قبل مقتل الرئيس الحريري وسقوط حكومة عمر كرامي كانت العلاقات السورية اللبنانية تمر في أزمة عميقة. لكنها دخلت بعد عملية الاغتيال في محنة حقيقية. يمكن تبين معالم هذه المحنة في طبيعة الشعارات التي تطلقها قوى سياسية رئيسية في لبنان ضد الوجود السوري والتي يعكس خطورتها بشكل واضح التقاء القوى اللبنانية التي بقيت لعقدين متتاليين في مواجهة عسكرية مستمرة على العمل يدا بيد مع الولايات المتحدة وفرنسا لتصفية النفوذ السوري في لبنان كما يعبر عنها النزوح الجماعي للعمال السوريين الذين أدركوا بشكل عفوي تبدل اتجاهات الريح قبل أن تطاولهم مخالب الكراهية والاعتداءات العنصرية.
النتيجة الطبيعية المنتظرة لهذا الوضع الذي تتحمل فيه الحكومة السورية القسط الأكبر من المسؤولية هو القطيعة وزعزعة الاستقرار في البلدين معا. لكن ما يزال هناك بعض الوقت، وبعض الأمل في تجنب الوصول إلى هذه النتيجة. ذلك أن الأزمة لا تزال في بدايتها والتطورات اللاحقة ستتوقف على الطريقة التي ستترجم بها القوى المتنازعة جميعا نتائج هذا الانسحاب والأهداف التي ستحددها لسياساتها على طريق استغلاله والرد على آثاره معا، أي الطريقة التي ستحسم بها الأزمة الراهنة في هذه العلاقات. فإذا نجحت بعض أطراف المعارضة في ترجمة ديناميكية الرفض الشعبي المتزايد للحضور الأمني السوري إلى عداء لسورية يحرمها من أي موقع اكتسبته في لبنان في العقود الثلاث الماضية، أي إذا تحول انسحاب سورية إلى مناسبة للعودة بلبنان إلى نمط التحالفات المحلية والدولية التقليدية التي كانت تفرض عليه العمل في دائرة السياسات الغربية وربما إلى تحويله من جديد إلى مصدر ضغط وتهديد للأمن والاستقرار في سورية، فستكون النتيجة بالتأكيد السير السريع نحو قطيعة شبيهة بتلك التي عرفها البلدان عشية الانفصال عن الانتداب الفرنسي في الأربعينات، ومن وراء ذلك تنامي مشاعر العداء وسوء الفهم وانعدام الثقة والشك في لبنان وسورية معا.
ذلك أن مثل هذا التحول في اتجاه لبنان معاد لسورية سوف يضع النظام السوري في أزمة خطيرة داخل سورية نفسها. فهو لن يحرمه من أهم مسرح كان يستخدمه لخوض الصراعات التي اضطر إليها لترسيخ نفسه وتكريس هيمنته خارج أراضيه وبعيدا عن مواقعه الداخلية فحسب ولكن سيحول لبنان، أكثر من ذلك، إلى بؤرة تهديد لمصالحه الاستراتيجية التي تتعلق بحماية نفسه من الضغوط الخارجية ومن احتمال نشوء معارضة سياسية سورية مستقلة وقوية. ولا شك أن هناك قوى كثيرة لبنانية ودولية بدأت تعتقد اليوم، بعد فشل التعامل مع النظام السوري القائم، بأن لبنان جديدا معاديا لسورية أو خارجا عن نطاق سيطرتها يمكن أن يشكل حافزا قويا لنهضة المعارضة السورية وإغراءا كبيرا لها لاتخاذه منطلقا للوثوب إلى السلطة أو لبناء التحالفات الإقليمية والدولية الازمة للاقتراب منها.
لكن، بالمقابل، إذا لم يترجم الانسحاب السوري من لبنان بسيطرة التيارات اللبنانية المعادية لسورية أو بنزعة واضحة للتحالف مع القوى الدولية النازعة إلى تكثيف الضغوط على سورية لجرها إلى دائرة نفوذها واستخدامها كجزء من استراتيجتها العالمية فليس من المستبعد أن يتحول الانسحاب إلى فرصة جدية لإعادة بناء العلاقات السورية اللبنانية على أسس موضوعية وعقلانية، أي على احترام كل بلد لسيادة البلد الآخر الشكلية، أو على مظاهرها، لأنه لم يعد هناك في الواقع شيء آخر غير ذلك، والتعاون على توسيع دائرة المصالح المشتركة الاقتصادية.
وفي اعتقادي أن الحفاظ على إمكانية مثل هذا المخرج الايجابي لأزمة العلاقات السورية وتجنب القطيعة والعداء المتبادل هو الهدف الذي ترمي إليه الجامعة العربية وعلى رأسها أمينها العام عمرو موسى من تدخلها كوسيط ومن دعوتها إلى توفير ما أطلقت عليه مظلة عربية للانسحاب المنظور.
لكن تغليب مثل هذا الاحتمال يحتاج في الواقع إلى توفر حد كبير من العقلانية ومن رجاحة الرأي عند الطرفين: المعارضة اللبنانية والحكومة السورية معا. فكما أن في لبنان من يعتقد أن الفرصة لم تكن في أي فترة موائمة للعودة إلى لبنان ماقبل الحرب الأهلية كما هي عليه اليوم، بكل ما تعنيه من خيارات داخلية وخارجية، هناك أيضا في سورية قوى تعتقد أن الرد الوحيد على مخاطر زعزعة الاستقرار التي ينطوي عليها خروج لبنان من تحت السيطرة السورية يكمن في عملية استباقية لزعزعة الاستقرار في لبنان بل في المنطقة بأكملها.
ومما يساعد على السير في هذا الاتجاه هو سيطرة التصورات المبسطة والتبسيطية لطبيعة المصالح المختلفة التي تربط سوريا بلبنان ونعرة العصبية الوطنية التي تنزع إلى قبول المخاطرة والرد على انعدام روح المسؤولية عند الخصم بالاستهتار بالمصالح المشتركة أي بتبرير مماثل لانعدام المسؤولية. فكما أن من شأن التبسيط أن يقود إلى ردود أفعال سلبية تنعكس على العلاقات السورية بانهيار لا يمكن ترميمه قبل أمد طويل، تشكل النعرة الوطنية أكبر حافز للمزاودة اللاعقلانية. ويتطلب استبعاد الخيارات السلبية وتجنب اللجوء إلى الحلول المتطرفة السيطرة على أوهام الانتصار السهل من جهة وكابوس الهزيمة من جهة، والبحث عن الحلول المتفاوض عليها، أي إلى التحلي بالبصيرة والعقل في معالجة أزمة تتحكم القوى الخارجية بوسائل توجيهها وتخضعها لحسابها أكثر بكثير مما يمكن أن تفعله الأطراف المحلية، بالرغم من قوة الموجة الشعبية. وبالمثل ليس هناك ما يضمن أن لا تركب شبكات المصالح الضيقة أو المافيوزية رأسها وتسير وراء استراتيجيات تدميرية على مبدأ علي وعلى أعدائي، من دون أن تشعر بأي حرج إزاء ما يمكن أن ينجم عن أعمالها من أضرار بليغة على المصالح الوطنية السورية واللبنانية معا.
إن لسورية ولبنان مصالح قوية مشتركة بصرف النظر عن القوى التي تحكمهما أو تتحكم بسياستهما اليوم وفي المستقبل. ولا يمكن تجاهل هذه المصالح من دون تكبيد الشعوب في البلدين خسائر وربما مواجهات تقضي على الأمل عند شعبيهما. وما لم تؤخذ هذه المصالح بجدية ويتم تنظيمها على أسس عقلانية فسوف يكون الإغراء قويا لدى بعض القوى الانتهازية حتى لا أقول المافيوزية التي لا يهمها لا مصير لبنان ولا مصير سورية للاستفادة من ترابط المصالح الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية ، لتحقيق مآربها الخاصة والإساءة إلى البلدين معا. باختصار ما لم يتم الاعتراف بهذه المصالح المشتركة التي تخلقها وشائج القربى والاعتماد المتبادل والسياقات الجيوسياسية ومعالجتها على أسس التفاهم والتعاون الندي وتبادل المنافع فلن تقوم بين البلدين إلا علاقات من العداء والخصومة والتآمر المتبادل الذي يقود إلى زعزعة الاستقرار فيهما معا.
لكن الأهم من ذلك هو أن النفوذ السوري في لبنان لم يعد مسألة سورية بحت وإنما أصبح يشكل عنصرا رئيسيا في التوازنات الداخلية اللبنانية. وحتى لا يقود الانسحاب السوري من لبنان إلى انهيار هذه التوازنات وما يعنيه ذلك من احتمال تفجر النزاعات من جديد يحتاج اللبنانيون إلى تجديد أسس التفاهم الوطني الداخلي بل إلى تفاهم وطني يصلح لما بعد الحقبة السورية ويؤسس لإعادة بناء توازنات جديدة مستقرة. وهذا التفاهم غير موجود تلقائيا في اتفاقية الطائف التي أظهرت الوقائع أنها لم تكن قاعدة لتوازنات نسبية مؤقتة إلا بقدر ما كانت غطاءا للوصاية السورية المستمرة على لبنان.
هذا يعني أن الانسحاب السوري من لبنان يطرح بحدة لا مثيل لها إعادة التفكير في ما يجمع أطراف هذا البلد بعد أن غطت الوصاية السورية على غياب الاجماع بين الأطراف اللبنانية. واستعراض هذه الاتفاقية لا يعوض عن النقاش الجدي في العقد الوطني الذي يتحتم على اللبنانيين تجديده بعد انهيار عقد الوصاية السورية.
وفي اعتقادي إن الانصهار الوطني الذي برز على أثر مقتل الرئيس الحريري التراجيدي والذي فجر مشاعر الوحدة ضد الهيمنة الخارجية لن يصمد طويلا إذا لم تدرك النخبة السياسية اللبنانية دلالات ماحدث وتشرع منذ الآن في إحداث قطيعة حقيقية مع لبنان الطائفي الماضي من أجل بناء لبنان ديمقراطي جديد قائم على مبدأ المواطنية المتساوية الفردية ولا شيء للتجمعات الطائفية. فليس من الممكن في اعتقادي وضع حد نهائي للوصايات الخارجية، السورية وغير السورية، من دون وضع حد أسبق للوصايات الطائفية وإنهاء قاعدة توارث الزعامة والسلطة والمواقع والامتيازات. وليس من الممكن أيضا تحقيق خروج فعلي للقوات السورية ومن سيأتي بعدها من لبنان، ولا استعادة السيادة والاستقلال ما لم يخرج لبنان نفسه من ميثاق الطائفية الذي كان وسيبقى مصدر الطلب الدائم على التدخلات والوصايات الأجنبية. بهذا فقط يمكن لحدث اغتيال الحريري الذي أعاد توحيد لبنان باستشهاده أن يكون إعادة تأسيس للبنان بالفعل وبعثا جديدا له، أي اللحظة الفاصلة في الارتفاع بمحتوى الوطنية اللبنانية إلى مستوى القيم الديمقراطية وقطع الطريق على أي عودة نحو النزاعات الطائفية وما تنطوي عليه حتما من النزوع المتعدد الاطراف لدى اللبنانيين إلى استدراج عروض التدخلات والتحالفات الأجنبية للدفاع عن الامتيازات والمواقع الاستثنائية للزعامات الطائفية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire