mercredi, mars 30, 2005

السلطة الغنيمة

اتحاد 30 مارس 05
بالرغم من الضجة الإعلامية التي رافقت انعقادها ومن الحشد السياسي الدولي الذي شهدته أيضا لم تكن حصيلة القمة العربية السابعة عشر التي عقدت هذا الشهر في الجزائر أفضل من حصيلة سابقاتها. وكما أن مشاريع الإصلاح العربية الواسعة التي وعدت بها في المؤتمر السابق لم تحظ بأي اهتمام لا من قبل الوفود العربية ولا من قبل المراقبين الأجانب، لم تحظ مشاريع الإصلاح الخاصة بالجامعة العربية أيضا بأي قدر من الجدية. وربما كان الاتفاق الوحيد الواضح بين الأطراف العربية المختلفة قد اقتصر على إنشاء ما سمي بالبرلمان العربي الذي تختار الدول أعضاءه من داخل البرلمانات أو مجالس الشعب والأمة القائمة التي تسيطر على انتخاباتها الشكلية في أغلب الدول العربية روح الولاءات الحزبية والعصبيات القبلية والعائلية التي تتلاعب بها وتوظفها أجهزة الأمن في سعيها الدائم للحفاظ على الوضع القائم والتجديد الأبدى لزعيم أو رئيس جعل من وجوده في قمة السلطة رديفا للاستقرار والازدهار والوحدة الوطنية والقومية معا.
وبسبب الفشل المتواصل في إخراج الجامعة العربية من شللها وفراغها لا تزال المنطقة عرضة منذ نصف قرن لجميع تيارات التصادم وزعزعة الاستقرار. بل إنها تشكل اليوم إحدى المناطق النادرة في العالم التي أخفقت في جمع نفسها في مجموعة متعاونة ومتناسقة ومتضامنة وبالتالي في التحكم ولو جزئيا بمصيرها. ومن الواضح أن الافتقار إلى نظام إقليمي فاعل يترك المنطقة اليوم في حالة تخبط ويعرضها لشتى أنواع التدخل الخارجي. فالاخفاق في بناء نظام إقليمي لا يعني في الواقع سوى الفشل في وضع القواعد النظرية والآليات العملية التي تساعد شعوب المنطقة على تنسيق مصالحها ونشاطاتها المتباينة والمتنافرة لتقيم حالة من الاستقرار والتوازن والأمن وما يرتبط بكل ذلك من تحقيق السلام الأهلي والخارجي. وهو النظام الذي لا غنى عنه من أجل طمأنة الأفراد وتعزيز العمل لبناء مواقف وتوجهات ايجابية عند الجميع تسمح بقيام نظم سياسية شرعية ومنظومات قانونية نزيهة تشجع على بذل الجهد وتدعيم الاستثمارات المعنوية والمادية ومن ثم على تحقيق الحد الادنى من التنمية والازدهار لشعوب المنطقة ومواطنيها.
ولا أعتقد أن هناك ما يمكن أن يفسر العجز المستمر عن تجاوز الخلل في العلاقات العربية وبناء أسس العمل المشترك كما يجري عليه الحال في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا غير القطيعة الخطيرة والمستمرة بين المجتمع ونخبه الحاكمة. ولا تعني القطيعة أن السياسات التي تطبق داخل البلدان منفردة وعلى المستوى الإقليمي لا تنبع من الشعوب أو لا تصاغ بمشاركتها فقط وإنما تعني أكثر من ذلك أنها لا تأخذ بالاعتبار مصالحها بقدر ما تتحكم بها مصالح النخب الحاكمة وحدها.
لكن في ما وراء هذه الحقيقة الظاهرة التي تتعلق بالتغييب العنيف للمجتمع عن المشاركة في الحياة العمومية، السياسية والمدنية، تكمن مشكلة أخرى لا تقل عنها أهمية هي نمط ممارسة السلطة نفسه. فليس من الممكن بناء أي مؤسسة، وبشكل خاص مؤسسة إقليمية تشارك فيها مجموعة من الدول من دون القبول بتنازل هذه الدول عن جزء من صلاحياتها وسلطاتها للمؤسسة الجديدة حتى تحظى بالحد الأدنى من الاستقلال والمسؤولية. والحال أن ما ميز تاريخ الجامعة العربية منذ نشوئها هو رفض الدول العربية التنازل لها عن أي قسط من مسؤوليتها وصلاحياتها وتركها عالة على الإرادات المتنافرة والمتنازعة للحكومات العربية. وهذا هو السبب الذي يفسر شللها كما يبين لماذا أخفقت في التطور والنمو بالمقارنة مع جميع المنظمات الإقليمية الدولية التي عرفتها المجتمعات في العقود القليلة الماضية بالرغم من أنها كانت هي الأقدم والأكثر تمتعا بعوامل النجاح بسبب انسجام ثقافة الشعوب التي تنتمي إليها من جميع المنظمات الإقليمية الأخرى التي نشأت بعدها.
وليس لهذا الرفض عن التنازل عن أي قسط من المسؤوليات والصلاحيات، أي من السلطات، للمنظمة الإقليمية العربية علاقة بهذه المنظمة بالذات كما أنه ليس نتيجة رغبة واعية عند معظم الحاكمين في شلها أو منعها من العمل. بل إن هناك الكثير منهم ممن يستاء من هذا الجمود ويتمنى أن تسير الأمور بشكل أفضل. إن السبب الرئيسي الذي يقف وراء تغييب المجتمع كما يقف وراء عدم القدرة على بناء مؤسسة تعاون إقليمي عربية والتنازل لها عن بعض الصلاحيات هو نمط من الفهم والممارسة السائدين للسلطة السياسية في البلاد العربية، أي للسلطة كعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، أو باختصار لعلاقة السلطة. فمن الواضح أكثر فأكثر أن النخب الحاكمة لا تأخذ أبدا بمفهوم السلطة كمسؤولية وبالتالي كتكليف من قبل المجتمع لتحقيق سياسات معينة وما يرتبط بهذا التكليف من مراقبة ومحاسبة وحق المجتمع في استعادة السلطة وإعادة تكليف جماعة أخرى بمهامها ولكنها تستند في ممارستها الشائعة إلى مفهوم السلطة الغنيمة التي تؤسس للاحتفظ الأبدي بها والتمسك بجميع تفاصيلها، تماما كما كان عليه الوضع في القرون الوسطى حيث كان احتلال المنطقة من قبل ملك أو أمير يولد حقا طبيعيا ومكتسبا بالبقاء فيها وحكمها من دون قيود ولا حدود زمنية. فالمالك يتمتع بجميع الحقوق على ملكه ومملكته بما فيها ومن فيها ولا يمكنه أن يتنازل عن بعض من سلطاته أو أن يشارك أحدا آخر فيها من دون أن يضعف سلطته المطلقة عليها. لذلك لم تتوحد الممالك في القرون الوسطى إلا بالضم الآلي سواء أجاء ذلك نتيجة الحروب أو المصاهرة بين الأمراء.
وبالعكس إن السلطة في المفهوم الحديث تقوم على مبدأ المسؤولية التي تحول الحاكمين إلى مكلفين ومؤتمنين، أمام شعب سيد، على مصالح معينة، حتى أصبحت فكرة العقد هي المفهوم المواكب لها. وعلاقة الائتمان تعني أن الحاكمين ليسوا ملاكا وأنهم يعملون لصالح طرف ثالث هو المجتمع وأن مصلحة هذا المجتمع وحكمه هما معيار نجاحهم في حمل المسؤولية. ولأن البلاد ليست ملكهم وهم ليسوا مؤبدين في الحكم فلن يكون لديهم مانع من التفكير بمشاريع تنمية إقليمية وغير إقليمية تضمن مصالح المجتمع ولا من التنازل في سبيل تحقيقها عن بعض الصلاحيات التي هي أصلا موكلة لهم من قبل الشعب طالما أن هذا التنازل يقدم منافع للشعب ويحفزه على التمديد للفئات الحاكمة التي أظهرت حسن حملها للمسؤولية. ففي الحالة الأولى يترجم أي تنازل بالتخلي عن مصالح الطبقة الحاكمة أو عن جزء منها بينما يشكل هذا التنازل في الحالة الثانية وسيلة لتنمية المصالح العامة في إطار توسيعها ودمجها مع مصالح الشعوب الأخرى.
إن السلطة الغنيمة لا تضمن قيام أي بنية مؤسسية كما لا تقود ولا يمكن أن تقود إلى أي إصلاح. ومعظم النظم القائمة في المنطقة العربية قد كرست وعممت بسلوكها وايديولوجيتها معا مفهوم السلطة الغنيمة بل والفريسة. فهي تتصرف كما لو كانت موارد البلاد ملك لها وحكر عليها. وهي تعتبر خارجا عن القانون كل من يطالب بتداول السلطة أو يعمل بحسب ذلك المبدأ وتتهمه بالتمرد والعصيان، بل كل من يبدي اهتماما نزيها بإصلاح الشأن العام.
هذا هو الهدف من إلغاء الحياة السياسية وفرض حالة الطواريء وتوريث المناصب الحكومية والسياسية. وهكذا تتحول السلطة إلى سطو والبلد إلى غنيمة والجمهورية إلى ملك شخصي صاف والأفراد إلى محاسيب وأتباع مسخرين أو عبيد مهاجرين.
نحن لا نزال نعيش للأسف، بالرغم من المظاهر، في ثقافة القرون الوسطى السياسية، ثقافة ما قبل الدولة. وبالرغم من المظاهر أيضا لا أعتقد أننا نعيش في دولة أو توجد عندنا دولة بالمعنى الحديث للكلمة. إننا نعيش بالأحرى في إقطاعات قرون وسطوية تحكمها وتتحكم بها ميليشيات حزبية أو تحزبية، مدنية وعسكرية، تتبع للزعيم وتخضع لقواعد
التبعية الشخصية والولاءات الزبائنية
.

