الجزيرة نت 16 فبراير 2005
بدأت معركة الاصلاح الديمقراطي في سورية منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي عندما أعلنت نقابات المهن الحرة من محامين ومهندسين وأطباء وجمعيات حقوق الانسان مطالبها بإلغاء المحاكم الاستثنائية وحالة الطواريء والعودة إلى ممارسة الحياة السياسية الطبيعية. وقد التحق المثقفون بالحركة وكانوا في طليعة القوى التي كافحت من أجل وضع حد لنظام الفساد الاقتصادي والإداري وللتعسف الأمني وغياب أي مظهرمن مظاهر الحياة القانونية السليمة في البلاد. وكانت الحركة من القوة إلى درجة أجبرت السلطات البعثية في ذلك الوقت على فتح حوار مع المثقفين والصحفيين تميز بالجرأة والصراحة وأحيانا بالعنف نتيجة حالة الاستياء العميق التي كانت تخيم على المجتمع السوري برمته. وقد تحولت أشرطة التسجيل التي نقلت عن هذه النقاشات إلى مادة للتداول بين الجمهور السوري لفترة طويلة. لكن موجة النقد والمطالبة بالاصلاح هذه ما لبثت أن خمدت بعد أن أصدرت القيادة القطرية للحزب الحاكم قرارا بحل النقابات المهنية وجمعيات حقوق الانسان (أفريل 1980) واعتقال العديد من قادتها وزجهم بالسجن لسنوات طويلة وإعادة تشكيل مجالسها حسب قانون جديد يخضعها بشكل مباشر لإشراف حزب البعث ويعطي لرئيس الوزراء الحق في حل أي مجلس نقابي من دون تقديم أي تبرير (قانون رقم 39 و 31 و26 عام 1981). ومنذ ذلك الوقت حرم المجتمع السوري من أي قناة للتعبير عن رأيه أو عن تطلعاته وأخضع بشكل عسكري لنظام اتخذ أكثر فأكثر شكل نظام العبودية بمعنيينها : تأليه الحاكم وتنظيم طقوس عبادته اليومية وتمرين الأفراد على الخضوع والتذلل والتسليم للملك الإله.
وقد جاء النزاع الذي تفجر بعد ذلك بقليل بين الجماعات الاسلاموية المتطرفة وقوات الأمن خلال أكثر من سنتين وانتهى بمجزرة حماة الشهيرة التي قضى فيها عدة عشرات من الألوف من السوريين ليختم هذه الحقبة العنيفة من إجهاض المطالب الإصلاحية وتجريد المجتمع من أي حماية قانونية أو سياسية أو مدنية وتقديمه فريسة لحكم الأجهزة الأمنية التي أصبحت، تحت إمره ملك إله يحكم بأمره ولا يخضع قوله أو فعله لا لمساءلة ولا لنقاش ولا لحساب، هي السلطة الحقيقية الوحيدة في البلاد. وقد أنشأ تجريد المجتمع من جميع البنيات والهياكل السياسية والمدنية والقانونية التي تمكنه من الدفاع عن نفسه والاحتفاظ بالحد الادنى من حقوقه وحرياته وضعا مثاليا لتكوين إقتصاد قائم على النهب والسلب بحيث لم يعد هناك فرد أمين على ماله أو تجارته أو نفسه وكل مجبر على مقاسمة أرباح عمله أو ثروته أو إرثه مع أحد أزلام النظام ومحاسيبة الأمنيين والعسكريين حتى يستمر في الحياة. وهكذا فرط عقد المجتمع تماما كمجتمع مدني ومتمدن لصالح منطق قانون الغاب لا أكثر ولا أقل. وبالرغم من تزايد مداخيل النفط الريعية، تراجعت المؤشرات الاقتصادية جميعا وساد الكساد وتقهقرت معدلات النمو السنوي ونصيب الفرد من الناتج الوطني باستمرار.
في محاولته للحيلولة دون انهيار محتم للوضع اتخذ الحكم منذ بداية التسعينات سلسلة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية الاصلاحية. فأقر تخفيف قبضة السيطرة البعثية على البرلمان بتخصيص نسبة الثلث من مقاعده لمن أطلق عليهم اسم المستقلين. كما أصدر عام 1991 مرسوما رقم 10 سمي قانون تشجيع الاستثمار لتوسيع هامش مبادرة القطاع الخاص وتخفيف القيود والضرائب عنه حتى يساهم بشكل أكبر في النشاط الاقتصادي. لكن استمرار السيطرة الأمنية الشاملة على الحياة العامة قلل كثيرا من آثار هذا الإجراء وقصر نتائجه على إنشاء بعض المشاريع الصغيرة في النقل والخدمات عموما. ومع ذلك نظر الرأي العام إلى هذا الاصلاح بايجابية واعتبره خطوة أولى على طريق تحرير الاقتصاد بشكل أكبر من سيطرة الفئات الطفيلية التي استخدمت سياسة دعم القطاع الحكومي والتعويض التلقائي عن خسائره الكبيرة والمتزايدة كوسيلة لنهب المال العام.
وقد تعمق إدراك الحاجة إلى الاصلاح والدعوة له بشكل أكبر بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وتولي ابنه بشار الحكم. وساهم خطاب الرئيس الجديد نفسه في بث الأمل بوجود إرادة إصلاحية عندما اعترف في حديثه لأول مرة بالمشاكل التي تعاني منها البلاد وطلب من الشعب مساعدته على ايجاد الحلول لها وتكلم عن نفسه بوصفه مواطنا كالآخرين لا مالكا لهم. وقد عزز الأمل بالاصلاح اعتقاد قطاعات واسعة من النخبة السورية بصدق نوايا الرئيس الجديد وفتوته واطلاعه على ما يجري في العالم وفي أوروبة خاصة وتأثره به وعدم انغماسه في الفساد أو انخراطه في عملية تقاسم المغانم التي قضت على سمعة الطاقم السياسي الحزبي والحكومي السابق وأجهزت على صدقيته.
لكن الشعور بخيبة الأمل في الاصلاح من داخل النظام لم يتأخر كثيرا في الظهور مع تعثر الاصلاحات الإدارية والاقتصادية التي أقرها النظام ودفن حملة مكافحة الفساد قبل البدء بها والقضاء العنيف على ظاهرة المتنديات الفكرية التي نشأت بعد استلام بشار الأسد السلطة وايداع العديد من قياداتها السجن واستمرار تعقب أجهزة الأمن للآخرين والتنكيل بهم. وهكذا، قبل أن تعلن الولايات المتحدة سياستها الجديدة في الشرق، كانت السلطة قد نجحت في تبديد رصيد الأمل الذي بعثه خطاب الرئيس وأعادت المجتمع السوري من جديد إلى بيت الطاعة وأخضعته لمنطق الحكم الامني والحرب المعلنة عليه من قبل الأجهزة.
والواقع ما كان لمبادرة الإصلاح الأمريكية أن تستحوذ على انتباه الجمهور العربي في سورية وغيرها لو لم تأت في ظرف انعدم فيه الأمل تماما بأي إصلاح داخلي. وهكذا عزا الجمهور لهذه المبادرة أهدافا لم ترسمها لنفسها ولا قدمت أي خطة لتحقيقها وفي مقدمها مسألة الديمقراطية. وينبغي القول إن واشنطن لم تتحدث عن أي مشروع للاصلاح في البلاد العربية قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، وقد تمحور أول مشروع حول التنمية والمرأة والمعرفة ولم يتطرق كثيرا للمسائل السياسية. ولم يتحول الحديث الضعيف عن ضرورة الاصلاح إلى مشروع أو مبادرة أمريكية ثم أمريكية أوروبية إلا على أثر المصاعب التي واجهتها الحملة العسكرية الأمريكية على العراق عام 2003 واصطدامها بحاجز المقاومة المسلحة العنيفة. فمن أجل إضعاف موقف هذه المقاومة التي تستمد شرعيتها من الدفاع عن الاستقلال السياسي والثقافي والهوية وفي سبيل قطعها عن محيطها العربي والاسلامي لم تجد الدعاية الأمريكية بديلا لإضفاء الشرعية على نشاطها في العراق سوى بربط مشروعها لبسط نفوذها الاستعماري الجديد في المنطقة بمسألة الديمقراطية والحرية التي شكلت في العقود الثلاث الماضية من دون شك الهاجس الرئيسي للنخب العربية وللطبقات الوسطى ولم تنفع أي جهود لا في الحكم ولا في المعارضة في تعبيد الطريق إليها. وقد زاد تركيز الدعاية الأمريكية على مسألة الديمقراطية والحرية بمناسبة حملة الانتخابات الثانية التي أعطت الرئيس جورج بوش ولاية رئاسية جديدة. وقد استخدم الرئيس الأمريكي شعار نشر الديمقراطية في البلاد العربية من أجل ايجاد مبررات أخلاقية لحربه في العراق التي أصبحت تثير اعتراضات قوية من قبل الرأي العام الأمريكي بسبب تكاليفها البشرية والمادية الكبيرة كما حاول من خلالها رد الاعتبار لسياسته الدولية التي اتهمت من قبل حلفاء واشنطن بالتهور والانفرادية والتسلطية واللجوء المفرط للقوة العسكرية.
ومن هنا، ومنذ البدء، لم تشعر القوى الديمقراطية السورية أن هناك تقاطعا بين برنامجها وما تطرحه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولكنها، بالعكس من ذلك، شعرت بأن هناك محاولة أمريكية للالتفاف على الحركة الديمقراطية العربية الأصيلة واستثمارها لتحقيق مآرب ليس لها علاقة أبدا بالدفاع عن حقوق الفرد العربي وحرياته الأساسية. فالمشروع الأمريكي الحقيقي الوحيد كما هو واضح من سياستها في المشرق العربي كافة وليس في فلسطين والعراق فحسب هو انتزاع المنطقة من أيدي نظام عربي إقليمي مهتريء تنظيميا وسياسيا وفكريا لإدراجها في منظومة الاستراتيجية الأمريكية العالمية. وليس للشعارات الديمقراطية من دور هنا سوى تغليف هذا المشروع بغلاف رقيق من الشعارات المحببة إلى الشعوب العربية التي اكتوت خلال عقود بنار الظلم والقهر والارهاب الداخلي.
إن ما تريده الولايات المتحدة هو دفع المواطن العربي باسم ديمقراطية موهومة إلى مقايضة الوطنية العربية وبرنامجها القائم على تعزيز التعاون والاندماج العربي وتأكيد استقلال المنطقة عن النفوذ الأجنبي ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي والسيطرة الخارجية الغربية ببرنامج استعماري جديد قائم على مفهوم الشرق أوسطية الكبيرة أو الموسعة يؤسس سياسيا وايديولوجيا لتكريس التجزئة العربية واستبدال الحلم العربي الوحدوي بالتبعية المشتركة للولايات المتحدة وقبول الحمايات الخارجية ويجعل من الاندراج في السوق الاقتصادية الدولية والتعاون مع إسرائيل قاعدة العمل في سبيل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الرفاه في المنطقة. وهو ما ينبغي أن يشكل الهدف الوحيد للحياة الجمعية العربية.
ومن الواضح أن تحقيق البرنامج الاستعماري الجديد يصطدم بشكل مباشر مع أي برنامج ديمقراطي فعلي بقدر ما يقوم على نزع سيادة الشعوب والحيلولة دون ممارستها حقها في تقرير مصيرها وفرض الوصاية عليها. إن ما تدعو إليه المبادرة الأمريكية ليس شيئا آخر في الواقع سوى استبدال وصاية النخب الحاكمة الاستبدادية، التي أصبحت مصالحها تتعارض جزئيا أو كليا مع أهداف الاستراتيجية بناء الأمبرطورية العالمية، بوصاية أمريكية. وليس هناك أي مجال لأن تتماشى التبعية التي يتطلبها الالتحاق بالاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط مع إقرار التعبير الحر عن إرادة الشعوب العربية الذي تتضمنه الديمقراطية والذي يهدد برفض السيطرة الأمريكية بالدرجة ذاتها التي تخشاه بها النخب الاستبدادية المحلية.
ومن هنا وبالرغم من الضجيج الكبير الذي تثيره الإدارة الأمريكية حول الديمقراطية لم تجعل واشنطن، حتى هذه اللحظة، ولا غيرها من العواصم الكبرى من الانتخابات التشريعية أو الرئاسية النزيهة والتنافسية منطلقا أو أساسا للاصلاح المزعوم. ولم تطالب السلطات القائمة لا في مصر ولا في السعودية ولا في أي دولة عربية أخرى، ومن باب أولى في سورية، بتنظيم مثل هذه الانتخابات كشرط مسبق للتعاون او التعامل معها أو دعمها في تحقيق الإصلاح الاقتصادي أو الإداري.
بل إن الإدارة الأمريكية لا تتحدث عن الديمقراطية، حتى بمعناها الشكلي كواجهة لتعددية فارغة من المضمون، بلغة واحدة ولا تطبيق المعايير نفسها على جميع بلدان المنطقة. فهي لا تطالب بتحقيق مزيد من الإجراءات الديمقراطية، أي بتحسين الواجهة التعددية وتوسيع دائرة المشاركة الانتخابية لامتصاص نقمة بعض فئات الطبقة الوسطى والتقليل من الغش والتزوير الفاضح في الانتخابات، إلا الدول العربية التابعة أصلا لمنطقة نفوذها مثل مصر والمملكة العربية السعودية. أما في البلدان التي لا تعتبر أنها تدخل في دائرة نفوذها كليا بعد مثل ليبيا وسورية فأولوياتها هنا ذات طبيعية استراتيجية محض. فهي لا تطالب إلا بتصفية النزوعات الوطنية العربية، حتى تلك الرمزية منها، من دون إثارة أي مشكلة بالنسبة للإبقاء على نظام العسف المطلق القائم. وهذا هو بالضبط ما يطلبه الأمريكيون من سورية. فهم لا يكفون عن تكرار أن عليها التمثل بما قامت به ليبيا. ولم يتحدث مسؤول امريكي واحد عن تغيير نظام حزب البعث القائم أو حتى عن إجراء إنتخابات نزيهة ومن باب أولى عن تداول السلطة بل حتى عن توسيع دائرة المشاركة الشعبية في الحكم على مثال ما تطلبه من مصر والمملكة السعودية. ولم يصدر أي بيان جدي لإدانة سياسات القمع أو للدفاع عن معتقلي الحركة الديمقراطية السورية في سبتمبر 2001. كما لم يكلف مسؤول امريكي سياسي واحد نفسه الالتقاء بأي قطب من أقطاب المعارضة السورية الديمقراطية أو دعوتهم لأي حوار. إن كل ما يطلبه الأمريكيون من النظام السوري هو التخلي عن أسلحة الدمار الشامل ووقف دعم عمليات المقاومة العربية في فلسطين أو العراق أو لبنان والتطبيع مع إسرائيل من دون مقابل والتعاون الأمني معها ومع واشنطن، أي، باختصار، التخلي عن ما تبقى من أصداء بعيدة لبرنامج البعث الوطني العربي القديم ورفع الراية أمام الإدارة الأمريكية.
ومن هنا لا أعتقد أن المعارضة الديمقراطية السورية قد استفادت أو أنها يمكن أن تستفيد من الضغط الأمريكي المتواصل الذي يصب بالضبط على الجوانب الوحيدة التي تلقى إجماعا عند الراي العام السوري والتي لا يستخدمها النظام سوى كتغطية ايديولوجية لسياساته القمعية، أعني الخيار العربي ودعم المقاومة وتوفير وسائل الدفاع والحماية الوطنية بأسلحة تملك الحد الأدنى من الصدقية والحفاظ على الاستقلال الوطني. وهذا هو الذي دفع ببعض المسؤولين السوريين إلى القول إن على أمريكا أن تدرك أن النظام أقرب إليها في مواقفه من المعارضة. وهذا صحيح. وهو ما يفسر كذلك مقاطعة واشنطن لهذه المعارضة وللشعب السوري عموما وعدم اتخاذ أي موقف يدعم كفاحه الديمقراطي، لا في الماضي ولا في الحاضر. إن برنامج المبادرة الإصلاحية الأمريكية في سورية وليبيا هو برنامج المصالح الاستراتيجية فحسب من دون براقع ولا أصباغ، أي التفاهم والتعاون الأمني الواسع بين النظام القائم من جهة وحكومات واشنطن وإسرائيل من جهة ثانية ولا شيء آخر.
وهذا هو السبب أيضا في أن المعارضة الديمقراطية السورية تجد نفسها على مسافة واحدة من النظام الذي يضطهد شعبه ومن المبادرة الأمريكية التي تريد أن تجرد هذا الشعب نفسه من أسلحته المحدودة في مواجهة إسرائيل وتفرض عليه الانصياع والاستسلام الوطني بعد أن فرض عليه النظام الاستسلام السياسي والاجتماعي والمدني وحرمه من كامل حقوقه وحرياته. وهي تدرك أن تغييب الشعب السوري ومنعه من ممارسة حقه في تقرير مصيره هو نقطة الالتقاء الحقيقية والرئيسية بين نظام الاستبداد الذي لا يزال مقبولا أمريكيا كقاعدة للعمل ونظام السيطرة الخارجية الأمريكية والاسرائيلية الذي تريد واشنطن فرضه في المنطقة الشرق أوسطية.
وكما أدركت المعارضة الديمقراطية السورية منذ زمن بعيد أن أكثر ما أساء لبرنامج الوطنية العربية ونزع عنه الصدقيه كان الربط بينه ونظام السلطة الاستبدادية الفئوية، فهي تدرك أيضا اليوم أن أكثر ما أساء ويسيء للقضية الديمقراطية في سورية وغيرها من الدول العربية هو ربطها بالعدمية الوطنية والقومية وجعلها بديلا للانتماء العربي أو لاسترجاع السيادة والحقوق الوطنية في الأراضي المحتلة. وهو ما تهدف إليه الإدارة الأمريكية التي تلوح بالديمقراطية لتنتزع السيادة، أي حق الشعوب العربية في التصرف بالمسائل الاستراتيجية وما يساهم في تقرير مستقبلها ومصالحها العليا والبعيدة، تماما كما لوحت السلطة الاستعمارية القديمة بالكتاب المقدس لتنتزع الأرض وملكيتها من الفلاحين السود الفقراء ولتحولهم إلى عبيد.
لكن ذلك لن يغير من استراتيجيات الحركة الديمقراطية ولن يدفعها إلى المساومة على استقلالها وحرية مبادرتها تجاه الولايات المتحدة وأي دولة أخرى وتجاه النظام الأمني القائم معا. وهي ستستمر في وضع رهانها على الشعب وتوعيته وتعبئته في سبيل ثورة ديمقراطية سلمية تلغي تغييب الإرادة الشعبية وتضع حدا للعسف الداخلي والخارجي في الوقت نفسه. وهي لا تعتقد أن التفاهم الأمريكي المحلي على إقامة نظم أمنية معدلة، ذات واجهة تعددية شكلية تخفي حقيقة السلطة الفئوية التابعة والمصالح الأجنبية شبه الاستعمارية المتحالفة معها، سوف يثني المجتمعات العربية عن الاستمرار في طريق الكفاح الديمقراطي وعن القدرة على بلورة الرد الشعبي المناسب على استراتيجيات العزل والتهميش والتلاعب والتغييب المختلفة التي تطورها نظم الاستبداد الداخلية ومنظومات السيطرة الاستعمارية الخارجية معا. وهي تؤمن، أنه ليس أمام الشعوب خيار آخر سوى العمل بجميع الوسائل وتحت أي ظروف من أجل انتزاع حقها في الحرية والمساواة أي من اجل انتزاع إنسانيتها، وأن ما نعيشه في العالم اليوم وفي المشرق العربي بشكل خاص ليس انتصار مشروع تجديد أسس النظام الاستعماري الاستبدادي القائم ونجاحه في استعادة سيطرته المحلية والإقليمية ولكن بالعكس حشرجة هذا النظام وتخبطه في محاولات يائسة لإنقاذ نفسه بعد أن فقد الكثير من مرتكزاته ومبررات وجوده.
وقد جاء النزاع الذي تفجر بعد ذلك بقليل بين الجماعات الاسلاموية المتطرفة وقوات الأمن خلال أكثر من سنتين وانتهى بمجزرة حماة الشهيرة التي قضى فيها عدة عشرات من الألوف من السوريين ليختم هذه الحقبة العنيفة من إجهاض المطالب الإصلاحية وتجريد المجتمع من أي حماية قانونية أو سياسية أو مدنية وتقديمه فريسة لحكم الأجهزة الأمنية التي أصبحت، تحت إمره ملك إله يحكم بأمره ولا يخضع قوله أو فعله لا لمساءلة ولا لنقاش ولا لحساب، هي السلطة الحقيقية الوحيدة في البلاد. وقد أنشأ تجريد المجتمع من جميع البنيات والهياكل السياسية والمدنية والقانونية التي تمكنه من الدفاع عن نفسه والاحتفاظ بالحد الادنى من حقوقه وحرياته وضعا مثاليا لتكوين إقتصاد قائم على النهب والسلب بحيث لم يعد هناك فرد أمين على ماله أو تجارته أو نفسه وكل مجبر على مقاسمة أرباح عمله أو ثروته أو إرثه مع أحد أزلام النظام ومحاسيبة الأمنيين والعسكريين حتى يستمر في الحياة. وهكذا فرط عقد المجتمع تماما كمجتمع مدني ومتمدن لصالح منطق قانون الغاب لا أكثر ولا أقل. وبالرغم من تزايد مداخيل النفط الريعية، تراجعت المؤشرات الاقتصادية جميعا وساد الكساد وتقهقرت معدلات النمو السنوي ونصيب الفرد من الناتج الوطني باستمرار.
في محاولته للحيلولة دون انهيار محتم للوضع اتخذ الحكم منذ بداية التسعينات سلسلة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية الاصلاحية. فأقر تخفيف قبضة السيطرة البعثية على البرلمان بتخصيص نسبة الثلث من مقاعده لمن أطلق عليهم اسم المستقلين. كما أصدر عام 1991 مرسوما رقم 10 سمي قانون تشجيع الاستثمار لتوسيع هامش مبادرة القطاع الخاص وتخفيف القيود والضرائب عنه حتى يساهم بشكل أكبر في النشاط الاقتصادي. لكن استمرار السيطرة الأمنية الشاملة على الحياة العامة قلل كثيرا من آثار هذا الإجراء وقصر نتائجه على إنشاء بعض المشاريع الصغيرة في النقل والخدمات عموما. ومع ذلك نظر الرأي العام إلى هذا الاصلاح بايجابية واعتبره خطوة أولى على طريق تحرير الاقتصاد بشكل أكبر من سيطرة الفئات الطفيلية التي استخدمت سياسة دعم القطاع الحكومي والتعويض التلقائي عن خسائره الكبيرة والمتزايدة كوسيلة لنهب المال العام.
وقد تعمق إدراك الحاجة إلى الاصلاح والدعوة له بشكل أكبر بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وتولي ابنه بشار الحكم. وساهم خطاب الرئيس الجديد نفسه في بث الأمل بوجود إرادة إصلاحية عندما اعترف في حديثه لأول مرة بالمشاكل التي تعاني منها البلاد وطلب من الشعب مساعدته على ايجاد الحلول لها وتكلم عن نفسه بوصفه مواطنا كالآخرين لا مالكا لهم. وقد عزز الأمل بالاصلاح اعتقاد قطاعات واسعة من النخبة السورية بصدق نوايا الرئيس الجديد وفتوته واطلاعه على ما يجري في العالم وفي أوروبة خاصة وتأثره به وعدم انغماسه في الفساد أو انخراطه في عملية تقاسم المغانم التي قضت على سمعة الطاقم السياسي الحزبي والحكومي السابق وأجهزت على صدقيته.
لكن الشعور بخيبة الأمل في الاصلاح من داخل النظام لم يتأخر كثيرا في الظهور مع تعثر الاصلاحات الإدارية والاقتصادية التي أقرها النظام ودفن حملة مكافحة الفساد قبل البدء بها والقضاء العنيف على ظاهرة المتنديات الفكرية التي نشأت بعد استلام بشار الأسد السلطة وايداع العديد من قياداتها السجن واستمرار تعقب أجهزة الأمن للآخرين والتنكيل بهم. وهكذا، قبل أن تعلن الولايات المتحدة سياستها الجديدة في الشرق، كانت السلطة قد نجحت في تبديد رصيد الأمل الذي بعثه خطاب الرئيس وأعادت المجتمع السوري من جديد إلى بيت الطاعة وأخضعته لمنطق الحكم الامني والحرب المعلنة عليه من قبل الأجهزة.
والواقع ما كان لمبادرة الإصلاح الأمريكية أن تستحوذ على انتباه الجمهور العربي في سورية وغيرها لو لم تأت في ظرف انعدم فيه الأمل تماما بأي إصلاح داخلي. وهكذا عزا الجمهور لهذه المبادرة أهدافا لم ترسمها لنفسها ولا قدمت أي خطة لتحقيقها وفي مقدمها مسألة الديمقراطية. وينبغي القول إن واشنطن لم تتحدث عن أي مشروع للاصلاح في البلاد العربية قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، وقد تمحور أول مشروع حول التنمية والمرأة والمعرفة ولم يتطرق كثيرا للمسائل السياسية. ولم يتحول الحديث الضعيف عن ضرورة الاصلاح إلى مشروع أو مبادرة أمريكية ثم أمريكية أوروبية إلا على أثر المصاعب التي واجهتها الحملة العسكرية الأمريكية على العراق عام 2003 واصطدامها بحاجز المقاومة المسلحة العنيفة. فمن أجل إضعاف موقف هذه المقاومة التي تستمد شرعيتها من الدفاع عن الاستقلال السياسي والثقافي والهوية وفي سبيل قطعها عن محيطها العربي والاسلامي لم تجد الدعاية الأمريكية بديلا لإضفاء الشرعية على نشاطها في العراق سوى بربط مشروعها لبسط نفوذها الاستعماري الجديد في المنطقة بمسألة الديمقراطية والحرية التي شكلت في العقود الثلاث الماضية من دون شك الهاجس الرئيسي للنخب العربية وللطبقات الوسطى ولم تنفع أي جهود لا في الحكم ولا في المعارضة في تعبيد الطريق إليها. وقد زاد تركيز الدعاية الأمريكية على مسألة الديمقراطية والحرية بمناسبة حملة الانتخابات الثانية التي أعطت الرئيس جورج بوش ولاية رئاسية جديدة. وقد استخدم الرئيس الأمريكي شعار نشر الديمقراطية في البلاد العربية من أجل ايجاد مبررات أخلاقية لحربه في العراق التي أصبحت تثير اعتراضات قوية من قبل الرأي العام الأمريكي بسبب تكاليفها البشرية والمادية الكبيرة كما حاول من خلالها رد الاعتبار لسياسته الدولية التي اتهمت من قبل حلفاء واشنطن بالتهور والانفرادية والتسلطية واللجوء المفرط للقوة العسكرية.
ومن هنا، ومنذ البدء، لم تشعر القوى الديمقراطية السورية أن هناك تقاطعا بين برنامجها وما تطرحه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولكنها، بالعكس من ذلك، شعرت بأن هناك محاولة أمريكية للالتفاف على الحركة الديمقراطية العربية الأصيلة واستثمارها لتحقيق مآرب ليس لها علاقة أبدا بالدفاع عن حقوق الفرد العربي وحرياته الأساسية. فالمشروع الأمريكي الحقيقي الوحيد كما هو واضح من سياستها في المشرق العربي كافة وليس في فلسطين والعراق فحسب هو انتزاع المنطقة من أيدي نظام عربي إقليمي مهتريء تنظيميا وسياسيا وفكريا لإدراجها في منظومة الاستراتيجية الأمريكية العالمية. وليس للشعارات الديمقراطية من دور هنا سوى تغليف هذا المشروع بغلاف رقيق من الشعارات المحببة إلى الشعوب العربية التي اكتوت خلال عقود بنار الظلم والقهر والارهاب الداخلي.
إن ما تريده الولايات المتحدة هو دفع المواطن العربي باسم ديمقراطية موهومة إلى مقايضة الوطنية العربية وبرنامجها القائم على تعزيز التعاون والاندماج العربي وتأكيد استقلال المنطقة عن النفوذ الأجنبي ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي والسيطرة الخارجية الغربية ببرنامج استعماري جديد قائم على مفهوم الشرق أوسطية الكبيرة أو الموسعة يؤسس سياسيا وايديولوجيا لتكريس التجزئة العربية واستبدال الحلم العربي الوحدوي بالتبعية المشتركة للولايات المتحدة وقبول الحمايات الخارجية ويجعل من الاندراج في السوق الاقتصادية الدولية والتعاون مع إسرائيل قاعدة العمل في سبيل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الرفاه في المنطقة. وهو ما ينبغي أن يشكل الهدف الوحيد للحياة الجمعية العربية.
ومن الواضح أن تحقيق البرنامج الاستعماري الجديد يصطدم بشكل مباشر مع أي برنامج ديمقراطي فعلي بقدر ما يقوم على نزع سيادة الشعوب والحيلولة دون ممارستها حقها في تقرير مصيرها وفرض الوصاية عليها. إن ما تدعو إليه المبادرة الأمريكية ليس شيئا آخر في الواقع سوى استبدال وصاية النخب الحاكمة الاستبدادية، التي أصبحت مصالحها تتعارض جزئيا أو كليا مع أهداف الاستراتيجية بناء الأمبرطورية العالمية، بوصاية أمريكية. وليس هناك أي مجال لأن تتماشى التبعية التي يتطلبها الالتحاق بالاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط مع إقرار التعبير الحر عن إرادة الشعوب العربية الذي تتضمنه الديمقراطية والذي يهدد برفض السيطرة الأمريكية بالدرجة ذاتها التي تخشاه بها النخب الاستبدادية المحلية.
ومن هنا وبالرغم من الضجيج الكبير الذي تثيره الإدارة الأمريكية حول الديمقراطية لم تجعل واشنطن، حتى هذه اللحظة، ولا غيرها من العواصم الكبرى من الانتخابات التشريعية أو الرئاسية النزيهة والتنافسية منطلقا أو أساسا للاصلاح المزعوم. ولم تطالب السلطات القائمة لا في مصر ولا في السعودية ولا في أي دولة عربية أخرى، ومن باب أولى في سورية، بتنظيم مثل هذه الانتخابات كشرط مسبق للتعاون او التعامل معها أو دعمها في تحقيق الإصلاح الاقتصادي أو الإداري.
بل إن الإدارة الأمريكية لا تتحدث عن الديمقراطية، حتى بمعناها الشكلي كواجهة لتعددية فارغة من المضمون، بلغة واحدة ولا تطبيق المعايير نفسها على جميع بلدان المنطقة. فهي لا تطالب بتحقيق مزيد من الإجراءات الديمقراطية، أي بتحسين الواجهة التعددية وتوسيع دائرة المشاركة الانتخابية لامتصاص نقمة بعض فئات الطبقة الوسطى والتقليل من الغش والتزوير الفاضح في الانتخابات، إلا الدول العربية التابعة أصلا لمنطقة نفوذها مثل مصر والمملكة العربية السعودية. أما في البلدان التي لا تعتبر أنها تدخل في دائرة نفوذها كليا بعد مثل ليبيا وسورية فأولوياتها هنا ذات طبيعية استراتيجية محض. فهي لا تطالب إلا بتصفية النزوعات الوطنية العربية، حتى تلك الرمزية منها، من دون إثارة أي مشكلة بالنسبة للإبقاء على نظام العسف المطلق القائم. وهذا هو بالضبط ما يطلبه الأمريكيون من سورية. فهم لا يكفون عن تكرار أن عليها التمثل بما قامت به ليبيا. ولم يتحدث مسؤول امريكي واحد عن تغيير نظام حزب البعث القائم أو حتى عن إجراء إنتخابات نزيهة ومن باب أولى عن تداول السلطة بل حتى عن توسيع دائرة المشاركة الشعبية في الحكم على مثال ما تطلبه من مصر والمملكة السعودية. ولم يصدر أي بيان جدي لإدانة سياسات القمع أو للدفاع عن معتقلي الحركة الديمقراطية السورية في سبتمبر 2001. كما لم يكلف مسؤول امريكي سياسي واحد نفسه الالتقاء بأي قطب من أقطاب المعارضة السورية الديمقراطية أو دعوتهم لأي حوار. إن كل ما يطلبه الأمريكيون من النظام السوري هو التخلي عن أسلحة الدمار الشامل ووقف دعم عمليات المقاومة العربية في فلسطين أو العراق أو لبنان والتطبيع مع إسرائيل من دون مقابل والتعاون الأمني معها ومع واشنطن، أي، باختصار، التخلي عن ما تبقى من أصداء بعيدة لبرنامج البعث الوطني العربي القديم ورفع الراية أمام الإدارة الأمريكية.
ومن هنا لا أعتقد أن المعارضة الديمقراطية السورية قد استفادت أو أنها يمكن أن تستفيد من الضغط الأمريكي المتواصل الذي يصب بالضبط على الجوانب الوحيدة التي تلقى إجماعا عند الراي العام السوري والتي لا يستخدمها النظام سوى كتغطية ايديولوجية لسياساته القمعية، أعني الخيار العربي ودعم المقاومة وتوفير وسائل الدفاع والحماية الوطنية بأسلحة تملك الحد الأدنى من الصدقية والحفاظ على الاستقلال الوطني. وهذا هو الذي دفع ببعض المسؤولين السوريين إلى القول إن على أمريكا أن تدرك أن النظام أقرب إليها في مواقفه من المعارضة. وهذا صحيح. وهو ما يفسر كذلك مقاطعة واشنطن لهذه المعارضة وللشعب السوري عموما وعدم اتخاذ أي موقف يدعم كفاحه الديمقراطي، لا في الماضي ولا في الحاضر. إن برنامج المبادرة الإصلاحية الأمريكية في سورية وليبيا هو برنامج المصالح الاستراتيجية فحسب من دون براقع ولا أصباغ، أي التفاهم والتعاون الأمني الواسع بين النظام القائم من جهة وحكومات واشنطن وإسرائيل من جهة ثانية ولا شيء آخر.
وهذا هو السبب أيضا في أن المعارضة الديمقراطية السورية تجد نفسها على مسافة واحدة من النظام الذي يضطهد شعبه ومن المبادرة الأمريكية التي تريد أن تجرد هذا الشعب نفسه من أسلحته المحدودة في مواجهة إسرائيل وتفرض عليه الانصياع والاستسلام الوطني بعد أن فرض عليه النظام الاستسلام السياسي والاجتماعي والمدني وحرمه من كامل حقوقه وحرياته. وهي تدرك أن تغييب الشعب السوري ومنعه من ممارسة حقه في تقرير مصيره هو نقطة الالتقاء الحقيقية والرئيسية بين نظام الاستبداد الذي لا يزال مقبولا أمريكيا كقاعدة للعمل ونظام السيطرة الخارجية الأمريكية والاسرائيلية الذي تريد واشنطن فرضه في المنطقة الشرق أوسطية.
وكما أدركت المعارضة الديمقراطية السورية منذ زمن بعيد أن أكثر ما أساء لبرنامج الوطنية العربية ونزع عنه الصدقيه كان الربط بينه ونظام السلطة الاستبدادية الفئوية، فهي تدرك أيضا اليوم أن أكثر ما أساء ويسيء للقضية الديمقراطية في سورية وغيرها من الدول العربية هو ربطها بالعدمية الوطنية والقومية وجعلها بديلا للانتماء العربي أو لاسترجاع السيادة والحقوق الوطنية في الأراضي المحتلة. وهو ما تهدف إليه الإدارة الأمريكية التي تلوح بالديمقراطية لتنتزع السيادة، أي حق الشعوب العربية في التصرف بالمسائل الاستراتيجية وما يساهم في تقرير مستقبلها ومصالحها العليا والبعيدة، تماما كما لوحت السلطة الاستعمارية القديمة بالكتاب المقدس لتنتزع الأرض وملكيتها من الفلاحين السود الفقراء ولتحولهم إلى عبيد.
لكن ذلك لن يغير من استراتيجيات الحركة الديمقراطية ولن يدفعها إلى المساومة على استقلالها وحرية مبادرتها تجاه الولايات المتحدة وأي دولة أخرى وتجاه النظام الأمني القائم معا. وهي ستستمر في وضع رهانها على الشعب وتوعيته وتعبئته في سبيل ثورة ديمقراطية سلمية تلغي تغييب الإرادة الشعبية وتضع حدا للعسف الداخلي والخارجي في الوقت نفسه. وهي لا تعتقد أن التفاهم الأمريكي المحلي على إقامة نظم أمنية معدلة، ذات واجهة تعددية شكلية تخفي حقيقة السلطة الفئوية التابعة والمصالح الأجنبية شبه الاستعمارية المتحالفة معها، سوف يثني المجتمعات العربية عن الاستمرار في طريق الكفاح الديمقراطي وعن القدرة على بلورة الرد الشعبي المناسب على استراتيجيات العزل والتهميش والتلاعب والتغييب المختلفة التي تطورها نظم الاستبداد الداخلية ومنظومات السيطرة الاستعمارية الخارجية معا. وهي تؤمن، أنه ليس أمام الشعوب خيار آخر سوى العمل بجميع الوسائل وتحت أي ظروف من أجل انتزاع حقها في الحرية والمساواة أي من اجل انتزاع إنسانيتها، وأن ما نعيشه في العالم اليوم وفي المشرق العربي بشكل خاص ليس انتصار مشروع تجديد أسس النظام الاستعماري الاستبدادي القائم ونجاحه في استعادة سيطرته المحلية والإقليمية ولكن بالعكس حشرجة هذا النظام وتخبطه في محاولات يائسة لإنقاذ نفسه بعد أن فقد الكثير من مرتكزاته ومبررات وجوده.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire