mercredi, septembre 27, 2006

مشكلة الدولة العربية في غيابها

الاتحاد 27 سبتمبر 2006

فتحت الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة النقاش كما لم يحصل من قبل بين المثقفين حول المسألة التي لا تزال تقسم الرأي العام العربي منذ عقود، والتي تقوض أي إمكانية لبلورة أجندة وطنية عربية واحدة، أعني التعارض بين خيار الدولة وخيار المقاومة. وبقدر ما يشكل تعزيز مكانة الدولة وتأكيد دورها ووجودها خيار بعض النخب الاجتماعية والسياسية المتميزة ماديا وثقافيا، يتحول مشروع المقاومة إلى ثقافة قومية أو شعبية شاملة يختلط فيها العداء للسيطرة الأجنبية وللنظم القائمة ونخبها في الوقت نفسه. وكان يكفي انتصار كبير واحد، كما حصل مع نجاح حزب الله في حرمان الجيش الاسرائيلي من تحقيق أهدافه في جنوب لبنان، حتى تشتعل شرارة هذه الثقافة في المنطقة العربية بأكملها وتضع الدولة/الدول القائمة أمام تحد لا مثيل له، يهدد بزعزعة استقرارها إن لم يقض على مبرر وجودها.
والواقع، يبدو هذا التعارض أمرا محيرا، ويكاد لا يطرح في أي منطقة أخرى في العالم، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية. ففي الأصل لا تطلق المقاومات الوطنية إلا من أجل الوصول إلى الدولة التي تمثل إطارا أكثر تقدما لتنظيم قوى الشعوب وتطوير قدراتها على الوقوف في وجه أعدائها. وقد كان انتزاع الاعتراف بالحق في تشكيل دولة مستقلة، ولا يزال، الهدف الأول للثورات الوطنية جميعا، إدراكا من قبل الشعوب بأن الدولة الوطنية، أي الخاصة بالشعب نفسه والتي لا تتحكم بها شعوب أو نخب أجنبية، هي الضمانة الوحيدة للدفاع عن حقوقها ومواردها ومصالحها من خطر السيطرة الخارجية. فالدولة هي رمز استقلال الجماعة وسيادتها ووسيلتها لبناء القوة التي تحفظ مصالحها وحقوقها، والإطار الذي يرفع من درجة نجاعة الاستثمارات المادية والمعنوية، الفردية والجماعية، بالنسبة لأي شعب يأمل بأن يكون له موقع على ساحة الحياة الدولية. وخلال نصف القرن الماضي شكل الكفاح في سبيل بناء دولة قومية مستقلة، عند العرب وغيرهم، ولا يزال يشكل بالنسبة للشعوب التي حرمت منها، كالفلسطينيين والأكراد، الغاية الكبرى لمشروع الثورة والمقاومة في كل تنوعاتها السياسية والايديولوجية. فما الذي حدث حتى انقلب الرأي العام على الدولة التي حلم ببنائها وقدم التضحيات الكبيرة لإقامتها؟
تواجه الدولة في العالم الفقير عموما، وفي المشرق العربي بشكل خاص، تحد كبير لوجودها بسبب الإخفاق الذي أظهرته في تحقيق الآمال المعلقة عليها، والفساد الذي أصاب مفهومها وفكرتها ومؤسساتها والنخب التي ارتبطت بها. ويولد هذا الإخفاق شعورا عميقا بالسخط عليها والخيبة منها، على نطاق واسع. فالدولة لم تفشل في ضمان الحد الأدنى من الأمن الخارجي فحسب، وإنما فشلت أيضا في تحقيق الوظائف الجوهرية التي لا مبرر لوجودها من دونها، أعني ضمان أمن الفرد وسلامته، وإقامة حد أدنى من حكم القانون والقضاء النزية والعادل. فإذا لم تستطع الدولة أن تحمي الفرد والجماعة من اعتداءات خارجية ولا تمكنت من تقديم فرص أفضل لتأمين شروط البقاء المادية، ولا نجحت في وضع قانون ولا تطبيقه، لم تعد دولة، وفقدت مبرر الاستثمار فيها، وربما مبرر وجودها. فما بالك عندما يصبح تقييد حرية الفرد والاعتداء عليه، وإرهابه لزعزعة استقراره وإخضاعه، قاعدة عمل السلطة وشرط استمرار الدولة وبقائها، كما هوالحال في العديد من البلدان العربية؟
يقول السياسيون: الدولة هي الأساس. وهو صحيح. لكن هل توجد بالفعل في عالم العرب اليوم شروط قيام دولة سيدة، تعبر عن إرادة سكانها وقادرة على العمل لحماية مصالحهم وتعظيمها؟ وهل تشكل أجهزة السيطرة وفرض الخضوع والاستسلام على الفرد، لصالح أقلية مسيطرة، دولة أو ما يمكن أن نصفه كذلك؟ وماذا لو لم توجد الظروف التي تسمح بنشوء دولة قادرة على القيام بواجباتها بالفعل، سواء في مواجهة الاعتداءات الخارجية أو في ضمان الأمن والاستقرار وتطبيق القانون والعدالة والمساواة على الأرض الوطنية؟
ويقول العسكريون وتابعوهم من قادة الاجهزة المخابراتية الحريصون على الدولة: الاستقرار والأمن هما الأصل. وهم أيضا على حق، لكن على شرط أن يكون وجودهما رديفا بالفعل للأمن والاستقرار. والأمر يختلف كليا عندما يصبح هذا الوجود رديفا للعجز عن رد العدوان الخارجي، ومصدرا لغياب الأمان والاستقرار الداخليين، أو عندما يكون حكمهم مثالا على التهديد اليومي لأمن المواطنين ونزع الاستقرار النفسي والجسدي عنهم.
ويقول المثقفون: العلمانية والقضاء على التعصب الديني، وما ينجم عنه من ولاء لحكم الملالي والشيوخ، هو مصدر الحداثة وقاعدة الاندماج في المنظومة الدولية الحضارية، مصدر التقدم العلمي والأخلاقي والسياسي. وهو صحيح أيضا، لكنهم ينسون أن الحداثة لا يمكن أن تبنى في ظروف الحجر على المجتمعات وتهميشها ونزع إرادتها وانتزاع حسها بالمسؤولية واستبعادها من المشاركة في المسؤوليات والمصائر الوطنية والعالمية.
لكن، في ما وراء تهافت سياسات النخب الحاكمة وانانيتها الواضحة، يعكس إخفاق الدولة في الوضع العربي المشرقي الشروط التاريخية التي رافقت ولادتها، والعقبات الهيكلية التي حالت ولا تزال تحول دون تحقيق مشروعها أو تقدمه. وأقصد بالشروط التاريخية والعقبات الهيكلية التبعية والارتهان البنيويين لسلطة أو منظومة خارجية، وهي هنا النظام العالمي ومركزه الأطلسي بالدرجة الأولى. فطبيعة الدول القائمة هنا ومهامها ووظائفها قد تحددت جميعا بحاجة النظام الإقليمي الذي نشأ على أثر انهيار الحركة القومية العربية، التي كانت تطمح في الستينات إلى تحقيق الهدفيين الاستراتيجيين : توحيد المنطقة أو إزالة الحواجز التي تفصل بين بلدانها وتشتت جهودها، والقضاء على النفوذ الأجنبي، في سبيل بناء إطار للاستقلال، وهامش من السيادة الوطنية. ومنع تحقيق هذين الهدفين شكل ولا يزال محور استراتيجية الدول الغربية، والوظيفة الرئيسية للدولة القائمة في المنطقة العربية. وفي هذه المنظومة الإقليمية التي تهدف إلى الحفاظ على العلاقات شبه الاستعمارية، وتمنع شعوب المنطقة من التحكم بمصيرها، والمشاركة في الحياة السياسية والدولية، تشكل الدول القائمة لبنات أساسية لنظام الهيمنة الخارجية، ووكالات سياسية دولية تعمل، بصورة غير مباشرة، ومباشرة أحيانا، تحت أوامر العواصم الغربية وبالتنسيق الوثيق معها. وتكاد النخب الحاكمة والمسيطرة على هذه الدول تمثل العواصم الأجنبية وتعمل لها وباسمها أكثر مما تمثل شعوبها ورأيها العام. وهي في حقيقة الأمر موظفة عندها، وتشكل امتدادا طبيعيا لها، لا حول لها ولا قوة من دونها. أما الشعوب فهي خارج دائرة الفاعلية، لا كلمة لها ولا قرار.
ومن الطبيعي أن لا تنجح مثل هذه الدول في استكمال نموها وتحقيق فكرتها في الواقع. وأن تبقى دولا غير ناجزة، لا من الناحية الجيوسياسية ولا من الناحية السياسية ولا من الناحية القانونية والأخلاقية. فهي كالثمرة التي تسقط قبل نضوجها، عجرة، لم تحقق شروط وجودها، لا في علاقتها مع مجتمعها ولا في علاقتها مع المجتمع والنظام الدوليين. وككل ثمرة ساقطة، أصبحت الدولة الطرح مدعاة لإثارة سخط أصحابها أكثر من إرضائهم. فبدل أن تتحول إلى أداة في يد أبنائها للتنسيق بين مصالحهم وتكوين قاسم أعظم يبني وحدتهم وتفاهمهم وإجماعهم، شرط نجاعة وجودهم الجمعي، صارت أداة تقسيمهم، ومصدر زعزعة استقرارهم، وبث النزاعات في ما بينهم. وبدل أن يكون هدفها العمل على تعظيم مشاركتهم في الحياة العمومية والدولية، أخذت تجعل من العمل على تحييدهم وشل إرادتهم ومنعهم من التدخل في الشؤون السياسية، أي العمومية، محور نشاطها ونشاطهم هم أنفسهم. وهو ما ينعكس بصورة واضحة في طبيعة النظم السياسية التي نتجت عنها، ونوعية الايديولوجيات التي تؤسس شرعية نخبها الحاكمة وتوجهها، والتي تكاد تكون، بصراحة، عنصرية، تنكر على شعوبها وكل فرد فيها أي أهلية للمشاركة في الحياة السياسية، وتستبدل الحياة الأخلاقية، القائمة على الطاعة الذاتية للقاعدة والقانون، بمذهب عبادة الشخصية ونظم الوصاية الأبوية. والنتيجة أن المشكلة ليست في الدولة ولكن بالعكس في غيابها.

samedi, septembre 16, 2006

الشعوب العربية بين سندان الدولة ومطرقة المقاومة

الجزية نت
16 سبتمبر 06

أجهضت السياسات الدولية المرتبطة بتحقيق متطلبات ضمان أمن إسرائيل وتوسعها على حساب جيرانها، والحصار المفروض على المشرق العربي بأكمله للتأمين على الطاقة النفطية الاستراتيجية التي تعتمد عليها القوى الصناعية، والاستبداد الطويل للنخب المحلية واستفرادها بشعوبها، مشاريع بناء الدولة في المشرق العربي جميعا، وحول هذه الدولة إلى أداة تتحكم بها المصالح الخاصة وحاجات الاستراتيجيات الدولية. فلم يعد لها وظيفة أكبر من تحييد الشعوب وشل إرادتها الجمعية والفردية. وبدل أن يتقدم في اتجاه النضوح والاكتمال، تقهقر مشروع الدولة الحديثة إلى الوراء، وفي إثره ما تتضمنه الدولة من معاني السيادة الإقليمية، والقدرة على الانجاز، وتحمل المسؤولية تجاه الشعوب، والعمل على تأهيلها للمساهمة في الحياة الدولية وتحسين شروط وجودها وترقيتها سياسيا وأخلاقيا.
بل ليس من المؤكد أن هناك فرصة في إقامة مثل هذه الدولة في بلادنا، في الأوضاع والشروط الجيوسياسية الاقليمية والعالمية الراهنة، التي تجعل من منطقتنا مسرح تنازع مستمر، ذي أبعاد إقليمية وعالمية معا، وموضع إملاءات خارجية لا تنتهي، وتحولها إلى بؤرة توترات وصراعات وحروب دامية لا حل منظورا لها. ولا يبدو لي أن هناك رغبة أيضا في قيامها، لا عند الدول الكبرى الوصية على المنظومة الدولية، وعلى المنطقة بشكل خاص، ولا حتى عند النخب الحاكمة المرتبطة بهذه الدول أو الساعية للاستقلال عنها.
وما نعرفه منها إلى الآن في البلاد العربية كان، وسيبقى لفترة طويلة، أشباه دول، لا تملك من السيادة ما يجعلها ملك مواطنيها، ولا من الشرعية والاستقرار ما يجعل منها إطارا لتوليد إرادة جماعية موحدة ومستقلة، ولا من الثقة بالنفس ما يؤهلها لتطوير شروط الحياة القانونية والسياسية والأخلاقية، فيحولها إلى دولة ديمقراطية، ولا من الموارد المعنوية والمادية ما يجعل منها أداة للارتقاء بمستوى حياة السكان عموما وتحقيق سعادتهم. فهي في الغالب مزرعة العاملين فيها وبقرتهم الحلوب.
فالدولة المجهضة سياسيا وأخلاقيا، أو المنقوصة والمختزلة إلى مظاهرها الأداتية، والتي تتحكم بها مصالح استراتيجية خارجية أو خاصة، هي بالتعريف ليست الدولة التي يقرر فيها مواطنوها مصيرهم ولكنها بالضرورة دولة أصحابها وأتباعهم. ولذلك وصل مشروع الدولة في المنقطة العربية إلى طريق مسدود. وهو مايفسر الوجهة التي تطورت إليها هذه المؤسسة الكبرى الجامعة والعلاقة التي تقيمها مع مجتمعاتها. كما يفسر عدم اكتراث الناس بها وتوجههم نحو مؤسسات أهلية كانت تعتبر لوقت قريب ثانوية وهامشية، لتامين مصالحهم وتحقيق ذواتهم وضمان شعورهم بآدميتهم. ولا تعبر شعارات المقاومة التي شهدنا اشتعالها كالنار في الهشيم بعد الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة، إلا عن السخط العارم ضد هذه الدولة ورغبة الانتقام منها والاستعداد للخروج عليها.
أصحاب شعار المقاومة على حق إذن عندما يقولون: إن المقاومة هي الأساس، وينبغي ان تكون لها الأولوية، لأنه لا دولة من دون سيادة، ولا سيادة مع استمرار السيطرة الأجنبية. لكن السؤال هو: هل هناك بالفعل اليوم مشروع مقاومة وطنية جامعة تحرك النخب والمجتمعات العربية، بل ثقافة مقاومة حقيقية، تتجاوز مفهوم الصدام مع القوى الأجنبية، وتنطوي على مشروع إعادة بناء العلاقات العربية، داخل المجتمعات وفيما بينها، على أسس جديدة تقطع مع نموذج الدولة الوطنية الرثة السابقة، وتقيم على أنقاضها مجتمعات موحدة ومتفاهمة قابلة للحياة والعمل والانتاج والابداع؟
بصرف النظر عما يبدو من مظاهر التماهي واسع الانتشار مع المقاومة والعداء للأجنبي، والغربي منه بشكل خاص، في البلاد العربية، لا أعتقد ان هناك مشروع مقاومة وطنية على مستوى العالم العربي، أو حتى المشرق العربي، أو أي دولة من دوله. وما هو قائم من مقاومات يعبر عن تفاقم الانقسام الوطني والنزاعات المرتبطة به، ويعكس الميل المتزايد عند الجميع إلى الخروج على الدولة وإرادة تحطيمها، بوصفها رمزا دائما للإحباط والحرمان والقهر. فلا تنشأ مقاومة وطنية إلا عندما تكون حاملة، وهو ما ينبغي أن ينعكس في سلوكها وعقيدتها وبرنامجها معا، لمشروع بناء وطني يجمع الأطراف المتفرقة ويتيح لها فرص التفاهم والتآلف والعمل المشترك. وما يجعلها وطنية هو توجهها لبناء حياة وطنية سليمة، مرتبطة بغايات وقائمة على قواعد عمل وقيم ومعايير عامة تنطبق على الجميع بالتساوي وتحظى بحد كبير من الإجماع العام. ولم تكن ثورة الاستقلال جامعة ومؤسسة لوطن إلا بقدر ما كان تحرير البلاد من الوصاية الأجنبية جزءا من مشروع بناء دولة وطنية يتساوى الجميع فيها أمام القانون ويؤسسون على الحرية الوطنية المكتسبة حرياتهم الفردية وحقوقهم الانسانية. وهو ما ينطبق كذلك على الانتفاضات السياسية الوطنية ضد الاستبداد والفساد. ومن الصعب القول إن هناك ما يشبه هذا المشروع في ما هو قائم من مقاومات وتمردات في البلاد العربية اليوم. بل إن هذه المقاومات تعكس، في طبيعتها ووسائل عملها وانقسامها وانتشارها، غياب هذا المشروع الوطني الجمعي، وارتداد الجماعات المتميزة والمختلفة التي كانت تشارك فيه على الدولة التي ترمز إليه، وسعيها إلى تأمين مصيرها الخاص بها على أنقاضها، سواء أكان ذلك من خلال السيطرة على مواقع ومصالح الجماعات الأخرى الشريك، أو بالانفصال عنها والارتباط بقوى خارجية، أو بالخروج الكامل من الساحة السياسية الداخلية من أجل لعمل في إطار جيوستراتيجي شامل والصدام المباشر، على الساحة العالمية، مع المنظومة الدولية باعتبارها مرتكز الدولة الناشزة وحاضنتها، وهو ما تمثله بعض الحركات المتطرفة الاسلاموية. وباستثناء فلسطين التي تحولت فيها حماس إلى امتداد بوسائل أخرى للحركة الوطنية الفلسطينية الساعية إلى التحرر من استعمار استيطاني بغيض، ليس في ما هو قائم بذرة أو جنين مشروع مقاومة وطنية، ولكن مشاريع مقاومة خصوصية تتغذى من بقايا المشروع الوطني وتعيش على حطامه.
ففي معظم هذه الحالات، لا ينبع رفض الدولة والعمل على تحطيمها من وجود مفهوم واضح لنظام بديل لها، ولا يرتبط بوجود مكونات إعادة بناء الدولة نفسها على أسس مختلفة، تضمن تجديد فكرتها وإعادة تأهيلها، وتحويلها إلى إطار لبناء حياة أو علاقات جمعية أخلاقية قائمة على قاعدة القانون والمساواة بين الأفراد والمشاركة في المسؤولية عند الرأي العام. إنه يعبر عكس ذلك عن خيبة الجماعات المختلفة بالدولة ويأسها من قدرتها على تلبية مطالبها العينية الملموسة في المشاركة في السلطة، أو على تأمين شروط الحياة والخدمات الأساسية، والمادية منها بشكل خاص. فهي لا تزال تقوم على السلب ولا تملك بعد، لا في النظرية ولا في الممارسة ولا في الشروط التاريخية، فرصة تحولها إلى حركة ايجابية تنحو نحو التوحيد والتوليف والبناء والتأسيس الأخلاقي والقانوني. لذلك هي تتخذ في كل الحالات، حتى عندما تكون وطنية الأهداف، أشكالا خصوصية تتميز بها عن غريمتها الأخرى، مذهبية أو أقوامية أو طائفية، وتجعل من هذا التميز منبعا لتوليد عصبية جزئية تشكل قاعدة للتضامن والتفاهم والألفة التي تمكنها من توفير السلوكات والفعاليات الكفاحية، الخاصة بها وحدها، وعلى نطاقها المحدود. وليس هناك بعد أي عقيدة او ايديولوجية أو قيمة أو شعار أو رمزيات يمكن أن تجمع بين الأطراف المقاومة، أو تشكل قاسما مشتركا لها. فما يقرب الواحدة ينفر الاخرى، وما يشكل هدفا لبعضها يشكل مصدر قلق وثورة عند بعضها الآخر، حتى عندما تنتمي جميعها إلى الايديولوجية الاسلامية أو القومية نفسها. فهي أقرب بالفعل إلى الممانعة منها إلى المقاومة، بقدر ما تعني الممانعة رفض النظام القائم فحسب من دون وجود أي مشروع بديل لإحلاله محله.