jeudi, mars 17, 2005

مشكلة الاصلاح الديمقراطي في سورية

الجزيرة نت 16 فبراير 2005
بدأت معركة الاصلاح الديمقراطي في سورية منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي عندما أعلنت نقابات المهن الحرة من محامين ومهندسين وأطباء وجمعيات حقوق الانسان مطالبها بإلغاء المحاكم الاستثنائية وحالة الطواريء والعودة إلى ممارسة الحياة السياسية الطبيعية. وقد التحق المثقفون بالحركة وكانوا في طليعة القوى التي كافحت من أجل وضع حد لنظام الفساد الاقتصادي والإداري وللتعسف الأمني وغياب أي مظهرمن مظاهر الحياة القانونية السليمة في البلاد. وكانت الحركة من القوة إلى درجة أجبرت السلطات البعثية في ذلك الوقت على فتح حوار مع المثقفين والصحفيين تميز بالجرأة والصراحة وأحيانا بالعنف نتيجة حالة الاستياء العميق التي كانت تخيم على المجتمع السوري برمته. وقد تحولت أشرطة التسجيل التي نقلت عن هذه النقاشات إلى مادة للتداول بين الجمهور السوري لفترة طويلة. لكن موجة النقد والمطالبة بالاصلاح هذه ما لبثت أن خمدت بعد أن أصدرت القيادة القطرية للحزب الحاكم قرارا بحل النقابات المهنية وجمعيات حقوق الانسان (أفريل 1980) واعتقال العديد من قادتها وزجهم بالسجن لسنوات طويلة وإعادة تشكيل مجالسها حسب قانون جديد يخضعها بشكل مباشر لإشراف حزب البعث ويعطي لرئيس الوزراء الحق في حل أي مجلس نقابي من دون تقديم أي تبرير (قانون رقم 39 و 31 و26 عام 1981). ومنذ ذلك الوقت حرم المجتمع السوري من أي قناة للتعبير عن رأيه أو عن تطلعاته وأخضع بشكل عسكري لنظام اتخذ أكثر فأكثر شكل نظام العبودية بمعنيينها : تأليه الحاكم وتنظيم طقوس عبادته اليومية وتمرين الأفراد على الخضوع والتذلل والتسليم للملك الإله.
وقد جاء النزاع الذي تفجر بعد ذلك بقليل بين الجماعات الاسلاموية المتطرفة وقوات الأمن خلال أكثر من سنتين وانتهى بمجزرة حماة الشهيرة التي قضى فيها عدة عشرات من الألوف من السوريين ليختم هذه الحقبة العنيفة من إجهاض المطالب الإصلاحية وتجريد المجتمع من أي حماية قانونية أو سياسية أو مدنية وتقديمه فريسة لحكم الأجهزة الأمنية التي أصبحت، تحت إمره ملك إله يحكم بأمره ولا يخضع قوله أو فعله لا لمساءلة ولا لنقاش ولا لحساب، هي السلطة الحقيقية الوحيدة في البلاد. وقد أنشأ تجريد المجتمع من جميع البنيات والهياكل السياسية والمدنية والقانونية التي تمكنه من الدفاع عن نفسه والاحتفاظ بالحد الادنى من حقوقه وحرياته وضعا مثاليا لتكوين إقتصاد قائم على النهب والسلب بحيث لم يعد هناك فرد أمين على ماله أو تجارته أو نفسه وكل مجبر على مقاسمة أرباح عمله أو ثروته أو إرثه مع أحد أزلام النظام ومحاسيبة الأمنيين والعسكريين حتى يستمر في الحياة. وهكذا فرط عقد المجتمع تماما كمجتمع مدني ومتمدن لصالح منطق قانون الغاب لا أكثر ولا أقل. وبالرغم من تزايد مداخيل النفط الريعية، تراجعت المؤشرات الاقتصادية جميعا وساد الكساد وتقهقرت معدلات النمو السنوي ونصيب الفرد من الناتج الوطني باستمرار.
في محاولته للحيلولة دون انهيار محتم للوضع اتخذ الحكم منذ بداية التسعينات سلسلة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية الاصلاحية. فأقر تخفيف قبضة السيطرة البعثية على البرلمان بتخصيص نسبة الثلث من مقاعده لمن أطلق عليهم اسم المستقلين. كما أصدر عام 1991 مرسوما رقم 10 سمي قانون تشجيع الاستثمار لتوسيع هامش مبادرة القطاع الخاص وتخفيف القيود والضرائب عنه حتى يساهم بشكل أكبر في النشاط الاقتصادي. لكن استمرار السيطرة الأمنية الشاملة على الحياة العامة قلل كثيرا من آثار هذا الإجراء وقصر نتائجه على إنشاء بعض المشاريع الصغيرة في النقل والخدمات عموما. ومع ذلك نظر الرأي العام إلى هذا الاصلاح بايجابية واعتبره خطوة أولى على طريق تحرير الاقتصاد بشكل أكبر من سيطرة الفئات الطفيلية التي استخدمت سياسة دعم القطاع الحكومي والتعويض التلقائي عن خسائره الكبيرة والمتزايدة كوسيلة لنهب المال العام.
وقد تعمق إدراك الحاجة إلى الاصلاح والدعوة له بشكل أكبر بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وتولي ابنه بشار الحكم. وساهم خطاب الرئيس الجديد نفسه في بث الأمل بوجود إرادة إصلاحية عندما اعترف في حديثه لأول مرة بالمشاكل التي تعاني منها البلاد وطلب من الشعب مساعدته على ايجاد الحلول لها وتكلم عن نفسه بوصفه مواطنا كالآخرين لا مالكا لهم. وقد عزز الأمل بالاصلاح اعتقاد قطاعات واسعة من النخبة السورية بصدق نوايا الرئيس الجديد وفتوته واطلاعه على ما يجري في العالم وفي أوروبة خاصة وتأثره به وعدم انغماسه في الفساد أو انخراطه في عملية تقاسم المغانم التي قضت على سمعة الطاقم السياسي الحزبي والحكومي السابق وأجهزت على صدقيته.
لكن الشعور بخيبة الأمل في الاصلاح من داخل النظام لم يتأخر كثيرا في الظهور مع تعثر الاصلاحات الإدارية والاقتصادية التي أقرها النظام ودفن حملة مكافحة الفساد قبل البدء بها والقضاء العنيف على ظاهرة المتنديات الفكرية التي نشأت بعد استلام بشار الأسد السلطة وايداع العديد من قياداتها السجن واستمرار تعقب أجهزة الأمن للآخرين والتنكيل بهم. وهكذا، قبل أن تعلن الولايات المتحدة سياستها الجديدة في الشرق، كانت السلطة قد نجحت في تبديد رصيد الأمل الذي بعثه خطاب الرئيس وأعادت المجتمع السوري من جديد إلى بيت الطاعة وأخضعته لمنطق الحكم الامني والحرب المعلنة عليه من قبل الأجهزة.
والواقع ما كان لمبادرة الإصلاح الأمريكية أن تستحوذ على انتباه الجمهور العربي في سورية وغيرها لو لم تأت في ظرف انعدم فيه الأمل تماما بأي إصلاح داخلي. وهكذا عزا الجمهور لهذه المبادرة أهدافا لم ترسمها لنفسها ولا قدمت أي خطة لتحقيقها وفي مقدمها مسألة الديمقراطية. وينبغي القول إن واشنطن لم تتحدث عن أي مشروع للاصلاح في البلاد العربية قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، وقد تمحور أول مشروع حول التنمية والمرأة والمعرفة ولم يتطرق كثيرا للمسائل السياسية. ولم يتحول الحديث الضعيف عن ضرورة الاصلاح إلى مشروع أو مبادرة أمريكية ثم أمريكية أوروبية إلا على أثر المصاعب التي واجهتها الحملة العسكرية الأمريكية على العراق عام 2003 واصطدامها بحاجز المقاومة المسلحة العنيفة. فمن أجل إضعاف موقف هذه المقاومة التي تستمد شرعيتها من الدفاع عن الاستقلال السياسي والثقافي والهوية وفي سبيل قطعها عن محيطها العربي والاسلامي لم تجد الدعاية الأمريكية بديلا لإضفاء الشرعية على نشاطها في العراق سوى بربط مشروعها لبسط نفوذها الاستعماري الجديد في المنطقة بمسألة الديمقراطية والحرية التي شكلت في العقود الثلاث الماضية من دون شك الهاجس الرئيسي للنخب العربية وللطبقات الوسطى ولم تنفع أي جهود لا في الحكم ولا في المعارضة في تعبيد الطريق إليها. وقد زاد تركيز الدعاية الأمريكية على مسألة الديمقراطية والحرية بمناسبة حملة الانتخابات الثانية التي أعطت الرئيس جورج بوش ولاية رئاسية جديدة. وقد استخدم الرئيس الأمريكي شعار نشر الديمقراطية في البلاد العربية من أجل ايجاد مبررات أخلاقية لحربه في العراق التي أصبحت تثير اعتراضات قوية من قبل الرأي العام الأمريكي بسبب تكاليفها البشرية والمادية الكبيرة كما حاول من خلالها رد الاعتبار لسياسته الدولية التي اتهمت من قبل حلفاء واشنطن بالتهور والانفرادية والتسلطية واللجوء المفرط للقوة العسكرية.
ومن هنا، ومنذ البدء، لم تشعر القوى الديمقراطية السورية أن هناك تقاطعا بين برنامجها وما تطرحه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولكنها، بالعكس من ذلك، شعرت بأن هناك محاولة أمريكية للالتفاف على الحركة الديمقراطية العربية الأصيلة واستثمارها لتحقيق مآرب ليس لها علاقة أبدا بالدفاع عن حقوق الفرد العربي وحرياته الأساسية. فالمشروع الأمريكي الحقيقي الوحيد كما هو واضح من سياستها في المشرق العربي كافة وليس في فلسطين والعراق فحسب هو انتزاع المنطقة من أيدي نظام عربي إقليمي مهتريء تنظيميا وسياسيا وفكريا لإدراجها في منظومة الاستراتيجية الأمريكية العالمية. وليس للشعارات الديمقراطية من دور هنا سوى تغليف هذا المشروع بغلاف رقيق من الشعارات المحببة إلى الشعوب العربية التي اكتوت خلال عقود بنار الظلم والقهر والارهاب الداخلي.
إن ما تريده الولايات المتحدة هو دفع المواطن العربي باسم ديمقراطية موهومة إلى مقايضة الوطنية العربية وبرنامجها القائم على تعزيز التعاون والاندماج العربي وتأكيد استقلال المنطقة عن النفوذ الأجنبي ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي والسيطرة الخارجية الغربية ببرنامج استعماري جديد قائم على مفهوم الشرق أوسطية الكبيرة أو الموسعة يؤسس سياسيا وايديولوجيا لتكريس التجزئة العربية واستبدال الحلم العربي الوحدوي بالتبعية المشتركة للولايات المتحدة وقبول الحمايات الخارجية ويجعل من الاندراج في السوق الاقتصادية الدولية والتعاون مع إسرائيل قاعدة العمل في سبيل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الرفاه في المنطقة. وهو ما ينبغي أن يشكل الهدف الوحيد للحياة الجمعية العربية.
ومن الواضح أن تحقيق البرنامج الاستعماري الجديد يصطدم بشكل مباشر مع أي برنامج ديمقراطي فعلي بقدر ما يقوم على نزع سيادة الشعوب والحيلولة دون ممارستها حقها في تقرير مصيرها وفرض الوصاية عليها. إن ما تدعو إليه المبادرة الأمريكية ليس شيئا آخر في الواقع سوى استبدال وصاية النخب الحاكمة الاستبدادية، التي أصبحت مصالحها تتعارض جزئيا أو كليا مع أهداف الاستراتيجية بناء الأمبرطورية العالمية، بوصاية أمريكية. وليس هناك أي مجال لأن تتماشى التبعية التي يتطلبها الالتحاق بالاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط مع إقرار التعبير الحر عن إرادة الشعوب العربية الذي تتضمنه الديمقراطية والذي يهدد برفض السيطرة الأمريكية بالدرجة ذاتها التي تخشاه بها النخب الاستبدادية المحلية.
ومن هنا وبالرغم من الضجيج الكبير الذي تثيره الإدارة الأمريكية حول الديمقراطية لم تجعل واشنطن، حتى هذه اللحظة، ولا غيرها من العواصم الكبرى من الانتخابات التشريعية أو الرئاسية النزيهة والتنافسية منطلقا أو أساسا للاصلاح المزعوم. ولم تطالب السلطات القائمة لا في مصر ولا في السعودية ولا في أي دولة عربية أخرى، ومن باب أولى في سورية، بتنظيم مثل هذه الانتخابات كشرط مسبق للتعاون او التعامل معها أو دعمها في تحقيق الإصلاح الاقتصادي أو الإداري.
بل إن الإدارة الأمريكية لا تتحدث عن الديمقراطية، حتى بمعناها الشكلي كواجهة لتعددية فارغة من المضمون، بلغة واحدة ولا تطبيق المعايير نفسها على جميع بلدان المنطقة. فهي لا تطالب بتحقيق مزيد من الإجراءات الديمقراطية، أي بتحسين الواجهة التعددية وتوسيع دائرة المشاركة الانتخابية لامتصاص نقمة بعض فئات الطبقة الوسطى والتقليل من الغش والتزوير الفاضح في الانتخابات، إلا الدول العربية التابعة أصلا لمنطقة نفوذها مثل مصر والمملكة العربية السعودية. أما في البلدان التي لا تعتبر أنها تدخل في دائرة نفوذها كليا بعد مثل ليبيا وسورية فأولوياتها هنا ذات طبيعية استراتيجية محض. فهي لا تطالب إلا بتصفية النزوعات الوطنية العربية، حتى تلك الرمزية منها، من دون إثارة أي مشكلة بالنسبة للإبقاء على نظام العسف المطلق القائم. وهذا هو بالضبط ما يطلبه الأمريكيون من سورية. فهم لا يكفون عن تكرار أن عليها التمثل بما قامت به ليبيا. ولم يتحدث مسؤول امريكي واحد عن تغيير نظام حزب البعث القائم أو حتى عن إجراء إنتخابات نزيهة ومن باب أولى عن تداول السلطة بل حتى عن توسيع دائرة المشاركة الشعبية في الحكم على مثال ما تطلبه من مصر والمملكة السعودية. ولم يصدر أي بيان جدي لإدانة سياسات القمع أو للدفاع عن معتقلي الحركة الديمقراطية السورية في سبتمبر 2001. كما لم يكلف مسؤول امريكي سياسي واحد نفسه الالتقاء بأي قطب من أقطاب المعارضة السورية الديمقراطية أو دعوتهم لأي حوار. إن كل ما يطلبه الأمريكيون من النظام السوري هو التخلي عن أسلحة الدمار الشامل ووقف دعم عمليات المقاومة العربية في فلسطين أو العراق أو لبنان والتطبيع مع إسرائيل من دون مقابل والتعاون الأمني معها ومع واشنطن، أي، باختصار، التخلي عن ما تبقى من أصداء بعيدة لبرنامج البعث الوطني العربي القديم ورفع الراية أمام الإدارة الأمريكية.
ومن هنا لا أعتقد أن المعارضة الديمقراطية السورية قد استفادت أو أنها يمكن أن تستفيد من الضغط الأمريكي المتواصل الذي يصب بالضبط على الجوانب الوحيدة التي تلقى إجماعا عند الراي العام السوري والتي لا يستخدمها النظام سوى كتغطية ايديولوجية لسياساته القمعية، أعني الخيار العربي ودعم المقاومة وتوفير وسائل الدفاع والحماية الوطنية بأسلحة تملك الحد الأدنى من الصدقية والحفاظ على الاستقلال الوطني. وهذا هو الذي دفع ببعض المسؤولين السوريين إلى القول إن على أمريكا أن تدرك أن النظام أقرب إليها في مواقفه من المعارضة. وهذا صحيح. وهو ما يفسر كذلك مقاطعة واشنطن لهذه المعارضة وللشعب السوري عموما وعدم اتخاذ أي موقف يدعم كفاحه الديمقراطي، لا في الماضي ولا في الحاضر. إن برنامج المبادرة الإصلاحية الأمريكية في سورية وليبيا هو برنامج المصالح الاستراتيجية فحسب من دون براقع ولا أصباغ، أي التفاهم والتعاون الأمني الواسع بين النظام القائم من جهة وحكومات واشنطن وإسرائيل من جهة ثانية ولا شيء آخر.
وهذا هو السبب أيضا في أن المعارضة الديمقراطية السورية تجد نفسها على مسافة واحدة من النظام الذي يضطهد شعبه ومن المبادرة الأمريكية التي تريد أن تجرد هذا الشعب نفسه من أسلحته المحدودة في مواجهة إسرائيل وتفرض عليه الانصياع والاستسلام الوطني بعد أن فرض عليه النظام الاستسلام السياسي والاجتماعي والمدني وحرمه من كامل حقوقه وحرياته. وهي تدرك أن تغييب الشعب السوري ومنعه من ممارسة حقه في تقرير مصيره هو نقطة الالتقاء الحقيقية والرئيسية بين نظام الاستبداد الذي لا يزال مقبولا أمريكيا كقاعدة للعمل ونظام السيطرة الخارجية الأمريكية والاسرائيلية الذي تريد واشنطن فرضه في المنطقة الشرق أوسطية.
وكما أدركت المعارضة الديمقراطية السورية منذ زمن بعيد أن أكثر ما أساء لبرنامج الوطنية العربية ونزع عنه الصدقيه كان الربط بينه ونظام السلطة الاستبدادية الفئوية، فهي تدرك أيضا اليوم أن أكثر ما أساء ويسيء للقضية الديمقراطية في سورية وغيرها من الدول العربية هو ربطها بالعدمية الوطنية والقومية وجعلها بديلا للانتماء العربي أو لاسترجاع السيادة والحقوق الوطنية في الأراضي المحتلة. وهو ما تهدف إليه الإدارة الأمريكية التي تلوح بالديمقراطية لتنتزع السيادة، أي حق الشعوب العربية في التصرف بالمسائل الاستراتيجية وما يساهم في تقرير مستقبلها ومصالحها العليا والبعيدة، تماما كما لوحت السلطة الاستعمارية القديمة بالكتاب المقدس لتنتزع الأرض وملكيتها من الفلاحين السود الفقراء ولتحولهم إلى عبيد.
لكن ذلك لن يغير من استراتيجيات الحركة الديمقراطية ولن يدفعها إلى المساومة على استقلالها وحرية مبادرتها تجاه الولايات المتحدة وأي دولة أخرى وتجاه النظام الأمني القائم معا. وهي ستستمر في وضع رهانها على الشعب وتوعيته وتعبئته في سبيل ثورة ديمقراطية سلمية تلغي تغييب الإرادة الشعبية وتضع حدا للعسف الداخلي والخارجي في الوقت نفسه. وهي لا تعتقد أن التفاهم الأمريكي المحلي على إقامة نظم أمنية معدلة، ذات واجهة تعددية شكلية تخفي حقيقة السلطة الفئوية التابعة والمصالح الأجنبية شبه الاستعمارية المتحالفة معها، سوف يثني المجتمعات العربية عن الاستمرار في طريق الكفاح الديمقراطي وعن القدرة على بلورة الرد الشعبي المناسب على استراتيجيات العزل والتهميش والتلاعب والتغييب المختلفة التي تطورها نظم الاستبداد الداخلية ومنظومات السيطرة الاستعمارية الخارجية معا. وهي تؤمن، أنه ليس أمام الشعوب خيار آخر سوى العمل بجميع الوسائل وتحت أي ظروف من أجل انتزاع حقها في الحرية والمساواة أي من اجل انتزاع إنسانيتها، وأن ما نعيشه في العالم اليوم وفي المشرق العربي بشكل خاص ليس انتصار مشروع تجديد أسس النظام الاستعماري الاستبدادي القائم ونجاحه في استعادة سيطرته المحلية والإقليمية ولكن بالعكس حشرجة هذا النظام وتخبطه في محاولات يائسة لإنقاذ نفسه بعد أن فقد الكثير من مرتكزاته ومبررات وجوده.

أزمة العلاقات السورية اللبنانية

السفير 2 مارس 2005

لم يعد أحد يشك اليوم في أن عملية الاغتيال التي تعرض لها أهم رجل سياسة ودولة عرفه لبنان في حقبة ما بعد الحرب الأهلية، وربما منطقة المشرق العربي بأجمعها، قد زعزعت، بعواقبها القوية التي فاجأت ربما منفذيها أنفسهم، الأسس السياسية والمعنوية التي قام عليها الوجود السوري في لبنان منذ ثلاثين عاما. وبعد أن رفضت دمشق برنامج الرئيس الحريري للحل الوسط الذي كان يمكنها من الابقاء على نفوذها السياسي والاقتصادي وربما العسكري أيضا في البقاع لقاء القبول بتحرير الحياة السياسية اللبنانية الداخلية من التدخلات الأمنية السورية، أصبحت الآن مضطرة إلى الخروج من لبنان في حالة كارثية تحت تهديدات الدول الأجنبية ومن دون أي فرصة للمفاوضة أو الحوار أو النقاش حول مصير لبنان في الحقبة مابعد السورية. فقد دفع مقتل الحريري التراجيدي القسم الأكبر من قطاعات الرأي العام اللبناني، على اختلاف انتماءاتها الطائفية، إلى الالتحاق العفوي أو الواعي بالمعارضة اللبنانية والمطالبة بما يشبه الاستفتاء الشعبي العام على خروج القوات الأجنبية ووضع حد فوري للنفوذ السوري في لبنان. وقد ضاعت بذلك الفرصة التي كانت تراهن عليها قطاعات واسعة من الرأي العام العربي القومي والوطني، بما في ذلك في لبنان وسورية، للتفاهم السوري اللبناني المسبق الذي يجنب البلدين الانفصال الكارثي الذي يضر بمصالح سورية ومصالح لبنان وعلاقتهما المستقبلية معا.
بالتأكيد ما كان من الممكن للانسحاب السوري المفاوض عليه والذي يضمن لسورية خروجا مشرفا من لبنان أن يحصل من دون تنازلات كبيرة للمعارضة وللشعب اللبناني معا، في مقدمها تخفيف القبضة الأمنية القوية واحترام مظاهر السيادة اللبنانية. لكن هذا النوع من الانسحاب المتفاهم عليه وحده كان سيضمن لسورية الانكفاء على مواقع ثابتة وقوية تعزز قدرتها على الاستمرار في مقاومة الضغوط الأجنبية. وهو ما كان الجميع يأمل بتحقيقه منذ سنوات. أما الانسحاب السوري الذي سيحصل اليوم في سياق رفض لبناني شعبي واسع للنفوذ السوري وانصياعا واضحا للضغوط الأمريكية والاوروبية القوية وتحت تهديد قوي بتشديد العقوبات فلن يترك لسورية أي هامش مناورة لا داخل لبنان ولا على المستوى الإقليمي. وسوف يظهر بالضرورة بوصفه الحلقة الأخيرة في سلسلة الانهيارات التي تعاني منها المواقع الإقليمية السورية منذ أن بدأت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط في سياق ما أطلقت عليه اسم الحرب على الإرهاب.
إن خروج سورية بالصورة التي فرضت عليها أو التي فرضتها على نفسها بسبب دبلوماسيتها الجامدة التي تنتمي إلى عصر آخر وسقام حساباتها الجيوستراتيجية سوف يقود إلى أمرين كان بإمكان دمشق ومن واجبها تجنبهما لصالح الشعب السوري والشعب اللبناني معا. الأول تجيير الخروج بشكل رئيسي لصالح القوى اللبنانية المعادية للوجود السوري ولسورية بشكل عام وليس فقط للتسلط الأمني على لبنان، وبالتالي خطر إعادة لبنان إلى فلك النفوذ الأمريكي الفرنسي وتحييده النهائي في معادلة المقاومة العربية المنهكة. والثاني انهيار ثقة الرأي العام السوري بالقيادة السياسية السورية نتيجة للاعتقاد المتزايد بتخبطها وعجزها عن مسايرة الأحداث الإقليمية والدولية في مرحلة تتعرض فيها البلاد لتحديات متزايدة داخلية وخارجية. وسوف يعمق مثل هذا التاكيد من مشاعر القلق داخل صفوف الشعب السوري نفسه ويفاقم من الانتقادات العنيفة التي يتعرض لها النظام من قبل المعارضة والرأي العام على جميع المستويات. وستكون النتيجة إضعافا مضطردا وخطيرا في صدقية النظام والقوة المادية والمعنوية التي يتمتع بها. والنتيجة تزايد عوامل زعزعة الاستقرار الداخلية والخارجية بالنسبة لنظام ليس لديه هامش مناورة كبير في ما يتعلق بالرد على التحديات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية. ستدفع سورية بالتأكيد ثمنا كبيرا لهذا الانسحاب المفروض تحت التهديد والرفض اللبناني الواسع لكن العواقب سوف تكون وخيمة بشكل خاص على أمن واستقرار النظام.
فالواقع أن لبنان الذي عمل في الحقبة الأولى من الوجود السوري كساحة للمناورة الاستراتيجية وكمسرح عمليات ثانوي لإدامة الحرب بطريقة محدودة ضد اسرائيل أو للضغط عليها لدفعها إلى مفاوضات جدية، قد تحول منذ انهيار مفاوضات السلام وتبني المفاوضات كخيار استراتيجي في المنطقة بأكملها، وفي دمشق أيضا، إلى مسرح جانبي للعمليات التي تعنى بالحفاظ على نظام الحكم القائم في دمشق، بوصفه مجموعة المصالح الخاصة بالفئات التي تشكل قاعدة النظام. وفي هذا المجال شكل لبنان مسرحا متعدد المهام والوظائف سواء ما كان منها أمنيا أم اقتصاديا أم سياسيا أم إعلاميا. فكان ميدانا كبيرا إضافيا مفتوحا لاستعراض قوة السلطة الأمنية وتأكيد نفوذها وسطوتها وقانونها في سورية نفسها ولردع المعارضة ومنعها من التجمع أو النشاط. وكان ساحة للمناورة الدبلوماسية التي تعطي "لسورية البعث" أوراقا إضافية في المفاوضات مع الدول الكبرى المعنية بالمنطقة وفي الضغط عليها أو استرضائها. وكان مسرحا جانبيا فسيحا لاستعراض ونشر منطق الولاء السائد في السياسة البعثية الداخلية نفسها لتأمين الأتباع في الداخل والخارج والتمرن على احتواء قوى المجتمع وكسر شوكة الخصوم وقطع الأمل عند أي طرف في المقاومة أو التصدي أو الاحتجاج. وكان ترعة لتفريغ التوترات ا لسورية الداخلية وحلها في الخارج، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. وكان أيضا مسرحا إعلاميا من طراز رفيع لتأمين عناصر الدعم والدعاية وبث الرعب في قوى الاحتجاج الداخلية وإعطاء المصداقية لخطاب الالتزام القومي والوطني للنظام والتغطية على إحباطاته ومصاعب سياساته الداخلية والخارجية. حتى أن السوريين لم يعد يحق لهم مناقشة مصير بلدهم نفسه وتحولاته إلا على صفحات جرائد ووسائل إعلام لبنان. بل لقد أصبح لبنان أهم ساحة إعلامية ينطلق منها المدافعون عن النظام السوري في وسائل الإعلام العربية خاصة الفضائية لتبييض صفحة السلطة البعثية وتشويه صورة معارضيها. وكان أخيرا وليس آخرا حقلا ثمينا لمراكمة الثروة ورأس المال ولتأمين المصالح والمزايا الاستثنائية والريوع الناجمة عن النفوذ الأمني والسياسي بالنسبة لقطاعات واسعة من المحسوبين على النظام وأصحاب الحظوة فيه. وخروج النظام البعثي من لبنان يعني فقدان كل هذه المزايا مع انعدام أي أمل في التعويض عنها في مكان آخر، بما في ذلك في سورية نفسها.
إن فقدان مسرح العمليات اللبناني الذي هو مسرح العمليات الرئيسي للدفاع عن النظام، بعد فقدان مسارح العلميات الجانبية الأخرى: الفلسطينية والعراقية والأردنية، سوف يعني القضاء على هامش المناورة الاستراتيجية للسلطة البعثية كاملا داخل سورية وخارجها على حد سواء. وهو ما سيقود بسرعة إلى عزل هذه السلطة وتضييق الحصار عليها على الصعيد الإقليمي وإلى إجبارها على خوض معاركها جميعا في الداخل وعلى الأرض السورية، الاستراتيجية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدعائية. وإذا لم يتحول القضاء على النفوذ السوري في لبنان إلى عداء لسورية أو جعل لبنان شوكة في الخاصرة السورية لصالح الخطط الدولية الجديدة، ليس من غير الممكن أن تقود الهشاشة العميقة التي سينتجها هذا الانسحاب بعض أطراف النظام الأقل تورطا في الفساد وفي استخدام العنف، أخيرا، إلى الاستيقاظ من حلم العظمة الذي بدأ يتحول إلى كابوس. أي إلى اكتشاف الطريق المسدود الذي وصلت إليه دبلوماسية دمشق، وربما إلى اكتشاف وجود الشعب السوري نفسه الذي لم يكن لمسارح العمل الجانبية ومعاركها هدف آخر سوى تضييق الخناق عليه حتى يمكن عزله وتغييبه وإخراجه، كما حصل بالفعل، من حقل السياسة والثقافة والإقتصاد، أي حتى يمكن تفريغ الحياة العمومية السورية من أي مضمون وتحويل الشعب إلى أتباع.
لكن معركة تحرير إرادة الشعب اللبناني من المصادرة الخارجية ، وهي معركة حقيقية ومشروعة كما هي مشروعة معركة وضع حد لمصادرة إرادة الشعب السوري والاعتراف بحق الشعبين في المشاركة الفعلية في تقرير مصيرهما، لا ينبغي أن تخفي عنا معركة أخرى تتعلق بالمنطقة ككل. وإذا لم نشأ أن يكون الانسحاب السوري من لبنان وإلغاء المصادرة البعثية لإرادة الشعب اللبناني إلى قطيعة بين سورية ولبنان أو إلى مصادرة أخرى أجنبية لهذه الإرادة نفسها وأن لا يكون الهدف من إبعاد النفوذ السوري عن لبنان هو إخضاع لبنان لنفوذ آخر وسيطرة جديدة خارجية تستخدم لبنان لتحقيق أهداف معادية لسورية ومساندة لإسرائيل، فلا بد أن نضع هذه المعركة في سياقها الإقليمي والعالمي.
فليس هناك شك في أن مشروع إخراج سورية من لبنان يندرج أيضا في الخطة الامريكية الجديدة لإعادة بناء علاقات المنطقة على أسس تشكل قطيعة مع الأسس التي قام عليها النظام الإقليمي السابق الذي سيطرت عليه النزعة القومية والتحالف الإقليمي العربي ضد إسرائيل والتضامن الشعبي لدعم الحقوق الفلسطينية والعربية عموما ومقاومة النفوذ الأجنبي. إن ما هو مطروح اليوم على المنطقة بعمومها هو حلف بغداد أمريكي جديد. وما هو مفروض على سورية هو إجراءات تفقدها تدريجيا هامش مناورتها الاستراتيجية والسياسية حتى تجبرها على الانصياع لهذا الحلف والدخول فيه والعمل إلى جانب إسرائيل لتحقيق أغراضه.
وما تلام عليه دمشق بالضبط هو إسراعها في تحقيق هذا الهدف بسبب عجزها عن فهم تطورات الأوضاع الاقليمية والدولية وإصرارها على العمل بمنطق الحرب الباردة القديمة، ربما انطلاقا مما عبر عنه وزير إعلامها في أحد تصريحاته من أن سورية تجسد معجزة سياسية لأنها وهي البلد الصغير والضعيف بالإمكانيات والموارد تقود سياسة دولة عظمى. مثل هذا الفصام الواضح هو الذي يفسر ضعف حسابات السلطة السورية الاستراتيجية وانفصالها عن الواقع وإصرار أصحاب الأمر فيها على استخدام أساليب وتكتيكات تنتمي إلى الماضي وعدم قدرتهم على القيام بالمبادرات الدبلوماسية والسياسية المطلوبة لقطع الطريق على حرب الحصار التي تخوضها الولايات المتحدة لإجبار سورية نفسها وليس النظام فحسب على الاستسلام. وهو ما كان يفترض نزع فتيل النزاع قبل أن يقوم والعمل منذ سنوات على إعادة الحياة الدستورية للبنان وكف يد السلطة أو التسلط الأمني على مقدراته وسحب القوات السورية في مقابل تعزيز التعاون بين المؤسسات الرسمية والنشاطات المدنية بين البلدين. لكن كان من الصعب جدا على النظام السوري أن ينجح في تبني أساليب عمل سياسية وقانونية تعتمد القواعد الدستورية وأن يبني علاقات ندية وصحيحة مع شعب لبنان أو يسمح ببناء مثل هذه العلاقات بين أطرافه المختلفة في الوقت الذي يشكل فيه إلغاء السياسة وانتهاك القانون وتعليق الدستور وتجييش الأتباع والأزلام أساس بقائه في سورية ووسيلته الوحيدة لاستبعاد شعبها من أي قرار.
إن الوضع في لبنان وسورية لم يكن في أي فترة سابقة على الدرجة من الخطورة التي هو عليها ا ليوم. وما لم تتحلى جميع الأطراف بأقصى درجات ضبط النفس، تلك التي تعتقد أنها في سبيلها إلى أن تحقق انتصارا تاريخيا على نظام الوصاية والقهر وتلك التي تعتقد أنها تعيش حالة حصار غير محتملة وتتعرض لتهديدات لا حدود لها داخل سورية ولكن داخل لبنان أيضا، في ردها على تحديات الأزمة الراهنة فلن يكون هناك مكسب عربي واحد لا في لبنان ولا في سورية، وسيكون المنتصر الوحيد في المعركة الكبيرة الدائرة في سبيل السيطرة على السلطة والقوة في لبنان هي الدول الأجنبية التي تريد أن تجعل من التحرر من السيطرة السورية حلقة ضمن مشروع بناء الشرق أوسطية على أنقاض الهوية والمصالح العربية.

مغزى التحولات اللبنانية ومآلها

الرأي 5 مارس 2005

يطرح تطور الأحداث الذي فجرها الاغتيال المروع للرئيس رفيق الحريري والتظاهرات المتنافسة التي أعقبته، سواء أكان ذلك على جبهة المعارضة لتأكيد الانسحاب السوري الكامل، أو على جبهة الموالاة بإعلان الوفاء لسورية وللنظام القائم، أسئلة عديدة على المراقب السياسي تتجاوز مسألة التحقيق في مسؤولية مقتل الحريري لتصب مباشرة في فهم مغزى التحولات الكبيرة التي أطلقها ولا يزال منذ الرابع عشر من شباط الماضي. هل كانت عملية اغتيال الحرير مناسبة لتفجير ما سوف يطلق عليه البعض اسم انتفاضة الحرية والتحرر والاستقلال عن السيطرة الغشيمة التي مارستها أجهزة أمنية خارجية وداخلية معا وتعبيرا عن استعادة الوعي والإرادة والمبادرة والوطنية اللبنانية بعد عقود طويلة من القهر والارهاب والتخوين أم كانت غطاءا لمؤامرة دولية أمريكية فرنسية وسير أعمى في ركابها يعكس جهل المعارضة اللبنانية بالحسابات الجيوسياسية الدولية؟
من غير الممكن في نظري الفصل تماما بين التظاهرات الوطنية الواسعة التي حصلت في لبنان بعد مقتل الحريري وردا عليه وبين السياق الإقليمي والدولي الذي خلقته المبادرة الاستراتيجية الواسعة التي تقودها الولايات المتحدة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 في إطار ما أطلقت عليه إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط برمتها والذي طورته في السنتين الماضيتين ليصبح مبادرة إصلاح الشرق الأوسط ودفعه نحو الديمقراطية. ومن هذه الناحية، لا يخطيء الموالون للوضع العربي القائم، بما فيه الوضع القائم في دمشق، بوصفه، كما يقول أنصاره اليوم، آخر موقع للممانعة، عندما يشيرون إلى إن إخراج الجيش السوري من لبنان يندرج، بصرف النظر عن مدعياته، ضمن هذا السياق ويشكل مكسبا كبيرا للاستراتيجة الامريكية الاسرائيلية التي أرادت دائما تفكيك المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان وفصل المسارين السوري واللبناني لإضعاف دمشق استراتيجيا وفرض الاتفاقات المجحفة عليها. وليس هناك شك في نظري أن القضاء على المواقع الاستراتيجية السورية القوية في لبنان يشكل نكسة هائلة للاستراتيجية وليس فقط للدبلوماسية السورية وأن المستفيد الوحيد منه استراتيجيا هو تل أبيب والحكومة الاسرائيلية اليمينية التي رفضت ولا تزال ترفض أي مفاوضات جدية حول مسألة الخروج من الجولان المحتل الذي ألحقته بأراضيها منذ الثمانينات.
لكن تأكيد هذا الواقع لا يقلل ذرة واحدة من مسؤولية القوى السورية اللبنانية الحاكمة في ما يحصل اليوم ولا يبرر سياساتها غير العقلانية إن لم نقل إنه يضاعفها. فهو لا يبين فقط أنها لم تكن على مستوى التحدي التاريخي الذي تواجهه البلاد ولكن أكثر من ذلك، أنها فضلت تقديم مصالحها الخاصة على المصالح العامة وفضلت التقاعس على العمل الجاد لمواجهة الأزمة ومواجهة الاستراتيجيات والخطط الأجنبية الرامية إلى إضعاف لبنان وسورية معا. ولا يمكن تفسير عدم مبادرتها باتخاذ الإجراءات الاستراتيجية الضرورية أو التي بدأت تفرض نفسها منذ سنوات أو على الأقل منذ التصويت على قرار 1559 الذي فرض عليها التراجع أمام خصومها الأمريكيين والفرنسيين إلا بأحد أمرين: أنها لم تكن تعتقد بجدية التهديدات الخارجية ولكنها كانت تستخدم شعار المؤامرة الخارجية من أجل تعبئة الشارع العربي وراءها على أمل التوصل إلى تفاهم ما مع القوى الأجنبية أو أنها لا تملك القدرة على التفكير الاستراتيجي الناجع والعقلاني في عالم يتغير بسرعة وفي بيئة جيوستراتيجية متغيرة ومتطورة يوما بعد يوم. وفي الحالتين تتحمل هذه القوى المسؤولية الرئيسية في ما آلت إليه الأوضاع السورية اللبنانية وذلك لجمعها بين الأمور الثلاثة، أعني لتقاعسها وسوء حساباتها ومراهنتها على الوصول إلى صفقة مع الدول الأجنبية وإدارتها الضعيفة وغير الناجعة للأزمة. ومما يزيد من حجم المسؤولية الواقعة على كاهلها أن هذه الأزمة لم تتفجر فجأة ولكنها تعس منذ سنوات طويلة ولم يتوقف المحللون السياسيون والخبراء الاستراتيجيون منذ سنوات عن لفت انتباه القوى الموالية إلى ضرورة إصلاح العلاقات السورية اللبنانية وإقامتها على أسس سليمة من دون جدوى. ومما يزيد من حجم هذه المسؤولية، ويلغي شرعية الحديث عن مؤامرة خارجية لإخفائها أيضا، أن الولايات المتحدة لا تتصرف في الشرق الأوسط من وراء قناع ولكنها لا تكف منذ سنوات عن التصريح بمضمون ما تريد تحقيقه من أهداف وفي مقدمها إعادة هيكلة العلاقات داخل المنطقة الشرق أوسطية على أسس تتفق وغايات السيطرة الامريكية. والأكثر من ذلك، أن أحد أهم الأطراف التي لعبت دورا حساسا في تفجير الأزمة لغير صالح سورية هي الدبلوماسية الفرنسية التي كانت من أكثر الدبلوماسيات الغربية والعالمية دفاعا عن الوضع السوري ودعما له وبالتالي صلة به وتواصلا معه. ولا تتردد هذه الدبلوماسية في التذكير بأنها لم تلجأ إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يفرض على القوات السورية الانسحاب من لبنان إلا بعد إخفاق جميع الحلول والتدخلات الدبلوماسية الأخرى. مما يعني أن دمشق أخفقت في فهم جميع الرسائل التي وردت إليها ورفضت التعامل الايجابي مع كل المبادرات التي رمت إلى تغيير الأوضاع بالطرق السياسية والدبلوماسية السلمية التي تتيح لها الخروج بصورة مشرفة من لبنان تماما كما رفضت ولا تزال ترفض جميع المبادرات التي تطلقها قوى المثقفين والمعارضة المحلية للحوار والتفاهم حول الخروج من نظام الحزب الواحد والسلطة الأمنية والانتقال نحو نظام التعددية والمشاركة الشعبية الطبيعية.
وبالمثل، كما أن تطور الأحداث الإقليمية في اتجاه يخدم المصالح الخارجية أكثر مما يخدم المصالح الداخلية لا يعفي القائمين على الأمر في البلاد العربية من المسؤولية فإن اندراج الحدث في سياق تقدم الاستراتيجية الأمريكية لا يقلل ذرة أيضا من القيمة التحررية والإنسانية لانتفاضة الحرية التي اندلعت في بيروت في الرابع عشر من شباط والتي جاءت كصرخة احتجاج جامعة وعارمة على ما ينطوي عليه نمط الحكم عن طريق الضغط وتقييد الحريات والتلاعب بالناس والجماعات من امتهان لمعايير السياسة والأخلاق الوطنية والإنسانية معا. ولا تغير الدلالات المتباينة وربما المتناقضة التي أضفاها هؤلاء وأولئك على مشاركتهم في هذه الانتفاضة السلمية، أو برروا سلوكهم بها، بما في ذلك بروز بعض الحساسيات الطائفية، أو مشاركة قوى يمينية متطرفة فيها ومراهنتهم على العودة إلى نظام ما قبل الحرب الأهلية، من المغزى العميق لهذا الحدث بوصفه فورة وطنية وتعبير عن فيضان الكيل ورفض قاطع ونهائي للاستمرار على نهج الخضوع للسلطة الأمنية. وبالرغم من أن ارتفاع لهجة المعارضة اللبنانية قد ساهم قبل الحدث في خلق مناخ جديد حضر للقطيعة مع الوضع القائم فليس هناك شك في أن ما شهدته ساحة الشهداء في بيروت في الرابع عشر من شباط فبراير يوم اغتيال رئيس الوزراء السابق وما بعده لم يأت نتيجة ترتيبات مسبقة ولا بتأثير ضغوط خارجية بقدر ما كان تعبيرا عن التقاء عفوي على معنى التحرر من سلطة قهرية ومن باب أولى عندما تكون هذه السلطة ذات ارتباطات خارجية.
لكن في ما وراء ذلك كله، ربما كان الدرس الأهم لما حصل في لبنان وما سيكون له آثار كبيرة أيضا على مشروع تغيير الواقع الجيوسياسي الإقليمي المطروح اليوم بقوة على المنطقة هو أن السيطرة، أي سيطرة، ليست مسألة محلية محض، مؤطرة جغرافيا وخاضعة لقوانين الايديولوجيات الوطنية أو القومية. إن السيطرة المحلية هي ثمرة توازنات سياسية تستند هي نفسها إلى توازنات جيوسياسية إقليمية وعالمية. وإذا كان نظام السيطرة الأمنية المشتركة السورية اللبنانية قد بقي حتى الآن قائما فذلك بسبب ما كان يستند إليه من ميزان قوى إقليمي ودولي لا بسبب إرادته الذاتية ولا التوازنات اللبنانية والسورية وحدها. ومن الطبيعي أن يتغير هذا الوضع مع تغير وتبدل علاقات القوة الإقليمية والدولية. ومن دون فهم هذا الترابط بين الحقل الجيوسياسي الداخلي والحقل الجيوسياسي الخارجي لا يمكن أن نفهم أصلا قيام أي نظام سيطرة في أي منطقة في العالم ولا كيف يستمر في البقاء، بما في ذلك الحضور السوري في لبنان بل ونظام الحكم القائم نفسه.
لكن إذا كان تبدل الأوضاع السياسية داخل لبنان في سياق تغير الموازين الإقليمية لا يقلل من قيمة الحدث اللبناني ولا يزيل عنه صفة الانتفاضة من أجل الحرية فهو لا يلغي أيضا شرعية القول بأن هذا التغيير يجري اليوم في مستوى العلاقات الجيوستراتيجية لصالح تغيير المنظومة الإقليمية لغير صالح القوى العربية وهو يصب بالتالي في طاحونة الدول التي تسعى إلى الهيمنة على المنطقة. والسؤال الذي يطرحه الوضع الراهن يتجاوز بكثير خصوصية الحالة السورية واللبنانية إلى الحالة العربية برمتها ويعكس الطبيعة الإشكالية لمسألة الانتقال العربي الراهن نحو الديمقراطية. فكيف يمكن بالفعل الوصول إلى التغيير الديمقراطي في سياق الهجوم الاستراتيجي الامريكي الواسع من دون المخاطرة بخيانة المباديء القومية أو قيم التضامن العربي التي يتمسك بها، كما بينت ذلك مظاهرة حزب الله التي لا تقل ضخامة عن مظاهرات ربيع بيروت، قطاع ربما كان الأوسع من الرأي العام العربي والإسلامي، وهل يمكن، بالمقابل، الاستمرار في رفض رياح الحرية باسم القيم القومية والإسلامية من دون المخاطرة بالخروج من مغامرة الحداثة العالمية، أي من دون خيانة الذات وإدانتها بالتقوقع والعزلة والتهميش والتقهقر الحضاري المتزايد؟

يطرح هذا الوضع بالتأكيد مسألة كبيرة جدا على التحولات الديمقراطية العربية الجارية والقادمة، بل ربما التحدي الأعظم. فليس هناك مهرب من الاعتراف اليوم بأن استعادة الحرية في لبنان قد ارتبطت أو هي في طريقها لأن ترتبط بعودة الهيمنة الأجنبية على المستوى الإقليمي وبالتالي بتراجع مواقع النظام العربي الإقليمي أو ما بقي من ذكراه الماضية. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير قلقلا عميقا عند قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ويدفع جزءا كبيرا منه إلى اتخاذ موقف الممانعة أو على الأقل موقفا سلبيا مما يجري، وهو ما يجعل من الديمقراطية قضية إشكالية أيضا في الواقع العربي المعاصر. ومما يفاقم من هذه المشكلة أن الدول الأجنبية التي تقف اليوم وراء مشروع الديمقراطية أو تستخدم شعارها كي تستعيد مواقعها الاستراتيجية قد لعبت دورا أساسيا ولا تزال في تثبيت ركائز الحكم المطلق منذ عقود طويلة في العديد من بقاع العالم العربي وفي جميع بلدانه في ربع القرن الأخير على الأقل. وهي المسؤولة بشكل رئيسي أيضا عن اندلاع النزاع العربي الاسرائيلي واستمراره وتقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي كي تستمر اسرائيل في إنكار حقوق الشعب الفلسطيني وفي احتلال الأراضي العربية. بل أكثر من ذلك، إن هذه القوى نفسها التي تريد أن تستعيد مواقعها من خلف ثورة الحرية التي تحبل بها الشعوب العربية لا تخفي إرادتها في تفكيك العالم العربي وفرض هوية شرق أوسطية تلغي وشائج القربى العميقة بين أطرافه في سبيل دمج اسرائيل وتمكينها من السيطرة على مقدرات الأمور الإقليمية.
لا ينبغي إذن أن نطابق بين ما يحدث في لبنان وما حدث من قبل في دول أوروبية وسطى أو في أوكرانيا. فليس للدعم الذي تقدمه الدول الأوروبية والأمريكية للثورات السياسية الديمقراطية التي تجرى في البلقان أو في أوكرانيا المضمون ذاته الذي يتخذه مثل هذا الدعم في البلاد العربية. فلا يوجد هناك أي استحقاقات سياسية أو استراتيجية بين شعوب البلقان وشعوب أوروبة وأمريكا يمكن أن يجعل من التعاون بينهما على تغيير النظم القائمة صفقة خاسرة لفريق ورابحة لفريق آخر. وليس الوضع كذلك بالنسبة للشعوب العربية. ذلك أن الدعم الذي تحظى به أو تطمح إلى أن تتلقاه الحركة الديمقراطية من التحالف الأوروأمريكي يرتبط هنا بشكل يكاد يكون معلنا رسميا بنوايا واضحة لبسط النفوذ والهيمنة الأجنبية على موارد استراتيجية عربية في مقدمها النفط ووضع اليد أيضا على كل ما يتعلق بالترتيبات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الإقليمية في سبيل ضمان أمن إسرائيل وتوطينها النهائي في المنطقة وحسب حاجاتها وطموحاتها كما يرتبط بدفع العرب إلى التخلي عن طموح تاريخي عميق طبع حياتهم السياسية لأكثر من قرن، أعني طموح بناء تكتل عربي وتأكيد هوية مشتركة وتعاون متميز بين بلدانهم يسمح لهم بتجاوز حالة البلقنة والانقسام ويمكنهم من بناء ما يشبه دولة قومية راسخة قريبة مما عرفته الهند أو روسيا الاتحادية أو الصين يتماشى وصورتهم عن حضارتهم وموقع هذه الحضارة بالفعل في الثقافة العالمية. والسيطرة على منابع النفط وتأمين إسرائيل وتمكينها والتخلي عن الحلم العربي الذي يعني الإقرار بأولوية الهوية العربية الثقافية والسياسية في إقليم الشرق الأوسط هي في الواقع الأهداف الثلاثة اليوم إن لم نقل الشروط الرئيسية لقبول التحالف الأوروأمريكي حصول تحولات ديمقراطية، بالضرورة وبالتأكيد جزئية، في البلاد العربية.
هناك أسئلة كثيرة تطرح بعد ذلك منها: هل هناك إرادة حقيقية في بث الديمقراطية في البلاد العربية أم أنها مجرد شعارات مرفوعة لتحسين صورة القوة الهيمنية الجديدة الطامحة إلى خلافة المنظومة الإقليمية العربية والعروبية معا؟ وهل تخدم الديمقراطية الهيمنة الأجنبية وتساعد على استقرار نفوذ الدول الأوروبية وهل هناك استحالة في فصل الديمقراطية العربية عن هذه الهيمنة الأجنبية؟ وأخيرا هل ينبغي أن نرفض التحولات الديمقراطية لأنها تؤدي إلى تراجع مواقعنا الاستراتيجية أكثر مما هي متراجعة اليوم؟ أي هل نقبل بوقف الممانعة بعد أن تخلينا عن المقاومة وأن نتعاون مع الدول الكبرى الطامحة إلى الهيمنة على المنطقة العربية لنيل قسط أكبر من الحريات الفردية وربما من الفرص لتحقيق التنمية الاقتصادية والتحكم بشكل أفضل بمصير أوطاننا القطرية أم نقبل التعاون مع النظم الاستبدادية مهما كانت سياساتها وسلوكاتها تجاه شعوبها والشعوب العربية الأخرى ما دامت لا تزال ترمز، ولو من بعيد، للمشروع العربي الجامع، مشروع بناء القوة والهوية العربية وربما على أمل أن تستعيد هذه النظم زمام المبادرة وتعيد ترتيب أوضاعها بما يمكنها من إعادة الاعتبار لمشروع القوة العربية؟ هذه هي الأسئلة التي يتوجب علينا اليوم جميعا الإجابة عنها في مواجهة ما تخبؤه الأيام القادمة من المواجهات العنيفة على ساحة المشرق العربي والتي يتوقف عليها تحديد موقع كل واحد منا في المعركة الدائرة اليوم حول إعادة بناء الشرق الأوسط ومستقبل التحولات التي سيشهدها في السنوات القادمة
.

lundi, mars 07, 2005

la Syrie au cœur de la tourmente

Crise libanaise : la Syrie au cœur de la tourmente
LEMONDE.FR 07.03.05 15h00 • Mis à jour le 17.03.05 11h52
L'intégralité du débat avec Burhan Ghalioun, directeur du Centre d'études de l'Orient contemporain et professeur de civilisation arabe à l'université de la Sorbonne-Nouvelle - Paris-III., lundi 7 Mars, à 15 h .
oussam : Bonjour, je suis d'origine libanaise et voudrais savoir quel est, selon vous, le degré d'implication de la Syrie dans l'attentat qui a coûté la vie à l'ancien premier ministre Hariri ? Est-il possible et réalisable que les services de renseignement syriens quittent le pays du Cèdre ?
Burhan Ghalioun : Concernant la première question, on ne peut pas juger avant la fin de l'enquête. De toute façon, tout le monde a presque accusé la Syrie et la Syrie commence à payer les frais de cette accusation. Elle est obligée de quitter le Liban immédiatement. Donc la question de savoir qui a assassiné l'ex-premier ministre Rafic Hariri est dépassée sur le plan politique. Deuxième question : je pense que les services de renseignement syriens sont obligés de quitter le Liban également. Mais le problème est que personne ne peut vraiment contrôler leur départ, comme on peut contrôler le départ des forces armées. D'autant plus qu'il doit y avoir des membres de ces services qui ne sont pas connus, par définition. Mais je pense que les Syriens sont obligés de démanteler le centre de ces services, qui se trouve à Anjar, dans la Bekaa. C'est un bureau officiel dont les Américains comme les Européens demandent la liquidation. Du moment qu'il y a changement de gouvernement et réorganisation des services libanais, la marge de manœuvre des services secrets va énormément diminuer et ces services au Liban seront même éventuellement neutralisés.
Daruma : A moyen terme, quand la Syrie (armée et renseignement) se sera retirée (ce qui devient inéluctable), et que l'union actuelle de l'opposition aura, de fait, perdu son point principal de ralliement, n'y a-t-il pas un risque que les principaux mouvements libanais ressortent leurs propres drapeaux et revendications ?
Burhan Ghalioun : Ce risque existe, effectivement. C'est pourquoi je crois qu'il faut éviter le retour à la situation qui a donné lieu à plusieurs guerres civiles interconfessionnelles au Liban. Il faudrait exploiter cette renaissance du patriotisme libanais pour sortir du système confessionnel qui a empoisonné la vie politique des Libanais depuis la fondation du Liban. Je pense que c'est le seul remède au danger de voir revenir les mêmes dissensions et affrontements confessionnels. Le système politique libanais reconnaît l'existence des confessions libanaises et attribue des quotas, dans l'administration et au Parlement, aux différentes confessions. Ce système ne peut qu'alimenter la concurrence confessionnelle au détriment d'une logique de compétition entre citoyens quelle que soit leur religion. Dans ce système, chaque confession cherche, pour renforcer sa position, des alliés extérieurs. Et c'est cette logique qui a empêché le nationalisme libanais de s'affirmer face aux loyautés communautaires.
Elia : Comment expliquez-vous la réaction de la rue, notamment celle des communautés druze et sunnite, qui a pris tout le monde par surprise, et ce d'autant que M. Hariri n'était pas spécialement très populaire ?
Burhan Ghalioun : Je pense que la manifestation populaire des sunnites, des chrétiens, des druzes, et éventuellement d'une partie des chiites, a reflété le rejet de l'ingérence des services de renseignement syro-libanais aussi bien dans la vie quotidienne des citoyens que dans le domaine économique, politique, culturel, éducationnel. On est arrivé à une situation où tout est dicté par les services de renseignement, et où les individus sont manipulés comme des jouets. C'est contre cette aliénation que tout le monde s'est révolté et c'est cette volonté de se libérer qui a réuni l'ensemble des Libanais.
Bigmak : Pensez-vous qu'un système fédéral puisse être une solution au Liban ?
Burhan Ghalioun : Je ne pense pas qu'on ait besoin, pour sortir de la crise libanaise, d'aller jusqu'à la création d'un Etat fédéral au Liban. Le Liban est un très petit Etat (sa population ne dépasse pas 4 millions d'habitants) et on ne peut pas séparer chrétiens et musulmans. D'autant plus qu'aujourd'hui ces populations, indépendamment de leur confession, cohabitent dans les mêmes villes.
Jean : Que doit-on craindre de la manifestation appelée demain par le Hezbollah ?
Burhan Ghalioun : Je ne suis pas choqué. Je pense que cette manifestation aura la tâche de montrer l'autre force du Liban qui s'attache à des choix politiques proches de ceux de Damas. Et je crois que l'opinion publique internationale a le droit de voir les deux composantes politiques du Liban, à savoir les forces que nous appelons aujourd'hui "opposition" et qui, depuis l'assassinat de M. Hariri, prennent l'initiative, d'une part, et les forces "loyales" composées essentiellement des mouvements politiques chiites défendant des liens privilégiés avec la Syrie. Jusqu'à maintenant, dans les médias internationaux ou locaux, on ne voit que les forces de l'opposition, et on a relativement négligé la présence d'une grande partie de l'opinion publique libanaise, qui appuie une thèse de gouvernement proche de celle de Damas. C'est-à-dire qui défend la nécessité de maintenir des relations privilégiées entre Damas et Beyrouth. Ces manifestations nous aideront donc à équilibrer notre conception, et peut-être à équilibrer le jeu politique libanais.
Mike : Ne pensez-vous pas qu'il est grand temps pour les Européens de considérer le Hezbollah comme une organisation terroriste, afin de soutenir le mouvement démocratique au Liban ?
Burhan Ghalioun : Non, je pense qu'il est très dangereux de considérer un parti très populaire et qui ne commet pratiquement plus d'attentats depuis très longtemps comme une organisation terroriste. Le parti du Hezbollah s'est affirmé, pour l'ensemble de l'opinion publique libanaise et arabe, comme le parti de la résistance contre l'occupation israélienne. Le parti Hezbollah est un grand parti populaire qui a en même temps un bras militaire qu'il a utilisé pour libérer le territoire libanais (Sud-Liban) occupé par Israël. Le considérer comme une organisation terroriste risque d'aliéner à la fois l'opinion publique libanaise et l'opinion publique arabe, qui vont considérer cette assimilation comme un soutien à la politique israélienne. Elles vont interpréter cela comme visant à renforcer la position géopolique israélienne contre le Liban et la Syrie.
Daruma : MM. Assad et Lahoud ont fini leur entretien, et sans donner de calendrier sur le retrait syrien. Un bras de fer commence-t-il entre les deux hommes ?
Burhan Ghalioun : Mais ce sont des alliés, ils se sont entendus certainement sur un calendrier, mais ne l'ont pas rendu public. On considère MM. Lahoud et Assad comme faisant partie du même camp.
Cedar Révolution : Reste-t-il des soutiens à Bachar Al-Assad dans le monde arabe ?
Burhan Ghalioun : Je pense que le gouvernement syrien, le régime syrien s'est isolé effectivement dangereusement dans son environnement arabe. Cela en raison d'un ensemble d'erreurs que sa diplomatie a commises depuis plusieurs années, et notamment depuis l'assassinat de l'ex-premier ministre Rafic Hariri. Sans accuser Damas d'avoir commis cet attentat, les Saoudiens rendent la Syrie responsable, en partie du fait qu'elle contrôle la sécurité au Liban. La Syrie a commis beaucoup d'erreurs, notamment à l'égard de l'intervention américaine en Irak : elle a pris position pour la résistance au début de la guerre, avant de se rendre compte de la nécessité de répondre aux exigences américaines sur la livraison de terroristes. La Syrie a incité le Congrès américain à voter une loi sur les sanctions contre elle-même. La deuxième erreur, assez grave, est le comportement qui a conduit la France à élaborer puis à voter la résolution 1559 du Conseil de sécurité, qui impose à la Syrie de quitter immédiatement le Liban, de respecter sa souveraineté et son indépendance, alors que la France était pratiquement le soutien principal du régime syrien, en Europe et dans le monde occidental.
Houssam : Est-ce que, selon vous, cet élan de démocratie au Liban entre dans le cadre du projet américain, de "Grand Moyen-Orient" ?
Burhan Ghalioun : Je pense que l'on ne peut pas dissocier ce qui se produit au Liban, c'est-à-dire cette révolution démocratique, du contexte international marqué justement par la volonté des Américains d'imposer un nouvel ordre au Moyen-Orient. Mais cela ne réduit en rien le caractère authentiquement émancipateur de cet événement.
Cedar Révolution : Pourrait-on assister à la chute du régime alaouite, en Syrie, dans les prochaines semaines ?
Burhan Ghalioun : Non, je pense qu'on en n'est pas là. Je pense que le régime syrien aura à affronter une pression croissante de la part de l'Europe et des Etats-Unis, qui le déstabiliseront profondément dans les prochains mois.
Meriem : Pensez-vous que le Liban soit capable aujourd'hui d'assurer la stabilité et la sécurité sans aucune force étrangère ?
Burhan Ghalioun : Je ne pense pas que le Liban est aujourd'hui menacé concernant sa sécurité, extérieure du moins, et je pense que les Libanais sont aujourd'hui suffisamment matures pour prendre en charge leur sécurité intérieure, et même refonder une démocratie meilleure que ce qu'ils ont fait dans le passé.
Chat modéré par Martine Jacot et Stéphane Mazzorato

vendredi, mars 04, 2005

مستقبل العلاقات السورية اللبنانية


قبل مقتل الرئيس الحريري وسقوط حكومة عمر كرامي كانت العلاقات السورية اللبنانية تمر في أزمة عميقة. لكنها دخلت بعد عملية الاغتيال في محنة حقيقية. يمكن تبين معالم هذه المحنة في طبيعة الشعارات التي تطلقها قوى سياسية رئيسية في لبنان ضد الوجود السوري والتي يعكس خطورتها بشكل واضح التقاء القوى اللبنانية التي بقيت لعقدين متتاليين في مواجهة عسكرية مستمرة على العمل يدا بيد مع الولايات المتحدة وفرنسا لتصفية النفوذ السوري في لبنان كما يعبر عنها النزوح الجماعي للعمال السوريين الذين أدركوا بشكل عفوي تبدل اتجاهات الريح قبل أن تطاولهم مخالب الكراهية والاعتداءات العنصرية.
النتيجة الطبيعية المنتظرة لهذا الوضع الذي تتحمل فيه الحكومة السورية القسط الأكبر من المسؤولية هو القطيعة وزعزعة الاستقرار في البلدين معا. لكن ما يزال هناك بعض الوقت، وبعض الأمل في تجنب الوصول إلى هذه النتيجة. ذلك أن الأزمة لا تزال في بدايتها والتطورات اللاحقة ستتوقف على الطريقة التي ستترجم بها القوى المتنازعة جميعا نتائج هذا الانسحاب والأهداف التي ستحددها لسياساتها على طريق استغلاله والرد على آثاره معا، أي الطريقة التي ستحسم بها الأزمة الراهنة في هذه العلاقات. فإذا نجحت بعض أطراف المعارضة في ترجمة ديناميكية الرفض الشعبي المتزايد للحضور الأمني السوري إلى عداء لسورية يحرمها من أي موقع اكتسبته في لبنان في العقود الثلاث الماضية، أي إذا تحول انسحاب سورية إلى مناسبة للعودة بلبنان إلى نمط التحالفات المحلية والدولية التقليدية التي كانت تفرض عليه العمل في دائرة السياسات الغربية وربما إلى تحويله من جديد إلى مصدر ضغط وتهديد للأمن والاستقرار في سورية، فستكون النتيجة بالتأكيد السير السريع نحو قطيعة شبيهة بتلك التي عرفها البلدان عشية الانفصال عن الانتداب الفرنسي في الأربعينات، ومن وراء ذلك تنامي مشاعر العداء وسوء الفهم وانعدام الثقة والشك في لبنان وسورية معا.
ذلك أن مثل هذا التحول في اتجاه لبنان معاد لسورية سوف يضع النظام السوري في أزمة خطيرة داخل سورية نفسها. فهو لن يحرمه من أهم مسرح كان يستخدمه لخوض الصراعات التي اضطر إليها لترسيخ نفسه وتكريس هيمنته خارج أراضيه وبعيدا عن مواقعه الداخلية فحسب ولكن سيحول لبنان، أكثر من ذلك، إلى بؤرة تهديد لمصالحه الاستراتيجية التي تتعلق بحماية نفسه من الضغوط الخارجية ومن احتمال نشوء معارضة سياسية سورية مستقلة وقوية. ولا شك أن هناك قوى كثيرة لبنانية ودولية بدأت تعتقد اليوم، بعد فشل التعامل مع النظام السوري القائم، بأن لبنان جديدا معاديا لسورية أو خارجا عن نطاق سيطرتها يمكن أن يشكل حافزا قويا لنهضة المعارضة السورية وإغراءا كبيرا لها لاتخاذه منطلقا للوثوب إلى السلطة أو لبناء التحالفات الإقليمية والدولية الازمة للاقتراب منها.
لكن، بالمقابل، إذا لم يترجم الانسحاب السوري من لبنان بسيطرة التيارات اللبنانية المعادية لسورية أو بنزعة واضحة للتحالف مع القوى الدولية النازعة إلى تكثيف الضغوط على سورية لجرها إلى دائرة نفوذها واستخدامها كجزء من استراتيجتها العالمية فليس من المستبعد أن يتحول الانسحاب إلى فرصة جدية لإعادة بناء العلاقات السورية اللبنانية على أسس موضوعية وعقلانية، أي على احترام كل بلد لسيادة البلد الآخر الشكلية، أو على مظاهرها، لأنه لم يعد هناك في الواقع شيء آخر غير ذلك، والتعاون على توسيع دائرة المصالح المشتركة الاقتصادية.
وفي اعتقادي أن الحفاظ على إمكانية مثل هذا المخرج الايجابي لأزمة العلاقات السورية وتجنب القطيعة والعداء المتبادل هو الهدف الذي ترمي إليه الجامعة العربية وعلى رأسها أمينها العام عمرو موسى من تدخلها كوسيط ومن دعوتها إلى توفير ما أطلقت عليه مظلة عربية للانسحاب المنظور.
لكن تغليب مثل هذا الاحتمال يحتاج في الواقع إلى توفر حد كبير من العقلانية ومن رجاحة الرأي عند الطرفين: المعارضة اللبنانية والحكومة السورية معا. فكما أن في لبنان من يعتقد أن الفرصة لم تكن في أي فترة موائمة للعودة إلى لبنان ماقبل الحرب الأهلية كما هي عليه اليوم، بكل ما تعنيه من خيارات داخلية وخارجية، هناك أيضا في سورية قوى تعتقد أن الرد الوحيد على مخاطر زعزعة الاستقرار التي ينطوي عليها خروج لبنان من تحت السيطرة السورية يكمن في عملية استباقية لزعزعة الاستقرار في لبنان بل في المنطقة بأكملها.
ومما يساعد على السير في هذا الاتجاه هو سيطرة التصورات المبسطة والتبسيطية لطبيعة المصالح المختلفة التي تربط سوريا بلبنان ونعرة العصبية الوطنية التي تنزع إلى قبول المخاطرة والرد على انعدام روح المسؤولية عند الخصم بالاستهتار بالمصالح المشتركة أي بتبرير مماثل لانعدام المسؤولية. فكما أن من شأن التبسيط أن يقود إلى ردود أفعال سلبية تنعكس على العلاقات السورية بانهيار لا يمكن ترميمه قبل أمد طويل، تشكل النعرة الوطنية أكبر حافز للمزاودة اللاعقلانية. ويتطلب استبعاد الخيارات السلبية وتجنب اللجوء إلى الحلول المتطرفة السيطرة على أوهام الانتصار السهل من جهة وكابوس الهزيمة من جهة، والبحث عن الحلول المتفاوض عليها، أي إلى التحلي بالبصيرة والعقل في معالجة أزمة تتحكم القوى الخارجية بوسائل توجيهها وتخضعها لحسابها أكثر بكثير مما يمكن أن تفعله الأطراف المحلية، بالرغم من قوة الموجة الشعبية. وبالمثل ليس هناك ما يضمن أن لا تركب شبكات المصالح الضيقة أو المافيوزية رأسها وتسير وراء استراتيجيات تدميرية على مبدأ علي وعلى أعدائي، من دون أن تشعر بأي حرج إزاء ما يمكن أن ينجم عن أعمالها من أضرار بليغة على المصالح الوطنية السورية واللبنانية معا.
إن لسورية ولبنان مصالح قوية مشتركة بصرف النظر عن القوى التي تحكمهما أو تتحكم بسياستهما اليوم وفي المستقبل. ولا يمكن تجاهل هذه المصالح من دون تكبيد الشعوب في البلدين خسائر وربما مواجهات تقضي على الأمل عند شعبيهما. وما لم تؤخذ هذه المصالح بجدية ويتم تنظيمها على أسس عقلانية فسوف يكون الإغراء قويا لدى بعض القوى الانتهازية حتى لا أقول المافيوزية التي لا يهمها لا مصير لبنان ولا مصير سورية للاستفادة من ترابط المصالح الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية ، لتحقيق مآربها الخاصة والإساءة إلى البلدين معا. باختصار ما لم يتم الاعتراف بهذه المصالح المشتركة التي تخلقها وشائج القربى والاعتماد المتبادل والسياقات الجيوسياسية ومعالجتها على أسس التفاهم والتعاون الندي وتبادل المنافع فلن تقوم بين البلدين إلا علاقات من العداء والخصومة والتآمر المتبادل الذي يقود إلى زعزعة الاستقرار فيهما معا.
لكن الأهم من ذلك هو أن النفوذ السوري في لبنان لم يعد مسألة سورية بحت وإنما أصبح يشكل عنصرا رئيسيا في التوازنات الداخلية اللبنانية. وحتى لا يقود الانسحاب السوري من لبنان إلى انهيار هذه التوازنات وما يعنيه ذلك من احتمال تفجر النزاعات من جديد يحتاج اللبنانيون إلى تجديد أسس التفاهم الوطني الداخلي بل إلى تفاهم وطني يصلح لما بعد الحقبة السورية ويؤسس لإعادة بناء توازنات جديدة مستقرة. وهذا التفاهم غير موجود تلقائيا في اتفاقية الطائف التي أظهرت الوقائع أنها لم تكن قاعدة لتوازنات نسبية مؤقتة إلا بقدر ما كانت غطاءا للوصاية السورية المستمرة على لبنان.
هذا يعني أن الانسحاب السوري من لبنان يطرح بحدة لا مثيل لها إعادة التفكير في ما يجمع أطراف هذا البلد بعد أن غطت الوصاية السورية على غياب الاجماع بين الأطراف اللبنانية. واستعراض هذه الاتفاقية لا يعوض عن النقاش الجدي في العقد الوطني الذي يتحتم على اللبنانيين تجديده بعد انهيار عقد الوصاية السورية.
وفي اعتقادي إن الانصهار الوطني الذي برز على أثر مقتل الرئيس الحريري التراجيدي والذي فجر مشاعر الوحدة ضد الهيمنة الخارجية لن يصمد طويلا إذا لم تدرك النخبة السياسية اللبنانية دلالات ماحدث وتشرع منذ الآن في إحداث قطيعة حقيقية مع لبنان الطائفي الماضي من أجل بناء لبنان ديمقراطي جديد قائم على مبدأ المواطنية المتساوية الفردية ولا شيء للتجمعات الطائفية. فليس من الممكن في اعتقادي وضع حد نهائي للوصايات الخارجية، السورية وغير السورية، من دون وضع حد أسبق للوصايات الطائفية وإنهاء قاعدة توارث الزعامة والسلطة والمواقع والامتيازات. وليس من الممكن أيضا تحقيق خروج فعلي للقوات السورية ومن سيأتي بعدها من لبنان، ولا استعادة السيادة والاستقلال ما لم يخرج لبنان نفسه من ميثاق الطائفية الذي كان وسيبقى مصدر الطلب الدائم على التدخلات والوصايات الأجنبية. بهذا فقط يمكن لحدث اغتيال الحريري الذي أعاد توحيد لبنان باستشهاده أن يكون إعادة تأسيس للبنان بالفعل وبعثا جديدا له، أي اللحظة الفاصلة في الارتفاع بمحتوى الوطنية اللبنانية إلى مستوى القيم الديمقراطية وقطع الطريق على أي عودة نحو النزاعات الطائفية وما تنطوي عليه حتما من النزوع المتعدد الاطراف لدى اللبنانيين إلى استدراج عروض التدخلات والتحالفات الأجنبية للدفاع عن الامتيازات والمواقع الاستثنائية للزعامات الطائفية.

سورية ولبنان والمصير المشترك

الوطن 23 فبراير 2005

طرح اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري والجنازة الشعبية الاستثنائية التي رافقت مسيرته إلى مثواه الأخير، أكثر من القرار 1995، بصرف النظر عن المسؤول الحقيقي عن هذا الاغتيال، مسألة الانسحاب السوري من لبنان كما لم يحصل في أي وقت وكشف بالمناسبة نفسها عن الأزمة العميقة التي تضرب العلاقات السورية اللبنانية بالعمق والتي يهدد تفجرها بإعادة لبنان إلى دوامة العنف والفوضى من جديد. لا تنبع هذه الأزمة من غياب المصالح السورية اللبنانية ولا من تضاربها وإنما بالعكس تماما، أي من الوجود الموضوعي لمصالح كبرى جيوسياسية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تحتم التعاون والتواصل العميق بين الشعبين من جهة وغياب الأسس السليمة التي تساعد على تأمين هذه المصالح وتنشيطها لصالح الشعبين وعلى المستويات الفردية والجماعية من جهة ثانية. وبسبب غياب الأسس السليمة، السياسية والقانونية، صارت هذه المصالح الموضوعية الكبرى عبئا على الشعبين نفسيهما بقدر ما مكنت أصحاب المصالح الاقتصادية الخاصة والشلل السياسية المتحالفة من الاستفادة من وجودها وتجيير الشرعية المرتبطة بها في سبيل بناء شبكات منافع اقتصادية أو سياسية تخدم أهداف فئات محدودة من البلدين على حساب فئات أخرى. وهكذا أصبحت الرابطة الاستثنائية القائمة فعليا بين البلدين مصدرا للقوة والثروة عند بعض الأطراف والفئات ووسيلة للعزل والتهميش والحرمان من المشاركة في السلطة والثروة والحق في الكلام في الوقت نفسه بالنسبة لأطراف أخرى إن لم نقل لأغلبية المجتمع في البلدين. وهكذا أصبحت العلاقات السورية اللبنانية، بالشكل الذي آلت إليه، منبعا لنزاعات سياسية واقتصادية وثقافية جديدة بدل أن تكون وسيلة لتعزيز الأمن والاستقرار والازدهار والنمو المشترك الذي يشكل هدفا رئيسيا لأي تعاون إقليمي.
فليس للصراع الذي تحول اليوم إلى قطيعة بين التآلف الحاكم وأطراف المعارضة المتعددة الاتجاهات حول إعادة النظر في حجم وطبيعة النفوذ السوري في لبنان هدفا آخر سوى إعادة بناء المعادلة السياسية والاجتماعية اللبنانية على أسس جديدة تتجاوز تلك التي كرسها حتى الآن التطبيق الجزئي والانتقائي لاتفاقية الطائف. وتتهم المعارضة سورية بأنها لا تتمسك بهذه الاتفاقية لحماية لبنان وضمان استقراره وأمنه بقدر ما تستخدمها في سبيل إبقاء البلد تحت وصاية دمشق وتحولها بالتالي إلى وسيلة لمكافأة القوى التي تعتمد عليها أو الموالية لها. وهو ما عبر عنه وضمنه أيضا استبعاد الأطراف العربية الأخرى بما في ذلك الجامعة العربية كما كان منتظرا عن الإشراف على تطبيقها وربط هذا التطبيق حصرا بإرادة دمشق.
لا ينطبق هذا التحليل على لبنان فحسب ولكنه ينطبق على سورية أيضا ولو بشكل آخر. فأغلبية المجتمع السوري لا ترى لنفسها أي مصلحة حقيقية في العلاقات المختلة القائمة بين البلدين . وفي الأصل لم يكن لسياسة التدخل في لبنان أي شعبية على الإطلاق منذ بدئه عام 1975. وقد بقي الرأي العام الذي قابله بصمت ومن دون أي حماس، بما في ذلك داخل أوساط حزب البعث الحاكم نفسه، ميالا خلال العقود الطويلة السابقة إلى التشكيك في قيمته وجدواه، وهو ما حدا بأجهزة الدعاية السياسية والإعلامية السورية إلى جعل مسألة التدخل السوري في لبنان من المحرمات التي يمنع الحديث فيها لأي كان وإلى اعتبارها قرارا مباشرا صدر عن رئيس ملهم ولا يمكن أن يخضع بالتالي، لا في داخل النظام ولا خارجه، لأي نقاش أو مراجعة. وقد تنامى في ما بعد الشعور عند قطاعات واسعة من الرأي العام، وبشكل أوضح اليوم، بأن الحضور السوري المباشر والكثيف في لبنان، لا يهدف إلى شيء ولا يخدم هدفا آخر سوى تعزيز قوة السلطة الأمنية وتكريسها في سورية أساسا وفي موازاة ذلك تأمين شبكات المصالح الفئوية المشتركة التي نمت وترعرعت على هامش هذه السلطة والسيطرة الأمنية في البلدين.
ويعتقد الكثير من السوريين أن الحكم في سورية يستخدم نفوذه في لبنان وما يقدمه له هذا النفوذ من موارد مادية وغير مادية، سياسية وإعلامية، في سبيل التمكين لنفسه في سورية وتشديد قبضته على مجتمعها وضمان استبعاده من أي قرار. ولهذا فهو يرى أن انحسار النفوذ السوري في لبنان هو انحسار لنفوذ الحكم القائم في سورية وإضعاف له بالدرجة الأولى. وباستثناء أولئك الذين جعلوا من لبنان مرتعا لمصالح استثنائية اقتصادية وسياسية معا، قليل جدا هم المثقفون أو السياسيون الذين أظهروا حماسا، بما في ذلك داخل حزب البعث الحاكم، للإبقاء على هذا النفوذ أو لمعارضة الانسحاب السوري من لينان.
بالتأكيد هناك قلق عند مئات آلاف العمال السوريين الذين يعملون في لبنان، أو يحلمون بالعمل الوقتي فيه لتحسين شروط معيشتهم اليومية، من أن يؤدي هذا الانسحاب إلى خروجهم من لبنان. كما أن هناك قطاعات واسعة من الرأي العام تخشى أن يعني هذا الانسحاب تراجعا عن سياسة مقاومة إسرائيل التي يعبر عنها وجود حزب الله في الجنوب وهو الحزب الذي تحول إلى رمز للمقاومة العربية الناجحة ضد حركة التوسع والاستيطان الاسرائيليين.
لكن ليس هناك من يعتقد أن التمسك بنمط من العلاقات غير المتوازنة يمكن أن يشكل ضمانة لبقاء العمال السوريين أو لحماية حركة المقاومة ضد إسرائيل. وربما اعتقدت أغلبية السوريين، بالعكس من ذلك، أنه لا توجد أي علاقة بين تواجد مئات الألوف منهم للبحث عن لقمة عيشهم في لبنان والعلاقات المختلة وغير المتكافئة التي تثير حساسيات قوية ضدهم وتعرضهم لنقمة قطاعات واسعة من اللبنانيين. والواقع أن وجود مئات آلاف العمال السوريين لم يرتبط بالتدخل العسكري ولا الأمني السوري ولكنه شكل جزءا من العلاقات الثابتة والطبيعية بين قطرين متجاورين تربط بين مجتمعيهما وشائج قربى ثقافية واجتماعية كثيرة. فهو وجود لم ينقطع منذ عقود بسبب جاذبية الاقتصاد اللبناني وديناميته بالمقارنة مع ما اتسم به النظام الاقتصادي السوري من جمود وركود. ثم إن وجود السوريين بمئات الآلاف في لبنان بحثا عن العمل يعبر هو نفسه عن إخفاق إخفاق النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم في سورية منذ أكثر من أربعين عاما في تحقيق التنمية وتوفير فرص عمل شريف للسورييين في بلدهم. وعلى العموم ليس هناك أي شعور فعلي عند الرأي العام السوري بأن نمط العلاقات القائم اليوم بين البلدين يخدم مصالح الشعب السوري أو يساهم في الدفاع عنها بقدر ما يعكس مصالح ما يسميه البعض القاعدة الاجتماعية للنظام السوري اللبناني الموحد ويؤمن له أفضل الشروط لتجديد سيطرته وتخليدها.
بالتأكيد ليس الخلل في العلاقات السورية اللبنانية القائمة وما يشكله من إجحاف بحق أغلبية المجتمعين السوري واللبناني لصالح فئات ضيقة ومحدودة هو السبب الوحيد بل المباشر لاندلاع الصراع المتفجر اليوم في لبنان والذي كان الرئيس الحريري ضحيته المباشرة. فمن الصعب فهم هذا الصراع إذا لم نأخذ بالاعتبار الحقيقة الأكبر ألا وهي أن الأرض قد بدأت تميد فعلا تحت أقدام النظام السوري اللبناني القائم بسبب اختلال المعادلة الجيوستراتيجية وتبدل موازين القوة الإقليمية. فهو نتيجة مباشرة لحركة الانحسار المتواصل لدور سورية الإقليمي في إطار إعادة ترتيب الأوضاع الشرق أوسطية على نار الحرب والتهديدات الأمريكية الاسرائيلية. لكن ليس هناك شك في أن هذا الاختلال في الموازين الجيوستراتيجية ما كان سيقود إلى النزاع الراهن لو كانت العلاقات السورية اللبنانية قائمة على أسس متينة سياسيا وقانونيا وإنسانيا. لكن بسبب وجود قوى واسعة اجتماعية وسياسية عديدة غير راضية بالرغم من أنها خضعت أو أخضعت بالقوة، كان من الطبيعي أن يقود تغير المعادلة الدولية والإقليمية إلى تشجيع هذه القوى على الخروج عن صمتها والمطالبة بتغيير نمط العلاقات القائمة نحو صيغة تضمن لها استرجاع مواقعها أو الدفاع عن حقوقها، أي بإنهاء عصر الامتيازات والحظوات. وخطأ السلطات السورية التي تتعرض لضغوط متنامية لسحب قواتها من لبنان هو أنها لم تدرك هذا التبدل العميق في موازين القوة الإقليمية والدولية أو أنها اعتقدت أن بإمكانها الانخراط في المعادلة الجيوستراتيجية الأمريكية الجديدة مع الاحتفاظ بصيغة العمل الماضية وبالمكاسب الاستثنائية نفسها التي كانت قد حصلت عليها في الحقبة السابقة. وقد حاولت في الحقيقة أن تطبق في لبنان ما طبقته حتى الآن بنجاح في سورية نفسها، أي الانتقال من سياسة "الثورة الاشتراكية وحكم العمال والفلاحين" إلى سياسة الانفتاح والليبرالية الاقتصادية والرهان على الاستثمارات الخاصة في إطار النظام السياسي ذاته ومع الحفاظ على قاعدة المصالح الاجتماعية القديمة نفسها. ولو أنها قبلت في أن تعيد النظر في طبيعة تحالفاتها السياسية والاجتماعية القائمة في لبنان لصالح توسيع دائرتها والانفتاح بشكل أكثر على القوى المتضررة والمغبونة لما اندلع هذا الصراع ولما اضطرت إلى الدخول في المواجهة الخطيرة الراهنة، حتى مع تبدل الظروف الجيواستراتيجية الإقليمية. لكن كما أنها لا تستطيع في سورية ضمان السيطرة الشاملة التي تجعلها تتحكم بموارد البلاد بشكل كلي من دون الانغلاق على القسم الواسع من القوى الاجتماعية واستبعادها وإقصائها عن حقل السياسة بكل الوسائل، فهي لا تستطيع أيضا أن تضمن وصايتها الخارجية على لبنان من دون أن تقيم وصاية داخلية لقسم من اللبنانيين الموالين لها على بقية شعب لبنان.
بمعنى آخر، ما كان من الممكن إصلاح نظام العلاقات السورية اللبنانية من دون إصلاح النظامين السوري واللبناني كليهما من الداخل، أعني من دون توجهات ديمقراطية حقيقية تدفع إلى إقامة نظم سياسية اجتماعية جديدة تستند على الحق والقانون واحترام المصالح العامة وتمكن جميع الأفراد أيضا من المشاركة الفعالة والايجابية في الحياة العامة. أي من دون كسر نظام الاحتكار، احتكار السلطة والثروة والجاه الذي يقود حتما، في كل مكان وزمان، إلى الثورة والانفجار. ولكن للأسف ربما فات الأوان.

