السفير 2 مارس 2005
لم يعد أحد يشك اليوم في أن عملية الاغتيال التي تعرض لها أهم رجل سياسة ودولة عرفه لبنان في حقبة ما بعد الحرب الأهلية، وربما منطقة المشرق العربي بأجمعها، قد زعزعت، بعواقبها القوية التي فاجأت ربما منفذيها أنفسهم، الأسس السياسية والمعنوية التي قام عليها الوجود السوري في لبنان منذ ثلاثين عاما. وبعد أن رفضت دمشق برنامج الرئيس الحريري للحل الوسط الذي كان يمكنها من الابقاء على نفوذها السياسي والاقتصادي وربما العسكري أيضا في البقاع لقاء القبول بتحرير الحياة السياسية اللبنانية الداخلية من التدخلات الأمنية السورية، أصبحت الآن مضطرة إلى الخروج من لبنان في حالة كارثية تحت تهديدات الدول الأجنبية ومن دون أي فرصة للمفاوضة أو الحوار أو النقاش حول مصير لبنان في الحقبة مابعد السورية. فقد دفع مقتل الحريري التراجيدي القسم الأكبر من قطاعات الرأي العام اللبناني، على اختلاف انتماءاتها الطائفية، إلى الالتحاق العفوي أو الواعي بالمعارضة اللبنانية والمطالبة بما يشبه الاستفتاء الشعبي العام على خروج القوات الأجنبية ووضع حد فوري للنفوذ السوري في لبنان. وقد ضاعت بذلك الفرصة التي كانت تراهن عليها قطاعات واسعة من الرأي العام العربي القومي والوطني، بما في ذلك في لبنان وسورية، للتفاهم السوري اللبناني المسبق الذي يجنب البلدين الانفصال الكارثي الذي يضر بمصالح سورية ومصالح لبنان وعلاقتهما المستقبلية معا.
بالتأكيد ما كان من الممكن للانسحاب السوري المفاوض عليه والذي يضمن لسورية خروجا مشرفا من لبنان أن يحصل من دون تنازلات كبيرة للمعارضة وللشعب اللبناني معا، في مقدمها تخفيف القبضة الأمنية القوية واحترام مظاهر السيادة اللبنانية. لكن هذا النوع من الانسحاب المتفاهم عليه وحده كان سيضمن لسورية الانكفاء على مواقع ثابتة وقوية تعزز قدرتها على الاستمرار في مقاومة الضغوط الأجنبية. وهو ما كان الجميع يأمل بتحقيقه منذ سنوات. أما الانسحاب السوري الذي سيحصل اليوم في سياق رفض لبناني شعبي واسع للنفوذ السوري وانصياعا واضحا للضغوط الأمريكية والاوروبية القوية وتحت تهديد قوي بتشديد العقوبات فلن يترك لسورية أي هامش مناورة لا داخل لبنان ولا على المستوى الإقليمي. وسوف يظهر بالضرورة بوصفه الحلقة الأخيرة في سلسلة الانهيارات التي تعاني منها المواقع الإقليمية السورية منذ أن بدأت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط في سياق ما أطلقت عليه اسم الحرب على الإرهاب.
إن خروج سورية بالصورة التي فرضت عليها أو التي فرضتها على نفسها بسبب دبلوماسيتها الجامدة التي تنتمي إلى عصر آخر وسقام حساباتها الجيوستراتيجية سوف يقود إلى أمرين كان بإمكان دمشق ومن واجبها تجنبهما لصالح الشعب السوري والشعب اللبناني معا. الأول تجيير الخروج بشكل رئيسي لصالح القوى اللبنانية المعادية للوجود السوري ولسورية بشكل عام وليس فقط للتسلط الأمني على لبنان، وبالتالي خطر إعادة لبنان إلى فلك النفوذ الأمريكي الفرنسي وتحييده النهائي في معادلة المقاومة العربية المنهكة. والثاني انهيار ثقة الرأي العام السوري بالقيادة السياسية السورية نتيجة للاعتقاد المتزايد بتخبطها وعجزها عن مسايرة الأحداث الإقليمية والدولية في مرحلة تتعرض فيها البلاد لتحديات متزايدة داخلية وخارجية. وسوف يعمق مثل هذا التاكيد من مشاعر القلق داخل صفوف الشعب السوري نفسه ويفاقم من الانتقادات العنيفة التي يتعرض لها النظام من قبل المعارضة والرأي العام على جميع المستويات. وستكون النتيجة إضعافا مضطردا وخطيرا في صدقية النظام والقوة المادية والمعنوية التي يتمتع بها. والنتيجة تزايد عوامل زعزعة الاستقرار الداخلية والخارجية بالنسبة لنظام ليس لديه هامش مناورة كبير في ما يتعلق بالرد على التحديات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية. ستدفع سورية بالتأكيد ثمنا كبيرا لهذا الانسحاب المفروض تحت التهديد والرفض اللبناني الواسع لكن العواقب سوف تكون وخيمة بشكل خاص على أمن واستقرار النظام.
فالواقع أن لبنان الذي عمل في الحقبة الأولى من الوجود السوري كساحة للمناورة الاستراتيجية وكمسرح عمليات ثانوي لإدامة الحرب بطريقة محدودة ضد اسرائيل أو للضغط عليها لدفعها إلى مفاوضات جدية، قد تحول منذ انهيار مفاوضات السلام وتبني المفاوضات كخيار استراتيجي في المنطقة بأكملها، وفي دمشق أيضا، إلى مسرح جانبي للعمليات التي تعنى بالحفاظ على نظام الحكم القائم في دمشق، بوصفه مجموعة المصالح الخاصة بالفئات التي تشكل قاعدة النظام. وفي هذا المجال شكل لبنان مسرحا متعدد المهام والوظائف سواء ما كان منها أمنيا أم اقتصاديا أم سياسيا أم إعلاميا. فكان ميدانا كبيرا إضافيا مفتوحا لاستعراض قوة السلطة الأمنية وتأكيد نفوذها وسطوتها وقانونها في سورية نفسها ولردع المعارضة ومنعها من التجمع أو النشاط. وكان ساحة للمناورة الدبلوماسية التي تعطي "لسورية البعث" أوراقا إضافية في المفاوضات مع الدول الكبرى المعنية بالمنطقة وفي الضغط عليها أو استرضائها. وكان مسرحا جانبيا فسيحا لاستعراض ونشر منطق الولاء السائد في السياسة البعثية الداخلية نفسها لتأمين الأتباع في الداخل والخارج والتمرن على احتواء قوى المجتمع وكسر شوكة الخصوم وقطع الأمل عند أي طرف في المقاومة أو التصدي أو الاحتجاج. وكان ترعة لتفريغ التوترات ا لسورية الداخلية وحلها في الخارج، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. وكان أيضا مسرحا إعلاميا من طراز رفيع لتأمين عناصر الدعم والدعاية وبث الرعب في قوى الاحتجاج الداخلية وإعطاء المصداقية لخطاب الالتزام القومي والوطني للنظام والتغطية على إحباطاته ومصاعب سياساته الداخلية والخارجية. حتى أن السوريين لم يعد يحق لهم مناقشة مصير بلدهم نفسه وتحولاته إلا على صفحات جرائد ووسائل إعلام لبنان. بل لقد أصبح لبنان أهم ساحة إعلامية ينطلق منها المدافعون عن النظام السوري في وسائل الإعلام العربية خاصة الفضائية لتبييض صفحة السلطة البعثية وتشويه صورة معارضيها. وكان أخيرا وليس آخرا حقلا ثمينا لمراكمة الثروة ورأس المال ولتأمين المصالح والمزايا الاستثنائية والريوع الناجمة عن النفوذ الأمني والسياسي بالنسبة لقطاعات واسعة من المحسوبين على النظام وأصحاب الحظوة فيه. وخروج النظام البعثي من لبنان يعني فقدان كل هذه المزايا مع انعدام أي أمل في التعويض عنها في مكان آخر، بما في ذلك في سورية نفسها.
إن فقدان مسرح العمليات اللبناني الذي هو مسرح العمليات الرئيسي للدفاع عن النظام، بعد فقدان مسارح العلميات الجانبية الأخرى: الفلسطينية والعراقية والأردنية، سوف يعني القضاء على هامش المناورة الاستراتيجية للسلطة البعثية كاملا داخل سورية وخارجها على حد سواء. وهو ما سيقود بسرعة إلى عزل هذه السلطة وتضييق الحصار عليها على الصعيد الإقليمي وإلى إجبارها على خوض معاركها جميعا في الداخل وعلى الأرض السورية، الاستراتيجية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدعائية. وإذا لم يتحول القضاء على النفوذ السوري في لبنان إلى عداء لسورية أو جعل لبنان شوكة في الخاصرة السورية لصالح الخطط الدولية الجديدة، ليس من غير الممكن أن تقود الهشاشة العميقة التي سينتجها هذا الانسحاب بعض أطراف النظام الأقل تورطا في الفساد وفي استخدام العنف، أخيرا، إلى الاستيقاظ من حلم العظمة الذي بدأ يتحول إلى كابوس. أي إلى اكتشاف الطريق المسدود الذي وصلت إليه دبلوماسية دمشق، وربما إلى اكتشاف وجود الشعب السوري نفسه الذي لم يكن لمسارح العمل الجانبية ومعاركها هدف آخر سوى تضييق الخناق عليه حتى يمكن عزله وتغييبه وإخراجه، كما حصل بالفعل، من حقل السياسة والثقافة والإقتصاد، أي حتى يمكن تفريغ الحياة العمومية السورية من أي مضمون وتحويل الشعب إلى أتباع.
لكن معركة تحرير إرادة الشعب اللبناني من المصادرة الخارجية ، وهي معركة حقيقية ومشروعة كما هي مشروعة معركة وضع حد لمصادرة إرادة الشعب السوري والاعتراف بحق الشعبين في المشاركة الفعلية في تقرير مصيرهما، لا ينبغي أن تخفي عنا معركة أخرى تتعلق بالمنطقة ككل. وإذا لم نشأ أن يكون الانسحاب السوري من لبنان وإلغاء المصادرة البعثية لإرادة الشعب اللبناني إلى قطيعة بين سورية ولبنان أو إلى مصادرة أخرى أجنبية لهذه الإرادة نفسها وأن لا يكون الهدف من إبعاد النفوذ السوري عن لبنان هو إخضاع لبنان لنفوذ آخر وسيطرة جديدة خارجية تستخدم لبنان لتحقيق أهداف معادية لسورية ومساندة لإسرائيل، فلا بد أن نضع هذه المعركة في سياقها الإقليمي والعالمي.
فليس هناك شك في أن مشروع إخراج سورية من لبنان يندرج أيضا في الخطة الامريكية الجديدة لإعادة بناء علاقات المنطقة على أسس تشكل قطيعة مع الأسس التي قام عليها النظام الإقليمي السابق الذي سيطرت عليه النزعة القومية والتحالف الإقليمي العربي ضد إسرائيل والتضامن الشعبي لدعم الحقوق الفلسطينية والعربية عموما ومقاومة النفوذ الأجنبي. إن ما هو مطروح اليوم على المنطقة بعمومها هو حلف بغداد أمريكي جديد. وما هو مفروض على سورية هو إجراءات تفقدها تدريجيا هامش مناورتها الاستراتيجية والسياسية حتى تجبرها على الانصياع لهذا الحلف والدخول فيه والعمل إلى جانب إسرائيل لتحقيق أغراضه.
وما تلام عليه دمشق بالضبط هو إسراعها في تحقيق هذا الهدف بسبب عجزها عن فهم تطورات الأوضاع الاقليمية والدولية وإصرارها على العمل بمنطق الحرب الباردة القديمة، ربما انطلاقا مما عبر عنه وزير إعلامها في أحد تصريحاته من أن سورية تجسد معجزة سياسية لأنها وهي البلد الصغير والضعيف بالإمكانيات والموارد تقود سياسة دولة عظمى. مثل هذا الفصام الواضح هو الذي يفسر ضعف حسابات السلطة السورية الاستراتيجية وانفصالها عن الواقع وإصرار أصحاب الأمر فيها على استخدام أساليب وتكتيكات تنتمي إلى الماضي وعدم قدرتهم على القيام بالمبادرات الدبلوماسية والسياسية المطلوبة لقطع الطريق على حرب الحصار التي تخوضها الولايات المتحدة لإجبار سورية نفسها وليس النظام فحسب على الاستسلام. وهو ما كان يفترض نزع فتيل النزاع قبل أن يقوم والعمل منذ سنوات على إعادة الحياة الدستورية للبنان وكف يد السلطة أو التسلط الأمني على مقدراته وسحب القوات السورية في مقابل تعزيز التعاون بين المؤسسات الرسمية والنشاطات المدنية بين البلدين. لكن كان من الصعب جدا على النظام السوري أن ينجح في تبني أساليب عمل سياسية وقانونية تعتمد القواعد الدستورية وأن يبني علاقات ندية وصحيحة مع شعب لبنان أو يسمح ببناء مثل هذه العلاقات بين أطرافه المختلفة في الوقت الذي يشكل فيه إلغاء السياسة وانتهاك القانون وتعليق الدستور وتجييش الأتباع والأزلام أساس بقائه في سورية ووسيلته الوحيدة لاستبعاد شعبها من أي قرار.
إن الوضع في لبنان وسورية لم يكن في أي فترة سابقة على الدرجة من الخطورة التي هو عليها ا ليوم. وما لم تتحلى جميع الأطراف بأقصى درجات ضبط النفس، تلك التي تعتقد أنها في سبيلها إلى أن تحقق انتصارا تاريخيا على نظام الوصاية والقهر وتلك التي تعتقد أنها تعيش حالة حصار غير محتملة وتتعرض لتهديدات لا حدود لها داخل سورية ولكن داخل لبنان أيضا، في ردها على تحديات الأزمة الراهنة فلن يكون هناك مكسب عربي واحد لا في لبنان ولا في سورية، وسيكون المنتصر الوحيد في المعركة الكبيرة الدائرة في سبيل السيطرة على السلطة والقوة في لبنان هي الدول الأجنبية التي تريد أن تجعل من التحرر من السيطرة السورية حلقة ضمن مشروع بناء الشرق أوسطية على أنقاض الهوية والمصالح العربية.
لم يعد أحد يشك اليوم في أن عملية الاغتيال التي تعرض لها أهم رجل سياسة ودولة عرفه لبنان في حقبة ما بعد الحرب الأهلية، وربما منطقة المشرق العربي بأجمعها، قد زعزعت، بعواقبها القوية التي فاجأت ربما منفذيها أنفسهم، الأسس السياسية والمعنوية التي قام عليها الوجود السوري في لبنان منذ ثلاثين عاما. وبعد أن رفضت دمشق برنامج الرئيس الحريري للحل الوسط الذي كان يمكنها من الابقاء على نفوذها السياسي والاقتصادي وربما العسكري أيضا في البقاع لقاء القبول بتحرير الحياة السياسية اللبنانية الداخلية من التدخلات الأمنية السورية، أصبحت الآن مضطرة إلى الخروج من لبنان في حالة كارثية تحت تهديدات الدول الأجنبية ومن دون أي فرصة للمفاوضة أو الحوار أو النقاش حول مصير لبنان في الحقبة مابعد السورية. فقد دفع مقتل الحريري التراجيدي القسم الأكبر من قطاعات الرأي العام اللبناني، على اختلاف انتماءاتها الطائفية، إلى الالتحاق العفوي أو الواعي بالمعارضة اللبنانية والمطالبة بما يشبه الاستفتاء الشعبي العام على خروج القوات الأجنبية ووضع حد فوري للنفوذ السوري في لبنان. وقد ضاعت بذلك الفرصة التي كانت تراهن عليها قطاعات واسعة من الرأي العام العربي القومي والوطني، بما في ذلك في لبنان وسورية، للتفاهم السوري اللبناني المسبق الذي يجنب البلدين الانفصال الكارثي الذي يضر بمصالح سورية ومصالح لبنان وعلاقتهما المستقبلية معا.
