mercredi, août 31, 2005

عندما يصبح الاحتلال تحريرا

اتحاد 31 أغسطس 05
كتب إليَّ من ألمانيا طالب عراقي رسالة إليكترونية يقول فيها بالحرف "أنا كإنسان أؤمن تماماً بفصل الدين عن الدولة, والديمقراطية ولكنني في ذات الوقت أشعر بالظلم الطائفي الذي وقع على أبناء طائفتي الشيعية في العراق منذ زمن طويل جدا يقارب عمر الإسلام. وعلى هذا أرى فيما فعلت أميركا تحريراً للعراق رغم كل المآسي التي صاحبت الحرب. هل مازلت تظن أن أميركا باحتلالاها للعراق قد عادت بشكل جديد من الاستعمار أم أن العصر اختلف وأن من مصلحة الشعوب العربية التحالف مع أميركا ضد الحكومات الفاسدة وفي ذات الوقت مساهمة المثقفين العرب أمثالك في إعطاء الروح لنهضة عربية جديدة؟ أشكرك على إجابتك ولكن إذا لم تجبني فسأشعر بإحباط كبير لأنني لو قمت بسؤال أحد أساتذتي هنا في الجامعة لقام بإجابتي بالتأكيد. وهذا ما أتوقعه منك أيضا".ويلخص هذا السؤال لوحده مأساة العراق التي تمد جذورها في قاع التحولات السياسية للمجتمع العراقي ذاته في ما وراء تدخل الولايات المتحدة الأميركية وبصرف النظر عنها. فهو يعكس عمق الأزمة التي تعيشها الوطنية العراقية والتي تدفع إلى أن تكون للحدث نفسه، وهو هنا احتلال القوات الأميركية للعراق، قراءات متباينة بل متعارضة تماما بحيث إن ما يبدو عملية تحرير لفريق من المجتمع يظهر كعودة للاستعمار الصريح في أعين الفريق الآخر. وهو ما يدل على زوال المرجعية الواحدة التي لا غنى عنها في أي سيرورة بناء وطني والتي تشكل وحدها الأساس العميق للتضامن والتكافل والمصير المشترك. وهو ما يفتقد إليه الشعب العراقي اليوم كما يبدو من تعدد القراءات وجداول الأعمال للأطراف العراقية المتعددة. وبعكس ما تشيعه الأوساط القومية في سعيها المشروع لإدانة الاحتلال وتحميله تبعات ما يحصل اليوم في العراق، لم يكن الغزو الأميركي منشيء هذا التفكك وإنما الكاشف له بقدر ما مثل الحدث الذي وضع الوطنية العراقية على المحك. وهذا التفكك هو الذي يفسر الانسداد الحاصل في الوضع العراقي والذي يتجلى من جهة في استمرار الاحتلال في العراق، بالرغم من الإخفاق المريع للحملة الأميركية وتفاقم توجه واشنطن نحو ما يشبه الورطة الفيتنامية، كما يتجلى من جهة ثانية في عجز المقاومة العراقية التي أثبتت قدرة غير متوقعة على المواجهة والاستمرار عن الانتصار. فتحقيق مثل هذا الهدف، بما يعنيه من استعادة استقلال البلاد وتأكيد سيادتها ووحدتها، يستدعي تجاوز انفراط عقد المجتمع السياسي العراقي الذي أتى بالاحتلال وتراجع المخاوف من أن يتحول الانتصار، مع استمرار التنابذ الراهن بين الطوائف والقوميات المختلفة، من تحرير للعراق إلى مواجهة عراقية- عراقية. ومن هنا لا ينفصل مصير الاحتلال ومساره عن ديناميكيات الصراع الخاصة بالمجتمع المحتل نفسه. وهذا يذكرنا بأمثلة تاريخية كثيرة سابقة استقبلت فيها شعوب أو فئات كبيرة منها الغزاة استقبال الفاتحين أملا في التحرر من قهر النخب الفاسدة المستبدة والجائرة. وهذا ما حصل للشعب العراقي أو لجزء كبير من قواه السياسية التي سعت جميعاً، وليس فقط أحمد الجلبي وإياد علاوي، إلى التحالف مع الولايات المتحدة للقضاء على نظام أصبح عقبة أمام تقدم المجتمع وازدهاره. لكن الاعتراف بمسؤولية النظام الشمولي البعثي عن الانقسام الطائفي والقومي الخطير الذي دفع العراق إلى الانزلاق في هذه الوضع المأساوي لا يغير من طبيعة العمل الذي قامت به الولايات المتحدة ولا من مسؤولياتها في ما وصل إليه العراق أيضاً من خراب وتخريب. فالتدهور الذي شهده الوضع الأمني بعد العراق هو النتيجة الطبيعية للأسلوب الانفرادي والعنجهي الذي اعتمدته واشنطن في مواجهة النظام الشمولي ولسوء معالجتها الكبير للأزمة العراقية. ولا يمكن فصل هذا الأسلوب ولا تلك المعالجة عن غاية الاحتلال نفسه، أي عن حقيقة أن الولايات المتحدة لم ترسل قواتها إلى العراق لتحرير الشعب العراقي وإنما لتحقيق أهداف استراتيجية تخدم مصالحها القومية العالمية وفي مقدمها استكمال سيطرتها على منابع الطاقة الرئيسية للدول الصناعية بالإضافة إلى استغلال موقف الضعف العربي الشامل من أجل إنهاء النزاع العربي الاسرائيلي لصالح إسرائيل ولتكريس مكتسباتها الاستراتيجية. فلا ينبغي للقراءات الذاتية التي تعكس المصالح والرؤى المتناقضة للأطراف المحلية أن تطمس القراءة الموضوعية التي ترى في الحدث تعبيراً عن نزوع القوة العالمية الأعظم إلى إعادة هيكلة المنطقة الشرق أوسطية بما يتفق مع استراتيجية سيطرتها العالمية. وهو ما تؤكده الدبلوماسية الأميركية ذاتها. إن ما يفسر بقاء الاحتلال في العراق بالرغم من الفشل الذريع لخطط البنتاغون العسكرية هو انقسام العراقيين أنفسهم وغياب أي أجندة وطنية عراقية. وفي مقابل ذلك تتنازع العراق وتتقاسمه ثلاث أجندات طائفية وقومية رئيسية أولاها وأقواها نفوذا الأجندة الكردية التي تسعى إلى التعامل مع الاحتلال حسب ما يفيد في تحقيق حلم الاستقلال وتستفيد من الوقت لرسم حدود الدولة الكردية الجنينية أو المستقبلية. وهي تعكس الشعور السائد لدى الأكراد بأن تحقيق هذا الأمل لم يكن في متناول اليد كما هو الآن إثر تفكك الوطنية العراقية. وفي المقابل تسعى النخبة الشيعية التي عوملت لفترة طويلة كنخبة ثانوية وتابعة إلى تطبيق أجندة خاصة تضمن لها تأكيد حضورها ومركزها الأرجحي بوصفها المعبرة عن الأكثرية العددية العراقية. بينما تميل النخب السنية التي تماهت في العقود الطويلة الماضية منذ تأسيس العراق الحديث مع الدولة المركزية العراقية، وليس بالضرورة مع السلطة البعثية، ولم تعانِ من مشكلة تمييز طائفي، إلى تحقيق أجندة مقاومة سياسية عامة لا تتطابق بالضرورة مع أجندة القوى الجهادية الإسلامية وإن تقاطعت معها. فهي لا ترى في الاحتلال إلا عملية تدمير للدولة العراقية ونشر للخراب والفوضى وتآمر على القوة العسكرية العراقية لصالح الدولة الصهيونية.ومما لا شك فيه أن نظام الاستعمار الداخلي وما رافقه من القهر والتمييز الطائفي والأقوامي والسياسي، وما ارتبط به من سياسات التلاعب بهوية السكان ومصالحهم وحقوقهم، هو المسؤول الأول عن دمار الوطنية العراقية في نموذجها الأول الذي ولد في معركة الصراع ضد الاحتلال الاستعماري وبفضلها. ولن يكون من الممكن الانتصار فعلا على مشروع الاحتلال والوصاية الأجنبية ما لم تنجح النخب العراقية في إعادة بناء الوطنية العراقية وقبل ذلك في التوصل إلى أجندة مشتركة تعمل إلى دفع العراق في هذا الاتجاه. ولا يتعلق الأمر بكلمة تقال، ولكن بتحد نظري وعملي كبير يحتاج رده إلى تجديد حقيقي في معنى الوطنية التي بقيت حتى الآن رديفاً للتفاهم ضد الاحتلال الأجنبي لا غير، كما يحتاج إلى تسويات عملية خلاقة تؤسس لنظام المواطنية المتساوية من دون أن تثير حفيظة الولاءات والانتماءات والهويات الثقافية والدينية الخصوصية أو تشكل تهديداً لشبكات التضامن التي تمثلها. وهو برنامج تاريخي لا ينفصل عن برنامج البناء الوطني/ المواطني بالمعنى العميق للكلمة.

jeudi, août 18, 2005

انقسام المثقفين بين العلمانية والاسلامية

الرأي 18 أغسطس 2005

تندرج أزمة المثقفين العرب، بجناحهم العلماني وجناحهم الاسلاموي معا، في إطار الأزمة التاريخية الشاملة التي تضرب الاجتماع العربي بأكمله. وهي الأزمة التي يعبر عنها الإخفاق المزدوج لمشروع الحداثة والبناء الوطني الذي كان موضوع استثمار تاريخي طويل عند المثقفين المحدثين من جهة ولمشروع إعادة تأسيس الهوية وتثبيتها على أسس إسلامية في مواجهة الهيمنة الغربية الذي انشغل به المثقفون الاسلامويون من جهة ثانية. وليس لهذه الأزمة علاقة ضرورية بالقيم التي يدافع عنها هذان الفريقان ولا بطبيعة المهام التي نذرا نفسيهما لها. إن جذورها تضرب عميقا في البنى والعلاقات الجوسياسية والجيواستراتيجية التي حكمت ولا تزال تحكم مشروع الحداثة العربية وتحدد آفاق تطوره أي البنى المعنوية والمادية معا. بل ليس الشرخ الذي يؤسس للفكر العربي الراهن ويفصل بين ضفتيه ومحوريه، بين إسلامييه وعلمانييه، سوى الصدى المباشر لغياب آفاق التحول التاريخي الفعلية في المنطقة. ولن تكون هناك إمكانية للخروج من الأزمة الفكرية التي تكرس انقسام النخبة المثقفة، وبالتالي تهميشها وانعدام فعاليتها المجتمعية، من دون أن تتحقق تغييرات أساسية في الظروف العامة تخلق فرصا جديدة للتقدم وتسمح بإعادة إطلاق المبادرة التاريخية في المجتمعات العربية وتوفر الأدوات والعناصر المادية والمعنوية اللازمة لتسريع وتيرة التنمية الحضارية.
لا يبشر الضغط العالمي القوي الراهن على المنطقة الشرق أوسطية اليوم في نظري بمثل هذا الانفتاح القريب كما لا يبشر به أيضا تدهور الأوضاع الإقليمية والوطنية التي تشير إلى استمرار النزاعات الداخلية وتجددها وتفكك النظم الحاكمة وفسادها وتهافتها معا. وهو ما يعزز احتمال سيادة طروحات الانكفاء على الذات والتمسك بالثوابت وتعميق النزعة الإجماعية والتوافقية في كل بلد ضد ما يتجلى من تهديدات جدية للهوية والاستقلال الجماعي. ولا يزال من الصعب تصور طفرة تقود إلى التخلي عن الرؤى المسيانية أو الخلاصية التي تحرك العديد من قطاعات الرأي العام الاسلامي وتزيد من احتمال تحول الحركات الاسلاموية بشكل فعلي في اتجاه الديمقراطية على منوال التحول الذي سمح لحزب العدالة التركي بتجاوز الحواجز العقلية والدينية التقليدية والقبول بالسلطة كوسيلة لإدارة الشؤون العامة في شروط الاكراهات التاريخية وبالتعامل مع الواقع والتكيف معه.
وبالرغم من العودة الرائعة للفكر النقدي في عموم البلاد العربية، لا يزال من المبكر أيضا الحديث عن طفرة في الوعي العربي العام تقوده إلى استعادة زمام المبادرة العقلية والحضارية من جديد قبل أن ينجح المثقفون في هضم صدمة الإخفاق التاريخي الذي ساهموا فيه ومن دون نقد التجربة الماضية والخروج منها بدروس ايجابية ومعرفة طبيعة الاختيارات الأساسية التي تحتاج إليها إعادة بناء الرؤية التاريخية وإنارة مسار النشاط الجمعي القادم. وهو ما يستدعي من قبل التيارات الإسلاموية تعميق المعرفة بمعنى التجدد الاسلامي أو تجدد الهوية وكيفيته وشروطه وفرصه، كما يستدعي من قبل التيارات التحديثية النجاح في بلورة مشروع تاريخي ل"لتقدم" العربي المنشود، إذا كان التقدم لا يزال هدفا ممكنا وقائما.
وسيتحتم على التيارات التحديثية في هذه الحالة العمل على إعادة تعريف معنى التقدم: هل هو تجاوز للتأخر بالمقارنة مع البلدان الصناعية أو التكنوعلمية وبالتالي استدراك ما لم يتم إنجازه من مهام بوسائل مختلفة ليبرالية أو دولوية أم هو اندراج في الدورة الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية للحضارة الانسانية الراهنة. وعندئذ يطرح سؤال: كيف يكون الاندراج وما مضمونه وما هي استراتيجياته ووسائله. أليس من الممكن الافتراض بأن سبب فشل التجربة الماضية للقرنين السابقين، أي التقدم عن طريق إصلاح الدين أو إصلاح الدولة (الملكية الدستورية) أو إصلاح العلاقات الجيوسياسية (الوحدة العربية)أو إصلاح المجتمع (الاشتراكية والمجتمع المدني) كامن بالضبط في تصور التقدم استدراكا للتأخر وتجاوزا له أم شقا لطريق جديدة تسمح، انطلاقا من المعطيات المحلية، لكن حسب مباديء كونية وعامة، بإعادة البناء المجتمعي الشامل في مستوياته المختلفة الاخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ هل يمكن تجاوز "التخلف" من دون إعادة تأسيس فلسفة "التقدم"؟ بل هل لا يزال هذا الزوج من المفاهيم مناسبا لطرح موضوع التحول المجتمعي في العالم العربي وفي غيره من البلاد؟ باختصار، هل المسألة مسألة تجاوز واستدراك أم هي مسألة إعادة بناء مجتمع كامل خرب ومتآكل، بصرف النظر عن أي مقارنة مع أي جماعة أخرى. وفي هذه الحالة سنجد أنفسنا أمام أسئلة جديدة سمحت لنا إشكالية استدراك التأخر، بالمنظور الاصلاحي الديني أو الليبرالي وبالمنظور الرديكالي الثوري الماركسي أو القومي، بالتهرب منها وتأجيلها وهاهي تعيد طرح نفسها علينا أكثر قوة من قبل: أي ثقافة وأي أخلاقية وأي دين وأي دولة وأي سياسة وأي قومية وأي علاقة بالمجموعة الانسانية، أي حضارة وأي طريق ومنهج لاستيعابها؟ باختصار، أي حداثة للعالم العربي أو أي حداثة عربية؟

وما يقال عن مفهوم التقدم وضرورة مراجعته يقال بالمثل عن مفهوم التجدد الذي يؤلف محور تأمل المثقفين الاسلامويين وتفكيرهم. فما المقصود بالتجدد؟ هل هو إحياء القيم العربية والاسلامية الأصيلة التي عرفتها المجتمعات العربية في الحقبة الاسلامية الأولى والتي كرست استقلالها السياسي والثقافي وقدرتها الابداعية وحولتها إلى بؤرة رئيسية إن لم تكن البؤرة الأولى للحضارة في عصرها؟ وهل يقوم هذا الإحياء على العودة إلى الصيغ المجتمعية والفكرية التقليدية أم يتطلب بالعكس تبديل هذه الصيغ الجامدة والمفوتة التي تمنع الأنا العربية أو الإسلامية من التفاعل مع العصر ومن مسايرة المطالب التاريخية الخاصة بالانخراط الايجابي في الحضارة الفكرية والمادية الراهنة؟ وما هي الطريق أو الوسيلة لتحقيق هذا التجدد في الماهية أو الهوية العربية الذي يشكل من زاوية نظر الاسلاميين أساس التجدد الثقافي والسياسي والحضاري معا؟
وبقدر ما يلح أصحاب هذا المذهب على محورية العمل على الذات وتحريرها من الاستلاب والتبعية والنسيان في مقابل التحديثيين الذين يركزون بالعكس على الشروط الخارجية لبناء هذه الأنا التاريخية والحضارية، يبدو لي أن السؤال الأكبر والأكثر راهنية - الذي ربما تشكل الاجابة عنه المدخل إلى جميع الإجابات المطلوبة على الأسئلة الأخرى العديدة بقدر ما تشكل شرط تجاوز القطيعة بين تيار الهوية وتيار الحداثة - هو التالي: هل يمكن تحقيق التقدم، أي تغيير شروط وجود المجتمعات العربية بما يجعلها أكثر توافقا مع متطلبات الحياة الحديثة ومعاييرها من دون تجدد الهوية، أي من دون تغيير مسبق في طبيعة الأنا الجمعية الفاعلة، وهل يمكن تحقيق تجدد الذات أو إعادة بناء هذه الأنا الجمعية القائمة وراء أي تغيير تاريخي، تقدما كان أم تجددا، بمعزل عن الشروط التاريخية أو من خارجها؟ وأي علاقة ممكنة ينبغي بناؤها بين مساري التغيير المطلوب على مستوى الواقع ومستوى الذات معا؟

هذه هي المسائل النظرية المطروحة على المجتمعات العربية للرد على تحديات التغيير المنشود والتي يتوقف على المثقفين العرب في العقود القادمة توفير الاجابات المتسقة والعقلانية عنها للحصول على موقع في خريطة السلطة الاجتماعية واستعادة المبادرة التي كانت للمثقف منذ بداية النهضة العربية.
لكن نستطيع منذ الآن أن نقول لتأكيد تفاؤل فعلي لا مصطنع: إن انخراط المثقفين الراهن أو بعضهم في السنوات الماضية، وبشكل أكبر فأكبر اليوم، إلى جانب الشعوب في معركة انتزاع الحقوق المدنية والسياسية، أي في مسيرة التحولات الديمقراطية العميقة، في إطار الهيئات المدنية والسياسية معا، وإن كان لا يقدم مثل هذه الإجابات المنتظرة بعد، إلا أنه يشكل المدخل الضروري الذي يعيد المثقف إلى مجتمعه ويمكنه من استعادة دوره في توجيه المسيرة العامة بقدر ما يسمح للمثقفين بالانخراط في الممارسة العملية ويقدم لهم فرصة الالتقاء في المعركة الواحدة من أجل الحرية والاستقلال عن الوصاية السياسية والأبوية معا. ومن هنا تمثل المشاركة في معركة الديمقراطية المفتوحة في البلاد العربية خشبة الخلاص الرئيسية اليوم إن لم نقل الوحيدة لخروج المثقفين كفاعل اجتماعي من نفق الانهزامية واحتقار الذات والهامشية للالتحاق بقاطرة التحول التاريخية العتيدة. وبقدر ما تساهم هذه المعركة في تحقيق التغيير واستعادة الأنا التاريخية المبادرة في استيعاب الحداثة وتوطينها تمهد الأرض لتجاوز القطيعة بين تيارات إسلاموية وتيارات علمانوية متنافية وتهيؤ للخروج من فقر المقاربة التاريخانية وسحرية المقاربة الثقافوية ورؤيتها الحضاروية التبسيطية معا.

mercredi, août 17, 2005

التاريخانية وترف التفكير في الديمقراطية

اتحاد 17 آب أغسطس 2005
في رده على مقال كنت قد كتبته في موضوع التمييز بين مفهومي الليبرالية والديمقراطية كتب الزميل عبد الرزاق عيد مقالا عنيفا بعنوان "النخب السورية وترف الاختيار بين الديموقراطية والليبرالية!" ( كلنا شركاء 8/8/2005 ) اعتبر فيه أن هذا التمييز هو من نوع الترف العقلي في بلد يعيش منذ أكثر من أربعين عاما تحت نير الشمولية والنظم الاستبدادية. والحجة الوحيدة التي يقدمها لتبرير موقفه من هذا التمييز الذي يندرج في مناقشة المسائل النظرية والاستراتيجية المتعلقة بعملية التحول الديمقراطي في سورية والبلاد العربية، هي أن "المجتمع السوري بحاجة، من منظور تاريخانية ماركس ذاته، إلى مرحلة انتقالية ليبرالية (عارية بلا لبوس) وبدون شروط بمعناها القاع ، الخام (الحرية كذات دون صفات ) ، بمعناها الطازج بدون أية منكهات ، تماما مثلما استلهمها الفكر الليبرالي العربي التنويري منذ بداية القرن العشرين من الكتاب الشهير لجان ستيوارت ميل "في الحرية" الذي لا يزال يمارس مرجعيته النظرية حتى اليوم ، حتى في المجتمع الأمريكي ذاته الأكثر تفننا وتفكها بأنواع الليبراليات القديم منها والجديد". فلا يملك المجتمع السوري المبتلي بالاستبداد ترف النقاش في موضوع الحرية ولا التفريق والتمييز ومن باب أولى كما يذكر في عنوان مقاله الاختيار بين الليبرالية والديمقراطية.
والواقع أن هناك في هذا الرد سوء فهم وابتعاد كبير عن مضمون المقال الذي كتبته وهدفه معا مردهما الاختلاف بين المنهج التاريخاني الخطي الذي يأخذ به عبد الرزاق عيد، وهو ما أوحى له الرجوع إلى كتابات عبد الله العروي وياسين الحافظ،، ومنهج النقد التاريخي الذي أتبعه والذي لا يعتمد نظرية المراحل التاريخية المتعاقبة وإنما السياقات التاريخية الخاصة والمركبة.
وسوء الفهم واضح في عنوان الرد نفسه. فليس في ما كتبته ما يشير من قريب أو بعيد إلى ضرورة الاختيار بين الليبرالية والديمقراطية على الإطلاق وإنما التمييز بينهما حتى لا يبتلع مفهوم الليبرالية إشكالية الديمقراطية نفسها ويحرم أولئك الذين لا يؤمنون بالليبرالية كفلسفة للحياة أو كاستراتيجية تنمية إقتصادية من حقهم في الانتماء إلى الديمقراطية والتمسك بنظامها من قوميين ويساريين وإسلامييين. فمستقبل الديمقراطية عندنا كما ذكرت يكمن في تعميم مفهومها وإرادة الأخذ بنظامها عند جميع التيارات الفكرية والسياسية لا حصرها بفريق ايديولوجي واحد وإدانة الآخرين بالبقاء، مهما حصل لهم من تجارب، في إطار الشمولية أو إغلاق الطريق أمام احتمال تقدمهم نحو مواقف ديمقراطية. ويفهم من هذا التمييز كما هو واضح أن من الضروري أن تفتح الديمقراطية صدرها لغير الليبراليين ولا يمكن بأي حال أن يفهم منه أن المطلوب هو الاختيار بين الديمقراطية والليبرالية أو أن الليبراليين لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين. ولا من باب أولى أن الديمقراطية تتطلب رفض الليبرالية أو العكس.
ومن بين الحجج التي استخدمتها لتبرير موقفي النظري في أهمية التمييز بين المفهومين أو عدم المطابقة بينهما هي أن الليبرالية نفسها من حيث هي مفهوم ونظام اقتصادي اجتماعي هي ظاهرة تاريخية متطورة ومتغيرة. ولذلك لا يمكن الاستمرار في استخدام مفهومها كما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر من دون النظر إلى الدلالات الجديدة أو الإضافية التي اكتسبتها عبر التجربة التاريخية. فهي لا تستخدم اليوم في الفكر السياسي المعاصر للتعبير عن فلسفة الحرية الفردية، كما يستخدمها خطاب النخبة العربية الراهنة في سعيها إلى التمايز عن النظم الشمولية، بقدر ما تشير إلى نموذج من النظم الاجتماعية التي لا تهتم بالحريات الفردية والمعايير الإنسانية في إدارة المجتمعات وتنظيمها بقدر ما تعطي الأولوية لمنطق النمو الاقتصادي الذي تعتقد أنه القاطرة لكل أشكال النمو السياسي والثقافي الأخرى. ولذلك ترتبط كلمة الليبرالية المتجددة منذ السبعينات من القرن الماضي بسياسات الخصخصة وتصفية دولة الرعاية الاجتماعية وترجيح كفة رجال الأعمال على حساب طبقات المنتجين وما كانوا يتمتعون به من ضمانات اجتماعية وتأمينات. وفي العموم يرتبط مفهوم الليبرالية اليوم بالتركيز على سياسات السوق العالمية وحرية التجارة وخلق شروط جذب الاستثمارات والرساميل لتحسين فرص التقدم الاقتصادي والتكيف مع حاجات توسع الرأسمالية العالمية. وعندما نصف اليوم في النقاش العالمي حكومة ما بالليبرالية فليس ذلك من أجل الإشارة إلى أنها تعتمد نظام التعددية السياسية أو الاعتراف بالحريات الفردية، وهو تحصيل حاصل بعد انهيار الفكرة الشمولية، وإنما بالعكس من ذلك للإشارة إلى أنها تتبع سياسات تخضع فيها حريات الأفراد وجميع الحقوق الإنسانية، التي استندت في نموها التاريخي إلى فلسفة الليبرالية الكلاسيكية، لمنطق التوسع الاقتصادي وتوحيد الأسواق العالمية وتشجيع الاستثمار، أي باختصار لتقديم مصالح رأس المال وفرص نموه على مصالح الفرد في العدالة والحرية والمساواة. وفي المقابل أصبح الدفاع عن هذه القيم وفي مقدمها توسيع اختيارات الفرد وضمان حرياته الأساسية محور برامج اليسار الذي تراجع نحو مواقع إنسانوية بعد أن انهارت برامجه التقليدية الوضعانية.
لكن حتى قبل هذا التاريخ، لم يكن التطابق بين الرأسمالية والحريات السياسية والمدنية هو السمة الغالبة على الليبرالية. فقد شهد القرن الماضي، خارج الدائرة الغربية والأطلسية عموما، تجارب اجتماعية عديدة لم ترتبط فيها الليبرالية الاقتصادية بالديمقراطية السياسية. وهو ما ميز تجربة اليابان قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية كما ميز في العقود القليلة الماضية تجربة النمور الآسيوية وما يميز اليوم تجربة أكبر جماعة سياسية قائمة، أعني الصين. ويشير ذلك كله إلى أنه لا يوجد تطابق حتمي أو كلي أو بالمطلق بين الاختيارات الاقتصادية الليبرالية والاختيارات السياسية الديمقراطية. ومن هنا قلت إن من المفيد لأصحاب التيار العربي الليبرالي الوليد أن يدخلوا هم أيضا هذا التمييز في حسابهم حتى لا ينخدعوا باحتمال صدور الديمقراطية تلقائيا عن تطبيق سياسات الخصخصة والاندراج في السوق العالمية وأن يدركوا أن تحقيق هذه الديمقراطية ليس تحصيل حاصل وإنما يحتاج إلى عمل سياسي كبير وواسع على المستويات النظرية أولا، أي في مجال تعميق الوعي بها وبمتطلبات تحقيقها، وعلى المستويات العملية ثانيا التي تعني النجاح في بناء الفاعل الاجتماعي المؤهل لبنائها أو القادر عليه. لا يعني هذا أبدا أن الليبرالية مناقضة للديمقراطية أو أنه لا معنى لقيام حزب ليبرالي في العالم العربي. إنما يعني أن تبني الليبرالية لا يؤسس اليوم لوحده لإدراج البلاد والمجتمعات في مسار الديمقراطية ولا يعفي من العمل الموازي لتأمين الشروط الإضافية، النظرية والعملية أيضا، لتعزيز فرص اختيار نظام الحريات الفردية. ولعل إدراك الليبراليين العرب الجدد لهذه الحقيقية هو الذي دفعهم لإطلاق اسم الليبراليين الديمقراطيين على حركتهم وليس الليبراليين فحسب.
وهذا يعني أننا لن نستطيع بلوغ الوضعية المجتمعية السياسية التي تسمح بالانتقال من نظم السلطة المطلقة إلى نظم تعددية ثم ديمقراطية من دون أن ننجح أولا في حل التناقضات القائمة داخل الوعي المجتمعي نفسه، أي في بلورة رؤية متسقة للعملية التحويلية، وثانيا في بناء قطب ديمقراطي واسع يضم جميع أو أغلب تيارات الرأي العام العربي. فلا يكفي للوصول إلى الديمقراطية أن يتبناها الليبراليون من دون الآخرين وأن ينكروا على خصومهم الفكريين من القوميين واليساريين والاسلاميين حقهم في اعتماد الديمقراطية أو الانتماء لنظامها وفكرتها. إن تقدم قضية الديمقراطية يحتاج إلى تبنيها من قبل الجميع، قوميين ويساريين وإسلاميين، حتى لو لم يكن هذا التبني على مستوى واحد وبشكل كامل. ومن مصلحة الديمقراطيين أو من يكافحون بالفعل من أجل مجتمعات عربية ديمقراطية عدم قصر أبوة هذا النظام على تيار من دون غيره وبالعكس إظهار اتساقه مع جميع التيارات الأخرى أو إذا أمكن بناء هذا التوافق والاتساق.
واضح إذن أننا هنا في مجال التدقيق المفهومي الذي لا بد منه لصوغ أي رؤية نظرية متسقة لا غنى عنها لتطوير الممارسة السياسية، وهنا بيت القصيد. بالمقابل عندما يكتب عبد الرزاق عيد بأننا لا نملك ترف التدقيق في مفهوم الليبرالية والديمقراطية في ظروفنا الصعبة الراهنة وعلينا أن نقبل بالليبرالية بعجرها وبجرها كما تفرض علينا، فهذا يفترض أن الليبرالية والديمقراطية آتيين إلينا على حصان التاريخ الأبيض من تلقاء نفسهما ومن المحتمل أن تؤدي اشتراطاتنا عليهما إلى تجفيلهما ومنعهما من الوصول. فعلينا أن نقبل بهما كما هما ولا نصعب الأمور علينا وعليهما. بل يفهم من كلامه أن مثل هذا التفكير بشروط تحقيقهما هو من قبيل التدلل أو حتى البطر الذي يؤدي بصاحبه إلى الخسارة لا محالة. وهذا يعني أن عبد الرزاق قد فهم أن معركتنا كانت ضد الليبرالية وما تعنيه من اعتراف بالحريات الأساسية وأن تمييزنا المفهومي لم يكن سوى ذريعة للجم هذه الحريات الفردية التي تعد بها الليبرالية باسم قيم لا حاجة إلى التذكير بها مثل المساواة والعدالة الاجتماعية.
والحال أن مشكلتنا ليست كما يعتقد عيد في تقليم أظافر الليبرالية السياسية التي تتجه إلينا ولا في رفضنا لها وإنما بالعكس في عدم قدومها أو صعوباته الجمة، مما يحتاج إلى عمل ضروري لتذليل العقبات التي تحول دون قدومها وتوسيع دائرة الاستقطاب الديمقراطي الذي يحتاج إليه بناؤها أكثر مما يحتاج إلى مديح ظلها أو الاختيار بين أشكالها. ولو كنا ضامنين لحركة التاريخ التلقائية التي تدفعنا نحو الليبرالية الديمقراطية ومؤمنين بها لأصبح التفكير النظري في إشكالية الديمقراطية ترفا عقليا بالفعل. بيد أن المشكلة هي أن الليبرالية والديمقراطية ليستا تحصيل حاصل ولا يمكن الوصول إليهما من دون السعي إليهما. فهما نتيجة عمل المجتمع وكفاحه النظري والعملي وليس ثمرة حتمية تاريخية. ومن الممكن في غياب مثل هذا العمل أو بسبب عدم اتساقه أن لا نعرف أيا منهما، أقصد لا الليبرالية الاقتصادية المحركة لاقتصاد السوق الرأسمالي المنتج ولا الديمقراطية المكونة لمواطنية حقيقية حرة ومتساوية. فلا شيء يمنع من أن يأتي الانفتاح الاقتصادي كما حصل حتى الآن في صورة إعادة بناء للسوق الاحتكارية العائلية أو المافيوية. كما لا شيء يمنع من أن يترافق اقتصاد السوق الاحتكارية المافيوية بديكتاتورية عسكرية أو مدنية. فكلاهما ثمرة بناء اجتماعي. وطبيعتهما مرتبطة بنوعية هذا البناء واتساقه النظري والعملي. ومن دون هذا العمل البناء لن يقدم التاريخ بذاته شيئا، لا رأسمالية ولا ليبرالية ولا ديمقراطية، وإنما الفوضى والخراب فحسب.
ومن الواضح أنه من الصعب فهم ذلك إذا بقينا مشدودين إلى فكر ما قبل نهاية الحرب الباردة ولم نستوعب دروس الثورة المعرفية الجديدة التي قادت إليها أزمة الحداثة. وهذا ما يقودنا إلى جوهر موضوع الخلاف أعني الاختلاف المنهجي. فبعكس ما تشير إليه المدرسة التحديثية التاريخانية والوضعانية العربية التقليدية التي وجهت لها النقد في كتاب "المحنة العربية"، وهي المدرسة التي يجسدها على أفضل وجه عبد الله العروي ويسين الحافظ وكثير من التنويريين والتقدمويين الحاليين الذين يستشهد بهم الزميل عبد الرزاق عيد، أنا لا أعتقد أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ مراحل متعاقبة حتمية. ولا ينبع ضعف التجربة العربية من أننا لم نمر بالمرحلة الليبرالية التي لا بد منها حتى نستطيع الوصول إلى المرحلة الاشتراكية. كما أنني لا أعتقد أن الأصل في مشكلة الاشتراكية كما كانت مطروحة في الستينات والسبعينات في بلادنا نقص التقاليد الليبرالية ولكن بالعكس تماما، انعدام شروط إعادة إنتاج الليبرالية "الأصلية" أو "الحقيقية" ذاتها. ولم تكن الاشتراكية التي طرحت نفسها بديلا عنها سوى التعبير المباشر عن هذه المشكلة والهرب من مواجهتها معا.
وهذا يعني أن الخطأ لا يكمن في تقدير أولوية المراحل وإنما في تاريخانية المراحل ذاتها. وما يستحق النظر في "بيان من أجل الديمقراطية" الذي صدر في السبعينات، ليس تقديمه مرحلة الديمقراطية على الاشتراكية وإنما نقد مفهوم الاشتراكية نفسه ومن ورائه مفهوم المراحلية التاريخية وبالتالي سعيه إلى إعادة طرح قضية التحول التاريخي من منظور رفض النماذج والمراحل الجاهزة لا رفض نظرية حرق المراحل وحدها. وفي هذه الحالة لن يمكن حل المهام التاريخية، أو المشاكل التي تطرحها الحداثة على المجتمعات الفقيرة والصغيرة والمتأخرة، من دون إعادة نظر جذرية في نظريات الفكر السياسي ومفاهيمه نفسها وفي الاستراتيجية الاجتماعية أيضا وبالتالي من دون قدرة على العمل من خارج الصيغ التي عرفتها الدول الليبرالية الأولى. فالتاريخ ليس تعاقبا للحقب المماثلة وليس تكرارا لنماذج واحدة وإنما هو إبداع مستمر لصيغ ونماذج وبالتالي لمفاهيم ورؤى واستراتيجيات جديدة مركبة تخترق المراحل والنماذج نفسها وتعيد تركيبها على أسس وحسب معايير مختلفة. وهذا ما يرهن طبيعة التغيير الحاصل في بلد ما بالكفاح النظري والعملي الذي يخوضه المجتمع وينفي عن كلاهما صفة الترف أو عدم اللزوم.
باختصار إن المشكلة لا تكمن في تهذيب الليبرالية السياسية وتشذيبها وإنما بالعكس في بناء الرؤية النظرية والعملية الضرورية لايجادها وتمهيد الطريق لقدومها. فهي لا يمكن أن تأتي من دون هذا الوعي الصحيح بشروط "قدومها" ذلك أنها لن تأتي من تلقاء نفسها ولكنها تحتاج كي تتحقق إلى عمل اجتماعي كبير أي انخراط المجتمع كله في عملية تحول نظرية وسياسية معا. فهي ليست مرحلة قادمة لا محالة بقوة التاريخ والطبيعة وإنما هي بناء اجتماعي قد يحصل وقد لا يحصل وقد ينجح وقد يخفق أيضا. لكن على جميع الأحوال لن تأتي من دون بناء فكرتها بشكل متسق وهو ما يتطلب الدقة في التفكير والتدقيق في المفاهيم وفي استراتيجية العمل والصراع لتذليل الطريق الموصل إليها.
وكما أنني لا أعتقد بوجود مراحل ثابتة مطبوعة في ترسيمة تاريخية كونية سابقة على قيامها فأنا لا أعتقد أيضا بوجود مقدرات مجتمعية ثابتة أو نموذجية. فالمجتمعات هي ثمرة عمل أبنائها في شروط بيئتهم المحلية والإقليمية والعالمية. ونظرية المراحل التاريخية الماركسية الخماسية المعروفة تجريد عمومي محض. ولذلك قلنا عنها أنها ترسيمة فحسب ولا علاقة لها بالتاريخ الفعلي لأي مجتمع من المجتمعات. ففي الواقع لم يتطور أي مجتمع حسب المراحل الخمسة على الإطلاق. فالمجتعات التي تشهد تطورا نموذجيا لصيغة تنظيمية، أو لمرحلة من المراحل الماركسية، وتكون موطنها الأول تنطبع بها وتخفق عادة في التكيف مع مرحلة لاحقة ومن باب أولى في توليدها. ومتى ما مر وقت المرحلة على مجتمع انعدمت شروط إعادة إنتاجها كما هي ودخل هذا المجتمع في سياق مختلف يفرض عليه إعادة نظر جذرية بشروط تحقيقها حتى يستطيع استدراك المهام التاريخية المرتبطة بها. فالتصنيع الذي شهدته وتشهده بلدان العالم الثالث يختلف اختلافا جذريا في مضمونه وآليات تحقيقه وشروطه عما حصل في المجتمعات التي حدثت فيها الثورة الصناعية الأولى ولا يعطي الثمار ذاتها ولا الهياكل نفسها. وقد ارتبط تعميم الليبرالية الاقتصادية والنجاح في الثورة الصناعية في القارات الثلاث الفقيرة بنشوء نظم ديكتاتورية قوية لم تكن قادرة على البقاء والانجاز أيضا إلا بقدر ما كانت حليفة للولايات المتحدة والحلف الأطلسي عموما في الحرب الباردة. ولا شك في أن دخول بلدان جديدة صغيرة وفقيرة كالبلدان العربية في نظام الليبرالية الاقتصادية في عصر السوق العالمية والعولمة وفي عصر الثورة التقنية والعلمية لن يتم بالشروط اليابانية والصينية ذاتها ولن يقدم النتائج السياسية والثقافية نفسها التي قدمها للدول التي دخلت فيه في عصر الثورة الصناعية الأولى والسوق الوطنية. وكما أنه لا توجد في نظري مراحل مماثلة وثابتة تمر بها الشعوب أو تفرض نفسها على الشعوب من دون إرادتها ومن دون عملها، لا مشاعية ولا عبودية ولا إقطاعية ولا رأسمالية ولا اشتراكية، كذلك لا توجد في نظري في التاريخ الاجتماعي حتميات صارمة. ومن الممكن لبعض المجتمعات أن تموت وتزول من الوجود أو أن تنحل كمجتمعات وتذوب في غيرها قبل أن تعرف الليبرالية أو الديمقراطية.
ومن هنا لم يذهب "بيان من أجل الديمقراطية" مذهب القائلين بضرورة المرور بالمرحلة الليبرالية كما ذهب العروي ولكنه انتقد مفهوم الاشتراكية نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة لكتاب الخيار الديمقراطي في سورية الذي سعى إلى تمييز فكرة السوق داخل الرأسمالية كي يعيد تفكيك مفهوم الليبرالية نفسه. فهما لا يتحدثان عن مرحلة تاريخية حتمية أو ضرورية ينبغي التسليم لها أو بها وإنما عن كفاح المجتمعات بفئاتها المختلفة من أجل بناء نظام إجتماعي يحترم الإنسان، أي بناء النظام المدني الأساسي الذي يمكن المجتمعات من إنجاز جميع "مهام" المراحل التاريخية التي أخفقت من قبل في تحقيقها، لكن في إطار إبداعي أي تركيبي يدمج بين هذه المهام المختلفة وحسب جدول أعمال خاص بها وبتاريخها الذاتي، واللحاق بالمسيرة التاريخية العامة والمتواصلة. فلا توجد مراحل متعاقبة هنا ولكن صيغ تركيبية تخترق المراحل وتتجاوزها وتعيد صياغة المهام وتجدد فيها وتختصر منها. ولا توجد حتميات تاريخية وإنما رهان على وعي البشر أنفسهم وكفاحهم. وهذا هو الذي يميز مفهومنا للديمقراطية، التي تقوم على اجتهاد المجتمعات وجهدها وترتبط بهما، عن مفهوم الليبرالية التي تفرض نفسها كمرحلة تاريخية تسبق الاشتراكية وتؤسس لها كما توحي به بعض تأويلات الماركسية المتأخرة ، وهو كذلك الذي يميز منهج النقد والابداع التاريخي عن منهج التاريخانية التبسيطية والتجريدية. فالمراحل التاريخية من وحي التاريخ النظري أما النظم الاجتماعية الحية فهي من صنع المجتمعات وثمرة كفاحها. ولذلك فإن صلاحها يرتبط بصواب تفكيرها وحسن سياساتها. ويخشى على المجتمعات التي لا ترى في الجهد النظري النقدي سوى إضاعة للوقت ومعارضة للتاريخ أن لا تعرف من حركة التحول الاجتماعي سوى الاستقرار على تلك النماذج الدنيا من التنظيم الاجتماعي التي لا تعتمد معيارا للتراتبية وتقدير المسؤولية سوى معيار العنف وإرادة القوة. وهو ما يسود اليوم مجتمعاتنا على مستوى الدولة ومستوى النخب الاجتماعية وما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة تحكم علينا بأن نأكل بعضنا البعض وتحرمنا من إطلاق أي ديناميكية تاريخية إبداعية.

dimanche, août 07, 2005

لا يخرجنا من الأزمة تحويل المعارضة إلى كبش فداء

تعرية المعارضة السورية


الجزيرة نت 7 أغسطس 2005


ترافقت الاصلاحات السياسية التي وعد بها الحزب لحاكم بعد مؤتمره القطري العاشر في يونيو الماضي بسلسلة من المواقف والإجراءات التي تستهدف حركات الاحتجاج السياسي الناشئة خاصة المثقفين الذين دفعهم القلق على مستقبل بلادهم إلى الانخراط في العمل الوطني من دون حساب للمخاطر. ويبدو أن هذه المواقف الجديدة تستجيب لقرار اتخذ في مؤتمر الحزب الأخير يدعو إلى "تعرية المعارضة" ومواجهتها. ويدخل في باب التعرية والمواجهة هذا، حسب ما تجلى خلال الأشهر العديدة الماضية، التراجع عن موقف غض النظر النسبي عن بعض النشاطات الفكرية التي تطورت في السنوات القليلة الفائتة، والعودة إلى سياسة الاعتقالات التأديبية التي تطال الآباء وأبناءهم وتوسيع دائرة الملاحقات الأمنية للمثقفين والناشطين المدنيين وإغلاق ما تبقى من المنتديات الفكرية (منتدى جمال الأتاسي الديمقراطي) ومنع أي شكل من أشكال التعبير المستقل على أي مستوى كان وفي أي مكان. وفي هذا الباب يدخل أيضا التخوين المنتظم للمخالفين في الرأي وكيل التهم لهم والتشهير بهم وتشويه سمعتهم وتهديدهم علنيا على لسان بعض المسؤولين وفي الصحافة الرسمية، المكتوبة والمسموعة.
تعكس هذه المواقف الجديدة الحساسية المفرطة لبعض المسؤولين تجاه النقد الموجه لأداء النظام من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام، من داخل الحزب الحاكم وخارجه. وهي تشكل رد فعل مفهوم على المخاوف التي يعيشها الحكم نتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها بعد خسارته جميع حلفائه العرب والدوليين وتراجع آماله في تحقيق الإصلاح الاقصادي والإداري الذي راهن عليه لتبرير استمراره وتجديد شرعيته وكذلك نتيجة انحسار هامش مناورته الاستراتيجية، وهو الذي اعتاد طويلا العمل ضمن هامش واسع جدا من حرية الحركة والتفاهمات العربية والاقليمية والدولية سمحت له بأن يتجاوز حتى الأمس، من دون صعوبات وتكاليف كبيرة، جميع المآزق والمزالق وأخطاء التقدير على المستويين الداخلي والخارجي.
لكن هناك أسباب عميقة تدعو إلى القلق من ان تتحول هذه الحملة المستمرة منذ أشهر إلى تحويل المعارضة السورية، وعلى رأسها المثقفين، إلى كبش فداء قد تستخدمه السلطة لتحقيق أهداف عديدة مثل تنفيث غضب الشارع السوري واحتقاناته العميقة وحرف الأنظار عن مسؤولياتها الخاصة في ايصال الأوضاع إلى ما هي عليه والتغطية على العجز عن مواجهة الخصم الحقيقي الذي لا تطاله، أعني التحالف الاوروبي الامريكي الذي يقود حملة ضغوط مستمرة عليها، وأخيرا لإخفاء استجابة دمشق المتزايدة أيضا للمطالب الأمريكية التي تتهم المعارضة بارتكابها. هكذا تستخدم السلطة ما تدعي أنه تآمر المعارضة الناشئة إن لم نقل الجنينية عليها، بسبب انتقاداتها السياسية، ذريعة لإعفاء نفسها من واجبها في تقديم خطة عقلانية وناجعة لمواجهة المخاطر الحقيقية وللتصدي للأطراف المعادية الفعلية. وهذا ما يفسر الاستخدام الموسع لمفردات الخيانة والتآمر والتعاون مع الأجنبي. فنظرية المؤامرة لا تهدف في الواقع، سواء استخدمت في مواجهة المعارضة أو في مواجهة القوى الأجنبية، إلا إلى التهرب من المناقشة العقلانية للخيارات الاستراتيجية والسياسية ومراجعتها وبالتالي إلى تبرئة النفس من المسؤولية.
لا يكمن خطر مثل هذا التوجه مما يولده من إجراءات ومضايقات جديدة تزيد من آلام السوريين وعذاباتهم فحسب ولكن أكثر من ذلك من تهديده بتعميق الأزمة الوطنية وقطع الطريق على أية برامج إصلاحية. إنه يجسد السير في عكس الاتجاه المطلوب ويقود لا محالة إلى عكس النتائج المتوخاة منه ويصب في طاحونة القوى الاجنبية الضاغطة على سورية والمهددة لها. فهو يزيد من مخاطر القلق والشك والانقسام داخل الصف الوطني ويضعف من مقدرة البلاد على مواجهة التحديات الفعلية. فبدل أن تكون الضغوط الخارجية مناسبة لإعادة بناء الوحدة الوطنية وتعزيز التضامن والتفاهم والحوار بين التيارات المختلفة لتوحيد الإرادة والجهد وتعبئة المجتمع بأكمله لمواجهة الأخطار الحقيقية تستخدم السلطة هذه الضغوط لتوجيه قطاعات الرأي العام السوري واحدها ضد الآخر على أمل قطع الطريق على المطالب الديمقراطية والتعددية وتبرير الإبقاء على الإجراءات الأمنية الاستثنائية. إن نقل المعركة إلى الداخل الوطني وضد قوى المعارضة الفتية هو أكبر هدية نقدمها لتلك القوى الخارجية الاستعمارية نفسها التي نسعى إلى التخلص من ضغوطها او إلى فك الخناق الذي تضربه علينا. ليس ذلك بسبب ما تؤمنه الانتهاكات المتزايدة لحقوق الانسان من ذرائع إضافية لتعزيز الضغوط الموجهة إلينا فحسب ولكن بسبب حرف أنظار مجتمعنا أيضا عن المهام الحقيقية المطلوبة لمواجهة التدخل وفي مقدمها الوحدة والتفاهم والثقة المتبادلة وتسويد لغة الحوار الحضارية لتحقيق أي مشروع إصلاح داخلي أو ذاتي.
ليس للمعارضة الجنينية ولا للمثقفين المهمشين والمحرومين من أي وظيفة أو سلطة إجتماعية أي نصيب من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع السورية من تراجع لا على المستويات الاستراتيجية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية. فليست المعارضة، بما في ذلك الخارجية، ومن باب اولى المعارضة الداخلية، بما تشمله من احزاب وطنية ديمقراطية ومنظمات وهيئات مدنية ومثقفين نقديين، هي المسؤولة عما أصاب النظام من ضعف في المعادلة الاقليمية والوطنية. فهي لم تكن طرفا في صوغ السياسات التي قادت إلى الصدام بين سورية والولايات المتحدة حول العراق. وليس لها أي ناقة ولا جمل في دفع الأمور نحو الأوضاع التي استدعت خروج القوات السورية تحت الضغط الدولي من لبنان. وليست هي المسؤولة من قريب او بعيد عن حصول القطيعة المدوية مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كان قد جعل من فرنسا، كما كانت تكتب صحافة النظام، الحليف الاستراتيجي لسورية وفتح لها أبواب أوروبة بل والولايات المتحدة. وليس للمعارضة أي ضلع في البطء إن لم نقل في التعثر الذي شهدته ولا تزال عملية الاصلاح الاقتصادي ولا من باب أولى في الاختناق السياسي الذي تعيشه البلاد. وليس لسياساتها وسلوكها وتصريحاتها وتحليلات كتابها أي نصيب في استشراس الفساد واكتساحه جميع مؤسسات الدولة ودوائرها ولا في الخروقات المتزايدة لحقوق الانسان وحرياته الأساسية.
بل، بالعكس، لم تكف هذه المعارضة منذ انبعاثها في السنوات القليلة الماضية عن تأكيد تضامنها مع النظام في جميع القضايا الوطنية ورفضها القاطع للتعامل مع أي قوى أجنبية لأي هدف كان. وباستثناء تلك المجموعات الصغيرة الطارئة التي اكتشفت لنفسها في واشنطن رسالة معارضية في السنتين الماضيتين، على أثر اتخاذ الولايات المتحدة موقفا معاديا للنظام السوري من دون شك، ظلت المعارضة السورية، ولا تزال أجزاء كبيرة منها تتبنى حتى اليوم موقف الحوار مع السلطة القائمة، والمراهنة على رئيسها وفريقه في سبيل إنجاح مشروع للاصلاح والتغيير من الداخل وبالتفاهم مع السلطة. وهي تدعو ليل نهار إلى مصالحة وطنية وتناشد النظام العمل من أجل مؤتمر وطني يجمع كل الأطراف وفي مقدمها الحزب الحاكم حتى تتجنب العنف وتجنب البلاد التدخلات الأجنبية.
بالتأكيد لم تكن المعارضة في توافق دائم مع السلطة في جميع مواقفها، وهذا أقل ما يمكن انتظاره من معارضة مهما كانت ظروفها. فقد كانت تطالب بالفعل بتصحيح العلاقات مع لبنان وتلح على ضرورة ربط الاصلاح الاقتصادي بالاصلاح السياسي وتدعو إلى وقف انتهاكات حقوق الانسان ووقف العمل بقوانين الطواريء والأحكام العرفية وفتح الباب أمام المشاركة السياسية والعمل على تعميق الحوار في اتجاه المصالحة الوطنية. لكن ذلك يصب جميعا في تعزيز الجبهة الداخلية ولا يشكل أي تهديدا ولا إضعافا للموقف السوري بأي حال.
قد يقول البعض إن المعارضة قد أساءت لصورة سورية لأنها نشرت الغسيل الوسخ عندما تحدثت عن غياب الحريات وعن الخروق المتكررة لحقوق الانسان وساعدت بذلك اعداء البلاد على استخدام انتقاداتها لتبرير الحصار المضروب اليوم على سورية. لكن بالإضافة إلى أن الكشف عن انتهاكات حقوق الانسان هو واجب وطني وإنساني لا يمكن محاسبة احد بسبب تأديته ولكن شكره عليه، فهو بالأساس تذكير بحكم القانون والدستور لصالح احترام الشعب السوري وكرامته، فإن المسؤول الحقيقي عن إساءة سمعة سورية يكون عندئذ اولئك الذين ينتهكون بالفعل حقوق الانسان ومن الحري بالسلطة أن تحاسبهم على إسائتهم لبلدهم وتشويههم لصورته. وبالمثل، لم يكن لأولئك السوريين القلائل الذين دعوا إلى بناء علاقات متوازنة وطبيعية مع بيروت أي دور في خلق الظروف الدولية التي أجبرت القوات السورية على الخروج من لبنان، وفي مقدمها التحالف الفرنسي الأمريكي، وإنما الأعمال والممارسات غير المسؤولة وغير الطبيعية التي ألبت مشاعر اللبنانيين ضد سورية ودفعت مئات الألوف منهم إلى الخروج مطالبين برحيل القوات العربية. وأخيرا لم تكن المعارضة هي العقبة التي حالت دون تقدم عملية إصلاح الأحوال الاقتصادية والسياسية والإدارية ولكن هذه العقبة كانت، على ما لم يكف المسؤولون السوريون أنفسهم عن ترداده، في الداخل والخارج، وما عبروا عنه في مؤتمر الحزب الأخير، حرس النظام البعثي القديم نفسه ومراكز القوى وشبكات المصالح الكبرى التابعة للنظام والمكونة له معا.
ثم كيف يمكن تحميل المعارضة مسؤولية الإخفاقات والمآزق والتحديات الصعبة التي يعيشها النظام وفي الوقت نفسه قبول ما يردده المسؤولون أنفسهم، على سبيل تبرير عدم الاعتراف بها ورفض الحوار معها، حول محدودية نفوذها بل ضآلة عدد أعضائها الذين يعدون بالعشرات ولا فاعليتها، وعجزها، كما قال وزير الخارجية فاروق الشرع في احد تصريحاته، حتى عن "إدارة مدرسة ابتدائية". لا يمكن لمثل هذه المعارضة الموسومة بالغياب والضعف واللاعقلانية والركض وراء أهداف وهمية أن تتسبب في محاصرة النظام أو إضعافه أو عزله عن حلفائه أو منعه من الاصلاح حتى لو أرادت ذلك ومن باب أولى أن تنجح، وهي التي لا تزال ترفض حتى اليوم أي حوار مع أي طرف خارجي عربي أو أجنبي، في تأليب الدول الكبرى عليه.
لا يعني هذا ان المعارضة السورية غنية عن النقد. العكس هو الصحيح. لكن النقد الذي يوجه إليها يتعلق بالضبط بضعف معارضتها أي بغيابها عن صنع الحدث وبالتالي بعدم نجاحها في القيام بوظيفتها وواجبها في خلق التوازن السياسي الذي كان من الممكن أن يحد من نزعة النظام الإرادوية ويضغط عليه في اتجاه أن تكون خياراته الاستراتيجية والسياسية أكثر اتساقا مع الحقائق الموضوعية وبالتالي أكثر نجاعة وعقلانية من وجهة نظر المصالح الوطنية. وسبب هذا الضعف هو إخفاقها في جذب أصحاب المصلحة في التغيير والاصلاح من ملايين السوريين، من داخل النظام وخارجه، إلى العمل الايجابي والناجع وتنظيمهم وقيادة حركتهم حتى يمكن زيادة فرص التغيير بالطرق السلمية وتجنب الاحتقان الذي يدفع نحو تزايد الأزمات والتفجرات التي لا يستطيع احد أن يتحكم بمسارها. بمعنى آخر إن المعارضة تنتقد لتقصيرها في بذل الجهد النظري والعملي حتى تكون معارضة حقيقية مؤثرة في الواقع الوطني وليس لإعلانها مواقف وتبنيها سياسات مختلفة عن النظام أو نقدها لما تعتقد أنه خيارات خاطئة. لكن ضعف المعارضة أو عجزها لا يبرران ولا ينبغي أن يبررا إضطهادها او تحويلها إلى كبش فداء يغني عن البحث المشترك عن الحلول الناجعة المطلوبة أو يكون بديلا عن بناء سياسة وطنية. فبالرغم من جميع الاعتقادات المترسخة في جدوى القمع، لن يساهم القضاء على المعارضة أبدا في تعزيز وجود النظام في وجه خصومه بقدر ما سيضاعف من عزلته واضطرابه. ولن يزيد من قدرته على مواجهة التحديات وإنما على إضعافها. وهو، قد يدفع بالمجتمعات، بقدر ما يلغي أفق التغيير السلمي وآماله، بالقوة إلى العنف. وللأسف، لا يدرك الكثير من المسؤولين أن من الممكن أن يكون ثمن القضاء على المعارضة أو بالمصطلح الحزبي "تعريتها"، وهي اليوم المتنفس الوحيد للاحتقانات الشعبية العميقة الناجمة عن الإخفاق والإحباط وانعدام الآفاق، تعرية النظام نفسه وربما تعرية البلاد وتعريضها لجميع المخاطر والانفجارات.

mercredi, août 03, 2005

الامتحان الصعب للوطنية العربية

الاتحاد 3-17 أغسطس 2005

بصرف النظر عما تتحمله الدبلوماسية العربية من المسؤولية في دفع الامور إلى ما هي عليه وتعريض استقرار المنطقة برمتها ومستقبلها وسيادتها للمخاطر، يظل السؤال الأهم الذي لا يمكن للمعارضة الديمقراطية العربية أن تهرب منه، والذي لا تكف قطاعات الرأي العام العربي عن طرحه في مواجهة التهديدات الأمريكية المتواصلة، هو التالي: إلى أي حد لا يخدم الضغط على النظم العربية اليوم، بصرف النظر عن طبيعة هذه النظم ومشاكل الفساد والضعف وعدم الفاعلية الكبيرة التي تتسم بها، الأهداف الأمريكية بدل أن تخدم الضغوط الأمريكية المعارضة الديمقراطية أو بالأحرى التحويلات الديمقراطية؟ وكيف يمكن العمل يحيث لا يكون النضال الديمقراطي العربي الذي يهدف إلى تأكيد سيادة الشعب ودور المجتمع في الحياة العامة وسيلة لإضعاف السيادة الوطنية وخلق الشروط التي يصبح فيها من الأسهل تهديد استقلال البلاد وحريتها؟
ليس الجواب على مثل هذا السؤال الحقيقي سهلا على المعارضة العربية في ظل نظم عربية استثنائية في تحديها لكل معايير الحياة السياسية الطبيعية واعتمادها من أجل البقاء على تأبيد قوانين الطواريء والأحكام العرفية. نظم ترى في التعاون مع الدول الأجنبية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، الضامن الوحيد لسيادتها الشكلية واستقلالها والحليف الرئيسي لها في كفاحها البطولي ضد شعوبها ومصادرتها حقوقهم السياسية. وهي أكثر من ذلك لا ترى الأمور بالمنظار نفسه ولا تكف عن تذكير الأمريكيين بضرورة التحالف المشترك ضد القوى المتطرفة الاسلامية أو الوطنية وتعتقد، بالرغم من كل ما حصل ويحصل، وربما كانت في ذلك على حق أيضا، في أن ما تعيشه مع واشنطن هو مجرد أزمة قابلة للحل وأن شيئا لن يمنعها من التوصل إلى تسوية معها لقاء بعض التنازلات الجزئية. ولذلك فها ميالة، بعكس المعارضة التي لا تكف عن التذكير بالمخاطر الخارجية، إلى عدم المبالغة في تفسير ما يحصل واعتبار الموقف الأمريكي أقرب إلى معركة إعلامية هدفها تطويع النظم العربية وليس المساس بها أو تغييرها.
وليس الجواب أيضا سهلا على هذه المعارضة في ظل نظم لا ترحم وتستخدم وسائل لا حدود لها في القمع، من الاغتيال إلى الملاحقات القانونية الشكلية مرورا بالاعتقال والسجن الطويل من دون محاكمة والتعذيب والعقوبات الجماعية وشن الحملات الاتهامية والتشهير والطعن بالوطنية والابتزاز في جميع صورة لتحييد الناشطين السياسيين وفرض الوصاية السياسية على الشعوب وتكريس سيادة الحزب الحاكم. وليس سهلا أيضا في نظم تعلق أملها في البقاء على ما تستطيع أن تقدمه من خدمات للاستراتيجية الأمريكية ولا تتردد هي نفسها في التذكير اليومي بما تقدمه من هذه الخدمات في خطابات مسؤوليها وندواتهم الصحفية.
لكن مهما وصل استخفاف النظم بالمسألة الوطنية لا ينبغي أن يبرر هذا الموقف للمعارضات المقامرة بالمصالح الاستراتيجية للبلاد أو يدفع إلى التهوين من التهديدات الخارجية. فليست الوطنية واحترام المصالح العليا للبلاد هي الهدف الحقيقي ولا يمكن أن تكون غاية النظم ومجموعات المصالح الحاكمة، وهي التي قامت على مبدأ خدمة المصالح الخاصة والأنانية. إن الحفاظ على استقلال البلاد وضمان مستقبل شعبها وسيادته هو وحده الذي يعطي للمعارضة الديمقراطية، بقدر ما تطمح إلى أن تكون ممثلة للمجتمع بغالبيته، شرعيتها ومبرر وجودها.
السؤال : هل قبول المعارضة بتجميد نشاطها أو بالتعاون مع النظام هو الطريق المناسب لحماية المصالح الوطنية، وذلك حتى لو رفض النظام أي مبادرة حوار تهدف إلى بلورة برنامج عمل وطني وتثبيت التزامات محددة لمواجهة التهديدات والضغوط الخارجية واستمر في ممارسة سياسة القمع والإقصاء والعزل والتحييد اليومية ضد نشطاء المعارضة وحقوق الانسان؟ وهل يعزز السكوت على الاختيارات الرسمية مهما كان مضمونها، وحتى لو كان مشكوكا في صحتها وسلامتها، المقاومة الوطنية للضغوط الخارجية، وهل يشكل هذا القبول بالخضوع للنظام وذاك السكوت عن سياساته مهما كانت، التعبير الفعلي والحقيقي عن الشعور بالمسؤولية التاريخية لدى قوى المعارضة أم أنه يشير بالعكس إلى استقالتها السياسية والوطنية بذريعة تجنب صب الماء في طاحونة القوى الخارجية؟

باختصار، كيف يمكن للمعارضة أن تستمر في تأدية واجبها بالدفع نحو الاصلاح ومكافحة سلطات الفساد، التي تضحي بالمصالح الاجتماعية وتساوم على المصالح الوطنية وتعمل بسياساتها اللاعقلانية على تفاقم مخاطر الانفجارات الاجتماعية، من دون أن تخدم بصورة غير مباشرة المشروع الأمريكي الهادف إلى السيطرة على المنطقة العربية؟ وبالمثل، بأي وسيلة يمكن للمعارضات الديمقراطية ذاتها أن تدافع عن المصالح العليا للدول العربية ضد الضغوط والتهديدات الأمريكية من دون أن تتحول إلى أداة إضافية في دعم النظم الاستبدادية القائمة وإضفاء الشرعية على نظم القمع والإقصاء ومصادرة الحقوق الجماعية وعبث المصالح الشخصية؟ ومن أين ستستمد المعارضات الديمقراطية التي تشكل أمل المجتمعات العربية شرعيتها ومبرر وجودها إذا صب نشاطها، حتى لو كان ذلك بصورة غير مباشرة، في خانة التغطية على الفساد، كما تطالب السلطات الديكتاتورية، أو إذا تحول بالعكس إلى أداة لخدمة القوى الاستعمارية ؟ هذا هو التحدي الحقيقي الذي تواجه المعارضة العربية الديمقراطية اليوم في أكثر من بقعة ومكان. وهو التحدي نفسه الذي أخفقت المعارضة العراقية في مواجهته والذي قادها إلى السقوط بين يدي الأمريكيين كما قاد العراق إلى حمام الدم الذي يعيشه الشعب العراقي اليوم.

ينبغي القول على سبيل السعي إلى الإجابة عن هذا السؤال أن تحويل الدول العربية إلى هدف أمريكي استراتيجي لم يكن حتمية لا راد لها ولا نتيجة جنوح السياسات الأمريكية نحو تكوين إمبرطورية عالمية. فهناك أشكال مختلفة من العلاقات تقيمها واشنطن مع الدول الصغيرة ليست جميعا من طبيعة عدوانية كما هو الحال مع بعض البلدان العربية اليوم بل كما كان عليه الحال مع الدول العربية نفسها منذ سنوات. إن تطلع واشنطن إلى السيطرة على البلدان العربية وتحويل بعضها بوسائل عدوانية وبالحرب إلى قاعدة من قواعد السيطرة الإقليمية هو ثمرة عاملين رئيسيين: الضعف الاستراتيجي الاستثنائي الذي وصلت إليه البلاد والدول العربية لأسباب عديدة في مقدمها القطيعة المستفحلة بين السلطة والشعب، والأخطاء العديدة التي ارتكبتها الدبلوماسية العربية في تقدير موازين القوى الدولية وأهداف السياسة الأمريكية الإقليمية نفسها ورهانها المستمر حتى اليوم على إمكانية استخدام الارهاب والتطرف الاسلاموي كذريعة لتجديد التحالف مع الولايات المتحدة.
فقد حولت قطيعة السلطة المستديمة مع المجتمع وما نجم عنها من تقويض لمؤسسات الدولة ونخر لمباديء الولاء الوطني لصالح الولاءات الشخصية والسياسية ومن الفساد الذي عم جميع المستويات الرسمية وهيئات المجتمع المدني معا، البلاد العربية إلى قواقع فارغة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فبدت مجتمعات ميتمة ومشتتة ومشوشة ومفتقرة بالتالي للقوى المنظمة الرسمية أو الأهلية القادرة على الدفاع عن المصالح الوطنية. أما السياسات المغامرة وغير المحسوبة التي قامت على الرهان على تجديد الصفقة التقليدية مع واشنطن، بهدف تجنب الانفتاح على الشعوب، ولدى بعضها عن طريق استخدام الضغط والابتزاز على واشنطن نفسها، فقد عرت البلاد أمام إرادة الهيمنة الأجنبية وخلقت الذريعة التي يحتاج إليها التدخل حتى يضفي على نفسه وأهدافه الشرعية. هكذا صار بإمكان واشنطن التي كانت الكافل الرئيسي لنظم الاستبداد الاقليمية الناطق الأول والرسمي باسم مشروع الاصلاح ونشر الديمقراطية في المنطقة العربية.
إن هذا الفراغ السياسي الكبير الذي يجرد المجتمعات والدول العربية من قواها الداخلية وذاك الخلل في خيارات وأساليب عمل الدبلوماسية التي اعتادت التعامل مع بيئة دولية ممالئة لها وضالعة معها في فرض الديكتاتورية هما الذان يشجعان الأمريكيين وغيرهم اليوم على التفكير في إمكانية تطويع النظم القائمة وتشغيلها كليا لصالحهم من دون مقابل، أي حتى من دون القبول بتقديم أي ضمانة لبقائها أو لاستمرار الرهان عليها في المستقبل.
ومن هنا ليس من الممكن الرد على السؤال المطروح ووضع حد لإرادة التدخل الخارجي من دون معالجة المسألتين الرئيسيتين اللتين تقفان وراء إرادة العدوان والهيمنة الأجنبية التي ستبقى قوية في السنوات القادمة. المسألة الاولى هي مسألة الفراغ السياسي الذي حول البلاد إلى قوقعة فارغة كما ذكرت وأفقرها من أي قوى سياسية وشعبية منظمة أو فاعلة، بما فيها القوى الرسمية التي أصبحت بسبب الفساد فاقدة للفعالية ولحس المسؤولية معا، فأصبحت تسيل لعاب كل طامع فيها أو في سيطرة إقليمية. والمسألة الثانية هي مسألة نموذج القيادة السياسية التي تدفع بالبلاد نحو أوضاع كارثية بسبب افتقارها للحسابات العقلانية الموضوعية وتخبطها بين سياسة التنازلات المجانية لإرضاء الحليف الأمريكي والمزاودات الوطنية الدعائية الهادفة إلى التعبئة الشعبية لعزل المعارضة الاجتماعية والتغطية على تدهور شرعية الأنظمة أو افتقارها للشرعية الديمقراطية.
لا يمكن معالجة هاتين المسألتين بإلغاء المعارضة وما يعنيه من الاستسلام لنظام السلطة المطلقة ومتطلبات إعادة إنتاجها وما يفترضه ذلك من تغييب المجتمعات. كما أنه من غير الممكن معالجة مسألة القيادة السياسية من خلال التسليم للقيادات الشخصية والكف عن إبداء أي نقد أو تقويم للسياسات غير الفاعلة وغير العقلانية. إن مواجهة الضغوط الخارجية وإضعاف إرادة تطويع النظم العربية من الخارج يستدعي بالعكس من ذلك بذل جهود مضاعفة من قبل المعارضة لملء الفراغ السياسي الذي خلفته عقود الاستبداد الطويلة والإظهار عمليا أن البلاد ليست قوقعة فارغة تقتصر القوى المدافعة عنها على نظام ينخره الفساد وتتضاربه المصالح الفئوية ولا يعتمد في بقائه إلا على قوى أمنية متعاونة مع الخارج للحفاظ على الاستقرار، وإنما هناك بالفعل شعب منظم ومتضامن واثق من نفسه ومتمسك بحقوقه وغير مستعد للمساومة على حريته. وهو، إن قبل التفاوض مع القوى الأجنبية على ما يتعلق بالمصالح المشتركة الطبيعية أو للتخفيف من تناقض المصالح وتعارضها، لا يقبل التخلي عن سيادته والتضحية بحقوقه مهما كان.
وإذا كان سبب الانسحاب العام من السياسة وما يسببه من إضعاف الإرادة الوطنية هو إدراك الشعب العميق بأن الدولة لم تعد دولته وإنما هي دولة القائمين عليها من النخب التي تستخدمها لإخضاعه، فلن يكون من الممكن استنهاض عزيمته الوطنية من جديد إلا ببروز قوة ثانية نابعة منه ومتفاعلة معه تقنعه بأن هناك أمل في إعادة بناء الدولة على أسس وطنية وتحويلها إلى دولة معبرة عن آمال مواطنيها وكافلة بالفعل لحقوقهم، وهذه هي القوة المعارضة الديمقراطية. فالمعارضة المرتبطة بالشعب تصبح هنا منبع وطنية متجددة تحفز الجمهور على العمل الوطني وتعيد ثقته بنفسه وأمته. وبالعكس، في حالة غياب المعارضة الديمقراطية الوطنية، قد يصبح التدخل الخارجي في نظر شعب مهان ومستباح الحقوق، الأمل الوحيد للخلاص من الظلم والاضطهاد ويتحول إلى فعل تحرير، بصرف النظر عن نتائج هذا الفعل المأساوية المحتملة أو الفعلية. هذا ما أظهره تاريخ الفتوح الامبرطورية العالمي وفي المقدمة تاريخ الفتوح العربية الاسلامية، وبالأمس القريب، تاريخ العراق البعثي نفسه.
ومن هنا لا يمكن أن يكون جواب المعارضة الديمقراطية على التحدي الذي تمثله الضغوط الأجنبية على السلطة القائمة الاستقالة والانسحاب من الساحة السياسية ووقف الدفاع عن المصالح الشعبية باسم تأكيد وحدة وطنية يحطمها كل يوم القهر والتمييز بين المواطنين. فمن المحتمل في هذه الحالة أن يقود استسلام المعارضة أو سكوتها على الانتهاكات المستمرة لحقوق الشعب والانسان إلى تيئيس الشعب بشكل أكبر من الطبقة السياسية المحلية ويدفع بالجمهور إلى التطلع بصورة متزايدة نحو الحلول الخارجية بدل أن يعزز موقف الدولة ويردع الطامعين فيها.
وبالمثل، لا سبيل إلى معالجة مسألة القيادة المزاجية التي تغرق في الإرادوية ولا تخضع إلا لجدول أعمال تأكيد العظمة الشخصية مع ما يجره من الكوارث إلا بالتخلي عن مذهب الزعامة التاريخية الملهمة والدخول في عصر السياسة الحديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وهو عصر القيادة السياسية المستندة إلى شرعية قانونية منبثقة عن انتخابات ديمقراطية تمثيلية ودورية. فمن فضائل هذه القيادة أنها تعتمد في صياغة قراراتها على حسابات عقلانية موضوعية تشارك فيها مؤسسات سياسية وعلمية نشطة وتخضع لمراقبة شعبية دائمة. ومن فضائلها أنها لا ترتبط بشخصية بطولية ملحمية فوق إنسانية توجهها نحو ادعاء نوع من العصمة والإلهام وإنما بوظيفة اجتماعية ومهمة سياسية محددة في الزمان والمكان تخضع طواعية للمحاسبة والمساءلة والنقد. ومن فضائلها أيضا أنها تحظى بثقة الشعب الذي شارك من خلال مؤسساته التشريعية في تنصيبها، بصرف النظر عن انتماءات أفراده وأصولهم ومستويات معيشتهم وطبقاتهم الاجتماعية، كما أنها تطمئن لولائه وتأييده فتنحو إلى تبني جدول أعمال وطني يعكس المصالح العامة ولا تنزع إلى المزاودات الوطنية التي قد تقود البلاد إلى مواجهات مجانية في سبيل الحصول على بعض الشرعية أو التغطية على الافتقار إليها. ومن فضائلها كذلك أنها لا تبنى على اختيارات مزاجية وتقديرات شخصية، ترد على مخاوف الزعامات الشعبوية أو تستجيب لمغامراتها أو لمصالح شبكات الولاء والمنافع الشخصية والفئوية العديدة والمتنابذة فيها، وإنما تعتمد في بلورة قراراتها على مؤسسات فعالة سياسية وعلمية وتنطلق من حسابات عقلانية تأخذ بالاعتبار مصالح البلاد العليا والمجتمع ككل.
وبعكس ما يدعي أنصار السلطة الاستبدادية، لا يضعف وجود معارضة نشطة وديمقراطية من قدرة البلاد على مواجهة الضغوط الخارجية ولكنه يشكل التربة الوحيد التي تسمح باستنبات المشاعر الوطنية الضرورية لتوحيد المجتمع وبناء قوى المقاومة الفعلية للتدخلات الأجنبية. ومن دونها سيعم لا محالة الانسحاب واليأس العام. وتكفي نظرة واحدة على ما يجري في العديد من بلدان العالم العربي اليوم للتحقق من هذا التوازي بين عودة الحياة السياسية وتطور حركة المعارضات الديمقراطية وتنامي روح الوطنية بكل معانيها وبرنامجها الداخلي والخارجي. فالشعب الذي يفقد الأمل في بلاده يتحول عن الولاء للسلطة العمومية ويتراجع، كما حصل في مجتمعاتنا في العقدين الماضيين، نحو الولاءات الطائفية والعشائرية والعائلية. والشعب الذي يشعر بالغربة داخل وطنه ويعاني من القهر وانتهاك حقوقه من قبل نخبه المحلية ولا يجد من يأخذ بيده فيها لا يجد حرجا في القبول بالضغوط والتدخلات الأجنبية بل ومناشدتها كما حصل في العقود الماضية في جميع بلدان أوروبة الشرقية والدول الشيوعية.
إن الدفاع عن سيادة الدولة واستقلالها يرتبط في كل المجتمعات بدرجة الثقة بنظامها ونجاعته، أي بعدالته وقدرته على خدمة مصالح المجتمع وتوحيد أفراده وجمعهم تحت راية واحدة هي ما نسميه الوطنية. فالنظام يكون محفزا على التمسك بالسيادة والاستقلال بقدر ما يكون وطنيا لا عشائريا ولا قهريا، ولا يكون وطنيا إلا بقدر ما ينجح في بعث التفاعل والتفاهم والثقة المتبادلة بين أفراده، أي بقدر ما ينجح في خلق هذا الولاء العميق والحي للوطن وللجماعة الوطنية بسبب ما يؤمنه من حقوق وحريات وقيم اجتماعية. وبذلك تتحول الأرض التي يقيم عليها الأفراد إلى وطن، كما يتحول الأفراد المشتتين إلى أمة واحدة متضامنة. وبالعكس، بقدر ما يخفق نظام ما في بعث الوطنية أو تخليقها نتيجة إفلاس سياساته الداخلية أو التمييز بين أبناء وطنه أو بسبب تحالفه لضمان بقائه ضد شعبه مع القوى الأجنبية، لا يبقى للوطنية أمل في الوجود إلا عبر القوى الاجتماعية البديل، أي عبر المعارضة، وبقدر ما تتحول هذه المعارضة إلى إطار جامع وتنجح في إعادة بناء وحدة المجتمع وثقته بنفسه وقيادته وارتباطه بوطنه وانتماءه إلى أمته. وهذا يعني أن وجود قيادة سياسية مرتبطة بالشعب وقادرة على توحيده وحل التناقضات التي تمزقه وبلورة جدول أعماله الوطني هو شرط أساسي من شروط ردع التدخل الخارجي وصد الضغوط الأجنبية، ولا فرق أكانت هذه القيادة في مركز السلطة العمومية أم في مركز السلطة الشعبية.
ومن هنا، لا يخدم التصاق المعارضة بالنظام وإظهار التطابق معه ولا التخلي عن قيادة حركة الاحتجاج الشعبي القضية الوطنية ولا يردع كما تدعي السلطات الاستبدادية بشكل أكبر إرادة الهيمنة الأجنبية أو يخفف من ضغوطها. إن مثل هذا الموقف يفاقم، بالعكس، من إحباط الشعب وانسحابه من الحياة الوطنية والسياسية كما يزيد من قناعة الدول الأجنبية بنجاعة التدخل الخارجي وضعف مقاومة المجتمعات لنظام السيطرة الاستعمارية أو شبه الاستعمارية.
إن الطريق إلى منع التدخلات الأجنبية ووقف الضغوط الخارجية يكون بالعمل على إعادة بناء المجتمعات من الوجهة السياسية والفكرية من خلال مساعدتها على تنظيم نفسها عبر الجمعيات والمنظمات الحرة والنشيطة وتأمين التفاعل العضوي بين قاعدتها وقيادتها، أي بتحويلها إلى مجتمعات حرة لا إلى حشود من الأنصار والأزلام والموالي الذين يمكن بسهولة إخضاعهم لنظام الاحتلال كما خضعوا لنظام الاستبداد من قبل. فبقدر ما يقوم الاستبداد على تغييب الشعب وعزله من خلال حرمانه من حقوقه في التعبير والتنظيم والمشاركة يفتح الباب واسعا أمام الأطماع الأجنبية. وبقدر ما تقوم المعارضة الديمقراطية على تفعيل الحياة السياسية وجذب الشعب إلى ساحة العمل الوطني وتحسيسه بمسؤوليته فإنها تضع أسس المقاومة الوطنية للتدخلات الأجنبية في الوقت نفسه الذي تعمل فيه على تنظيم صفوف الشعب وتعزيز حضوره وقدراته الذاتية . هكذا تشكل الديمقراطية اليوم ردا مزدوجا : أولا على سلطة الاستبداد التي تعمل على كسر إرادة الشعب ودفنه حيا وثانيا على قوى التدخل الخارجي التي تراهن على الفراغ السياسي من أجل فرض جدول أعمالها على الدولة والسلطة المعزولة.
وهذا يقودنا إلى الاستنتاج الرئيسي التالي: إن مستقبل العالم العربي، أي تحرره ونموه وتقدمه والحفاظ على سيادته واستقلال بلدانه للسنوات القادمة، يتوقف كل ذلك على معرفة ما إذا كان هناك شعب داخل هذه البلدان، أي قوة منظمة ذات وعي خاص وإرادة مشتركة، أم لا، وما إذا كنا سننجح في كل بلد في بناء وطنية عربية حية وفاعلة أم سنبقى شعوبا مقهورة ومشتتة لا وعي لديها ولا إرادة موحدين، يتحكم بها إقطاعيون أو طغاة أبويون لا يحد من سلطتهم عرف ولا قانون وتتلاعب بهم القوى الخارجية والأقدار. ولذلك لا ينبغي أن نتردد، في كل مرة تطرح فيها مسألة الاختيار بين مهام وطنية وديمقراطية تبدو متناقضة أو متعارضة، في العمل حسب هذا المبدأ الذي لا يخطيء وهو إن كل ما يساعد على تعزيز حضور الشعب والارتقاء بوعيه وأشكال تنظيمه وزيادة مشاركته في الحياة العامة المدنية والسياسية فهو مطلوب وهو الصحيح، في أي ظرف كان. وكل ما يقلل من حضور المجتمع فردا وجماعة ومشاركته وتحمله مسؤوليته وكل ما يصادر إرادته ومبادرته فهو خاطيء ومرفوض. هذا هو المبدأ الذي تستند إليه حركة الدفاع عن الحريات الفكرية والسياسية وتستمد منه الشرعية حركة الكفاح ضد انتهاكات حقوق الانسان. وهذا هو الأصل في رفض البشرية من منطلقات سياسية وأخلاقية معا السلطات التعسفية والقوانين القهرية التي لا تهدف إلا إلى إرهاب الشعوب ودفعها إلى الانكفاء على نفسها والانطواء والتسليم بالأمر الواقع حتى يمكن للنخب الحاكمة أن تضع يدها على موارد البلاد ومصيرها وتستخدمها كما لو كانت ملكا خالصا لها.