لذلك، بصرف النظر عن المظاهر السطحية الخادعة ، تعكس المقاومات العربية المتعددة الوطنية وما يجسدها من اندلاع الصراعات الداخلية وتفجرها بين مكونات الجماعة، أكثر مما تعبر عن التفاهم وبالأحرى الاجماع الوطني ضد هيمنة خارجية. وهي لا ترى هذه الهيمنة بعين واحدة ولا من الزاوية نفسها. وحتى عندما تستهدفها، فذلك لما تمثله في ميزان القوى المحلية أو الإقليمية، وعلى قدر مشاركتها في تحديد التوازنات الداخلية، أو عندما تشكل عائقا أمام تحقيق المشاريع الخصوصية. فما نعيشه بالعمق هو حرب أهلية، تقنعها وتكملها حروب خارجية. فالمقصود في النزاع هو دائما أطراف منافسة على السيطرة الداخلية سواء من أجل تحييدها أو إحراجها أو قطع الطريق عليها أو إخضاعها لأجندة خصوصية، في إطار أعادة اصطفاف القوى على أرضية النزاع على السلطة والموارد الوطنية. وكل الأطراف تسعى من خلال الممانعة وإعاقة مشاريع الغير إلى تحقيق مصالح جزئية خاصة بها. ولا يغير من ذلك كون هذه الأهداف مشروعة أحيانا وإنسانية، كتعديل علاقات الهيمنة الأقوامية أو الطائفية. وهذا يفسر أن عداء بعض المقاومات لقوى أجنبية معينة لا يمنعها من تبرير تحالفاتها مع قوى أجنبية أخرى، أو التفاهم معها ضد الجماعات المحلية المنافسة لها. باختصار، تشكل هذه المقاومات، إلا في ما ندر، مظهرا من تفكك الجماعة الوطنية وتبعثر أطرافها واهدافها، أكثر مما تشير إلى تمخض إرادة وطنية جديدة تعيد جمع العناصر والكسور المتفرقة، وتخلق قوة موحدة استثنائية تمكن من وضع حد للسيطرة وانتزاع هامش مبادرة أكبر تجاه القوى الدولية، وتؤسس للحقوق والحريات الأساسية داخل المجتمعات والدول العربية. ومن هنا نشهد بموازاتها تفاقم الانقسامات والنزاعات داخل المجتمعات أكثر من محاولات تجاوزها أو توليد شروط أفضل للعمل المشترك والتآلف والالتقاء الوطني.
وبالمثل، وفي السياق نفسه، وللأسباب ذاتها، لا أعتقد أن هناك اليوم نموا في ما نسميه ثقافة مقاومة وطنية، ولا تربة صالحة لانبثاق إرادة مواجهة جامعة وتاريخية، تقبل التضحية بالحاضر لصالح المستقبل، وتضع العمومي قبل الخصوصي في الرؤى والمواقف والمصالح والغايات معا، وتتحمل ما ينجم عن ذلك، في سبيل نبذ الوصاية الأجنبية وفرض الاستقلال الناجز وتحرير إرادة الشعوب العربية، ولا حتى في سبيل هدف أكثر وضوحا ومحدودية مثل تحرير الأراضي العربية المحتلة. وما هو قائم هنا وهناك من مقاومات أو شبه مقاومات يرتبط بوضعيات خصوصية جدا، ويعبر عن ردود أفعال مشتتة على اعتداءات مباشرة وهمجية مستمرة أكثر مما يعكس نمو إرادة جامعة للمواجهة، ورؤية واضحة ومتسقة لتغيير الأمر الواقع. إن ما هو جامع في البلاد العربية هو ثقافة الفساد والإفساد معا. وما نشهده من التأييد لردود الأفعال "المقاومة" هذه عند الرأي العام، بين فترة وأخرى، لا يمثل بأي حال ما تستدعيه المقاومة والوطنية معا، أي صعودا في موقع أخلاقيات التضحية والشهادة ونكران الذات عند الجماهير والمجتمعات العربية، بقدر ما يجسد نمو روح العصبية والخوف على الذات والقلق على المصائر الشخصية والفئوية. بل كثيرا ما يشير إلى نزعة الارضاء الذاتي التي تغطي على الاستقالة العملية وتبرر العطالة السياسية.
يدل على ذلك الاستسلام الشعبي الكامل تجاه شتى أنواع العدوان الداخلي، والاستسلام للأمر الواقع، وتحويل الاستسلام نفسه إلى منظومة فكرية وأخلاقية. وبالرغم من الانتشار الواسع النطاق للايديولوجية الدينية، والاسلامية منها بشكل خاص، لا تزال حركات المقاومة التي تسلتهم الفكر الديني أيضا، باستثناء فلسطين وشيعة لينان وربما العراق، تمثل نسبة محدودة جدا من جمهور المتدينين الواسع. فلا يمنع التدين من تمثل ثقافة الاستسلام وقيمها، أو ثقافة الهزيمة، كما سماها ياسين حاج صالح. فأمام الفساد والاستبداد والعدوان الخارجي لا يجد المتدين أمامه سوى طريقين: الثورة الشاملة على المجتمع الذي هو أصل الفساد والقهر ومثاله، وبالتالي الانخراط في السياسة التكفيرية التي تقود حتما إلى حمل السلاح ضد الطغاة وحماتهم الغربيين، وهو طريق القلة المتمردة، أو الانطواء على الحياة الخاصة على أمل إرضاء الله وكسب الآخرة ما دام من غير الممكن كسب الدنيا أو التأثير في شروط الحياة فيها، وهو طريق الأغلبية المنسحبة من اللعبة السياسية أي الوطنية. فبهذا الانسحاب يتبرأ هؤلاء من السلطة الاستبدادية المتوحشة، ومن المجتمع المدني المفعم بالفساد الحامل لها في الوقت نفسه. ومما يعزز نزعة الانسحاب من الحياة العامة ويبررها عند الأغلبية المتدينة انحسار الدلالات الدينية عن الأمة نفسها، وتحولها إلى خليط من قطاعات الرأي المتباينة والمتنازعة التي تسيطر عليها المصالح الخاصة المباشرة والمادية ولا تنطوي على أي معان روحية.
من الصعب في ظروف الفساد، وتأبيد الوصاية الروحية والاجتماعية والسياسية، وحكم الطغيان الذي يجعل من قتل المشاعر الانسانية وتفكيك عرى المجتمعات وتمزيقها وحرمانها من التواصل والتفاهم، شرط وجوده واستمراره، ولادة مقاومة، أو حتى ثقافة مقاومة وطنية، جوهرها التضحية والفداء ونكران الذات في خدمة الجماعة، وقاعدتها الوحدة العضوية والتضامن والاتحاد، أي كل ما هو أخلاقي ومثالي وبطولي معا. ما هو مسيطر على مناخ النخب الاجتماعية والرأي العام ومتاح اليوم، هو بالأحرى الأنانية والنذالة، والاستسلام للغرائز، وشهوة مراكمة الثروات وشره الاستهلاك، أكثر من أي شيء آخر. ولذلك يغلب على نظمنا السياسية حكم القوة والانتقام بدل حكم السياسة والقانون، وعلى مقاوماتنا وممانعاتنا سمة المقاومات والممانعات الجزئية، الانتهازية او الظرفية والانتقائية. وما أتاح استمرار حركات مقاومة مثل حزب الله وحركة حماس هو اندراجهما ضمن سياق مختلف عن سياق المجتمعات العربية الأخرى، المقسمة والمشتتة والمنهارة سياسيا ومعنويا، أعنى ارتباط الأول سياسيا واستراتيجيا بايران، وهي جمهورية فتية ذات استقلالية وإمكانيات كبيرة، وارتباط الثانية بالظروف الوطنية الخاصة بفلسطين التي أجهض فيها مشروع بناء دولة وطنية، حتى في حدودها الدنيا، وفي إطار التبعية الإقليمية والدولية. فالأول امتداد لحيوية القوة الايرانية، والثانية تعبير عن اليأس من الدولة والنظام الدولي في الوقت نفسه. وليس من المستغرب في هذه الحالة أن يشكل تحطيم مثالهما اليوم محور السياسات الإقليمية العربية والدولية الرامية إلى تخليد نظام السيطرة شبه الاستعمارية.
باختصار، بينما تقضي السيطرة الأجنبية على أي هامش استقلالية لا غنى عنه لبناء إرادة وطنية وسياسية محلية، أي دولة، يدمر الاستبداد الروح الأخلاقية التي لا غنى عنها لتوليد قيم التفاؤل والأمل والثقة والتضامن التي تشكل قاعدة أي مقاومة وطنية، وذلك بقدر ما يؤلف فرط العلاقات الاجتماعية وتدمير قيم التواصل والتفاعل والتكافل بين الأفراد أساس استمرار سلطة تعسفية، هي بالضرورة مطلقة، احتكارية، ولا إنسانية.

mercredi, septembre 13, 2006

أسئلة ما بعد الحرب اللبنانية الاسرائيلية: بين الدولة والمقاومة 2

الاتحاد 13 سبتمبر 06
قلت في مقال سابق أن الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة قد طرحت أسئلة، أو أعادت طرح أسئلة مصيرية على الفكر والسياسة العربيين، سيكون من الصعب علينا التحرك مستقبلا في أي اتجاه قبل الإجابة عنها. وفي مقدمة هذه الأسئلة سؤال العرب المستمر منذ أكثر من قرن، والذي شكل ضعف الجواب، أو الأجوبة المبسطة والسطحية عنه، مصدرا لجميع الانقسامات والتوترات داخل الحركة الوطنية العربية ولا يزال. وهو الذي أدان غياب النقاش الجدي والمعمق فيه تاريخنا الحديث بالتذبذب الذي لا ينتهي بين الوطنية الشعبوية الانفعالية والتبعية الخانعة، بين التمرد الطائش والعمل في خدمة الاستراتيجيات الأجنبية. وأعني سؤال: لمن الأولوية في تركيز الجهد الوطني؟ للمقاومة والتصدي للاحتلال والهيمنة الأجنبية، في سبيل تحرير الإرادة الشعبية، أم هي لبناء الدولة وتطوير أدائها كأداة قانونية سياسية وتحقيق التنمية الانسانية، الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والتقنية، وبالتالي الاندراج في حضارة العصر وتمثل أفكاره وقيمه وأخلاقياته؟
وعلى أي واحدة من هاتين الاستراتيجيتين ينبغي الرهان؟ على الثورة أو، كما نقول اليوم، المقاومة، وما يمكن أن تولده من أثر على إرادة الخصم، الغربي والاسرائيلي معا، تدفعه إلى التراجع والتنازل عن الأرض ومشاريع الهيمنة الإقليمية، أم على الدولة وما ينجم عن تطويرها وتحسين شروط عملها وأدائها بالتعاون مع الدول الكبرى، والتفاهم معها، من إنقلاب في شروط حياة المجتمعات العربية، يجعلها أكثر قدرة في المستقبل على التعامل الندي مع الدول الأخرى القوية، الإقليمية والعالمية؟ وهل هناك أمل في أن نحقق عن طريق المقاومة، والمواجهة الجذرية للهيمنة الغربية، بأشكالها المختلفة، كخيار أول، من الأهداف المادية والسياسية، أكثر مما نحققه عن طريق تحسين عمل الدولة وانخراطنا في المنظومة العالمية التي تؤطرها، والقبول بمعايير عملها ووسائلها السياسية والقانونية، أو ما يسمى بالشرعية الدولية، كما يقول أصحاب خيار الدولة والنظام والتفاهم والتسوية مع الدول الكبرى أو النظام الدولي؟ والعكس أيضا صحيح. فهل تساعدنا الدولة بشكل أكبر على تحرير مجتمعاتنا من التأخر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني والعلمي والأخلاقي، من المقاومة التي تبعث بالضرورة، بسبب المواجهة وروح التحدي، قيم البطولة والتضحية والفداء والتجدد الحضاري؟ وهل تقدم الدولة فرصا أكبر للأمة كي تتجاوز انقساماتها الطائفية والمذهبية والقبلية والاجتماعية، وبالتالي كي تجدد شبابها وحيويتها وتستعيد لحمتها الوطنية الممزقة، كما يقول أنصار خط المقاومة، التي تضع الجميع أمام عدو واحد وهدف واحد ؟ وهل يشكل التنظيم العقلاني والقانوني الذي تجسده الدولة، ويشكل غاية وجودها، لمصالح البشر وحرياتهم وحقوقهم وواجباتهم، منهجا أفضل لتحقيق التقدم المادي والأخلاقي، وبالتالي الارتقاء إلى مستوى المجتمعات المتقدمة والتعامل بندية معها، والاندراج في التاريخ العالمي للحضارة الراهنة، من المنهج الذي تمثله المقاومة، بما يفجره من عاطفة وطنية والتزام عميق بالجماعة وولاء لها وتماه جماعي معها يؤسس لوحدة الأمة واستقلال إرادتها، ويزيد من طموحها لارتقاء معارج التقدم ومباراة الأمم الأخرى في الوصول إلى أقصى درجات التقدم والرقي الحضاري؟
هذه ليست المرة الأولى التي يطرح فيها هذا السؤال، كما يمكن لبعضنا أن يعتقد. فقد طرح منذ بداية دخول المجتمعات العربية في الحقبة الحديثة، وما رافق هذا الدخول من اختلاط بين بناء دولة حديثة لكن تابعة، وفي سياق التبعية أيضا، وصراع ضد الهيمنة الأجنبية وفي سبيل الاستقلال وتحقيق السيادة والحفاظ على الهوية. ونجد أصداءا كبرى لهذا السؤال في موقف محمد عبده من الثورة العرابية التي وجد فيها توريطا للأمة في معركة كبرى قبل أن تنضج شروطها وفي الاتهامات التي ستوجه لهذا المصلح الكبير أيضا بالمشاركة في تطبيق برنامج إصلاح إدارة كرومر البريطانية أو على الأقل القبول بالعمل في ظلها.
وكما هو واضح، لا يتعلق السؤال المطروح بانقسامات عقائدية ولا دينية وإنما بإمكانية بلورة أجندة وطنية مقبولة من الجميع. وهو سؤال تكاد الوطنية العربية تنفرد وحدها في طرحه بطريقة درامية والفشل في ايجاد رد ايجابي موحدعليه.