mercredi, mars 02, 2005

نحو بعث جديد للوطنية اللبنانية

الاتحاد 2 مارس 2005

قبل مقتل الرئيس الحريري وسقوط حكومة كرامي كانت العلاقات السورية اللبنانية تمر في أزمة عميقة. لكنها دخلت بعد ذلك في محنة حقيقية. يمكن تبين معالم هذه المحنة في طبيعة الشعارات التي تطلقها قوى سياسية رئيسية في لبنان ضد الوجود السوري والتي يعكس خطورتها بشكل واضح التقاء القوى اللبنانية التي بقيت لعقدين متتاليين في مواجهة عسكرية مستمرة على العمل يدا بيد مع الولايات المتحدة وفرنسا لتصفية النفوذ السوري في لبنان، كما يعبر عنها النزوح الجماعي للعمال السوريين الذين أدركوا بشكل عفوي تبدل اتجاهات الريح قبل أن تطالهم مخالب الكراهية والاعتداءات العنصرية. النتيجة الطبيعية المنتظرة لهذا الوضع الذي تتحمل فيه الحكومة السورية القسط الأكبر من المسؤولية هو القطيعة وزعزعة الاستقرار في البلدين معاً. لكن ما يزال هناك بعض الوقت، وبعض الأمل في تجنب الوصول إلى هذه النتيجة. ذلك أن الأزمة لا تزال في بدايتها والتطورات اللاحقة ستتوقف على الطريقة التي ستترجم بها القوى المتنازعة جميعاً نتائج هذا الانسحاب والأهداف التي ستحددها لسياساتها على طريق استغلاله والرد على آثاره معاً، أي الطريقة التي ستحسم بها الأزمة الراهنة في هذه العلاقات. فإذا نجحت بعض أطراف المعارضة في ترجمة ديناميكية الرفض الشعبي المتزايد للحضور الأمني السوري إلى عداء لسوريا يحرمها من أي موقع اكتسبته في لبنان في العقود الثلاثة الماضية، أي إذا تحول انسحاب سوريا إلى مناسبة للعودة بلبنان إلى نمط التحالفات المحلية والدولية التقليدية التي كانت تفرض عليه العمل في دائرة السياسات الغربية وربما إلى تحويله من جديد إلى مصدر ضغط وتهديد للأمن والاستقرار في سوريا، فستكون النتيجة بالتأكيد السير السريع نحو قطيعة شبيهة بتلك التي عرفها البلدان عشية الانفصال عن الانتداب الفرنسي في الأربعينيات، ومن وراء ذلك تنامي مشاعر العداء وسوء الفهم وانعدام الثقة والشك في لبنان وسوريا معاً.ذلك أن مثل هذا التحول في اتجاه لبنانٍ معادٍ لسوريا سيضع النظام السوري في أزمة خطيرة داخل سوريا نفسها. فهو لن يحرمه من أهم مسرح كان يستخدمه لخوض الصراعات التي اضطر إليها لترسيخ نفسه وتكريس هيمنته خارج أراضيه وبعيداً عن مواقعه الداخلية فحسب ولكن سيحول لبنان، أكثر من ذلك، إلى بؤرة تهديد لمصالحه الاستراتيجية التي تتعلق بحماية نفسه من الضغوط الخارجية ومن احتمال نشوء معارضة سياسية سورية مستقلة وقوية.
ولا شك أن هناك قوى كثيرة لبنانية ودولية بدأت تعتقد اليوم، بعد فشل التعامل مع النظام السوري القائم، بأن لبناناً جديداً معادياً لسوريا أو خارجاً عن نطاق سيطرتها يمكن أن يشكل حافزاً قوياً لنهضة المعارضة السورية وإغراءً كبيراً لها لاتخاذه منطلقاً للوثوب إلى السلطة أو لبناء التحالفات الإقليمية والدولية اللازمة للاقتراب منها. لكن، بالمقابل، إذا لم يترجم الانسحاب السوري من لبنان بسيطرة التيارات اللبنانية المعادية لسوريا أو بنزعة واضحة للتحالف مع القوى الدولية النازعة إلى تكثيف الضغوط على سوريا لجرها إلى دائرة نفوذها واستخدامها كجزء من استراتيجيتها العالمية، فليس من المستبعد أن يتحول الانسحاب إلى فرصة جدية لإعادة بناء العلاقات السورية اللبنانية على أسس موضوعية وعقلانية، أي على احترام كل بلد لسيادة البلد الآخر الشكلية، أو على مظاهرها، لأنه لم يعد هناك في الواقع شيء آخر غير ذلك، والتعاون على توسيع دائرة المصالح المشتركة الاقتصادية. لكن تغليب مثل هذا الاحتمال يحتاج في الواقع إلى توفر حد كبير من العقلانية ومن رجاحة الرأي عند الطرفين: المعارضة اللبنانية والحكومة السورية معاً. فكما أن في لبنان من يعتقد أن الفرصة لم تكن في أية فترة موائمة للعودة إلى لبنان ما قبل الحرب الأهلية كما هي عليه اليوم، بكل ما تعنيه من خيارات داخلية وخارجية، هناك أيضاً في سوريا قوى تعتقد أن الرد الوحيد على مخاطر زعزعة الاستقرار التي ينطوي عليها خروج لبنان من تحت السيطرة السورية يكمن في عملية استباقية لزعزعة الاستقرار في لبنان بل في المنطقة بأكملها. ومما يساعد على السير في هذا الاتجاه هو سيطرة التصورات المبسطة والتبسيطية لطبيعة المصالح المختلفة التي تربط سوريا بلبنان ونعرة العصبية الوطنية التي تنزع إلى قبول المخاطرة والرد على انعدام روح المسؤولية عند الخصم بالاستهتار بالمصالح المشتركة أي بتبرير مماثل لانعدام المسؤولية. فكما أن من شأن التبسيط أن يقود إلى ردود أفعال سلبية تنعكس على العلاقات السورية بانهيار لا يمكن ترميمه قبل أمد طويل، تشكل النعرة الوطنية أكبر حافز للمزاودة اللاعقلانية.
ويتطلب استبعاد الخيارات السلبية وتجنب اللجوء إلى الحلول المتطرفة السيطرة على أوهام الانتصار السهل من جهة وكابوس الهزيمة من جهة أخرى، والبحث عن الحلول المتفاوض عليها، أي إلى التحلي بالبصيرة والعقل في معالجة أزمة تتحكم القوى الخارجية بوسائل توجيهها وتخضعها لحسابها أكثر بكثير مما يمكن أن تفعله الأطراف المحلية، بالرغم من قوة الموجة الشعبية. وبالمثل ليس هناك ما يضمن ألا تركب شبكات المصالح الضيقة أو المافيوزية رأسها وتسير وراء استراتيجيات تدميرية على مبدأ علي وعلى أعدائي، من دون أن تشعر بأي حرج إزاء ما يمكن أن ينجم عن أعمالها من أضرار بليغة على المصالح الوطنية السورية واللبنانية معاً.
إن لسوريا ولبنان مصالح قوية مشتركة بصرف النظر عن القوى التي تحكمهما أو تتحكم بسياستهما اليوم وفي المستقبل. ولا يمكن تجاهل هذه المصالح من دون تكبيد الشعوب في البلدين خسائر وربما مواجهات تقضي على الأمل عند شعبيهما. وما لم تؤخذ هذه المصالح بجدية ويتم تنظيمها على أسس عقلانية فسيكون الإغراء قوياً لدى بعض القوى الانتهازية حتى لا أقول المافيوزية التي لا يهمها لا مصير لبنان ولا مصير سوريا للاستفادة من ترابط المصالح الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية، لتحقيق مآربها الخاصة والإساءة إلى البلدين معاً.
لكن الأهم من ذلك هو أن النفوذ السوري في لبنان لم يعد مسألة سورية بحتة وإنما أصبح يشكل عنصراً رئيسياً في التوازنات الداخلية اللبنانية. وحتى لا يقود الانسحاب السوري من لبنان إلى انهيار هذه التوازنات وما يعنيه ذلك من احتمال تفجر النزاعات من جديد يحتاج اللبنانيون إلى تجديد أسس التفاهم الوطني الداخلي بل إلى تفاهم وطني يصلح لما بعد الحقبة السورية ويؤسس لإعادة بناء توازنات جديدة مستقرة. وهذا التفاهم غير موجود تلقائياً في اتفاقية الطائف التي أظهرت الوقائع أنها لم تكن قاعدة لتوازنات نسبية مؤقتة إلا بقدر ما كانت غطاءً للوصاية السورية المستمرة على لبنان. هذا يعني أن الانسحاب السوري من لبنان يطرح بحدة لا مثيل لها إعادة التفكير في ما يجمع أطراف هذا البلد بعد أن غطت الوصاية السورية على غياب الإجماع بين الأطراف اللبنانية. واستعراض هذه الاتفاقية لا يعوض عن النقاش الجدي في العقد الوطني الذي يتحتم على اللبنانيين تجديده بعد انهيار عقد الوصاية السورية.
اعتقادي أن الانصهار الوطني الذي برز على أثر مقتل الرئيس الحريري التراجيدي والذي فجر مشاعر الوحدة ضد الهيمنة الخارجية لن يصمد طويلا إذا لم تدرك النخبة السياسية اللبنانية دلالات ما حدث وتشرع منذ الآن في إحداث قطيعة حقيقية مع لبنان الطائفي الماضي من أجل بناء لبنان ديمقراطي جديد قائم على مبدأ المواطنية المتساوية الفردية ولا شيء للتجمعات الطائفية.