بالتأكيد ما كان من الممكن للانسحاب السوري المفاوض عليه والذي يضمن لسورية خروجا مشرفا من لبنان أن يحصل من دون تنازلات كبيرة للمعارضة وللشعب اللبناني معا، في مقدمها تخفيف القبضة الأمنية القوية واحترام مظاهر السيادة اللبنانية. لكن هذا النوع من الانسحاب المتفاهم عليه وحده كان سيضمن لسورية الانكفاء على مواقع ثابتة وقوية تعزز قدرتها على الاستمرار في مقاومة الضغوط الأجنبية. وهو ما كان الجميع يأمل بتحقيقه منذ سنوات. أما الانسحاب السوري الذي سيحصل اليوم في سياق رفض لبناني شعبي واسع للنفوذ السوري وانصياعا واضحا للضغوط الأمريكية والاوروبية القوية وتحت تهديد قوي بتشديد العقوبات فلن يترك لسورية أي هامش مناورة لا داخل لبنان ولا على المستوى الإقليمي. وسوف يظهر بالضرورة بوصفه الحلقة الأخيرة في سلسلة الانهيارات التي تعاني منها المواقع الإقليمية السورية منذ أن بدأت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط في سياق ما أطلقت عليه اسم الحرب على الإرهاب.
إن خروج سورية بالصورة التي فرضت عليها أو التي فرضتها على نفسها بسبب دبلوماسيتها الجامدة التي تنتمي إلى عصر آخر وسقام حساباتها الجيوستراتيجية سوف يقود إلى أمرين كان بإمكان دمشق ومن واجبها تجنبهما لصالح الشعب السوري والشعب اللبناني معا. الأول تجيير الخروج بشكل رئيسي لصالح القوى اللبنانية المعادية للوجود السوري ولسورية بشكل عام وليس فقط للتسلط الأمني على لبنان، وبالتالي خطر إعادة لبنان إلى فلك النفوذ الأمريكي الفرنسي وتحييده النهائي في معادلة المقاومة العربية المنهكة. والثاني انهيار ثقة الرأي العام السوري بالقيادة السياسية السورية نتيجة للاعتقاد المتزايد بتخبطها وعجزها عن مسايرة الأحداث الإقليمية والدولية في مرحلة تتعرض فيها البلاد لتحديات متزايدة داخلية وخارجية. وسوف يعمق مثل هذا التاكيد من مشاعر القلق داخل صفوف الشعب السوري نفسه ويفاقم من الانتقادات العنيفة التي يتعرض لها النظام من قبل المعارضة والرأي العام على جميع المستويات. وستكون النتيجة إضعافا مضطردا وخطيرا في صدقية النظام والقوة المادية والمعنوية التي يتمتع بها. والنتيجة تزايد عوامل زعزعة الاستقرار الداخلية والخارجية بالنسبة لنظام ليس لديه هامش مناورة كبير في ما يتعلق بالرد على التحديات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية. ستدفع سورية بالتأكيد ثمنا كبيرا لهذا الانسحاب المفروض تحت التهديد والرفض اللبناني الواسع لكن العواقب سوف تكون وخيمة بشكل خاص على أمن واستقرار النظام.
فالواقع أن لبنان الذي عمل في الحقبة الأولى من الوجود السوري كساحة للمناورة الاستراتيجية وكمسرح عمليات ثانوي لإدامة الحرب بطريقة محدودة ضد اسرائيل أو للضغط عليها لدفعها إلى مفاوضات جدية، قد تحول منذ انهيار مفاوضات السلام وتبني المفاوضات كخيار استراتيجي في المنطقة بأكملها، وفي دمشق أيضا، إلى مسرح جانبي للعمليات التي تعنى بالحفاظ على نظام الحكم القائم في دمشق، بوصفه مجموعة المصالح الخاصة بالفئات التي تشكل قاعدة النظام. وفي هذا المجال شكل لبنان مسرحا متعدد المهام والوظائف سواء ما كان منها أمنيا أم اقتصاديا أم سياسيا أم إعلاميا. فكان ميدانا كبيرا إضافيا مفتوحا لاستعراض قوة السلطة الأمنية وتأكيد نفوذها وسطوتها وقانونها في سورية نفسها ولردع المعارضة ومنعها من التجمع أو النشاط. وكان ساحة للمناورة الدبلوماسية التي تعطي "لسورية البعث" أوراقا إضافية في المفاوضات مع الدول الكبرى المعنية بالمنطقة وفي الضغط عليها أو استرضائها. وكان مسرحا جانبيا فسيحا لاستعراض ونشر منطق الولاء السائد في السياسة البعثية الداخلية نفسها لتأمين الأتباع في الداخل والخارج والتمرن على احتواء قوى المجتمع وكسر شوكة الخصوم وقطع الأمل عند أي طرف في المقاومة أو التصدي أو الاحتجاج. وكان ترعة لتفريغ التوترات ا لسورية الداخلية وحلها في الخارج، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. وكان أيضا مسرحا إعلاميا من طراز رفيع لتأمين عناصر الدعم والدعاية وبث الرعب في قوى الاحتجاج الداخلية وإعطاء المصداقية لخطاب الالتزام القومي والوطني للنظام والتغطية على إحباطاته ومصاعب سياساته الداخلية والخارجية. حتى أن السوريين لم يعد يحق لهم مناقشة مصير بلدهم نفسه وتحولاته إلا على صفحات جرائد ووسائل إعلام لبنان. بل لقد أصبح لبنان أهم ساحة إعلامية ينطلق منها المدافعون عن النظام السوري في وسائل الإعلام العربية خاصة الفضائية لتبييض صفحة السلطة البعثية وتشويه صورة معارضيها. وكان أخيرا وليس آخرا حقلا ثمينا لمراكمة الثروة ورأس المال ولتأمين المصالح والمزايا الاستثنائية والريوع الناجمة عن النفوذ الأمني والسياسي بالنسبة لقطاعات واسعة من المحسوبين على النظام وأصحاب الحظوة فيه. وخروج النظام البعثي من لبنان يعني فقدان كل هذه المزايا مع انعدام أي أمل في التعويض عنها في مكان آخر، بما في ذلك في سورية نفسها.
إن فقدان مسرح العمليات اللبناني الذي هو مسرح العمليات الرئيسي للدفاع عن النظام، بعد فقدان مسارح العلميات الجانبية الأخرى: الفلسطينية والعراقية والأردنية، سوف يعني القضاء على هامش المناورة الاستراتيجية للسلطة البعثية كاملا داخل سورية وخارجها على حد سواء. وهو ما سيقود بسرعة إلى عزل هذه السلطة وتضييق الحصار عليها على الصعيد الإقليمي وإلى إجبارها على خوض معاركها جميعا في الداخل وعلى الأرض السورية، الاستراتيجية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدعائية. وإذا لم يتحول القضاء على النفوذ السوري في لبنان إلى عداء لسورية أو جعل لبنان شوكة في الخاصرة السورية لصالح الخطط الدولية الجديدة، ليس من غير الممكن أن تقود الهشاشة العميقة التي سينتجها هذا الانسحاب بعض أطراف النظام الأقل تورطا في الفساد وفي استخدام العنف، أخيرا، إلى الاستيقاظ من حلم العظمة الذي بدأ يتحول إلى كابوس. أي إلى اكتشاف الطريق المسدود الذي وصلت إليه دبلوماسية دمشق، وربما إلى اكتشاف وجود الشعب السوري نفسه الذي لم يكن لمسارح العمل الجانبية ومعاركها هدف آخر سوى تضييق الخناق عليه حتى يمكن عزله وتغييبه وإخراجه، كما حصل بالفعل، من حقل السياسة والثقافة والإقتصاد، أي حتى يمكن تفريغ الحياة العمومية السورية من أي مضمون وتحويل الشعب إلى أتباع.
لكن معركة تحرير إرادة الشعب اللبناني من المصادرة الخارجية ، وهي معركة حقيقية ومشروعة كما هي مشروعة معركة وضع حد لمصادرة إرادة الشعب السوري والاعتراف بحق الشعبين في المشاركة الفعلية في تقرير مصيرهما، لا ينبغي أن تخفي عنا معركة أخرى تتعلق بالمنطقة ككل. وإذا لم نشأ أن يكون الانسحاب السوري من لبنان وإلغاء المصادرة البعثية لإرادة الشعب اللبناني إلى قطيعة بين سورية ولبنان أو إلى مصادرة أخرى أجنبية لهذه الإرادة نفسها وأن لا يكون الهدف من إبعاد النفوذ السوري عن لبنان هو إخضاع لبنان لنفوذ آخر وسيطرة جديدة خارجية تستخدم لبنان لتحقيق أهداف معادية لسورية ومساندة لإسرائيل، فلا بد أن نضع هذه المعركة في سياقها الإقليمي والعالمي.
فليس هناك شك في أن مشروع إخراج سورية من لبنان يندرج أيضا في الخطة الامريكية الجديدة لإعادة بناء علاقات المنطقة على أسس تشكل قطيعة مع الأسس التي قام عليها النظام الإقليمي السابق الذي سيطرت عليه النزعة القومية والتحالف الإقليمي العربي ضد إسرائيل والتضامن الشعبي لدعم الحقوق الفلسطينية والعربية عموما ومقاومة النفوذ الأجنبي. إن ما هو مطروح اليوم على المنطقة بعمومها هو حلف بغداد أمريكي جديد. وما هو مفروض على سورية هو إجراءات تفقدها تدريجيا هامش مناورتها الاستراتيجية والسياسية حتى تجبرها على الانصياع لهذا الحلف والدخول فيه والعمل إلى جانب إسرائيل لتحقيق أغراضه.
وما تلام عليه دمشق بالضبط هو إسراعها في تحقيق هذا الهدف بسبب عجزها عن فهم تطورات الأوضاع الاقليمية والدولية وإصرارها على العمل بمنطق الحرب الباردة القديمة، ربما انطلاقا مما عبر عنه وزير إعلامها في أحد تصريحاته من أن سورية تجسد معجزة سياسية لأنها وهي البلد الصغير والضعيف بالإمكانيات والموارد تقود سياسة دولة عظمى. مثل هذا الفصام الواضح هو الذي يفسر ضعف حسابات السلطة السورية الاستراتيجية وانفصالها عن الواقع وإصرار أصحاب الأمر فيها على استخدام أساليب وتكتيكات تنتمي إلى الماضي وعدم قدرتهم على القيام بالمبادرات الدبلوماسية والسياسية المطلوبة لقطع الطريق على حرب الحصار التي تخوضها الولايات المتحدة لإجبار سورية نفسها وليس النظام فحسب على الاستسلام. وهو ما كان يفترض نزع فتيل النزاع قبل أن يقوم والعمل منذ سنوات على إعادة الحياة الدستورية للبنان وكف يد السلطة أو التسلط الأمني على مقدراته وسحب القوات السورية في مقابل تعزيز التعاون بين المؤسسات الرسمية والنشاطات المدنية بين البلدين. لكن كان من الصعب جدا على النظام السوري أن ينجح في تبني أساليب عمل سياسية وقانونية تعتمد القواعد الدستورية وأن يبني علاقات ندية وصحيحة مع شعب لبنان أو يسمح ببناء مثل هذه العلاقات بين أطرافه المختلفة في الوقت الذي يشكل فيه إلغاء السياسة وانتهاك القانون وتعليق الدستور وتجييش الأتباع والأزلام أساس بقائه في سورية ووسيلته الوحيدة لاستبعاد شعبها من أي قرار.
إن الوضع في لبنان وسورية لم يكن في أي فترة سابقة على الدرجة من الخطورة التي هو عليها ا ليوم. وما لم تتحلى جميع الأطراف بأقصى درجات ضبط النفس، تلك التي تعتقد أنها في سبيلها إلى أن تحقق انتصارا تاريخيا على نظام الوصاية والقهر وتلك التي تعتقد أنها تعيش حالة حصار غير محتملة وتتعرض لتهديدات لا حدود لها داخل سورية ولكن داخل لبنان أيضا، في ردها على تحديات الأزمة الراهنة فلن يكون هناك مكسب عربي واحد لا في لبنان ولا في سورية، وسيكون المنتصر الوحيد في المعركة الكبيرة الدائرة في سبيل السيطرة على السلطة والقوة في لبنان هي الدول الأجنبية التي تريد أن تجعل من التحرر من السيطرة السورية حلقة ضمن مشروع بناء الشرق أوسطية على أنقاض الهوية والمصالح العربية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire