاجية النامية، لعلها تتمكن من الالتفاف على الاستحقاق التاريخي والخروج من الطريق المسدود الذي وضعت نفسها فيه.
لكن النخب الحاكمة أو بعضها ليست الطرف الوحيد الذي يمكن أن يجد في إحياء المنطق الطائفي مهربا إلى الأمام من مشاكله السياسية المستعصية على الحل. إن الضغط الذي تتعرض له قطاعات واسعة من المعارضة السياسية والمدنية في سبيل حرمانها من أي أمل في المشاركة في مصير وطنها بل في التعبير عن نفسها والتواصل مع الرأي العام بأي صورة من الصور، مهما كانت سلمية ومدنية، يهدد بأن يدفع بعض قواها الأكثر استعجالا والأقل حكمة إلى التفكير باستخدام الطائفية لفك عزلتها. وربما اعتقد قسم من أولئك الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين ضغوط الحياة اليومية المتزايدة ومراوغات السلطة وقهرها اللاإنساني واللاقانوني، أن بناء عصبية قوية تقف في مواجهة عصبية السلطة هو الطريق الوحيد المتبقية لفرض نفسه على النظام وانتزاع الاعتراف به من دون التعلق بالتدخلات الأجنبية. وحصل مثل هذا في الثمانينات من القرن الماضي وانتهى بكارثة إنسانية في حماة وبكارثة سياسية في سورية بأكملها.
بيد أن المجتمعات نفسها ليست محصنة ضد الاستخدامات الطائفية أيضا. وتدغدغ الطائفية مشاعر العديد من قطاعات الرأي العام التي تعيش في شروط حياة هشة وغير مستقرة وتكاد أن تنهار بين حصار النظم الحاكمة التي تخشى انفجارها فتفرض عليها حكما مطلقا يشلها عن التفكير والحركة، وحصار الرأي العام الدولي الذي يوحد بينها والارهاب ولا يكف عن استفزازها ووضع هوية مجتمعاتها الثقافية والدينية موضع الشك والسؤال. كما تشكل الظروف الصعبة التي تعيشها أغلبية السكان والضغوطات المستمرة التي تتعرض لها، وغياب أفق الحلول الجماعية والسياسية، أي الوطنية، تربة خصبة لنمو المشاعر السلبية عند الأفراد والجماعات، وتوجهها نحو الخيارات التصفوية التي تجعل كل منها تعتقد أنه لا حل لأزماتها المستفحلة والمديدة إلا بالتخلص من الآخر، بتحييده او إقصائه أو القضاء عليه والسطو على حقوقه وموارده. فالحرب الطائفية هي شكل من أشكال حروب التصفية والتطهير العرقية. ونحن مهددون بالانجراف أكثر فاكثر نحو حالة الاحتراب التي تميز المجتمعات الفقيرة والمعزولة والمحاصرة. فندرة الموارد وتصاعد الضغوط وغياب الأمل بالوصول إلى نهاية النفق بالطرق الطبيعية وفي وقت معقول، كل ذلك يشكل مصادر متضافرة قوية لتوليد المنازعات الدموية في كل المجتمعات والأزمان. وبقدر ما يصبح القتال أسلوب الانتاج الرئيسي للثروة والسلطة والجاه تبرز الحاجة إلى بناء العصبية، أي روح الطائفية التي تتغذي من أوهام القربى الدينية أو القبلية أو الثقافية، وتصبح بمثابة اللحمة التي تصهر الأفراد والمجموعات المتميزة في بوتقة واحدة. فلا تقوم الطائفية إلا بعنصرين: بعث الوهم بالمطابقة الكاملة أو التماهي بين أفراد مختلفين بالفعل والأصل رغم انتماءاتهم الدينية او القبلية، بحيث يذوب الفرد بالجماعة ولا يعيش إلا بها، ثم تأكيد الحق في العدوان باسم الدفاع عن الحقوق الجماعية للعصبية الواحدة في مواجهة العصبيات الأخرى. ولذلك مثلما لا تولد العصبية من دون النزاع أو خارج سياقه، لا يمكن للحرب الطائفية أن تندلع وتستمر إلا بقدر ما تنجح في إعادة صهر المجتمع في بوتقة العصبية، أي في إعادة خلقه كعصبيات متماثلة. وما منع هذه الحرب من الانتشار حتى الآن في بلدان كالعراق وسورية بالمقارنة مع لبنان، هو رفض المجتمع بأغلبيته المدنية الانخراط في سياسة العصبية هذه وسعيه إلى استيعاب النزاعات الطائفية من داخل المفاهيم والأطر السياسية. لكن هنا تكمن المشكلة بالضبط. فمع القضاء على مفاهيم السياسة المدنية وأطرها أو تفريغهما من معناهما، وتحت ضغط التدهور المتسارع للأوضاع المعيشية والسياسية والنفسية الراهن، أصبحت هذه المقاومة مهددة بالفعل.
والحال لا تشكل الحرب الطائفية، التي يصعب على أحد اليوم السيطرة عليها إذا اندلعت، مخرجا من أي مأزق قائم، لا مأزق الحكم ولا مازق المعارضة ولا مأزق المجتمع والرأي العام التائه والمتخبط. بالعكس، إنها تعمق ورطة الجميع وكل الأطراف. فهي لن تحرر النخب الحاكمة من مواجهة الاستحقاقات القادمة ولا توفر عليها الاعتراف بحقوق هذه المجتمعات والتزاماتها تجاهها، ومن باب أولى أن تمكنها من استعادة السيطرة عليها. كما أنها لن تعطي للمعارضة أي دفع جديد يساعدها على التغلب على الحصار المضروب من حولها. أما بالنسبة للمجتمع، فهي تقود حتما إلى الدمار العام بقدر ما تهدد وجود الدولة وتبدد موارد البلاد وتعريضها للتهديدات الخارجية. إن المستفيد الوحيد منها هي بالتحديد اسرائيل وشبكات المصالح المافيوزية نفسها التي قادت إلى إفلاس الدولة والسلطة، والتي لا تستطيع أن تنمو وتزدهر وتتحول إلى زعامات تاريخية إلا في مناخ الحروب والأزمات. وأصحابها الذين يحتقرون بالتعريف فكرة وجود التزامات جماعية وقيم تضامن إنسانية وحقوق سياسية وحريات فكرية ويفتقرون إلى أي شعور بالمسؤولية هم المعنيون الوحيدون بتغذيتها وتفجيرها.

samedi, septembre 07, 2013

http://www.masrawy.com/News/reports/2013/september/5/5710426.aspx

سورية في قلب الرهانات الدولية


تابعت اليوم مداخلات المسؤولين الدوليين الرئيسيين في مؤتمر العشرين في بتريسبورغ. وتكان من الطبيعي أن يكون محور اهتمامي مواقف الدول المختلفة مما يمثل اليوم الحدث الأبرز في السياسة الدولية : أعنى الموقف من حرب الابادة الكيماوية التي دخل فيها النظام السوري بعد ٣٠ يشهرا من العنف المتعدد الاشكال ضد شعبه. 
باستثناء روسيا والصين وبعض الدول الاخرى التي تشكك في امكانية أن يكون المسؤول عن ضرب الاسلحة الكيماوية النظام السوري، وهي تبرر بذلك موقفها الثابت في تأييد نظام الأسد الذي تستخدمه لتحقيق مصالح جيوستراتيجية أساسية، والذي لم تخفه يوما، لم أجد سوى حجتين:
الأولى أن أوروبة سئمت من الحروب والتدخلات التي لم تجلب لها اي فائدة ولم تحقق أي مصلحة، ومثالها افغانستان والعراق،
والثانية أن أوربة مرهقة اقتصاديا وليس لديها القدرة على المغامرة بحروب جديدة قد تكون مكلفة.
كلا الحجتين يؤكدان أن المعترضين على العمل ضد النظام السوري لا ينطلقون من الالتزام بأي مبدأ أو قاعدة قانونية أو أخلاقية وإنما من الخوف على مصالح أنانية صرف. بل إن التخلي عن المباديء والالتزامات الدولية هو المبرر الوحيد لعدم القيام بأي عمل محفوف بالمخاطر. أما مصير الشعب السوري والقيم والمباديء القانونية والانسانية التي لم تكف هذه الدول او معظمها باسم حقوق الانسان والشعوب وتأكيد مفهوم الحق والقانون الدولي ضد كل محاولات العدوان والتوسع والسيطرة غير المشروعة على الشعوب فليس لها في هذه الحجج أي مكان.
نحن نحترم رأي الجميع، ولا يمكننا أن نفرض عليهم القيام بتضحيات هم يرفضون القيام بها، ولا نستطيع أيضا أن نعترض على تمسكهم بمصالحهم القومية وخوفهم من التورط في معارك او مغامرات قد تكلفهم اكثر مما يحتملون. لكن في هذه المرحلة لا أرى فرقا بين موقف الروس والصينيين الذين يرفضون العمل الجماعي ضد النظام السوري من منطلق الدفاع عن مصالحهم القومية وبين الأوروبين وغيرهم الذين يرفضونه من منطلق الخوف من الخسارة أو التضحية. كلاهما لا يقاربون الموضوع إلا من زاوية الدفاع عن مصالحهم الخاصة.
في هذه الحالة، أي إذا تصرفت كل دولة من وجهة نظر مصالحها الخاصة فحسب، ولم تعبأ بمصير الشعوب الأخرى، من سيتولى الدفاع عن القوانين والأعراف الدولية التي تنص عليها وثائق الأمم المتحدة، والتي تستمد منها هذه المنظمة شرعيتها، ولا وجود لمنظومة دولية من دونها؟
وإذا تخلت كل الدول عن الوفاء بالتزاماتها في تطبيق هذه المباديء والقوانين الدولية، وبالتالي في وقف العدوان الموجه للشعوب والدول الضعيفة، ما هي قيمة وجود الأمم المتحدة نفسها؟ وعلى أي أسس سنقيم السلام بين الدول؟
تخلي الدول عن التزاماتها الدولية، وهربها من مسؤولياتها في حماية الشعوب المنكوبة، خوفا من المخاطرة أو حفاظا على مصالح قومية يعني ببساطة نهاية النظام الدولي، وتقويض الأمم المتحدة، وفتح الباب أمام نظام دولي جديد قائم على سيطرة الأقوى والأكثر استعدادا لاستخدام العنف، أي فتح باب جحيم دولي هو ما حاولت هيئة الامم قبل الحرب الثانية، ثم الأمم المتحدة بعد الحرب، وقفه وتحصين العالم من عودة الحرب والعنف كمنظم وحيد للعلاقات بين الأفراد والطبقات والشعوب والدول.

لن تكون ثمرة الانانية القومية التي بدأت تسود اليوم في العالم، تحت تأثير الأزمة الاقتصادية والانكفاء على الذات، وتراجع مصالح الدول الصناعية في البلدان النامية، وبالتالي ترك الشعوب الضعيفة ضحية جلاديها، سوى تدمير منظمة الأمم المتحدة، وهي المحاولة الجدية الأولى لإقامة نظام دولي قائم على مفهوم القانون والحق والتعاون والتضامن بين الأمم. 
وهذا يعني تحطيم لأمل الذي ولد بعد حربين عالميتين مدمرتين في وضع نظام للأمن والسلام العالميين، لا يقوم على أساس القوة وخضوع الأضعف للأقوى، وإنما على احترام حق الدول وحق الشعوب وحق الأفراد في حياة سيدة وكريمة وحرة.
سيكون ذلك تقويضا لمبدأ الحق مقابل عودة مظفرة لمبدأ القوة، والعودة إلى الحرب كاساس لتنظيم العلاقات بين الدول، وإلى العنف كوسيلة لتنظيم العلاقات بين النخب والشعوب، وهذا ما جاءت فكرة القانون الدولي، وحكم القانون، وحقوق الانسان، لتجاوزه، وما شكل تحقيقه أحد اكبر مظاهر التقدم في المدنية في حضارتنا العالمية الراهنة في القرنين الأخيرين.


الدين والسياسة في المسيحية والإسلام

مجلة التسامح ع ٢٦ 

- 1 -

لا أعتقد أن الاختلاف في أنماط العلاقة بين الدين والدولة في الغرب المسيحي أو في العالم الإسلامي أو في آسيا البوذية والكونفوشية -كما برزت في القرون الوسطى- يرجع بشكل أساس للمعتقدات الدينية، سواء أفرقت هذه المعتقدات بين ما لقيصر وما لله، وما للدولة وما للدين، أو لم تفعل ذلك، وإنما يرجع هذا الاختلاف بشكل أكبر إلى طبيعة العلاقة التي نشأت -في سياقات تاريخية وجيوسياسية مختلفة- بين رجال الدين ورجال الحكم، أي بين النخبة الدينية والنخبة السياسية. لا يعني ذلك أنه ليس للعقيدة تأثير يذكر على نوعية العلاقة الناشئة بين النخبتين، ولكنه يعني أن هذا التأثير ليس العامل الحاسم، ولا يبرز دوره إلا متأخرا في خدمة النخبة المسيطرة، وأنه لا توجد عقيدة لا تحتمل التأويل والتفسير بما يحقق مصالح السلطة المقدمة، ويضمن إضفاء الشرعية على تفوقها.
وبشكل عام، لم يكن من السهل على النخب الدينية -مهما كانت قوتها ودرجة تعلق المؤمنين بها- أن تنافس السلطة السياسية أو سلطة الدولة، فحيثما كانت هذه الدولة لا تزال حية، فاعلة ومتجذرة. ولذلك غلب على علاقة الدين بالدولة عموما خضوع النخبة الدينية للسلطة الزمنية ومسايرتها لها، وأحيانا التحالف معها، كما يبرز ذلك في نمط القيصرية البابوية المعروف أو في نمط الدين القومي، أو النمط الإسلامي، الذي يشكل حالة من التنافس الكامن بين السلطتين، لكن في إطار الاعتراف بهيمنة السلطة السياسية وسيادتها. وتشكل أوروبة المسيحية في العصر الوسيط في نظري استثناء نادرا في هذا المجال، كانت له نتائج غير مسبوقة أيضا، سواء في تطوير مفهوم الدولة ومكانتها في المجتمع، أم في إعادة بناء مفهوم الدين وتمييزه عن مفهوم السياسية ومسألة تنظيم الحياة الدنيوية. ففي هذه القارة وحدها نجحت النخبة الدينية في أن تفرض سلطانها على المجتمع، وأن تُلحق بها -بصورة أو أخرى- السلطة الزمنية وتفرض وصايتها الروحية عليها، كما جسد ذلك لفترة طويلة حرص الملوك الأوربيين على انتزاع موافقة البابا أو مصادقته. وقد حدث ذلك نتيجة التقاء عاملين مهمين: التنظيم القوي والفعال للنخبة الدينية، كما تجسده الكنيسة التي تكونت في تشكيلات اجتماعية سابقة ومتقدمة، واتخذت طابعا عابرا للدول والقوميات، رافق تكون الجماعة الدينية وقيادتها في كفاحها الطويل للمحافظة على البقاء وكسب الشرعية. والثاني الفراغ الذي خلفه انهيار نموذج الدولة الإمبراطورية في أوروبة، وضياع تقاليدها وفساد مفهومها على أثر الغزوات البربرية، وإخفاق محاولات شارل مارتيل مؤسس الإمبراطورية الكورلنجية -وسلالته من بعده- في إعادة بناء الإمبراطورية الغربية المقدسة التي كان الجميع يحلم بها.

في إطار عالم تسوده الفوضى الفكرية والسياسية معا، وتتنازع فيه القوى والجماعات من دون ضابط أو قاعدة مشتركة، وجدت الكنيسة نفسها مدفوعة إلى لعب دور سياسي بارز -إلى جانب دورها الديني الرئيس- في توحيد هذا العالم وبث الحد الأدنى من النظام والاتساق الفكري والسياسي فيه. وقد فرض هذا الدور نفسه مع تزايد الطلب الاجتماعي على الكنيسة البابوية وتدخلها في الشؤون السياسية والاجتماعية، وذلك من قبل الجماعات الأهلية ومن قبل الملوك الإقطاعيين المتنازعين معا، بموازاة إخفاق هؤلاء جميعا -خلال قرون عديدة، وحتى القرن الثالث عشر- في إقامة الدولة القادرة على الوفاء بحاجات بناء حياة قانونية سليمة وحفظ الأمن والنظام والسلام العام وضمان التكافل والتعاون الاجتماعيين. نتيجة ذلك تحولت الكنيسة بصورة تلقائية إلى مركز قيادة للجماعات وتنظيم لها، وبطل اقتصار نشاطها على التوجيه الروحي. هكذا وجد رجال الدين أنفسهم مشدودين أكثر فأكثر إلى ملء المناصب الدنيوية الشاغرة، والمشاركة النشطة في جميع النشاطات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. فلم يكتف هؤلاء بنشر العقيدة وتقديم العظات في الكنائس؛ ولكنهم اهتموا أيضا بالتعليم وبناء الجامعات وتسييرها، وتأطير المجتمعات وتنظيم شؤونها، ومعالجة الأفراد ورعايتهم، كما تدخلوا في إنتاج الثروة وتوزيعها.

وليس هناك شك في أن المسيحية قد تحولت في الغرب الوسيط إلى ثقافة، وأصبحت الكنيسة في الغرب دولة قائمة بذاتها، أو ما يشبه الدولة، بقدر ما نجحت في التقريب بين جماعات مشتتة، ووحدت تفكيرها ووعيها الجمعي فيما وراء اختلاف الممالك والتمايزات القومية والاجتماعية. وأصبح الولاء للكنيسة والخضوع لها جزءا من المشاركة في مشروع اجتماعي عام يتجاوز في أهدافه مجال تلبية الحاجات الروحية، أي ضمان الخلاص الأخروي؛ ليطال مسائل كبرى تخص مجال الدنيوي أيضا.

وهذا الطلب المتزايد على خدمات الكنيسة هو ما يفسر -في نظري- حركة التنصر الشاملة التي ستشهدها أوربة منذ القرن التاسع، كما يفسر نشوء مسيحية غربية متميزة عن المسيحية الشرقية، ومتفوقة عليها فيما بعد بالعدة والعدد، وبالتالي انتقال مركز الثقل لهذه الديانة الشرقية نهائيا إلى الغرب، حتى ليكاد المسيحي ينسى اليوم -أمام ما تتمتع به المسيحية من مكانة وأبهة وموارد في موطنها الجديد، أعني الغرب الأوروبي- انتماءها في الأصل إلى التقاليد الشرقية والسامية والمتوسطية.

انطلاقا من هذا الإسهام الكبير للكنيسة في إعادة بناء اللحمة الاجتماعية المنحلة، واعتمادا عليها، نجحت النخبة الدينية في أن تجعل من الكنيسة المركز الرئيس لتنظيم المجتمعات، وأن تستفيد من هذه الهالة التي كونتها لنفسها لتعزيز مواقعها، وفرض وصايتها على النخب الاجتماعية الأخرى: الثقافية والسياسية والمهنية، قبل أن تنزع -في مرحلة ثانية- إلى التحكم بشروط حياة المجتمعات؛ ليصبح الدفاع عن الوضع القائم وضمان السيطرة الدائمة للكنيسة على مصيرها جزءا من الحفاظ على النظام، ومن ورائه على السلام والأمن. ولا تزال آثار هذه السيطرة المتعددة الأشكال، التي مارستها الكنيسة على تنظيم المجتمعات وقيادتها الفكرية والسياسية ماثلة إلى اليوم، بالرغم من قيام الدولة الحديثة وسعيها المستميت إلى القضاء على امتيازات الكنيسة ودفعها إلى الانسحاب من المواقع المعنوية والمادية التي احتلتها في العصور السابقة.

- 2 -

بيد أن نظام السيطرة الكنسية أو الكهنوتية كان يحمل -مثله مثل أي نظام كان- بذور تفسخه في داخله، بمقدار ما كان تحقيق التوحيد الأيديولوجي والتنظيم الكنسي وسيطرة رجال الدين يستدعي نشوء الفوضى خارجه وإلى جانبه، سواء من خلال الإقصاء أو القسر، قبل أن ينتقل إلى داخل النظام الكنسي ذاته متجسدا في الفساد الذي تقود إليه -لا محالة- أي سلطة مطلقة لا تخضع للرقابة والمحاسبة من قِبل مَن تتحكم بهم. وما كان من الممكن للحكم الكنسي أن يستمر من دون أن يثير مشاكل، وينتج توترات، ويخلق تناقضات تتفاقم باستمرار بين النخب الاجتماعية المتعددة من جهة، وبين النخبة الكنسية المسيطرة وفئات المجتمع والجماعات الأهلية أيضا. وربما عبّرت الحروب الصليبية -التي هدفت إلى تجاوز هذه التناقضات، وعكسها نحو الخارج؛ للحفاظ على نظام السيطرة الكنسية والتمديد في عمره- عن مدى القوة التي بلغتها سلطة رجال الدين في العصور الوسطى، بقدر ما كشفت في الوقت نفسه عن المأزق الذي وضع فيه نظامها المجتمعات الأوروبية. وكانت نهاية هذه الحروب إعلانا لبدء الحرب الداخلية التي لن تتوقف قبل أن تُحِّيد رجال الكنيسة وتقصيهم عن مجال عمل الدولة والسلطة السياسية. فبدل أن تعزز الحروب الصليبية سيطرة الكنيسة وتسهم في تخفيف التوترات وحسم التناقضات التي حاولت الهرب منها، عملت على تفاقمها. هكذا ستترافق نهاية هذه الحروب -المخفقة على جميع المستويات: الدينية والاقتصادية- بسلسلة من الزلازل الفكرية والسياسية والاجتماعية لن تنتهي إلا بتفكيك النظام القديم بمكوناته المختلفة: الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية. وفي سياق ذلك بعث الدولة وإعادة تأهيلها، بوصفها مركز تنظيم المجتمعات وقيادتها الفكرية والأخلاقية أيضا، وإطار ممارسة سلطة سياسية جديدة تختلف عن سلطة الأرستقراطية والكنيسة التي كانت تقف وراء الإمبراطوريات الغربية.

منذ القرن الرابع عشر سوف تبرز ردود الأفعال القوية من داخل الكنيسة ذاتها على الفساد الذي أخذ يتنامى، مع انحطاط الإدارة وانتشار الشعوذة والرشوة، وتراجع صدقية السلطة المطلقة للبابوات وضياع هيبتهم. ولن تعمل الانشقاقات والشيع الناجمة عن تنامي النزاعات والتناقضات التي بدأت تتوالى -الاجتماعية (مجمع الكنائس الأرستقراطية والوطنية في بيز بإيطاليا)، والأقوامية (النزاعات الفرنسية الإنكليزية) التي طمستها لوقت طويل الوحدة الدينية الشكلية الممثلة بشمولية الكنسية- إلا على تغذية ديناميكية التفكك والانحلال هذه.

في ظل هذا الانحطاط كان بُرعُم التغيير والتحول العميق يرسم ملامحه ويحضر أدواته. وفي الثغرات الكثيرة التي فتحتها أزمة نظام السيطرة الكنسية سوف تتكون قوى التغيير وتتخذ مواقعها. ومن هذه القوى الحركة الإنسانية أو الإنسوية التي ظهرت منذ القرن الرابع عشر في مدن إيطاليا بدعم من الأمراء والتجار الأثرياء المحبين للفن والأدب والباحثين عن الشهرة والمجد، بل ومن بعض البابوات أيضا. ولا تزال مدن فلورنسا وجينوا مليئة بآثار فن النهضة الإيطالية وتوجهات فنانيها ومفكريها الإنسانية. وقد أسهم الإنسويون -بتوجههم نحو الأدبيات اليونانية والرومانية القديمة- في الخروج من سلطة المعرفة والرؤية الكنسية والدينية عموما ليعيدوا التفكير -كما ذكروا هم أنفسهم- إلى النهل من الموارد الأصلية للفكر والأدب الكلاسيكيين؛ أي ليعيدوا اكتشاف الإنسان وماهية نظمه الفكرية (الفلسفة مقابل اللاهوت) والسياسية (الدولة مقابل الكنيسة)، التي طمستها لزمن طويل الفكرة الدينية والسلطة التيوقراطية. وكانت هذه الحركة أول خطوة حاسمة في اتجاه بناء أسس التفكير العقلي الحديث، وإعادة النظر في قواعد تنظيم المجتمعات السياسية والاجتماعية(1). وسيعطي اختراع المطبعة في أوروبة في 1455 لهذه الحركة وسيلة حاسمة لنقلها ونشرها في أوروبة كلها، أي لولادة ثقافة جديدة مستقلة إلى هذا الحد أو ذاك عن الثقافة القرسطوية الكنسية، وقائمة إلى جانبها.

لكن حركة النقض البطيء لنظام السيطرة الكنسية لن تتوقف عند هذه المحطة الفكرية والأدبية، التي سيجعل منها تاريخ الأفكار الحقبة التأسيسية للغرب الحديث بأكمله، متجاوزا بذلك كل تراث الحضارة الإسلامية وتأثيراتها على تاريخ المنطقة المتوسطية وبالتالي الأوروبية. فقبل أن تستنفد النهضة طاقاتها، وفي سياقها التاريخي، أو على إثرها، ستنطلق الثورة الدينية التي ستغير تصور أوروبة للدين ومكانته في حياة الفرد والمجتمع على حد سواء.

وقد أطلق اسم الإصلاح الديني على هذه الثورة الدينية التي أدت إلى تصدع الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر، وبروز المذاهب البروتستنتية الجديدة في قسم كبير من أوربة المسيحية، قبل أن ينجح قادة الكنيسة الكاثوليكية في وضع حد لتوسعها السريع بفضل حركة إصلاح مختلفة أطلق عليه اسم الإصلاح المضاد، جمع بين شقين: العودة إلى ما يشبه محاكم التفتيش لمعاقبة المنشقين وردعهم، وإصلاح المؤسسة الكنسية البابوية نفسها.

يرجع المؤرخون بدايات هذه الثورة الإصلاحية إلى يوم 13 أكتوبر 1517م عندما علق مارتن لوثر قائمة أطروحاته ال 95 على باب كنيسة قصر ويتنبرغ. أما جان بوبيرو فيرى أن مولد البروتستنتية يرجع إلى 1520م عندما لفظت الكنيسة مارتن لوثر واعتبرته خارجا عنها، بسبب دفاعه عن فكرة أن البابا والمجمع الكنسي ليسا معصومين من الخطأ وأن المؤمن لا ينبغي أن يلتزم إلا بالكتاب المقدس(2).

 من هنا، ارتبطت حركة الإصلاح باسم مارتن لوثر الذي كان أول من أطلقها في ألمانيا وجوارها الاسكندينافي؛ لتؤسس كنائس دول مستقلة تماما عن البابوية المقيمة في روما. لكن (مارتن لوثر) لم يكن الوحيد الذي سار في هذا الاتجاه. فقد كان للمنشق الكبير الثاني (كالفن) الفضل الأكبر في انتشار أفكار الإصلاح الديني في سويسرا والأراضي الناطقة بالفرنسية وتوسعها نحو بولونيا وهنغاريا والجزر البريطانية التي ستشهد ولادة الكنيسة الإنجليكانية.

أعاد الإصلاح الديني بناء الممارسة الدينية للجماعة المسيحية على ثلاثة مستويات: -مستوى المؤسسة الكنسية، سواء ما تعلق بطريقة عملها أو موقعها في هذه الممارسة أو دورها في المصادقة على الإيمان، - ومستوى الفكر الذي كانت تستند إليه سلطة الكنيسة وسيطرتها ونفوذها، بما يشمله من اعتقادات دينية وفلسفة إيمانية أو لاهوت،- ومستوى الضمير الديني، أي إعادة تعريف معنى الإيمان ومستلزمات الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وإعادة الاعتبار للتجربة الدينية، بوصفها تجربة فردية مرتبطة بوعي المؤمن وإرادته وتطلعاته، أكثر مما هي فعل انتماء لجماعة وولاء جمعي أو عصبي لها.

 فعلى المستوى الأول، التقت الحركات الاحتجاجية أو الانشقاقية جميعا -اللوثرية والكالفانية والإنجيلية، بالإضافة إلى بعض التيارات الأخرى الأقل أهمية مثل الأناباتية والتنورية- على مبدأ رفض الخضوع الأعمى للكنيسة، والانقياد من دون تساؤل أو تفكير لسلطة دينية كهنوتية تدعي الإلهام ولا تقبل أي جدال أو نقاش، وما بالك بالمشاركة فيها أو الرقابة على ممارساتها من قبل جمهور المؤمنين. وهذا هو المضمون العميق لإحلال لوثر -والفكر الاجتجاجي عموما- سلطة النص المقدس -أي الإنجيل- محل سلطة الكنيسة المطلقة. فتقديم النص على المؤسسة الكنسية؛ أي على سلطة الرهبان، يعني تغييرا في مفهوم الكنيسة، ومكانتها من العبادة وشؤون الدين، ودورها الاجتماعي، وأسلوب عملها وتعاملها مع جمهور المؤمنين وجماعتهم معا. هكذا ستفقد الكنيسة مركزيتها في التجربة الدينية كما سيفقد رجال الدين مقامهم الاستثنائي الأبوي والمقدس الذي يفصلهم عن الناس العاديين، ويميزهم عنهم في جوهر المعرفة والنفاذ إلى حقيقة الدين؛ ليتحولوا إلى رجال اختصاص فحسب، لا فرق بينهم وبين المؤمنين العاديين إلا في درجة التفقه بالدين، وهو ما يستطيع أي مؤمن أن يصل إليه بجهده الشخصي. وكما انهارت الفكرة التي تجعل من الكنيسة امتدادا للمسيح وتجسيدا لكلمته، انهارت أيضا الفكرة التي تنظر إلى رجل الدين بوصفه وريثا للمسيح وحائزا على قبس من قدسيته. وأصبح ينظر إلى هذا الأخير نظرة إنسان عادي، لا يستمد مكانته وقيمته من انتمائه إلى مؤسسة الكنيسة وخدمته فيها، أي إلى تماهيه معها، وإنما من عمله الصالح مع جماعة المؤمنين الآخرين. وبالمقدار نفسه الذي فقد فيه رجل الدين كراماته وصار ينطبق عليه الحكم ذاته الذي ينطبق على أي مؤمن عادي، انتفت الالتزامات والترتيبات الخاصة التي كانت لصيقة بصنف رجال الدين والتي كانت تحولهم إلى فئة خاصة مميزة عن الآخرين. من هنا سقط شرط العزوبية عنهم؛ بل أصبح الزواج شرطا من شروط الإيمان، بقدر ما يظهر الطبيعة العادية لرجال الدين ويقربهم بشكل أكبر من المؤمنين الذين يحتاجون إلى مساعدتهم في معرفة دينهم. وبفقدان رجال الدين مقامهم المقدس أو شبه المقدس فقدوا أيضا أهليتهم أو حقهم في العمل كوسيط بين المؤمن وربه من خلال الكنيسة أو من خارجها. وبمقدار ما أصبح الإيمان مرتبطا بالنص، المتاح لكل فرد استملاكا وفهما، لم يعد للكنيسة مكان مهم في تحقيق الإيمان وتحولت إلى مركز لتأمين الخدمات الاجتماعية والخيرية، أما الجماعة فقد خرجت من تحت سيطرتها وسيطرة رجالها لتسرح في الفضاء الواسع، وتكتشف وتبني في الوقت نفسه عالم المعاني والأخلاق والسياسة المدنية. وبهذا تحولت الكنيسة إلى مؤسسة من مؤسسات المجتمع بعد أن كانت المؤسسة/الجماعة التي تحل جميع الهويات والذاتيات الفردية لتكوين هوية وذاتية جمعية واحدة تحييها وتَحْيى فيها وتوجه حياتها. وبالمثل، لم يعد الإيمان عصبية جامعة، يستدعي التبعية والطاعة والإمّعية والامتثال لإرادة خارجية، ويتجلى في الانقياد والفناء في الجماعة الكنيسة أو المجسدة في الكنيسة الجامعة، وإنما أصبح ممارسة فردية. بمعنى آخر فقدت الجماعة الدينية هويتها التقليدية واستبدلتها بهوية جديدة تجعل منها رابطة بين مؤمنين مستقلين وأحرار متساوين في الحقوق والواجبات الدينية تماما، لا سلطان لأحد عليهم سوى سلطان الضمير(3).

وليس هناك شك في أن تجريد رجال الكنيسة من صفتهم المقدسة، وحرمانهم من الرمزية التي يمثلها الانتماء إلى مقام منفصل عن مقام المؤمنين الآخرين، أي تحويلهم إلى بشر كغيرهم، لا تترتب عليهم واجبات في الإيمان مختلفة عما يترتب على إيمان غيرهم من الناس؛ قد وجه ضربة قوية للنظام الفكري والسياسي الأبوي (الكنسي الإقطاعي) القائم. وبهدم الحاجز الرمزي الفاصل بين رجل الدين والمؤمن العادي -فيما عدا الوظيفة أو الاختصاص- ضعفت القطيعة القديمة بين عالم الدين المقدس وعالم الدنيا المدنس، فلم يعد هناك معنى للفصل المطلق بين مجال الديني ومجال الدنيوي، وتمت مصالحة الدنيا مع الآخرة، والدين مع الحياة، وهو ما أدى إلى نشوء علاقة جديدة بينهما داخل الكنيسة وخارجها. فالمجمع الكنسي البروتستنتي الذي ينتخب قادة الكنيسة يضم أيضا ممثلين عن المناطق من غير رجال الدين، من أساتذة الجامعات والأطباء ورجال الأعمال وغيرهم. وهذا ما يفسر الصيغة الخاصة التي ستتخذها العلمانية في البلاد البروتستنتية، والتي لا تضع الدين في مواجهة مع العقل؛ ولكنها تسعى إلى التنسيق والتفاهم بينهما لتؤكد تكاملهما.

ومن الآثار المهمة أيضا لتهشيم مفهوم الكنيسة البابوية وتحرير المؤمنين من هيمنتها التاريخية، ومن التبعية العمياء لها، انقسام الكنيسة وفقدانها وحدتها وشمولها -أي عالميتها- إلى الأبد. ولذلك لن تتردد الحركات الاحتجاجية أو الإصلاحية التي انتشرت في معظم البقاع الأوروبية في إقامة كنائس وطنية خاصة بها، أي لن تتردد هذه الحركات في قبول تبعية الكنيسة المؤسسة للدولة الوطنية، وبالتالي إلى إظهار الولاء لهذه الدولة الوطنية، وبالتالي إلى القضاء على جميع نزوعاتها السيادية التقليدية الرامية إلى احتواء المجتمع والدولة على حد سواء.

وعلى المستوى الثاني، أدى تجريد الكنيسة -حتى البروتستنتية منها- من حقها في مراقبة سلوك المؤمن والمصادقة على إيمانه والتوسط له عند الله، وتخليها عن دور الوصاية الفكرية أو اللاهوتية على العقل، إلى تحرر الفكر المسيحي وإعادة بنائه على أسس، ومن منطلقات قطعت تماما مع الفكر الكنسي القرسطوي الجماعوي. وهو ما أطلق دينامية تجديد التفكير العقلي، بما في ذلك في مجال الدين، وشرع لمبدأ التعدد الذي سيتجلى من خلال التشكل المستمر -من دون عوائق ولا حدود- للجماعات والتيارات والفرق الدينية الجديدة والمتجددة.

ومما لا شكَّ فيه أن نظرية الخلاص التي بلورتها الحركة الإصلاحية الدينية قد أسهمت إسهاما أساسيا في إعادة توجيه النشاط الديني وتحويل نظر المسيحيين عن الهوس الديني، النابع من الطمع في الجنة والعمل المستمر من أجل ضمان مكان مرموق فيها، وإطلاق التفكير بالعمل النافع على الأرض. ففي نظر المصلحين، لا يضمن عمل المؤمن ولا تطابق أعماله وسلوكه مع التعاليم الدينية أَيَّ حَقٍ في الخلاص، ولا يكفي للحصول عليه. ونعني بالخلاص نيل عفو الله ورضوانه وقبوله في الحياة الدنيا والآخرة. والخلاص منة من الله، يهبه لمن يشاء.

 لا يعني هذا أنه لا فائدة من أن يتبع المرء التعاليم الدينية أو أن يقوم بالعمل الصالح، ولكنه يعني أن الخلاص لا يرتبط بذلك، وإنما هو رهن إرادة ربانية صرفة؛ إذ من الممكن أن يقوم المؤمن بكل ذلك من دون أن ينال الخلاص. مما يعني أن على المؤمن أن لا ينتظر مقابلا لقاء عمل الخير، أو بالأحرى ألاّ يعتقد أن عمل الخير هو المقابل للخلاص.

وقد كان هذا اليأس من الخلاص الأخروي، أو تعليق التفكير فيه هو أساس الانكفاء على الخلاص الأرضي وتنشيط العمل الدنيوي، حيث تتوقف النتائج على إرادة الفرد وجهده لا على إرادة خارجة عنه. فبقدر ما يعرف الإيمان المؤمن على نفسه بوصفه هبة الله وأثرا لفضله وجزء من كلمته، يشجعه على الخروج من ذاته نحو الآخر، والتعرف على الله أكثر فيه.

فالمؤمن الحقيقي لا يقوم بعمل الخير لشراء خلاصه الرباني؛ وإنما لاكتشاف نفسه كمخلوق إلهي، أي على إدراك ما استبطنه الله فيه من قيم الخير. فعمل الخير هو الكاشف عن حقيقته الإلهية العميقة. وإذا لم يبحث فيه عن خلاصه الأبدي وخلاص روحه في الآخرة فهو يحقق من خلاله انبعاثه الروحي. فكلما تمعن المؤمن في كلام الله زاد ثقة بربه، وإيمانا بنفسه، وبقدرته على التجدد والعمل والحياة. وتطلع بشكل أكبر إلى الاستزادة من كلام الله، مصدر انبعاثه، وانفتح أمامه أفق المشاركة في نشر كلمة الحق وتحقيق الوعد الإلهي.

ومن الممكن القول: إن الفكر المسيحي الجديد قد استبدل الإخلاص في العمل، والوفاء للآخر –الإنسان- الذي ينطوي على روح إلهية، ينبغي التواصل معها وبعثها عبر العمل الصالح والمسؤولية، بالطاعة العمياء التي كانت سائدة للكنيسة ورجال الدين. تماما كما حل سلطة النص والتعاليم الدينية -التي يمكن لكل مؤمن أن يستمدها منه لوحده ومن دون وسيط- محل سلطة الكنيسة ورجالها.

من هنا يوجز إريك فوش الأخلاق البروتستنتية في قيمتين: الاعتراف بالجميل لله، كجوهر فعل الإيمان، ثم المسؤولية أمام الآخرين كتعبير عن الانتماء للجماعة (الدينية) أو الإنسانية(4). فبقدر ما يتحرر المؤمن من هَمِّ التأكيد المستمر على إيمانه، أو الخوف عليه نتيجة سوء الأعمال أو نقص العمل الصالح الضروري لخلاصه، تزيد ثقته بالعون الإلهي، ويصبح بإمكانه أن يكتشف معنى الأخلاق ويختبرها في الانفتاح على الآخر والإنصات له؛ فحب الله وحب الآخر هما وجهان لرسالة واحدة جوهرها المحبة والامتنان. وإذا كانت محبة الله تعني الحياة بكلامه؛ فإن محبة الآخر القريب تعني المسؤولية إزاءه ومعه؛ لبناء عالم جديد قائم على الخير والمحبة معا.

وهذا ما يشير إليه جان كالفان أيضا في تعريفه لمعنى المسؤولية. فلهذه عند المؤمن في نظره ثلاث صفات: التنسك، التفاؤل، والتدبير السليم. لا يعني التنسك التقشف؛ وإنما رفض الأنانية والحرص على التكافل والتضامن. أما التفاؤل فهو يشجع المرء على الاستمرار في بذل الجهد وعدم القنوط أو اليأس أمام ما يراه من شر في العالم. وبالمقابل يعني التدبير السليم المتعلق بالأشياء عدم الإفراط والتفريط. فالإفراط يدفع إلى البؤس وعدم التمتع بنعم الله، والتفريط يقود إلى الاستلاب وفقدان الحرية. هذا يعني أن خلاص المؤمن مرتبط بسلوكه وعمله، لا بأي شيء آخر، كنيسة كان أو رجل كرامات. وإنما تنفع الكنيسة في إبراز تضامن المؤمنين، لا من أجل كفالة خلاصهم(5).

أما على مستوى التجربة الدينية، أو الفردية، فمن الواضح أن تحرير المؤمن من سلطة الكنيسة ووصاية رجال الدين عزز التجربة الدينية الشخصية، ووجه النشاط فيها نحو ضمير المؤمن كفرد وسلوكه واختياراته ونشاطه؛ أي نحو مبادرته الخاصة. وهذا هو مضمون فكرة انبعاث المؤمن، من حيث هو ذات حرة ومريدة وواعية أيضا(6). وبدل التفكير الدائم بالآخرة، أصبح التقرب من الله يمر عبر التقرب من الإنسان، أي عبر إعادة بناء علاقات الأخوة والثقة والتضامن، والتمسك بالعمل الصالح بوصفه جهدا متجها نحو الإنسان، وقائما على المسؤولية وتحقيق العدالة والأخوة على الأرض وتجاه الجماعة الإنسانية. وبقدر ما نقل الإصلاح الديني مركز ثقل الإيمان من الكنيسة -التي كانت تستقطب كل العواطف والاستثمارات الروحية بوصفها الوصية الوحيدة على الإيمان والضامنة بالتالي للخلاص- إلى جماعة المؤمنين بوصفها تجليا من تجليات الخير الإلهي، وجه نشاط المؤمنين نحو عمل الخير على مثال ما نسميه نحن: الدين المعاملة. فصار الاستثمار في الإنسان كفرد وبناء شخصيته -أي وعيه وضميره وسلوكه- محور نشاط الكنيسة المصلحة ورجال الدين، ومصدر تجديد في الفكر وفي العلاقات الاجتماعية أيضا.

ولهذا -بعكس الظاهر- أضعف الإصلاح الديني -إلى درجة كبيرة- من سيطرة الكنيسة وسلطة رجالها؛ لكنه لم يضعف من مكانة الدين وموقعه في المجتمع، بل زاد في نفوذه، ووسّع من دائرة نشاطه داخل المؤسسات الاجتماعية، بما في ذلك النشاطات الاقتصادية، وذلك بقدر ما أنسنه، أي كيّف مفاهيمه التيوقراطية القديمة مع حاجات تحرر الفرد وانعتاق مبادرته. وهذا ما أظهره عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر في تحليله لنشوء الروح الاستثمارية عند أصحاب المشاريع الرأسمالية. وفي الولايات المتحدة يلعب الدين اليوم دورا أكبر في توجيه سلوك الأفراد وبناء العلاقات الاجتماعية مما هو الحال في البلاد الكاثوليكية التي بقي فيها الإصلاح ضعيفا فيما يتعلق بالمؤسسة الكنسية، وبقي فيها التمييز واضحا ودقيقا بين عالم الديني المقدس وعالم الدنيوي الحر.

يمكن القول: إن ما قام به الإصلاح الديني هو دمقرطة الحياة الدينية، سواء من حيث كسر طوق الوصاية الكنسية أو من حيث تحرير الفرد من التبعية في إيمانه وربطه مباشرة بالنص وبعمل الخير المعتلق به وحده. وبالرغم من أن الإصلاح المضاد الذي قامت به الكنيسة الكاثوليكية للرد على حركات الاحتجاج التحررية والحد من انتشارها، لم يبلغ هذه الدرجة من الدمقرطة الدينية، إلا أنه لم يبق غريبا عما أحدثه الإصلاح البروتستنتي من تجديد في القيم واتجاهات التفكير والتوجهات النفسية العميقة للمؤمنين ومعنى الإيمان أيضا. ففي سعيها إلى رد التحدي البروتستنتي، اضطرت الكنيسة البابوية إلى التنازل عن الكثير من أدوات سيطرتها ووصاية رجال الدين على سلوك المؤمن وتوجيهه. وقبلت بإعادة التوازن داخل التجربة الدينية للفرد، بحيث يكون الدين نشاطا إراديا يعكس شعور الفرد قبل أن يكون عبادة وطقوسا موجهة لتأكيد الولاء للكنيسة والخضوع لها. كما اكتشف قادة الكنيسة البابوية في حربهم ضد المحتجين الأهمية القصوى للتكوين الفكري والأخلاقي لرجال الدين وللمؤمنين معا. وهنا أيضا أدى التحرر من هم الخلاص الأخروي المستبد بالمؤمنين إلى تشجيع التأمل بشكل أكبر في نظام الحياة الدنيوية، وتحسين شروط وجود الإنسان على الأرض داخل جماعته الدينية وفي علاقته مع أصحاب الأديان الأخرى.

- 3 -

 كان من الطبيعي أن تفضي حركة الاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية والتمرد عليها -في البلدان الأوروبية التي حصلت فيها- إلى نشوء حركات احتجاج واعتراض مماثل على السلطات المطلقة القائمة. فكما صار من الواجب أن تحترم سلطة الكنيسة قناعات المؤمن وما يفرضه عليه ضميره، أصبح من الواجب أيضا أن تحترم السلطة السياسية اختيارات الأفراد وقناعاتهم. وحركة بعث الذات كوعي وإرادة واختيار -بما عنته من تحرر من سلطة الكنيسة الوصائية- هي ذاتها التي ستغذي حركة التحرر من سلطة الأمراء والسادة الإقطاعيين والملوك الاستبدادية. لذلك ليس من المصادفة أن يكون الهوغنوت البروتستانت هم أول من وجه النقد اللاذع للملكية الفرنسية المطلقة. وقد تبعهم في ذلك -بعد عدة عقود- التطهريون الإنجليز، ثم نظراؤهم الأمريكيون الذين أسسوا أول نظم ديمقراطية تحترم حرية الاعتقاد والرأي وتضمن حقوق الأفراد الأساسية.

من هنا، ليس من المبالغة القول: إن الإصلاح الديني -في تأكيده على فكرة المسؤولية الفردية، وإحيائه للضمير الأخلاقي، وتوجيهه المؤمن في عمل الخير نحو تحقيق التواصل بين الأفراد، لا نحو طلب الخلاص الذي تركه بيد الله وحده- كان بمثابة ثورة داخل الفكر الديني أرست هي نفسها بذور الثورة السياسية اللاحقة. ولا شكَّ أن صيغ التنظيم التي عرفتها الكنائس البروتستنتية -والتي يشارك فيها مدنيون جنبا إلى جنب مع رجال دين، وتقوم على انتخابات تمثيلية للمحلات والمناطق- قد قدمت نموذجا جديدا لإدارة الشؤون العامة(7).

لم يكن ما حصل، إذن -بالرغم من مظاهر الاستمرارية- تحولا بسيطا في منحى التفكير الديني؛ وإنما تغييرا عميقا، أعاد تأويل الدين من وجهة نظر عَقَديّة جديدة ومستقله عنه تماما، وكيّفه مع مفاهيم النزعة الإنسانية وقيمها. وليس من المبالغة الحديث عن الإصلاح بوصفه مرحلة انتقالية نحو ولادة دين جديد على أنقاض دين الكنيسة وفي معطفها، هو دين الإنسان، بما يعنيه من الإيمان المتزايد بأن الإنسان مركز الكون ومعناه، وأن تربية الإنسان وترقية مواهبه وتحسين شروط وجوده على الأرض غاية النظام الاجتماعي ومؤسساته المختلفة، بما فيها الكنيسة. ولم تنجح الكنيسة في الاحتفاظ بوجودها والدفاع عن المسيحية إلا بقدر ما عملت على استيعاب قيم الدين الجديد وتمثلها وجعلها جزءا من اعتقاداتها، أي إلا بقدر ما جعلت هي أيضا محور نشاطها ومركز اهتمامها حياة الإنسان ومصيره. فتحولت من مركز تجريد الأفراد من شخصيتهم -بما تعنيه الشخصية من وعي وإرادة حرين، كشرط لقبولهم من قِبَل الله وخلاصهم- إلى مركز لبناء دين احترام الإنسان وتكريمه بوصفه آية من آيات الله، والإسهام في تكوين وعيه وضميره وشعوره، كشرط لضمان خلاصه على الأرض ومواجهة حياة الألم والشر والخطيئة، التي كفت عن أن تكون قدرا إلهيا لتصبح ثمرة جهل الإنسان وسوء فهمه وتنظيمه.

ولعل هذا ما دفع المؤرخين إلى الربط بين حركة الإصلاح الديني وتطور الروح العصرانية أو الدنيوية. وهذه هي مفارقة هذا الإصلاح. فقد حدث إحياء الإيمان بموازاة إعادة الاعتبار للإنسان، أو من خلال إعادة توجيه النشاط الديني نحو الإنسان، تكريما وتأهيلا وتضامنا، والاعتراف بجدارته وأهليته الأخلاقية والمعرفية بعد استلاب طويل. وبعد أن جعلت الكنيسة من هذا الإنسان إمَّعَةً تقاد حتى إلى الجنة بالسلاسل، وتكبل بالقيود كي لا تقع في الخطيئة، قَبِلَ الفكر الجديد المراهنة عليه كمخلوق قادر على المحاكمة السليمة والتفكير الناجع والإيمان الحر والمستقل. هكذا أصبح حب الإنسان كإنسان، وتربيته والعمل معه وإلى جانبه، وتأكيد الثقة بمقدراته وأهليته، وتعزيز صورته أمام نفسه، بديلا عن مقاضاته أمام الإنجيل وتكبيله بمعاني الخطيئة الأصلية وهَمِّ الخلاص الصعب بل المستحيل.

وكما أنه لا توجد علاقة حقيقية بين مسيحية ما بعد الإصلاح ومسيحية ما قبله، ليس هناك أيضا علاقة تذكر بين النموذج الذي سوده الإصلاح لعلاقة الدين والسياسة وذاك الذي ساد في القرون السابقة تحت إشراف الكنيسة البابوية. فقد أعادت الثورة التي حصلت داخل الكنيسة في القرن السادس عشر بناء هذه العلاقة على أسس جديدة، بقدر ما أعادت بناء مفهوم الدين نفسه ومعنى العبادة والتقرب من الله والاستجابة لندائه. وعلى أثرها تحول التدين من فِعْل تماهٍ مع الجماعة، أي من عصبية جماعية، وهوية طائفية، إلى فعل إيمان فردي ومصدر قيم أخلاقية محورها التأكيد على صلاح عمل الإنسان. كما ظهرت الكنائس الوطنية، وحصل الاعتراف بسيادة الدولة ومركزيتها في تنظيم الشؤون العمومية مقابل الكنيسة التي أصبحت رابطة للمؤمنين تعنى بتربيتهم وتهذيبهم. ومن المؤكد أن هذه الثورة لم تحصل من فراغ، وإنما كانت هي نفسها جزءا من إرهاصات النهضة الأوروبية، التي انطلقت من إيطاليا منذ القرن الخامس عشر، تحت تأثير الانبعاث الفكري والأدبي الناجم عن العودة إلى الإرث الفلسفي والفكري اليوناني والروماني القديم، وتنامي النزعة الإنسانية، وتطور التجربة العلمية وانتشار حركة الاكتشافات الجغرافية الكبرى، والقارة الأمريكية بشكل خاص، وفي أثر ذلك نشوء الإمبراطوريات التجارية، على أرضية تفكك النظام الإقطاعي الاقتصادي والاجتماعي القديم نفسه. بيد أن انتصارها أسهم أيضا في تعزيز حركة النهضة والانبعاث الفكري والاجتماعي والسياسي بمقدار ما عمل على مصالحة الدين والدنيا والكنيسة والدولة والجماعة والفرد.

لكن ما أنجزته حركة الإصلاح الديني من إعادة الاعتبار للإنسان سيتحول هو نفسه إلى خميرة لتحولات عميقة لاحقة داخل نظام المجتمع، وعلى مستويات نشاطاته المختلفة، السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية. تماما كما كانت هذه الحركة نفسها جزءا من عملية تحول مستمرة وشاملة، ومحاولة من قبل الهيئة الدينية للتكيف مع معطيات العصر والتفاعل مع القوى والديناميكيات الجديدة داخل المجتمعات الخارجة من الحقبة الإقطاعية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون موطن النهضة أو الحركة الأولى على طريق التغيير إيطاليا التجارية، كما ليس من قبيل الصدفة أن تأتي حركة الإصلاح الديني في المناطق الأوروبية الإقطاعية في عباءة ثورة فلاحية حطمت القوقعة الفكرية والسياسية الرئيسة التي كفلت خلال قرون مشاريع الإخضاع والإكراه والسخرة وأضفت عليها الشرعية. وليس هناك شك في أنه ما كان لحركة الإصلاح الديني أن تتطور وتنجح لولا العمل التمهيدي الكبير الذي قام به فنانو عصر النهضة ومفكروها. فقد كان لتراكم المعرفة الجديدة وانتشار القيم الإنسية التي ارتبطت بها وبناء توجهات أكثر إيجابية تجاه قدرة الإنسان ومسؤوليته على الأرض، أثر كبير على تبلور الفكر الإصلاحي الديني، سواء فيما تعلق برفض وساطة الكنيسة ووصايتها أو فيما يتعلق بتأكيد مسؤولية الفرد الدينية والاجتماعية. تماما كما سيكون لتطور المؤسسات الجديدة: العلمية والطبية والاقتصادية والاجتماعية التي سترافق إرهاصات المجتمع الصناعي، من جامعات ومشافي ومرافق عامة، أثر كبير على تراجع الرهان على الكنيسة وما تمثله من سلطة غيبية في إيجاد حلول لمشاكل المجتمعات. وبالعكس، في هذه البيئة الفكرية والسياسية والاجتماعية الجديدة ستبرز الدولة كفاعل مركزي وعمومي، إجرائي، لتحقيق قيم دين الإنسان الجديد ورعاية مصالحه.

- 4 -

باختصار، لم تكن حركات الاحتجاج الدينية ضد فساد السلطة الكنسية منفصلة عن حركات التمرد الاجتماعي ضد السلطة الإقطاعية الممثلة بسلطة الأمراء والملوك الطغاة معا. وما كان من الممكن للتيارات الإصلاحية المسيحية أن تكسب المعركة وتحقق أهدافها من دون انضمام الفلاحين وتفانيهم في القتال إلى جانب دعاة الإصلاح وقادته. وبالمثل لم تكن الفلسفات السياسية الهادفة إلى تغيير قواعد الحكم والممارسة السياسية وفرض الاعتراف بحقوق المواطن وحريات الأفراد في مواجه سلطة الملوك والأمراء الإقطاعيين وضد إرادتهم، بعيدة هي أيضاً عن حركات العصيان المدنية.

هكذا -كما ذكرت أعلاه- ستكمِّل الثورةُ السياسية على السلطة المطلقة -تاريخيا وفكريا- الثورةَ الدينية على الوصاية البابوية على الضمير، وتعملان معا على توليد ديناميكية التحول في الوعي والممارسة السياسية. ومن تفاعل عناصرهما، ونجاحهما في توحيد قاعدة اجتماعية عريضة تضم قطاعات واسعة من الفلاحين والطبقات الوسطى الصاعدة والبرجوازية والفئات الشعبية المدينية، سوف تولد شيئا فشيئا عناصر التركيبة الجديدة للنظام الحديث، نظام الدولة الأمة، الجمهورية والديمقراطية فيما بعد، وما يمثله من غايات وقواعد عمل وأهداف وقيم اجتماعية تكاد تمثل الوجه المناقض تماما لما مثلته النظم الأرستقراطية التقليدية التي حكمت تحت إشراف الكنيسة وتأييدها. وفي سياق هذا التحول التاريخي الطويل والمستمر، سوف تنقلب العلاقة نهائيا بين الكنيسة ومجتمع العامة. وسيبرز عالم العامة من المؤمنين، الذي كانت الكنيسة تعامله كنموذج للقصور والضلال الأكيد، وتنظر إليه باحتقار على أن وجوده وخلاصه وشرعية عمله وصلاحه يتوقف كله على الكنيسة وبركتها الإلهية، باعتباره عالم الفضيلة والواجب الأخلاقي والقوة العسكرية والمعرفة العلمية والازدهار الاقتصادي والدولة القانونية، دولة المواطنة والحرية والحقوق المتساوية، عالم التقدم التاريخي في مقابل عالم الجمود والفساد والغش والخرافة.

ستتبلور توازنات النظام الجديد من حول السياسة والدولة، مثلما تبلورت توازنات النظام القديم الوسيطي حول الدين والكنيسة الراعية له. وستجد الدولة نفسها في صراع دائم مع الكنيسة، بوصفها مركز نفوذ يتعارض مع برنامج تحرير الإنسان الذي تمثله وتريد تحقيقه. ومع نشوء الدولة الحديثة وتطور مفاهيم الأمة بوصفها رابطة سياسية تجمع بين الأفراد، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، وتحولها إلى مؤسسة مركزية لرعاية الشؤون الجماعية، ستتطور البنية التحتية التي ستقلص عمليا وموضوعيا من نفوذ الكنيسة وسلطتها القديمة، وتفرض بشكل متزايد منطق العمل مع العصر وخدمة الحياة الدنيا على حساب منطق العمل للحياة الآخرة. وستحتل المؤسسات المدنية -في التعليم والتنظيم والإدارة والخدمة المدنية والرعاية الصحية؛ بل في الأعمال الخيرية- مكانة مركزية متزايدة بالمقارنة مع المؤسسات المماثلة التي كانت ترعاها الكنيسة أو الهيئات الدينية في التعليم والتطبيب والتضامن بين الأفراد. وستظهر إلى جانب الدين منظومات جديدة تعكس هذا التطور وتعمقه أولها -من دون شك- منظومة السياسة، وما سيرتبط بها من ابتداع آليات جديدة لممارسة السلطة، تفترض مشاركة الأفراد، وبالتالي استقلالهم في الرأي وانخراطهم في حمل المسؤولية، وظهور مدونات قانونية مرتبطة بالدولة الحديثة وممارستها، متميزة في هدفها ووظيفتها وأسلوب إنتاجها عن المدونات الفقهية التقليدية المعروفة.

من الطبيعي أن يفرض تحقيق برنامج الدولة هذا رؤية جديدة لتوزيع المجال العام بين الكنيسة ومؤسسات المجتمع السياسية والمدنية الأخرى، وفيما وراء ذلك إعادة توزيع الصلاحيات والسلطات المدنية والسياسية والدينية، وإعادة تعريفها وتحديد ميدان ممارستها وعلاقتها بالسلطات والصلاحيات الأخرى. وليس للعصرنة -كما سوف تتحقق في المجتمعات الأوروبية أولا، ثم في عموم المجتمعات فيما بعد- محرك آخر سوى تقدم معايير الحياة الطبيعية وحساباتها، أي أولوياتها، على معايير الحياة الأخروية وحسابات الكنيسة وبرنامج عملها وأولويات اهتمامها أيضا. وهو ما يعني إعادة توجيه اهتمام المجتمعات وهمومها نحو تنظيم الحياة الدنيا، وعلى أسس مفهومة ومعروفة وقابلة للنقاش، أي خاضعة للمحاكمة العقلية، بعد أن كان موجها خلال قرون سابقة من سيطرة الدين الكلية، نحو ضمان الخلاص في الحياة الأخروية، مما ركز نشاطات المجتمعات التقليدية وتفكيرها -إلى حد كبير- على مسألة الخلاص الروحي والإعداد للحياة الخالدة ويوم الحساب الأخير على حساب السعادة الدنيوية(8).

فكما كانت الكنيسة هي التي تصوغ أجندة المجتمع أو الجماعة الدينية من حيث هي بالأساس أجندة تيسير الخلاص وتأمين المصير الأخروي، وتضمن من خلال ذلك استقرار هيمنتها على الجماعة وسيطرتها عليها، سوف تتبنى الدولة أجندة الخلاص الأرضي. وفي مقابل التأكيد على ضرورة تركيز الجهد عند المؤمن على عمل الخير المطابق لما تطلبه الكنسية وتحويل الإيمان نفسه إلى طاعة للكنيسة ورجال الدين، سوف تؤكد الروح العصرية -أي المساوقة للعصر والعيش في المكان والزمان الحاضرين، لا في الماضي ولا في المستقبل الغيبي- على ضرورة تركيز الجهد على عمل كل ما من شأنه أن يحسن شروط حياة الفرد على الأرض، بصرف النظر عما إذا ضمن ذلك خلاصه في الآخرة أم لا، بل من دون التفكير بهذا الخلاص الأخير، وبالتالي على الاستثمار في المجتمع نفسه وفي العمل، وفي التهذيب والتربية والتعليم والإعداد والإنشاء والتأسيس.

وهذه الأجندة الدنيوية الجديدة التي أخذت تتبلور معالمها في حضن المجتمعات هي التي سوف تقود شيئا فشيئا إلى تغيير أخلاقيات الناس، أي نمط تطلعاتهم واهتماماتهم، وتبدل نوعية آمالهم وأحلامهم. ومنذ الآن أصبح التقدم في تحسين شروط الحياة على الأرض، وبالتالي في ممارسة الحياة نفسها، من حيث الغنى والشدة والنشاط والإنتاج والإبداع والتواصل والمشاركة، هو مصدر المعني الرئيس ومنبعه بالنسبة للإنسان، فهو أساس سعادته وتقديره لنفسه وتقدير الآخرين له. وفي سياق تحول الحياة نفسها إلى تجربة حية تستحق العيش والتأمل والتعميق، وبسببها سوف تنشأ تصورات جديدة لتنظيم الحياة المجتمعية وبناء النظم المدنية والإدارية والسياسية. وستبرز الدولة بوصفها المؤسسة المركزية التي من شأنها أن تنسق بين مؤسسات المجتمع المختلفة وتنظم سبل التعامل بينها، لصالح تحسين الحياة وتطويرها وإغنائها. وسوف تدخل الدولة في منافسة مع الكنيسة المسيطرة على وظائف التنسيق والتنظيم نفسها، وتتأكد مكانتها ودورها ووظائفها بانتظام واضطراد في مواجهة الكنيسة المتراجعة إلى مستوى مؤسسة خاصة، وتحل كليا محلها في تنظيم الحياة المجتمعية، الجمعية والفردية. بل سوف تنشأ الدولة الحديثة التي ينظر إليها الناس بمثابة وسيلة لتنظيم الحياة على الأرض مقابل الكنيسة التي تركوا لها مهمة العناية بتحقيق شروط خلاصهم الأخروي أو تنظيم شؤون العبادة وطقوس الولادة والوفاة المرتبطة بخلاص الروح.

ليس لهذه الدولة الجديدة المتوجهة نحو تنظيم حياة الأفراد ومراكمة الحقوق والمكتسبات المادية والمعنوية التي تغني حياتهم على الأرض وتجعل منها حياة ذات معنى، بل مصدر الرضى عن النفس والتحقيق والإنجاز الذاتي، أي علاقة بالسلطنة القرسطوية التي كانت مؤسسة خاصة تعنى بشؤون الملك وحاشيته وحلفائه الإقطاعيين والأرستقراطيين وتعمل -من أجل تأمين مصدر شرعية لها- بمثابة أداة في يد الكنيسة ووسيلة لها لتحقيق الانتصار للدعوة الدينية ونشر رسالة المسيح وكسر أعدائه في الأرض. فهي منذ الآن دولة مدنية ذات رسالة أرضية أو دنيوية فحسب، يتقدم مفهومها وممارستها بموازاة تبدل أخلاقيات الناس واهتماماتهم وتساؤلاتهم أيضا حول أفضل السبل لبناء النظام الاجتماعي وممارسة السلطة العمومية، وتطور اكتشافاتهم ونظرياتهم ومحاكماتهم وأفكارهم السياسية حول الأسس القانونية والشرعية، وطبيعة السلطة السياسية وأنماطها، والتمييز بين السلطة المطلقة والسلطة الدستورية، والجمهورية والملكية، وهو ما قاد فيما بعد إلى الثورة الدستورية ومفهوم المواطنة وحقوق المواطن والإنسان، مما أصبح اليوم مادة لعلوم إنسانية تدرس على مستوى العالم أجمع.

في سياق هذا التبدل وكثمرة له، لم تعد الكنيسة الفاعل الأول في المجتمع، قلبه وعقله ولسانه، كما بقيت خلال قرون، ولكنها وجدت أمامها قوة مؤسسية جديدة تنمو وتزاحمها على موقعها ومكانتها ونفوذها. وهو ما دفعها إلى خوض معارك دفاعية مستمرة للحفاظ على أملاكها، وهي في الواقع المجتمع والأرض والسماء معا - أي السيطرة على القلوب والأذهان، والسهر على تنظيم المجتمع وصوغ العلاقات الاجتماعية، والتحكم الكامل بالقوة الرمزية بما تعنيه من منبع للمعنى والقيمة والذوق معا - كانت نتيجتها الخسارة الكاملة، والانطواء على مجال العبادة والصلوات. فبالرغم من كل ما تتمتع به الكنيسة الكاثوليكية اليوم من نفوذ بسبب عطالة التاريخ وأحيانا الحسابات والعلاقات السياسية لبعض رجالاتها الكبار، لم تعد تمثل في مخيلة المجتمعات الغربية شيئا كثيرا، بالرغم من استمرار الإيمان كفعل ولاء وانتماء ذاتي. ويتلاشى دورها مع تراجع فكرة الخلاص الأخروي والحلم به، وتزايد انخراط الناس في الحياة الحاضرة، واقتناعهم بقيمة السعادة الأرضية أو الدنيوية التي لا يبادلون بها -في غالبيتهم الساحقة- أي خلاص أخروي موعود. واقتصرت نشاطات الكنيسة الدينية على رعاية شؤون المنتمين لها من سلك رجال الدين وإدارة مشاريعهم المادية أو الروحية. ومن سنحت له الفرصة لزيارة بعض المراكز الدينية الكبرى من أديرة أو رهبانيات سيفاجأ برتابة حياة الرهبان وفقرها الروحي وتكراريتها المملة. إنها التعبير الأمثل عن العوالم المغلقة التي تفتقر للأفق والأمل معا، والتي تجمع بين نفوس قلقة ومشردة يسيطر عليها رجال سلطة وسيطرة بالمعنى الحرفي للكملة. حتى ليكاد المرء يعتقد أن الكنيسة قد فقدت روحها وأبهتها وبريقها الماضي، وتحولت إلى مأوى للعجزة الروحيين والماديين معا. فصارت تثير الشفقة أكثر مما تبعث على الأمل أو توحي بإمكانية الخلاص من أي نوع كان.

لم يقتصر هذا الانقلاب التاريخي على مركزية السلطة الكهنوتية لصالح سلطة الدولة وقانونها السياسي على أوروبة والغرب عموما؛ ولكنه سيحدث في جميع بقاع العالم الأخرى، ولو في وقت لاحق وفي صور معدلة اتخذت شكل العصرنة وبروز الأيديولوجيات والأفكار العصرانية. والسبب أن الهيئة الدينية لم تكن تتمتع بالنفوذ الذي كانت تتمتع به الكنيسة الكاثوليكية، كما أن الدولة لم تكن في معظم قارات آسيا وأفريقيا والعالم الإسلامي قد محيت لصالح الكنيسة أو سلطة رجال الدين وبقيت حية وفاعلة في الحياة الاجتماعية. وفي الأماكن التي كانت تعرضت فيها للتفكك غالبا ما جاء ذلك لصالح دول أخرى استعمارية أو محيطة أو عودة العصبيات القبلية والطائفية وتنازعها الدائم. لذلك جاء رد الفعل على الفوضى والترهل والتقادم في الممارسة الدينية والدنيوية معا من طرف النخب السياسية والبيرقراطية الحاكمة. واستندت هذه النخب التحديثية إلى الجناح المتنور الذي برز أيضا داخل صفوف النخبة الدينية. وكان هدفها تعزيز مكانة الدولة وتقوية سلطتها تجاه نزعات الهيمنة الخارجية، وبالمناسبة ذاتها، الحفاظ على وحدة المجتمع وحمايته من مخاطر التفكك والانقسام الناجمة عن انخراطه في مسار حداثة لا يملك بعد أدوات السيطرة الفكرية والسياسية والقانونية عليها.

لكن لن يعمل إحياء سلطة الدولة وتعزيزها -بما في ذلك ما سوف تقوم به من إصلاح ديني سيحرم الهيئة الدينية من الكثير من نفوذها ومواقعها التقليدية التي حفظتها لها الأنماط القرسطوية من الحكم- إلا على تعميق الاختلال في ميزان القوة بين المجتمع والدولة، أو السلطة المركزية، أي بين دولة تزداد تحديثا ومقدرة على التدخل والمبادرة يوما عن يوم، ومجتمع يفقد وزنه أكثر فأكثر ويزاح إلى الهامش بسبب افتقاره إلى وسائل التكيف الفكري والسياسي معها. وفي ثنايا هذه القطيعة المتزايد بين دولة تتحدث بسرعة ومجتمع يلهث وراءها، سوف تبرز قطيعة دينية موازية، بين دين الامتثالية السياسية الذي يسمح بالتكيف مع النظام الجديد، ودين الاحتجاجية الاجتماعية الذي ينزع إلى أن يكون محور التحام وربط وتشبيك ما عمل جهاز الدولة الحديث على حله وتفكيكه من وشائج قربى وعلاقات اجتماعية.

من هنا -مع بعض التحفظات- يكاد وضع المجتمعات الإسلامية الحديثة يُظهر -في علاقتها مع الدين وعلاقة الدين بالسياسة والدولة فيها- مسارا معكوسا لما حصل في حضن المجتمعات الغربية المسيحية منذ القرن السادس عشر. فقد كانت حقبة السيطرة الدينية الإسلامية الوسيطة حقبة بناء الإمبراطورية وتأكيد استقلالية الدولة والسلطان، وتأكيد مدنية رجل الدين أو بعده عن القداسة. كما كانت حقبة التمييز الواضح بين صلاحيات رجل الدولة وصلاحيات رجل الدين، بموازاة تمايز العلوم العقلية عن العلوم الدينية واستقلالها عنها. ومن هنا، وُسم العصر الإسلامي الوسيط بعصر الازدهار والتنوير، بينما وُسمت القرون الوسطى الأوربية بعصر الظلمات الذي اختلط فيه الاستلاب الديني النابع من طغيان الكنيسة والفكر اللاهوتي، بالاستلاب السياسي المرتبط بضعف الدول الملكية، ونزاعات الملوك والأمراء المتواصلة وهشاشة سلطاتهم، وبالاستلاب الاقتصادي والاجتماعي الناشئ عن غياب الإبداع والاكتشاف، ونقص المعارف، وسيطرة الجهل والأمية، ونقص التربية والتهذيب المدني والأخلاقي.

ولا شكَّ أن السبب الرئيس لهذا الازدهار العلمي والسياسي والاقتصادي الذي وسم العصر الإسلامي الكلاسيكي كان انتصار الدولة، حتى في صيغتها السلطانية، على الكنيسة أو على احتمال نشوء كنيسة إسلامية، بما تعنيه من سلطة دينية مركزية ومنظمة تحتكر الشرعية في القول والعمل في كافة مجالات الحياة، وتفرض على الفرد -أينما كان ومهما كانت مرتبته ووظيفته- التقيد بتعليماتها والرجوع إليها في كل ما يفعله ويقوله. إنه باختصار حسم المعركة التي نشأت داخل الجماعة الدينية الأولى، أي جماعة الخلافة ودولة الخلافة، لصالح الملكية العضوض؛ أي الزمنية، وإجبار الصحابة أو قسم كبير منهم -ممن كانوا يطمحون إلى أن يكونوا قيمين على تراث الدين وتفسيره وتأويله- على الخضوع والقبول بموقع السلطة الثانية، التابعة للدولة والعاملة في ظلها، بدل أن تكون وصية عليها أو بديلا لها.

وهكذا نشأ في تاريخ الإسلام منذ البداية نمط من العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية يشبه كثيرا ما هو قائم اليوم في الدول ذات الأغلبية البروتستنتية، وإن كان بكيفيات مختلفة. وربما كان أفضل نموذج لهذا النمط هو السلطنة العثمانية التي كانت أكبر وأطول دولة عرفها تاريخ الإسلام. وفي هذا النمط تمثل السلطة السياسية أو السلطان قمة هرم السلطة ومرجعها الوحيد في كل المجالات، لكن من دون أن تحرم السلطة الدينية من مجالها الخاص، أو تفرض عليها أجندتها أو قواعد عملها.

وقد ترافق العمران الإسلامي بنشوء تقاليد ثابتة في بناء حقل الفضاء العام، وتحديد الصلاحيات الخاصة بعلماء الدين ورجال الحكم ومجال عمل كل منهم ونفوذه، فاختص الصنف الأول بالمسائل الدينية والفقهية منها بشكل خاص، واختصت الفئة الثانية من الملوك والسلاطين ورجال الحكم باحتكار مجالات السلطة والقوانين أو المسارات الإجرائية المرتبطة بها، وقرارات الحرب والسلام، وسياسات المال والاقتصاد، وكل ما يتعلق بميدان السيادة. هذا ما تشير إليه حالة القضاء الذي كان مسؤولية سياسية يختص بها رجال الحكم، حتى لو انتقوا القضاة من بين الفقهاء وعلماء الدين.

وهكذا تعايشت السلطة الدينية مع السلطة الزمنية على أرضية سيادة الثانية، ونشأ نتيجة ذلك تفسير وتأويل للدين مختلفان تماما عما عرفته المسيحية البابوية، يقوم على التسامح مع التعددية المذهبية وتجنب التكفير والتجريم، والقبول بالاختلاف في التأويل والتفسير لنصوص الدين وللقرآن نفسه. وهذا ما يعبر عنه مفهوم الاجتهاد الذي يجعل من العقل شريكا في فهم النص وتأويله، بل شرطا لهذا الفهم، ملغيا بذلك كل شرعية محتملة لسلطة لدنية ملهمة تملك بالسليقة التأويل الصحيح للنص، كما يعبر عنها مفهوم العصمة البابوية وأحادية الرأي التي تمثلها. وقد أتاح هذا المناخ الليبرالي في العصر الكلاسيكي للإسلام نشوء فسحات من الحرية والانعتاق لم تعرفها المجتمعات المسيحية في القرون الوسطى، عمقت عند المؤمن شعورا بالمقدرة على المبادرة والمغامرة من دون خوف. وبدل أن يكون الإيمان دافعا لليأس والشك والقلق، وباعثا على حب التزهد والانسحاب من الدنيا والانكفاء على الأديرة وبيوت العبادة، أو مفضيا إلى التسليم بالقدر، صار مناسبة لبعث الثقة بالنفس التي تدرك أنها ليست مرمية وحيدة في الفراغ وإنما تعمل تحت عناية ربانية وتأييد إلهي. وقد أطلق هذا التأويل طاقات الأفراد، وأعطى للوجود على الأرض وللحياة الدنيا قيمة ومكانة مهمة في نظر الناس، فصار من مبادئ الإسلام رعاية شؤون الدنيا والآخرة، وأصبحت العناية بالحياة الدنيا -بالجسد والعقل معا، كما أصبح البحث عن السعادة والمتعة الدنيوية- قيمة أخلاقية أو جزءا من التربية الإسلامية، على حسب ما جاء في الحديث الشريف: فأعطِ كلَّ ذي حق حقه.

باختصار لم تلغ التطلعات الروحية أو الدينية -رغم أهميتها، وربما عند الكثيرين أسبقيتها، أو هذا ما نفهمه مما بقي من تراث تلك الحقبة الأدبي والتاريخي- متطلبات الحياة الدنيا ولا متعها ولذائذها، وبالتالي لم تَحُدَّ من نزوع الأفراد وطموحهم إلى العمل والإنتاج ومراكمة الثروات والتمتع بها، ومن ثم من توسيع دائرة الإنتاج والاكتشاف والإبداع المطلوب لتحقيق ذلك. هذا هو الإطار الفكري والسياسي، الديني والعقلي، الذي أتاح الازدهار المهني والعلمي والتقني والفكري والفني والديني أيضا للمنطقة الإسلامية كما يشير إليه تطور العلوم الدينية المختلفة في العصر الوسيط. وغياب هذه الحرية الدينية والفكرية -التي لا غنى عنها لخلق الشعور بالتآلف مع العالم وإمكانية السياحة أو الانسياح فيه، للتجارة والعلم ونشر الدين وإغناء التجربة العلمية (الرحالة العرب) والروحية (تنقلات المتصوفة) أيضا- هو السبب الرئيس في تحويل القرون الوسطى الأوروبية إلى حقبة مظلمة تفتقر فيها المجتمعات للنظام والاستقرار والمعرفة والحياة المدنية والأخلاقية، وسبب تمحور اهتمامها على الحروب الداخلية والخارجية والتوسع في سبيل السلب والنهب والسيطرة على موارد ريعية، وهو ما أعطت الحروب الصليبية أفضل مثال عنه(9).

من الواضح إذن أن التجربة التاريخية الخاصة بالمجتمعات العربية -وهي ذات غالبية سنية- تقدم نموذجا مختلفا تماما للعلاقة بين الدولة والدين عن ذاك الذي عرفته المجتمعات الغربية الكاثوليكية في الحقبة الكلاسيكية، والذي استمدت منه النظرية الراهنة النموذج المعتمد في فهم إشكالية العصرنة والعلمانية في مجتمعاتنا المعاصرة. وقد دفعني هذا إلى أن أكتب منذ عقدين تقريبا في (نقد السياسة: الدين والدولة) أن مشكلة التشكيل العربي الإسلامي فيما يتعلق بعلاقة الدولة والدين لا تتمثل في سيطرة نموذج السلطة التيوقراطية، أو هيمنة السلطة الكنسية على السلطة السياسية وتحكمها بها لتأكيد وجودها كسلطة سيادية، كسلطان ما بعده سلطان، وإنما في سيطرة نموذج السلطة الأتوقراطية، أي سيطرة السلطة السياسية المجسدة بالسلطة الفردية المطلقة على السلطة الدينية، وتحكمها بها، حسب مصالحها وحاجاتها المتعددة للأداة القانونية وللشرعية والتعبئة الاجتماعية وبناء الهوية الجمعية المرتبطة بنشوء عصبية دينية.

ومن هذا المنظور لم تشكل السلطة الدينية في تاريخ الإسلام الكلاسيكي سوى واحدة من بين سلطات عديدة اجتماعية، اختصاصية أو مهنية، في حين أن السلطان -بمعنى السلطة العليا صاحبة السيادة التي لا سلطة فوقها- كان في الإسلام من نصيب الدولة البيرقراطية أو الإمبراطورية. فهي مركز سلطة عامة ليست كباقي السلطات، ولا تخضع لأي منها، ولا يمكن تجاوزها أو الخروج عنها، وهي المشرفة على حسن سير جميع السلطات الأخرى والمصادقة على سلوكها، بما فيها السلطة الدينية الاختصاصية.

وقد كان لهذا الاختلاف في علاقة الدولة والدين في التجربة التاريخية الإسلامية العربية أثر كبير على تطور أنماط الممارسة الدينية والسياسية معا. فلأن الدولة كانت منذ بدايات تكوين الاجتماع السياسي الإسلامي -بعد انهيار الخلافة الراشدة- هي مركز السيادة، وذات الكلمة الأخيرة في تقرير شؤون الجماعة، حرم رجال الدين أو الهيئة الدينية من إمكانية بناء سلطة دينية مستقلة وسيدة منافسة لسلطة الملوك، وفرض عليهم بالضرورة التكيف مع السلطان السياسي، وبالتالي تبني مسلك مختلف تماما عن مسلك النخبة الدينية المسيحية. وهذا ما يفسر غياب السلطة المركزية الدينية، بما تعنيه من وجود هيئة مركزية تضم جميع العاملين في الدين، وتشرف على تأهيلهم وتنظيم شؤونهم، وتجعل منهم قوة واحدة منظمة حسب تراتبية واضحة، وتوزيع للأدوار والصلاحيات الدينية كما هو الحال في الكنيسة البابوية. وبفقدانها مثل هذه السلطة المركزية، واضطرارها إلى الخضوع لأجندة وحسابات وتأثيرات سياسية وغير سياسية خارجة عن دائرة نفوذها وقرارها، وجدت الهيئة الدينية الإسلامية نفسها -من دون أن تدري- في حالة من التعددية والتنوع والاعتراف بالاختلاف، المتمثل في وجود مذاهب متعددة شرعية. وأصبح من المستحيل والحال كذلك تصور ولادة أي نزوع قوي في الإسلام إلى إقامة سلطة دينية معصومة من نوع بابوي، تفرض إشرافها ووصايتها على جميع الممارسات والنشاطات غير الدينية بما فيها السياسة، وتحتكر شرعية المصادقة على إيمان الأفراد وخلاصهم، وتقرر في المادة الدينية ما ينتمي لعالم الفكر المسموح به والمقبول ولعالم الهرطقة والتجديف والزندقة.

وبقدر ما منع وجود دولة إمبراطورية أو سلطانية قوية -وريثة تقاليد الإمبرطوريتين الساسانية والبيزنطية التي حلت محلهما، ومستندة مثلهما إلى قوة عساكرها وجيوشها وفتوحها الدائمة- رجال الدين، أو المتعاملين بتراث الدين ورصيده في المجتمع، من إمكانية بناء كنيسة وسلطة دينية حصرية، أسهم أيضا في تحديد نطاق عمل الدين ورجاله، وعزز استقلال السلطة السياسية وأولويتها على أي سلطة دينية يمكن أن تنزع أو تحلم بالنزوع إلى فرض وصايتها على السلطان. مما زرع الانقسام داخل صفوف النخبة الدينية بين فقهاء الدولة المستفيدين من تقربهم من السلطة، وغالبية رجال الدين الذين يعيشون حياة العامة ويقودون من فترة لأخرى حركات احتجاجها ومقاومتها. وإذا كان رجال الدين المقربون ضروريين لإضفاء الشرعية، فإن أي طامح لانتزاع السلطة كان يدرك أن سبيله إليها هو القوة الناشئة إما من عصبية طبيعية أو تنظيم عسكري وبالأحرى من كليهما. وقد استمر نمط هذه العلاقة غير المتكافئة بين رجل السلطة والدين مستمرة إلى العصر الحديث. من هنا صارت العصبية هي القانون الذي يحكم عملية التداول على السلطة وتجديد دورتها في المجتمعات العربية الوسيطية. ولم يحصل أن نجح أي حزب ديني في الوصول إليها من دون عصبية، كما وصف ذلك بدقة ابن خلدون في مقدمته المعروفة. وكان من نتائج ذلك تعزيز مفهوم مطلق وفردي للسلطة تجعلها حرة من أي قيد، شاملة ومنيعة على أي إشراف مدني وأهلي، خاضعة لإرادة الحاكم الفرد ومزاجه، ورهينة -في علاقتها بالدين- بتدينه أو زندقته. وهكذا اقتصر دور علماء الدين في السياسة -في نموذج الدولة الوراثية-، على النصيحة، فصار الدعاء للحاكم بالتوفيق والتأييد، وإسداء النصح له والمشورة لحاشيته، أو الدعاء عليه، هو الإسهام الرئيس لعلماء الدين في بناء النظام السياسي والمشاركة فيه.

في المقابل، ستولد النزعة الكنسية وشبه البابوية، ولو في صورة مخففة عن الكاثولويكية، عبر حركات المعارضة السياسية التي اتخذت شكلا دينيا. فجميع الفرق التي انشقت عن التيار الرئيس، وفي مقدمها الشيعة الاثنا عشرية، أعادت الربط بشكل أكثر بين الدين و(الدولة)، وألحقت السلطة السياسية والقيادة المدنية بالإمامة، وجعلت منهما امتدادا لمهمة دينية، نزعت إلى تكوين هيئة دينية مركزية، ذات تراتبية واضحة في السلطة، كانت هي نفسها مرتكزا لبناء دول أو سلطنات جديدة على هامش الدولة الأساسية، وفي حواشيها، تميزت جميعا بطابعها العقائدي الواضح. وهذا ما يبرز أيضا من خلال التمايز بين ما وسم بالمذاهب الباطنية ذات النزعات الفلسفية والأيديولوجية التوفيقية، والمذاهب الظاهرية التي تقتصد في تأويل النص وتكتفي بظاهره، كما يمكن لأي مؤمن عادي -على معرفة متوسطة بعلوم اللغة والدين- أن يفهمه. وتقدم الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم مثالا للمسائل التي تثيرها الرؤية الشيعية للعلاقة بين الدولة والدين، والمشاكل التي يطرحها تحرير الدولة من سيطرة الكنيسة أو رجال الدين. ومن الضروري متابعة تطور هذه التجربة الفريدة، حيث تبرز عناصر عملية ونظرية قوية لإعادة بناء الدولة التيوقراطية، لكن في بيئة ثقافية وجيوسياسية واجتماعية بعيدة جدا عن أجواء القرون الوسطى، ومعادية في العمق لمناخاتها الفكرية والروحية ولنزوعاتها الأخروية.

- 5 -

وبالمثل، كما كان الأمر معكوسا في نوعية علاقة الدين بالسياسة والسلطة السياسية في العصور الوسطى، فهو ينزع إلى أن يكون معكوسا أيضا في العصر الحديث، بين عالم المسيحية (السابق)؛ أي الغرب، وعالم الإسلام فيما يتعلق بنمط العلاقة بين الدين والدولة وتوزيع السلطات والصلاحيات بين النخب المختلفة. بل إن القطيعة ستكون كاملة بين العالمين، أكثر من أي حقبة سابقة، في هذا المجال. إذ، بالرغم من أهميته، لم يكن التوزيع المختلف للمجال العمومي بين الدين والسياسة في العصور الوسيطة يمنع الجماعتين من الاشتراك في رؤية واحدة للعالم والكون، ومن خضوع سلوك أفرادهما إلى منظومات قيم متشابهة، إن لم تكن متماثلة، ومن أن تسيطر على مخيلة شعوبهما بنية رمزية أسطورية واحدة. أما في العصر الراهن فنحن أمام نموذجين لا صلة بينهما، يرتبط أحدهما بدين تَمَثَّل قيم الإنسانوية إلى حد بعيد، أو على الأقل تخلى -إلا في بعض القطاعات المحدودة من الجمهور- عن قيم التيوقراطية المشككة بصلاح عقل الإنسان وحكمه والمعادية أحيانا له، وثانيهما بدين ينزع أكثر فأكثر -تحت تأثير عوامل خارجية وداخلية قوية- نحو التجرد من التقاليد الإنسانوية الإسلامية وغير الإسلامية، والتشدد في تأويلات الدين التي تجعل من الإسلام والمتحدثين باسمه دين التكفير السريع والتشكيك بصلاح القدرة العقلية وتأكيد وصاية رجال الدين وفقهائه على جميع نشاطات الإنسان الفردية والاجتماعية، ومن ضمنها السياسية.

لا يختلف السبب هنا أيضا عن ذاك الذي دفع المسيحية الأوروبية الوسيطة إلى وضع الكنيسة في قمة الهرم السياسي وتكليفها بمهمات تتجاوز الخلاص الروحي وتتركز بشكل أكبر على تنظيم شؤون حياة المجتمعات المدنية، ومراقبة العقل والضمير، وأعني به إفلاس الدولة وفساد مفهومها وانحطاطا ممارستها. فمنذ ولادتها ارتبطت الدولة في معظم بلاد العالم الإسلامي الحديث، والعربي منه بشكل خاص، بمنظومة استعمارية أجنبية، وظلت إلى يومنا هذا حبيسة جيوستراتيجياتها الإمبريالية. وما كادت فكرتها تتجسد قليلا في الواقع وتدخل التجربة العملية في العقود الأولى من القرن العشرين حتى بدأت تتعرض لتحديات خارجية وداخلية غير مسبوقة، ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وتظهر عجزها عن الوفاء بوعودها. فلا كانت إطارا لتحقيق التضامن الإنساني كما تعد بذلك الوطنية، ولا وسيلة لإعادة بناء علاقات التواصل والتبادل بين بلدان سيزداد تقوقعها على نفسها وانغلاقها مع ترسخ مفهوم السيادة، ولا مركزا للإنتاج والإبداع والتأهيل العلمي والتقني، ولا من باب أولى مناسبة لفتح الحريات الفردية وتأمين الحقوق الأساسية وضمان احترامها.

ستظهر الدولة هنا أكثر فأكثر كوسيلة استلاب روحي وسياسي واقتصادي، وتترك فراغا فكريا وقيميا وتنظيميا واجتماعيا متناميا سيسعى أصحاب الدين والرؤية الدينية -على مختلف أصنافهم- لملئه. لكن هذه المرة من دون جدوى. فلا الحقبة الحديثة تسمح بالاشتغال الفعال لمشاعر الإيمان ومفاهيم الدين وحوافزه، ولا الإسلام -كما انتهى إلينا- قادر على تجاوز آثار القرون الأربعة عشر ونيف الطويلة وتجربتها التاريخية، وإعادة بناء نخبة دينية موحدة، ولا من باب أولى كنيسة وسلطة كهنوتية هرمية.

من هنا، بينما سيتعزز في الغرب المسيحي الاتجاه نحو علمنة الحياة الفكرية والدينية والسياسية، وتنحسر عصبية الجماعة لصالح تنامي مركزية الفرد بوصفه اللبنة الأساسية في البناء الاجتماعي بأكمله، وتتوسع دائرة استقلاله الفكري والسياسي، سيدفع انحطاط الدولة وفساد مفهومها -في سياق الرد على التحديات المتزايدة للاندراج في الحداثة- المجتمعات الإسلامية إلى إعادة اختراع مفهوم الدولة الدينية، دولة الخلافة التي درست منذ أربعة عشر قرنا، حيث يختلط رجل الهداية برجل السلطة ويصبح الرئيس إماما ومرشدا روحيا في الوقت نفسه، وتتماهى الدولة مع الجماعة وتصبح جزءا منها. ومفهوم الدولة الإسلامية الذي سيولد في سياق الكفاح من أجل التحرر من الاستلاب للغرب، وفي الواقع لحداثة رثة وسالبة، كتعبير عن استعادة القيم الأصلية وتحقيق الاستقلال الفكري والثقافي، سوف يتحول بسرعة إلى نظرية في الهوية، وينزع إلى ضمان الوحدة المجتمعية وتوحيد الشعوب والأقوام والعصبيات القائمة وتحصينها ضد مخاطر الانقسام والنزاع والحروب الداخلية وتعبئتها في معركة العدالة والتنمية. الإسلام هو الحل، شعار حقبة ما بعد الحرب الباردة يعني أيضا أو بالأساس تأكيد إخفاق جميع الحلول السابقة المستمدة، منذ تنظيمات 1853 العثمانية من الأفكار والنظريات والعقائد الحديثة/الغربية.

في سياق هذه الانتكاسة التي شهدتها الدولة والسياسة ولا تزال، ستتقدم الفكرة الدينية ويزدادا الطلب الاجتماعي على الدين باعتباره الأمل الوحيد في إعادة بناء العلاقات الاجتماعية على جميع المستويات، من الإحياء الأخلاقي والفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إلى التأسيس المعرفي أيضا، كما تأمل ذلك مدرسة إسلامية المعرفة. ولن يصبح التديين، أو الرجوع إلى الدين وإرجاع أي نشاط إنساني لمعاييره والتقيد بأحكامه، مهما كانت، الوسيلة الوحيدة للخروج من الفوضى والانحطاط والتخلف والفساد عند الفرد والجماعة فحسب؛ وإنما للمصالحة بين الدولة والجماعة، وبين الحداثة والأصالة، والعرب والعالم، والماضي والحاضر أيضا. وسيقود هذا الطلب المتنامي في جميع الميادين على الفكرة الدينية إلى بروز النخب الدينية وتعدد مشاربها وتياراتها وأحزابها وتنازعها على احتلال الفراغ الذي تركه إفلاس الدولة الحديثة والأفكار والأخلاقيات والمذاهب التي ارتبطت بمشروعها(10).

ومن النتائج البينة لهذا الرجع الديني القضاء على مفهوم المجتمع المكون من أفراد مستقلين ومتفاعلين، والعودة إلى مفهوم الجماعة بما تعنيه من أولوية الولاء على الاختيار، والانقياد والامتثال والطاعة على التفاعل والتبادل الحر بين أفراد أحرار. ومن وراء ذلك إلى نشر وتعميمتأويل شمولي أو كلاني للإسلام لا تعمل الحركات الإسلامية إلا على استثماره والتوظيف فيه، لكنه يتجاوزها ويشكل رأيا عاما قويا يضغط على رجال السياسة والثقافة والاقتصاد معا.

والمفارقة أن هذا الإحياء الديني الواسع يحدث في حقبة اجتثت فيها الحداثة الوسائلية القائمة كل مرتكزات السلطة الدينية تقريبا، الفكرية منها والمادية. فقد الإسلام -كعقيدة وكنخبة دينية، أكثر من أي فترة سابقة- استقلاله عن الدولة، بعد أن انتزعت هذه الأخيرة من العلماء ورجال الدين أوقافهم، وفرضت عليهم شروط عملها الوظيفي، وأجبرتهم على الالتزام -حتى في مجال الدين- بتطبيق أجندتها السياسية والعقائدية. وربما كان من الصعب الفصل بين شعور المسلم في الوقت الحاضر بالحاجة للدولة والتماهي معها، أي أسلمتها، وما حصل في العصر الحديث من جعل الدين عالة على الدولة وتابعا لها، في رعاية شؤون المساجد والمدارس والجامعات والتكايا، وفي توظيف العلماء وتكوينهم والعناية بالمؤسسات الدينية الخيرية والإنسانية، وفي تطبيق الأحكام الدينية والدفاع عن الدين ضد الهجومات الخارجية والداخلية. وهذا ما يعمق المشكلة ويزيد من توتر النخب الدينية التي تعيش حالة من الإحباط الدائم الناجم عن التناقض الكبير بين سعة انتشار الدعوة وقلة فرص تقدمها في تحقيق الأهداف التي أوكلت لها أو وعدت بها جمهورا بدأ يفقد صبره وربما إيمانه بها.

ومن نتائج هذا الإحياء أو الرجع الديني أيضا إلحاق مفهوم الدولة بالدين وربط التفكير السياسي بتطوير المفاهيم والقيم الدينية. مما يقود إلى تسطيح فكرة الدولة وتحويلها من جديد إلى أداة فحسب، تابعة لمن يتحكم بها، ومن ثم تراجع التفكير المستقل بالدولة من حيث هي مؤسسة جامعة وقواعد عمل وقيم ومبادئ وأصول قانونية ثابتة ومستقرة تعمل في نطاق مفهوم النفع العام لا للدفاع عن قيم أو عقائد فكرية وفلسفية. وبمقدار ما يحل فكرة الجماعة ذات الهوية الواحدة محل فكرة الأمة كرابطة سياسية يزيل من الأذهان فكرة المجتمع المركب والمستقل، المؤسس للدولة والقادر على تطويرها، لصالح مفهوم الجماعة/الدولة. هكذا، بدل أن يشجع المسلم على أن يفكر اليوم -كما يفترض منطق الحداثة- في العمل على تنظيم المجتمع وتعزيز استقلاله عن الدولة، ومواجهة تعسفها وانحرافها بوسائل إجرائية ودستوية وقانونية، تراه يحلم باستعادة السيطرة الأيديولوجية والرمزية عليها، حتى تكون دولة الجماعة دولته الإسلامية الخالصة من أي تأثيرات خارجية.

من هنا، لا يكاد نقد الدولة في الأدبيات الإسلامية المعاصرة يتجاوز اتهامها بالعمالة الأجنبية أو خيانة القيم التاريخية. ويستثمر الفكر الإسلامي المعاصر جل جهده في رد الاعتداءات الموجهة للدين من خارج الجماعة أولا، أي من الجماعات غير المسلمة، ومن داخلها أيضا ضد الزنادقة والمحرفين والمشوهين. فهو يتبنى برنامج حرب دائمة دفاعية في معظم الأحيان، لكن هجومية في أحيان كثيرة أيضا، تعتمد مبدأ التوسع لتعزيز دائرة السلطة الإسلامية وحمايتها من مخاطر الارتداد أو الهجومات الخارجية. نادرا ما يتعرض هذا الفكر لشرح آلية عمل الدولة وتنمية الوعي بوظائفها، وتطوير التربية المدنية التي تساعد على ضبط سلوكها والتحكم بآلتها. وبالمثل غالبا ما تأخذ مهمة الدفاع عن الشريعة وتأكيد صلاحها لمواجهة تحديات العصر -مهما كانت المرتبة الأولى في سلم أولويات التفكير الإسلامي الراهن- الأولوية على تطوير التفكير العقلي بشروط حياة المجتمعات والمشاركة في وضع اقتراحات وبلورة سياسات عملية في سبيل تحسينها وتغييرها. والسبب في ذلك أن هذا الفكر -كما يطرح اليوم- يظل -مَهْما فعل- حبيس المنطق الفقهي الذي يبحث عن الحلول في النص الديني، حارما نفسه من مزايا البحث الاختباري والعقلي. ولو فعل لفقد الحاجة إلى التأكيد على مرجعيته الدينية، وأصبح فكرا بشريا واجتهادا عقليا، كما كان فكر المسلمين في عصر التنوير الإسلامي الوسيط.

ربما يفسر هذا ما نعيشه اليوم من فقر الحياة السياسية عموما بل غيابها عن الحياة العامة، وتردد الجمهور المسلم بين التمرد على السلطة في أمل انتزاع السيطرة من جديد من الدولة أو الاستسلام لها والخضوع لقانون قهرها وتفردها. يمثل الموقف الأول إسلام الحركات الإسلامية الجديدة التي تعتقد أن استرجاع الدولة وإرجاعها إلى هويتها الأصلية الطبيعية الإسلامية لا يتم إلا بتغيير السلطة، ولو اضطر ذلك إلى استخدام القوة، ويمثل الثاني موقف الإسلام الرسمي الذي اعتاد التسليم بالأمر الواقع والاستسلام له.

ومن نتائج هذا الاحياء/الرجع الديني ثالثا المطابقة بين الجماعة السياسية والجماعة الدينية. فلا يكاد المنظرون الإسلاميون يميزون في حديثهم عن الأمة بين أمة المسلمين والأمة السياسية المكونة من أفراد يجمعهم الولاء لدولة وقانون، بصرف النظر عن اعتقاداتهم وولاءاتهم الدينية. لذلك يواكب انتشار الفكرة الإسلامية التيوقراطية الحديثة تكريس الطائفية، سواء في تصور الأمة كأمة مسلمين بالأساس عند الأغلبية، أو في رد فعل الجماعات غير الإسلامية على استملاك الدولة من قبل الأغلبية. هكذا يعتقد أغلب المسلمين اليوم -تحت تأثير التأويل الجديد- أن من حقهم الطبيعي والواضح كالشمس وهم الأغلبية فرض عقائدهم على الدولة، أو استخدام الدولة وأجهزتها للدفاع عن هذه العقائد، وعدم التساهل في ذلك مع المذاهب والأديان الأخرى. فتسويد عقائدهم في مستوى الدولة والسلطة المركزية هو محور العمل الأيديولوجي لتثبيت أركان الدولة واستقلالها. وأي تساهل في فرض مذهب الدولة السني أو الشيعي أو الإباضي يهدد بزعزعة استقرارها وإضعاف مركزها تجاه الجماعات الأخرى الداخلية والخارجية. التعبئة الدينية هي جزء لا يتجزأ من عمل الدولة الذي يظهر عبر بناء المساجد والجوامع والتكايا وغيرها من الرموز الدينية وتنظيم المواسم والمهرجانات الصوفية. لا يعني هذا بالضرورة عدم الاعتراف بالمذاهب الأخرى. فصيغة أهل الذمة القديمة لا تبرهن على أن هذا الاعتراف كان موجودا فحسب، ولكن أكثر من ذلك على أنه قام على أسس عقَدية أيضا. بيد أن هذا الاعتراف لا يبلغ مستوى الاعتراف بالتعددية، أي بالمساواة بين أصحاب المذاهب والأديان المختلفة أمام الدولة والسلطة العامة أو في ظلهما، وإنما هو تسامح مع الجماعات الأقلية يستمر طالما بقيت هذه الجماعات تعبر عن اختلافها في محيط خصوصيتها، وقبلت بأن تعيش هذه الخصوصية في إطار داخلي، بل هامشي، لا يضعف موقع السيادة الإسلامية ولا ينزع إلى العمل في الفضاءات العمومية. هكذا يمكن للمسلم بل من واجبه التبشير بدينه، فالدولة دولته، لكن أي محاولة من قبل أصحاب المذاهب الأقلية لتقليده تثير ردا عنيفا وقاسيا يمكن أن يهدد مصير الجماعة نفسها. هذا يعني أن للأقليات الدينية حق العيش بسلام والمشاركة في الحياة الاقتصادية وأحيانا السياسية التنفيذية، لكن ليس لهم الحق في منافسة المذاهب الإسلامية على المستوى العقدي.

من هنا يأخذ شعار الدولة الإسلامية معناه. فهو تأكيد على أن السيادة في هذه الدولة للعقائد الإسلامية على غيرها من العقائد، كما أنه تأكيد لدور الدولة في الحفاظ على العقيدة الحقة ولمسؤولياتها الدينية.

 من الطبيعي والحال هذه أن تعود تقاليد حقبة ما قبل الحداثة وإسلام الانحطاط من جديد إلى الحياة، لكن في سياق جديد تماما. وليس المقصود من ذلك الدولة الإسلامية. فلم يكن لمثل هذا الشعار أي معنى أو وجود في تاريخ الدول الإسلامية التقليدية. ذلك أنه كان من مستوى الأمر الواقع والمعطى الذي لا جدال فيه، ولا يمكن أن يخطر على بال أحد الخوض في فكرته. فلم يطلق مؤرخ على الدولة الأموية والعباسية اسم الدولة الإسلامية. لكن انتشار أفكار الدولة الوطنية أو دولة المواطنية الحديثة التي لا تفرق بين المواطنين ولا تعطي لبعضهم أفضلية في المعاملة أمام القانون أو في الدوائر والمناصب الحكومية بحسب المذهب، قَوَّضَ ولا يزال يقوض أسس الممارسة السياسية التقليدية للمجتمعات الإسلامية، بقدر ما عنى تعطيل نظرية السيادة الإسلامية في البلدان ذات الأغلبية الإسلامية. فالدولة الإسلامية المنشودة في أدبيات الحركات الإسلامية المعاصرة لا تعني استمرار إلزام الدولة بمهام حماية الدين ورعاية شؤونه فحسب، ولكن أكثر من ذلك بتأكيد حق الأغلبية المسلمة في أن تحتفظ بالسيادة الدينية أو المذهبية ورفض مساواة المسلم وغير المسلم في الحقوق الدينية. وهو ما يعني في الواقع رفض الانتقال من صيغة التسامح التي كانت تمثلها نظرية أهل الذمة نحو صيغة المواطنة التي تعوم الأديان جميعا تجاه الدولة، ولا تترك لأي منها حصانة خاصة في مواجهة الأديان الأخرى.

 عاد الإسلام اليوم دينا اجتماعيا وجمعيا، بل يكاد يكون دينا قوميا، لا دينا شخصيا. بهذا المعنى هو دين دولة، دين ودولة بالفعل. بمعنى أن الدفاع عنه لا يتم داخل الذات والضمير والنفس، ولكن في المجتمع وفي المؤسسات العامة. هكذا ينزع الإسلام إلى أن يتحول هنا إلى عصبية، أي إلى انتماء لجماعة ومجموعة. ويصبح الدفاع عنه جزءا من الحفاظ على الجماعة ومصالحها وتأكيدا لهذا الانتماء لا هداية عقلية ولا تربية ذاتية مرتبطين بوعي الفرد وتقواه. إذا ضعفت العصبية تراجعت مواقع الجماعة وتهددت هويتها وتزعزع إيمان المسلم بدينه. والعصبية من دون دولة تخشى الانحلال والموت. فهي قائمة على القوة والوهم لا على اقتناع داخلي وتصديق وإيمان.

يكاد يكون من الصعب أن يقبل مسلم اليوم بمضمون الآية الكريمة: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون﴾. ومع انحطاط الطرق الصوفية أو تراجعها الطقوسي زاد اعتماد الإسلام المخفض إلى فقه وأحكام قانونية، أي الطالب للدولة التي تستطيع وحدها تطبيق هذه الأحكام، أو لدولة تطبقها، تكاد تمحى التجربة الدينية في الإسلام من حيث هي تربية ذاتية على طريقة الصوفية الأولين. فلم يعد يهم المسلم الممتثل للشرع في الواقع بماذا وكيف يفكر ويعمل مع ضميره، ولكن ماذا يقول عنه وكيف ينظر إليه الآخرون، أي ماذا سينال في مقابل سلوكه الممتثل للقواعد الفقهية من المجتمع ومن الله أيضا.

وعندما يخاف المسلمون من أن يؤدي زوال سيادة الإسلام كدين في بلد أغلبيته السكانية من المسلمين، فكأنهم لا يثقون بأنفسهم ويعتقدون أن تخلي الدولة عن دعم عقائدهم سوف يقود إلى ترك الناس للدين أو تراجع الدين من القلوب. كما لو أن تمسكهم بتسويد طابع الإسلام في دولتهم هو آخر ما تبقى لهم كي يوقفوا مسار سلبهم السلطة في هذه الدول. الإسلام السلطة؛ أي أسبقية المسلمين على غيرهم في بلاد الأغلبية الإسلامية، وتعميم رسوم الهوية الإسلامية في الفضاء العام على ما غيرها من الرسوم الغربية أو غير الإسلامية هو معقلهم الأخير.

ليست محاكمة المسلمين العفوية والشائعة خاطئة تماما. فليس هناك شك في أن الإقرار بأسبقية دين أو سيادته في إطار دولة ما يضمن لأصحابه مواقع متميزة في السلطة ويحرم الآخرين من إمكانية التوسع على حسابهم. فلم يكن الإسلام ليحتل المكانة التي له اليوم في البلاد العربية -خاصة في تلك التي كانت تسيطر عليها المسيحية- من دون فرض السيادة الروحية الإسلامية. وهي كما ذكرت لا تتناقض مع نظرية أهل الذمة. فبفضلها نجح المسلمون في التحول إلى أغلبية سكانية بعد أن كانوا أٌقلية. وربما عادت ذكرى هذه التجربة لتحكم تفكيرهم بالسلطة العمومية وعلاقتهم بها من حيث هم أعضاء في جماعة دينية، بعد أن درست آثار الوطنية الحديثة وأفل نجم القومية ومشاريعها التاريخية. يفاقم من هذا النزوع ما يعيشه الإسلام وجماعاته من تهميش داخل دولهم، وما يعانونه من غربة واستلاب فيها، بعد أن أصبحت مزارع خصوصية لأصحاب السلطة والمال المتحالفين مع الإمبراطوريات العالمية.

لكن، إذا كان من الصحيح -وهذا ما يعرفه القادة السياسيون- أن الإيمان ليس هو الحافز الوحيد لدفع الناس إلى الدخول في هذا الدين أو ذاك، أو أن نشوء هذا الإيمان لا ينفصل عن اتجاهات القوة والسطوة والسيادة التي تبرز هنا وهناك، وهو المقصود بشعار: الناس على دين ملوكهم، فإن من غير الصحيح أن ما صدق في الماضي يصدق في الحاضر. فقد تغيرت قواعد عمل النظم الاجتماعية وقيم الناس ومطالبهم الروحية والسياسية معا. ولم يعد من الممكن لأي جماعة خاصة أن تفرض السيادة العقائدية في بلد مهما كان نوعه أو أصله أو نسبة الأغلبية الدينية فيه، بل في بلد ليس فيه سوى دين واحد، من دون أن تخاطر بتدمير أسس عملية بناء الدولة والمجتمع معا(11). فلا حياة لمجتمع اليوم من دون حرية التفكير والتعبير وسيادة الفرد على نفسه. ولم يعد من الممكن المراهنة على التخويف من أجل فرض الالتزام الجمعي على الفرد. فإما أن يأتي ذلك كنتيجة للتربية الفكرية وتكوين الضمير أو لن يأتي أبدا. فالفرد اليوم حر بالمعنى الخام للكملة، أي أن لديه في المجتمعات الحديثة فرص كبيرة للتغلب على الرقابة الاجتماعية والالتفاف عليها. وما لم تصدر مواقفه عن إيمان فلن يقف شيء أمام استعداده للفساد. ولا بناء ممكنا للضمير الأخلاقي على قاعدة الإمعية والضغوط الاجتماعية والتخويف والترهيب والترغيب، على منوال التربية التقليدية. إن بناء الضمير الأخلاقي يتطلب بناء معنى الحرية التي هي أساس الشعور بالمسؤولية ومحركها. فالرجل العبد لا أخلاق له؛ لأنه مُرَبّىِ بالأساس -وهذا هو جوهر العبودية- على ألاّ يحترم نفسه، وأن يعمل كآلة وأداة في تنفيذ إرادة غيره وشهواته. والمجتمع الإسلامي شبه العبودي الذي خلفته قرون الانحطاط لم يستطع في الماضي القريب، ولن يستطيع اليوم أن يصمد، ولا أن يدافع عن الإسلام ويخلد تراثه وثقافته واسمه في عالم اليوم المفتوح والمتفتح، إذا لم يتحول إلى مجتمع أحرار ويصبح كل عضو فيه مسلما باختياره واقتناعه واجتهاده، أي بإيمانه، لا تعلقا بعصبية أو خوفا من عقوبة أو امتثالا ومسايرة للتوافقات الاجتماعية.

هل الإسلام مسألة إيمان تخص علاقة الفرد بربه، بصرف النظر عن جنسه وقوميته ومكان تواجده؟ وهل هو قادر على الحياة من دون دعم الدولة والسلطة السياسية، أم هو عقيدة وثقافة وهوية جمعية لا يقوم من دون سياسة وسلطة وغلبة؟ كما تَكَوَّن في الواقع التاريخي وكما وصل إلينا، هو من دون شك الإثنين معا. هو إيمان وإسلام، علاقة بالله وثقافة وفقه ومعارف اجتماعية. كان هذا طبيعيا في دول قائمة على الغلبة وتتماهى فيها الجماعة الغالبة مع الدولة. لكن هذا ليس ممكنا اليوم في دول حديثة ديمقراطية تعتمد فيها السلطة على الاختيار وتضمن المساواة بين جميع مواطنيها. وفي اعتقادي أن الإسلام قادر على الوجود والاستمرار بفعل الإيمان وحده ولا حاجة من أجل استمراره إلى الدولة والسلطة المرتبطة به أو الخاضعة له. وإذا كان الجواب أنه غير قادر، فهذا يعني أنه لم يعد موجودا أصلا كعقيدة أو اعتقاد؛ لأنه اعتراف بأن وجوده الراهن ناجم عن استمرار القسر بل القهر الرسمي، الحكومي أو الاجتماعي، وليس عن اقتناع وإيمان وتصديق. وما يقوم على القهر ليس دينا ولكن سياسة. وهو لا يستطيع أن يغير شيئا في تربية الفرد وبناء وعيه؛ ولكنه يؤسس للغش وفساد الضمير. أما إذا كان الجواب بنعم، فليس هناك ما يجعل المسلمين يخشون تعويم الأديان جميعا؛ أي الاشتراك في دولة مدنية مع غير المسلمين على قدم المساواة، والتنافس معهم على مستوى الفكر والعقيدة لكسب الرأي العام وجذبه إلى صف اختياراتهم وقيمهم. هل الإسلام ممكن من دون قهر، أم أن القهر جزء لا يتجزأ منه؟ هذا هو السؤال. وهو موجه إلى المسلمين قبل غيرهم.

بالتأكيد هناك من يقول: إن محمدا قد استخدم القوة وكذلك فعل الصحابة الفاتحون، وما كان لينجح من دونها. بيد أن القوة التي استخدمها الرسول، والتي مثلتها غزواته العديدة، لم تكن لنشر الدين ولا للدفاع عنه، وإنما لرد حروب المشركين الذين وقفوا بالقوة ضد الدعوة حتى حاولوا اغتيال الرسول نفسه. وهناك من سيحتج بقول عثمان: يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وهذا صحيح. لكن ليس له علاقة بالدين. إنه قول يؤسس للدولة والسياسة بقدر ما يؤكد أن الدين ليس كافيا لبناء سلطة عمومية مستقرة وراسخة، ولا بد لبنائها من استخدام السياسة والسيف الملحق بها. لسان حال الدين يقول العكس: يزع الله بالقرآن ما لا يزع بالسلطان، أو هكذا ينبغي على أنصار الدين أن يقولوا إذا كان هدفهم تبرير رسالة الدين وتعزيز موقعها. فإذا كان الله يزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن لم تعد هناك حاجة للدين، وكانت السياسة -بالمعنى العقلاني المجرد عن الدين- هي الأولى بالممارسة لبناء المجتمعات. ولكن السياسة ليست كافية، لا على شكل استخدام للقوة المشروعة ولا على شكل استخدام الحيلة. لا بد لبناء المجتمعات -ولا أقول الدول- من دين، أي من منظومة قيم عميقة وفاعلة، على درجة كبيرة من القبول الإيماني؛ أي التلقائي والاعتراف بالنجاعة والصلاح، وهو ما يحتاج إليه بناء المجتمع المؤسس للدولة. والمجتمع الذي يفتقر للقيم المعتمدة والجامعة والثابتة لا يستطيع أن يبني مجتمعات ولا دولا ولا أن يشيد حضارة.

***************
الحواشي
*) كاتب ومفكر عربي، السوربون، باريس.
 1- إلى هذه الفترة يرجع مصطلح العصور الوسطى الذي لا نزال نستخدمه اليوم، وكان أول من استخدمه فيافيو بيوندو الإيطالي لوصف الحقبة السابقة تمييزا لها عن الحقبة الجديدة التي أطلق عليها اسم النهضة.
2- (البروتستنتية) في موسوعة الأديان، بالفرنسية، يونيفيرساليس، مجلد 1، 2005م.
3- انظر رسائل مارتن لوثر الكثيرة وبشكل خاص الرسالة العنيفة بعنوان (بابوية روما أسّسها الشيطان). وفيها يلخص لوثر نقده للكنيسة البابوية المتمثل في رفض غفران القسيس للذنوب، وضرورة حرق صكوك الغفران وبالتالي إلغاء تكسب الكنيسة من الشعب، ورفض عزوبية الكهنه والقسس حتى تتوقف الدعاره في الأديرة والكنائس، وإلغاء القداس الإلهي وغفران القسيس لذنوب الميت حيث لا يغفر الذنوب إلا الله، وإلغاء تحويل القسيس للخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه باعتبارها عملية نصب وشعوذة. وقد بدأت حركة الإصلاح عندما نشر مارتن لوثر (1483-15460)بياناً يحتوي على 95 قضية ضد صكوك الغفران. ولصق البيان على باب كنيسة فتنبرج، في يوم 31 أكتوبر 1517م. كان ذلك ردا على إصدار بابا روما في سنة 1511م صكوك الغفران الشهيرة. وقد قاوم لوثر ضغوط البابا واستمر في دعوته المعادية للكنيسة والناقدة لسلوكها. وفي سنة 1520م نشر لوثر نداءه الشهير الموجه إلى (النبلاء العطايين في ألمانيا) وتلاه برسالة عنوانها: (في الأسْر البابلي للكنيسة). وفي كليهما هاجم المذهب النظري لكنيسة روما، فأصدر البابا لاون العاشر مرسوماً ضد لوثر يحتوي على 41 قضية. لكن لوثر أحرق المرسوم علناً أمام جمع حاشد من الأهالي والطلاب والعلماء في مدينة فتنبرج.
4- (الأخلاقيات البروتستنتية) المرجع نفسه، مجلد 3.
5- انظر: تأسيس الدين المسيحي، الذي طبع لأول مرة باللاتينية عام 1536م ثم بالفرنسية عام 1541م.
6- على طلب الكنيسة بالتراجع عن تصريحاته رد لوثر بالقول: سأظل ملتزما بالنصوص التوراتية التي ذكرتها، ما لم أقتنع بالنص أو بالبداهة العقلية بعكس ذلك، سوف أظل متمسكا بما ذكرته من نصوص الإنجيل. ذلك أنني لا أؤمن لا بعصمة البابا ولا بعصمة المجمع الكنسي، طالما أصبح من الثابت أنهما أخطآ أكثر من مرة وأظهرا تناقضا في مواقفهما وآرائهما. وما دمت أسير كلام الله، لن أستطيع ولا أريد أن أتراجع، فليس من اليقين ولا الخلاص في شيء وقوف الإنسان ضد ما يمليه عليه ضميره. ليكن الله في عوني، آمين. جان بول وليام، المرجع نفسه، مجلد 2.
7- إريك فوش، مرجع مذكور.
8- لا يعني ذلك أن الدنيا لم تكن مهمة في نظر الأفراد، في ظل الهيمنة الكنسية، فهي الغاية أولا وأخيرا، وإنما يعني أن النظر إلى الدنيا ومطالبها وحاجاتها كان يمر، أو بالأحرى كان ينبغي أن يمر حتما، عبر الاستعداد للآخرة، ويخضع لمتطلبات الخلاص في الآخرة، ولا يرتقي إلى مستوى الفعل الشرعي وذي المعنى من دون أن يتطابق مع المعايير والقيم الدينية، أي من دون أن يتحول أيضا إلى واجب ديني. هكذا كان الناس يعيشون على الأرض يتقاتلون ويتنازعون ويعملون وينتجون وينجبون ويرتكبون المعاصي، ولكنهم لا يفكرون إلا في آخرتهم، ولا يكادون يشعرون بأن للحياة على الأرض معنى، أو أنها تستحق التأمل في ذاتها، أو أن من الممكن والواجب تحسينها عن طريق الارتقاء بالتعليم أو التربية أو التنظيم الإداري والتقني. الحياة تعاش كما هي، أما الآخرة فهي مصدر المعنى والغاية. ولذلك ما كانت تبدو الحياة على الأرض إلا كمرحلة عابرة، وعتبة الولوج إلى حياة الخلود والسعادة المطلقة واللذة الأبدية غير الفانية.
9- هذا الازدهار العلمي والفكري الذي عرفه العصر الإسلامي الوسيط هو الذي يدفع الكثير من الباحثين إلى تقرير وجود بذور العلمانية في الفكر العربي الإسلامي نفسه. لكن لا يمكن المطابقة بين وجود التيارات العقلية المؤكدة على أولوية الرأي على الاتباع ووجود العلمانية بالمعنى الدقيق للكلمة. فالإشكالية لم تكن مطروحة في الفكر الإسلامي أصلا كما لم تكن مطروحة في الفكر اليوناني الكلاسيكي، وذلك بالضبط لغياب تحدي السلطة الكنسية السيدة أو الطامحة في فرض سيادتها العليا على السلطة الزمنية والعقلية أيضا. إنما ليس هناك شك في أن أشكالا متعددة من التمييز بين السلطات الدينية والسياسية قد وجد كما ذكرت أنا نفسي في أكثر من مكان في التاريخ الإسلامي، وبصورة عفوية وطبيعية طالما استقرت السيادة أو السلطان الأعلى لرجل الدولة لا لرجل الدين. انظر كتابي نقد السياسة: الدولة والدين، المركز الثقافي العربي، ط4، بيروت 2007م وكذلك جبرا الشوملي، العلمانية في الفكر العربي المعاصر، دراسة حالة فلسطين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2008م.
10- ومنه أيضا احتدام الصراع على الإسلام وسعي الأطراف المختلفة، الرسمية والشعبية، بل المحلية والدولية، إلى الاستفادة من الرصيد الروحي والتاريخي المرتبط به لتعزيز مصالح أو مواقع مهددة أو انتزاع بعضها الآخر. انظر على سبيل المثال رضوان السيد، الصراع على الإسلام، الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، دار الكتاب العربي، بيروت، 2004م.
11- هكذا لأول مرة منذ عقود طويلة تداولت الصحافة السورية في مطلع هذا العام ما سمته مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد. وقد أوردت فيه أكثر من عبارة تشير إلى أهل الذمة. وقد أثار هذا المشروع من ردود الأفعال العنيفة من قبل قطاعات واسعة من الجمهور. ما حفز السلطات إلى سحبه من التداول وإنكار وجوده أصلاً.