والسؤال مهم لما يتوقف عليه من اختيارات وما يربتط به من استثمارات معنوية وسياسية ومادية. إذ تفترض عملية بناء الدولة وتطوير قدراتها والاستفادة منها خيارات مختلفة كليا عن خيارات المقاومة. فلا تستخدم كلاهما الأساليب نفسها ولا الوسائل ذاتها، وليس لهما غايات واحدة. فخيار الدولة يفترض بالضرورة القبول بسياسة الممكن، والعمل على تطوير أحوال المجتمعات كخطوة ضرورية على طريق تحقيق استقلالها، والمراهنة في هذا التطوير على ترقية النظم القانونية ومناهج العمل السياسية والتربوية التي لا غنى عنها في تحسين شروط حياة البشر المادية والارتقاء بكفاءات الأفراد السياسية والفكرية. ولا مجال لبناء الدولة وتطويرها والاستفادة منها من دون الانخراط في المنظومة الدولية، والاندماج فيها، والقبول بالعمل حسب معاييرها القانونية. فالدولة جزء من نظام عالمي لا تستقيم ولا تظهر نجاعتها إلا بقدر ما تتفاعل معه وتحترم قواعد عمله وتخضع لمحدداته، أي تأخذ منه وتعطيه. وهو ما يطلق عليه اسم العمل ضمن الشرعية الدولية اليوم. فلا توجد دولة خارج منظومة النظام الدولي، ولا تستمر من دون مراعاة القواعد التي تحكم هذا النظام وتضبط سلوك أعضائه. فلا توجد الدولة منفلتة من أي قيد خارجي وداخلي، ولا تقوم في فراغ. وارتباطها بالنظام الدولي هو شرط لتطورها وتطور أدائها معا، بقدر ما يرتبط هذا التطور والتطوير بنمو التعاون والشراكة الاقتصادية والثقافية والعلمية والتقنية بين الدول وعبرها بين الشعوب والمجتمعات. الدولة أداة لتنظيم علاقات الأفراد في ما بينهم في إطار تنظيم العلاقات الدولية بين المجتمعات نفسها. فالقانون المحلي له أساسه في قواعد العلاقات الدولية التي تنص على السيادة، والعكس صحيح أيضا.
وبالعكس، تفترض الثورة أو المقاومة نقض الشرعية القائمة لتحقيق ما يبدو مستحيل التحقيق على قاعدتها، أي تكسير النظام، الداخلي أو الدولي، أو تغييره وتعديله، لفتح آفاق جديدة وانتزاع حقوق مشروعة وجوهرية لا تسمح طبيعته بتأمينها أو تحول دون تحقيقها بصورة طبيعية. وهي لا تركز على الارتقاء بشروط الحياة القانونية والتربوية والأخلاقية بقدر ما تراهن على تعبئة العصبية الوطنية أو الدينية لقلب السلطة أو السيطرة القائمة. ولا تهتم ببناء المؤسسات والأطر الإدارية التنظيمية العقلانية بقدر ما تركز استثماراتها في بناء الهوية، وتأكيد الخصوصية، وتعميق الشعور بالولاء للجماعة الثورية والمقاومة. فليس هناك في نظرها أفضل من إبراز التمايز والانفصال والاستقلال عن الآخر، بل وتحويل هذا الأخير إلى عدو، سبيلا لتوليد الطاقات الكفاحية المتجددة الضرورية لكسر إرادة الخصم وتعظيم فرص النجاح وضمانها. ولا تتردد في سبيل الوصول إلى هذا الهدف في التضحية بشيء، ماديا كان أم معنويا، مما يعتبره أنصار الدولة بنى تحتية أو مرافق عامة أو مؤسسات ضرورية لسير الحياة المدنية أو موارد اقتصادية، بما في ذلك أحيانا زوال الدولة التابعة او ما يشبه الدولة أو تخريب وسائل الانتاج المادية والثقافية. فالثورة مثل المقاومة لا تهتم إلا بالمصائر الجماعية. أما تحسين شروط حياة الفرد الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية فليست من أولوياتها أو من الغايات الرئيسية لها. إن غايتها تحقيق أغراض عمومية وجامعة، تشكل شرطا لأي حياة فردية صالحة، وفي مقدمها، استقلال الجماعة والحفاظ على الهوية أو التخلص من السيطرة والوصاية الأجنبية. ولا تفيد الوسائل القانونية والإدارية والتقنية التي تتبعها الدولة لتحقيق أهدافها في تحقيق غايات المقاومة وأهدافها. فهدف القوانين تكريس الأمر الواقع، الدولي والاجتماعي، بينما تغيير هذا الأمر هو الذي يشكل مبرر وجود المقاومة ومطلبها الأول. لذلك كثيرا ما تتهم المقاومات من قبل خصومها وأعدائها معا بالارهاب لأنها تقف بالتعريف ضد الأمر القائم، وبالتالي ضد القانون السياسي والشرعي الذي يحفظ هذا الأمر القائم ويساعد على استمراره.
فما الذي يضمن بالفعل، بشكل أفضل، تجديد المجتمعات العربية الخربة والمفوتة والمنحلة، ويعيد لها الحيوية ويجعل منها مجتمعات منتجة وفاعلة ومبدعة، تعامل بندية من قبل المجتمعات العالمية الأخرى، هل هي استراتيجية المقاومة أو الثورة التي يدعو إليها اليوم الاسلاميون على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم، ومن ورائهم كثير من القوى القومية العربية التي فقدت الأمل هي أيضا بنظام الدولة الوطنية أو القومية الحديث الذي نادت به طويلا، أم استراتيجية إصلاح الدولة وتحسين شروط عملها وأدائها، والارتقاء بفعاليتها في إطار المنظومة الدولية، حتى لو عنى ذلك القبول بشروط الهيمنة العالمية والعمل من خلالها على توسيع هامش سيادة الدولة وتعظيم قدراتها وتطوير وسائل عملها بالتفاعل مع البيئة الدولية، كما تدعو إليها القوى الليبرالية أو شبه الليبرالية المنبعثة من ركام التجارب القومية أو المنقلبة عليها؟.

dimanche, septembre 10, 2006

The crisis of Lebanon and the Middle East

World Security Network Foundation
28/08/06

US-Europe and Arab Interests Behind the War in Lebanon
Syria Living Without Perspective
No Progress For Democracy in War Environment
You Cannot Join the Democratic Club Without its Members' Agreement
Democracy Is Not The Exception : Despotism Is
The Arab World Believes in the USA
The Arabs Cannot Build Democracy Without External Support

Abstract : We went to this interview with professor Burhan Ghalioun carrying two kinds of questions : the first was in direct connection with the ongoing war in Lebanon; and the second is more related to local issues, such as democracy and a diagnostic of the situation in Syria and other Arab States. M. Ghalioun is a French-Syrian professor of political sociology at the Sorbonne University (Paris III); he is also director of the Sorbonne’s CEAOC (Center of Arab Studies and Contemporary Orient) and the CEMAOC (Center of Arab World Studies and Contemporary Orient). He has published more than 30 books about the Arabs, the Muslims, and the struggles of the modern times. He is a recognized authority in this respect.
This exclusive WSN interview was conducted by Hichem Karoui, WSN Editor France.

The war in Lebanon

WSN - Let us start from this war on Lebanon. What if Israel were encouraged by the known fact that the Arab States are impotent and will not react?

B.Ghalioun : I think Israel did not accord any thought to the Arab States and much less to any of their reactions. The War project has been likely discussed between Washington and Tel Aviv; with the objective of carrying out the 1559 resolution, which provides for the dismantlement of Hizbullah and its disarmament. This is actually the very purpose the Israeli and European diplomacy were vainly trying to reach since two years with the Lebanese government. Israel has just taken the opportunity Hizbullah offered in capturing two Israeli soldiers, and it launched this project prepared since a long time. The importance of disarming Hizbullah is twofold as it means a lot to the Israeli and American interests. For the Americans, the dismantling of Hizbullah represents a big blow to the axis that has been acting since two years against their policy in the Middle East, with its two members: Syria and Iran. Disarming Hizbullah means breaking up the striking arm of this axis; and consequently subduing the Syrian regime while weakening the Iranian position as regards the unranium enrichment file, still open. It means also the stabilization of the Lebanese situation that has followed the March 14 uprising, in the wake of Rafik al Hariri’s assassination, leading to the expulsion of the Syrian forces from Lebanon. As for Israel, it is the golden opportunity to get rid of the eternal threat on its northern boundary , represented by Hizbullah which owns an arsenal of short-and-middle-range missiles and whose name has been linked to Tsahal’s biggest military defeat when it has been forced to withdraw from Southern Lebanon in 2000. This war on Lebanon is –in the same time- an American war and to some extent an Arab war, because when Syria and Iran signed the Strategic Defense Agreement last year, many Middle Eastern Arab States became scared by the Iranian expansion threat in the region, and the probability of the constitution of an alliance including Iraq which is ruled by a shiite-dominated government. These States have also some interests in weakening this axis on the one hand, and in reining in the Iranian ambitions as regards the possession of a nuclear technology. So, we may say that many interests have gathered behind this war, and Hizbullah was just the common target, which explains why the international diplomacy reaction was so slow , Europe and the Arab States included : Europe’s interests do not differ from the United States’ anyway though they have different approachs. As to the Arabs, several among them have condemned in the first days of the crisis Hizbullah’s adventure; and the the Foreign Ministers’ Council has been unable to hold a reunion before the 26th day of the war.
WSN – What about the hypothesis that Israel feels oppressed when it looks at itself being surrounded by States hostile to its very existence as well as to its project? In such a situation, Israel would just try to break up the siege in striking at its weakest ring. Wouldn’t it?

B.Ghalioun : Israel may feel that it is besieged because of the hostility of the greatest number of the Arab States. But this feeling hides a fundamental inferiority complex and does not reveal the reality. The Israelis themselves say – and they are true – that they are able to crush all the arab armies gathered together. Thus, in fact, it is Israel that besieges the Arab countries, thanks to its unmatched military superiority and to the international unrelenting support that it is granted from the USA and Europe…Thanks also to the Arab situation breaking apart and to the collapsing of the Arab front. The fact that Israel goes along with its extremist policy, unyielding its regional, former wars’ won acquisitions, makes another evidence for the case. Israel is still continuing the expansion of territory settlement in Palestine, dodging any initiative possibly leading to a Palestinian independent State ; it is still occupying the Golan hill and subjugating it into its settlement policy, as it is still persisting in absorbing the Shabaa and Kafar Shuba territories. The party who is trying to keep for himself the regional acquisitions despite the continual offers for peace from the Arab world is actually the party who feels empowered enough to face his adversaries and subdue them. This is today’s de facto situation : Israel is the party forcing the Arab countries into respect, not the contrary. It is the party representing a menace to these countries, because of its crushing military superiority, not any other arab State. If despite all this, there is still a feeling of oppression inside Israel while it is actually the first striking force in the Middle East, then there is no other solution but the intervention the Great powers in order to ensure peace while granting Israel security and appeasing it. Yet, it is not advisable to carry on with the current situation, which means that Israel cannot be appeased and its security needs cannot be fulfilled without destroying its Arab neighbourhood in Lebanon and Palestine .
WSN – As it is known, war is the best expression of the political deadlock. Clausewitz would say that it is the continuation of politics through other means. In your opinion, who is responsible for the political impasse?

B.Ghalioun : The responsibility of the political impasse in the Middle East – the unreachable political solution for the conflict – is in the first place the Israeli regional greed, and the great powers’ strategies – particularly the USA -, betting on the Israeli military superiority for imposing their hegemony on the region. This is implying that the peace and negotiated solutions’ failure are caused by the actual inexistence of a real will to peace and the Israeli tendency to maintaining the occupied territories in Palestine, and Golan and Lebanon, in its hold. The second responsibility lies in the western politics of hegemony applied to the Middle East, as they dicovered that the best way to cow the Arab States and force them into submission to the world domination agenda, is to rely on the Israeli military supremacy.
WSN – One of your ideas is that inside the triad compounded by Syria, Iran, and Hizbullah, the weakest party is Syria ; and for this reason it will be targeted by Israel, soon or late. I would like to make a rapprochement with what Daniel Byman was claiming in Foreign Affairs (November-December 2003). He said that the only option for Washington to tackle Hizbullah is indirect, as it consists in pressuring Syria and Iran for disarming their ally…Do you think now that this option has also failed?

B.Ghalioun : Several American analysts have recently called the US administration to open a dialogue with Syria at least for covering the Israeli army insufficiencies before Hizbullah’s resistance; which proves that Hizbullah is not the weakest party, but Syria. Yet, in this war, Syria did not play the solidarity card with Hizbullah, in spite of the antonymous discourses, neither did it activate the Mutual Defense Agreement that it had formerly signed with Lebanon. Instead, it played the neutrality part, suggesting through official declarations its readiness to contributing to the appeasement of the conflagration and to stopping Hizbullah strikes, if it was accorded some enticements. Shortly, Syria avoided the Israeli and American strikes because it put itself within the party offering some services for stopping the conflict, instead of being itself a party in the conflict. For example, M.Muhsin Bilal, the Syrian Minister of Information, declared in the middle of the war that Syria knows a lot about “al Qaeda” in Lebanon and it was ready to cooperate with the United States if the latter were willing. Syria, generally speaking, wants to profit from what is happening, but it does not want to bear its responsibility. Besides, the Israelis may believe that it is better to have a weak and meek regime in Damascus than to open the door to unknown adventures. Those who want Israel to bang Syria are the Americans, as it seems to me. I think that the Israeli war in Lebanon disappointed the USA on two points: 1) its inefficiency after a whole month of battles as to dismantling Hizbullah ; 2) its refraining from striking Syria in the same context.
WSN – If as you said, the Israeli policy is supported by the USA, then some Americans would wonder: why France has so insisted on interfering and thus complicating the issue a little more? And they would point to both Lebanese and Israelis - and even Palestinians and Syrians - rejecting the French proposals. For example, M.Emile Lahud – President of Lebanon - went to the extent of accusing France of colonial intentions. In an interview on al Jazeerah, he claimed that the real purpose behind the French proposal of sending multinational troops was actually to have a French foothold in Lebanon. However, some French observers said that Paris was trying a rapprochement with the Bush administration, over two issues : Hizbullah and Syria. What do you make of all that?

B.Ghalioun : On the one hand, M.Lahud’s position does not represent Lebanon ; it is the government of M.Fuad Seniora which is actually in charge of proclaiming the official position. And M.Seniora bets a lot on a French interfering assumedly able to draw the American position to the Lebanese side. Behind this attitude there are indeed the close relationship binding Lebanon to France, which makes the French feel a particular commitment towards Lebanon. On the other hand, I do not think that the French played into the American game in respect to this issue. Their purpose was to manage a rapprochement between the Israeli and the Lebanese positions , which is quite difficult to reach for the pro-Israeli US policy. Yet, the French position does not differ from the American and the European as to the implementation of 1559 resolution leading to disarming Hizbullah. That is the basis of the agreement. However, concerning Syria, there is a difference. For the Americans have important demands as regards what they call “terrorism support” in Iraq. The French have also some demands concerning Syria’s respect of the Lebanese sovereignty and non-intervention in this country, because they actually believe that Lebanon historically falls into the francophone area of influence. Because of all that, we may say that common US and French interests have met over pressuring Syria and isolating her, which makes the isolation possibility still more powerful. The same understanding contributed to weakening the Syrian overall position to a great extent, which is not actually the state of Lebanon whose government is rather credible to the French and widely supported by them.
Syria
WSN – Let us turn to look at Syria now. Are you able to go there any time you want?

B.Ghalioun : You can go to Syria anytime you want, but you cannot do in Syria whatever you want or get out as you want. It is no secret that the present authorities out there do not accord the least importance to the public freedoms or the Human Rights.
WSN – You are often presented as an opponent to the Baath regime in Damascus. How would you personally describe your relations with the regime and with the opposition?

B.Ghalioun : I know I am often presented as an opponent ; but the opponent in my eyes is he who is active in a political movement aiming Power. Considering this, I have no membership in any Syrian party ; yet I am a critical intellectual rejecting the present situation, and calling to a democratic change, and never hesitating to give my support to all the political movements aiming at that purpose. This said, I am not a politician but an intellectual with a clear political stance in respect to his fatherland, as it is the case in respect to other international issues. This is what I intend from being an opponent. Yet, this attitude allows me actually to have a margin of freedom as regards the regime as well as the political opposition at once. My purpose is not to reach power but to help the society in changing the situation and defeating despotism.
WSN – You have published more than 30 books about everything in connection with society and politics in the arab and Islamic world. You are often solicited for debates on arab TV like al Jazeerah and al Arabiyya. In this activity, Syria has taken an important part of your concerns. So, what is your diagnostic about the Syrian situation? How do you see the future?

B.Ghalioun : I was very concerned about Syria particularly in the last five years, because I believed like many Syrians that following the death of President Hafiz al Assad an opportunity for change came out. It was then necessary to strengthen the emerging democratic movement and to support it intellectually and politically. That was the reason why I undertook some initiatives inside Syria and outside it, concerning the empowerment and the extension of the opportunities of reform and democratic shift in this country. Included in this activity was my participation to the “Damascus Spring”, which the Syrian authorities have reduced to silence within just a few months after its blossoming in 2001. What Syria is currently experiencing is the result of killing that “spring”, which has never completed. I mean : going back to the politics of repression, giving a free hand to the security machine over society, locking up the reform perspectives, breaking up trust and confidence in the institutions, and freeing corruption as it never happened before. Interrupting the course of the reformist movement would push the country consequently and more extensively towards anarchy and violence, regardless of the fact that anarchy and violence are still the product of the security apparatus. Yet, nothing would prevent - in case the conditions of the economic, social, and political life continue to cave in – the transfer of the anarchy and violence “weapon” from the authorities to the citizens, and thereupon the beginning of a loosen situation which, regrettfully, distinguishes today some other countries in our region , such as Lebanon and Iraq. The Problem in today’s Syria is that the country is living without any perspective, or policy for the future, without any hope, besieged from the inside by the authorities and its numerous bodies, and from the outside by the international configuration that sees in this regime a source of threats and dangers, visible and invisible.
WSN – What represented really “Damascus Spring”?

B.Ghalioun : After the death of Hafiz al Assad, who represented a kind of rough and feared patriarchal power, great expectations invaded the middle class and the intelligentsia hoping for a change that would put an end to the one party regime much resembling to the communist countries. These expectations and hopes were being nourished by the discourse of the new president who was insisting on the necessity of change as a means for him to gain some legitimacy. Thus, since the first year appeared the phenomenon of intellectual forums and dialogue meetings , which got about and grew widespread in the Syrian cities and even in the villages. Throughout but a few months, Syria seemed transformed into a buzzing beehive, where the debates were going on day and night, about the future of the country and particularly about how to achieve a democratic shift allowing all the communities, all the individuals to speak up their minds and express themselves unconstrained, and thus to take part to the political life so far monopolised. While participating to many of these forums, I had a true feeling that if we were able to carry on that activity for just another couple of months, it would have become definitely impossible to any undemocratic regime to survive in the country. There was really a great popular movement working and calling for the democratic change, with braveness, courage , enthusiasm, intelligence, and rationality. However, what we were feeling was unfortunately being felt also by those people whose big mafia-like interests were bound up and allied to the security bodies. Those are the people who led since September 2001 a “coup” against the situation, closing down the forums, forbidding the political demonstrations, hunting down and prosecuting the intelligentsia, and condemning ten of the most important activists to rude and cruel prison sentences (between 5 and 10 years). To this day, one victim of this repression, professor Arif Dalila , the former Dean of the Economic Science University, is still undergoing his ten years long jail sentence. Those who have been released, after ending their term, have been subjected to permanent security tagging forcing them to keep muted. The chasing and prosecution of the members of civil associations and the intelligentsia is still the summary of the political life in this country. There is no talk in Syria but about the detainees, the released, then the detainees again and those chased by the State police, and so on…This is the very life of Syria and the end of Damascus Spring. The hope of democratic change has been smothered in the cradle.
WSN – The USA have been quite concerned by Syria since the middle of the XXth century, after World War II, when we find the CIA deeply involved into the series of coups that drove Syria from hand to hand, so to speak. How do you see the future of the relationship?

B.Ghalioun : I think the relationship with the USA will be difficult whatever the nature of the regime in Syria if Washington remains definitely siding with Israel and accepting its de facto expansion policy in the Syrian territory (the Golan, that is) and in Palestine. Usually, the public opinion in Syria is unable to understand that complete and permanent aligning onto the most extremist policies in Tel Aviv, while the Syrian people - like all the arab population of the Midlle East – was expecting a new American inititiative to end the Arab-Israeli conflict and to close the violence cycle. The point is President Bush himself has promised a Palestinian independent State for 2005, but nothing was done. Today, the Palestinian people is still living without any perspective than occupation. At the same time, Washington supports a destructive war in Lebanon without advancing any initiative to end the conflict and liberate the Middle East from the asphyxiating shadows of the past. Indeed, the Syrian people – like other Arab peoples – does not feel any hostility towards the USA. The point is that these peoples are actually betting on Washington to help them overcome their crises; yet they all resent deeply the US confined politics that disappointed them and made of Washington continual pledges some delusory frustrating promises.
WSN – How do you see the alternative in Syria?

B.Ghalioun : I do not see another choice but a democratic regime. In order to reach it, we have to work on a double parallel front: 1) a front of political action, whose task would be the activation of the living forces inside the society, their organisation, and their unification. In fact, in the last year the first Syrian coalition was born under the title of “Damascus Proclamation”, including an important number of political parties and democratic forces. 2) a cultural and intellectual front, because democracy will not progress in Syria without dismantling the patriarchal, bureaucratic, dictatorial, presently dominating culture. In return, it is necessary to develop a democratic culture concerned with the notions of individual freedom, right and justice, and the implementation of cooperation, solidarity, and confidence values among people that oppression and persecution have broken to the extent that they lost confidence in themselves and in their fellow-citizens. Thus if the fullfillment of the political tasks relies essentially upon the politicians, - and a great number of them is still unexperienced - , the achievement of the cultural tasks depends essentially on the thinkers, the writers, the artists, and the intellectuals, which requires from them a great ability to communicate with the society and even more to be creative and inventive. However, I do not think it is possible to progress with this project without the help of regional and international conditions. It is impossible to figure out a sensible progress of the democratic thought and movement in an environment dominated by permanent national or sectarian wars, as we see today in the Middle East. Nor it is possible to figure out an important progress of the democratic culture in this region if the international climate were dominated by moods of civilization and cultural wars and polarisation of cultures and mutual seclusions as we see nowadays. The climate of the former wars and that of the civilisation and cultural ones would inevitably lead to reclusiveness and fanaticism, as well as to primary solidarity instead of developing the values of subjectivity, freedom and law. Regrettably, the international environment , concerning the arabo-Islamic societies, is still hostile to developing a reliable democratic culture.
Democratisation
WSN – Since the publication of your “Manifest for Democracy” (in 1979), you are considered as one of the greatest advocates of democratic values in the Arab world. What do you think really of the democratisation program initiated by the Bush administration as a public diplomacy in the Middle East?

B.Ghalioun : Without doubting anybody’s intentions, I think that the democracy project proposed by the American administration was meant to win some legitimacy for an undertaking related to political and military domination in the region. I mean that the American promised democracy was not an end in itself, but a means to achieving an agenda
whose content may be antidemocratic as it is concerned with the US supremacy in the region. For that reason, I would say that this connection between the American call for democracy in the Middle East and the project of virtually imperial domination concerned with the control of oil resources and the defense of the Israeli de facto expansion, is precisely what aborted the American hopes for getting their project more popular credibility and support. I think that the US led democratisation project – if ever it were really meant to be achieved and not just words in the air – is now almost in the past as there is no talk about it anymore. Not only this : The Americans may now believe that they were mistaken and in a hurry, and that it is in their interest therefore to reverse the tides and come back to the old policy of supporting dictatorial and patriarchal regimes, which was their policy for 60 years, as M.Bush once put it. The best indication of what is happening is when you see how all the hard pressures they have formerly put on some regimes like those of the Gulf ( especially Saudi Arabia, but also Egypt, Libya, etc,) have declined as the relationship with these countries was restored. However, the greatest blow to the US discourse about the democratisation of the Middle East, came undoubtedly from the catastroph caused by the politics of afflicting occupation in Iraq that have led to what some US officials are pointing to nowadays as the beginning of a civil war.
WSN – All the Arab “revolutionary” regimes have either collapsed or have been changed if they have not shifted their views and positions (with the exception however of the Syrian regime, still unchanged).The fact that they were also relying on the Soviet Union made of the latter’s downfall their own defeat :Yemen, Iraq, for example… Do you think that the meaning of this is the victory of realistic views over the ideological policies?

B.Ghalioun : I do not believe the point is about the difference between ideological regimes and pragmatic ones. I consider the Syrian regime as a matter of fact system in the first place ; with the ideology used only as a cover. Besides, I don’t think that those who advocate liberal and democratic regimes are less concerned with ideologic matters, since they also call for commitment to some values and principles. What has actually collapsed in my view is a type of politics and administration that proved to be definitely unproductive and corrupted in the former communist States as it was also the case in a number of Arab countries, because of what that type included as contradictions, bureaucracy, and stagnation , resisting to the necessities of active interaction with modern time’s economy, society and knowledge. Anyway, nothing grants either that the new liberal systems applied to some of these countries will succeed if there is a deficiency in reliable and inventive leadership. In many countries, the new liberal systems have been noticeably connected to the phenomenon of Economic and political mafia, which led to a deadlock. Latin America’s experience, which is going back nowadays to former leftist politics, confirms such an observation. In the Arab world – in Algeria, Egypt, Morocco, etc – there is a great disappointment as regards the so-called liberalism that was unable to stop the progress of poverty, and to face the challenge of the increasing unemployment, as it was unable to create a local dynamic of economic and social development.
WSN – Can you tell me why each time we talk about change forces in the Arab and Islamic world, we find ourselves facing the Islamists? Is that really the unique alternative?

B.Ghalioun : This is because the conditions of emergence of democratic forces are either limited or absent. The democratic forces cannot rise in an environment of permanent nationalist wars, as we see for example in three areas of occupation: in Palestine, and Lebanon and Syria. Nor the democratic forces can rise in an international environment that is contributing - to a great extent - to the marginalisation of the Middle East, implicitly blockading it as a source of terrorism. Democracy is a world scheme , and you cannot possibly join the democratic club without the agreement of its members (the Westerners, that is) or against their will. The point is that they have been – and still are – supporting some dictatorial regimes, on the belief that they are mose useful in keeping the interests safe. And as long as the democratic forces in the Arab world are still lacking the relevant regional surroundings and the efficient international support – such as what the East-European countries have formerly got – it is normal that the movements opposing corrupted regimes would take local shapes and use also local resources, like religion, zealotry, fanaticism, sectarianism and tribalism. As long as the fundamental modernity perspective is locked up for the Arab societies, the social conflict will use the language of the past and its refurbished instruments, while the struggle against tyranny will be strongly articulated around the fight against the foreign domination supporting it. As a result , you will have rebellious Islamist movements targetting at the same time the despotic regimes and what they call their “occidental masters”.
WSN – There was a clamor recently over a memo to M.Tony Blair, by Britain’s outgoing ambassador to Baghdad, who said that “ a de facto partition of Iraq is more likely than a transition to democracy”. Is that also your feeling?

B.Ghalioun : This declaration of an important official, whose country was since the outset involved in Iraq, is an acknowledgement of the failure of the US-British policy, wich as I have previously said linked two agendas together : hegemony in the Gulf region and discourse about democratic change. The result is, as it is clear, no democracy and not even an Iraqi State, but chances open to all probabilities, included civil war and chaos.
WSN – Despite all this, do you think that the democratisation of the Arab States is still possible? And if it is, what are the conditions of its accomplishment?

B.Ghalioun : The democratisation of the Arab States is not an exceptional project but only the return to the normal course of the political life. It is inevitable to come back to the normal system which is the democratic, as it is also inevitable to dismantle despotism and its exceptional laws. For these are, by definition, exceptional regimes. Because of this, there is no relation between the failure of the expected US democratisation project, as long as it remains illusory, and the continual pushing inside the Arab societies for democratisation. Since now, we may say that what depicts the political life in these countries is the daily fight between individuals trying to make principles of law and right and political participation working on the one hand, and the regimes of exception and oppression, and violation of the popular will, on the other hand. There is no axis of struggle today in any Arab country whatever, but this one. So, there are indeed perspectives of democratic development, and these perspectives will increase with the decrease of the American democratisation illusion.
How to reach peace
"Many Middle Eastern Arab States become scared by the Iranian expansion threat in the region."
WSN – You said recently that the missiles war confirmed that Israel could not overcome only with the military power, whatever the degree of technologic superiority it has reached. This is not enough to achieving peace and stabilization. The same remark is true also for the USA. So, tell us how to reach peace?

B.Ghalioun : I think that the current crisis is mostly the result of Israel’s refusal – with the US support – to have genuine negotiations with the Arabs, assuming necessarily the concession of the occupied Arab territories. The war in Lebanon confirmed that Israel would not be able to grant peace and stability while relying only on its military machine, because of the limits of this power. This is also the case for the US-British war in Iraq. The military supremacy whatever its extent cannot abolish the need for a political solution, and all our problems in the region find their source in this Israeli quibbling over a political solution in order to keep the lands. Peace means simply the acceptation of a political compromise ; hence, the end of the conflict and perhaps an historic reconciliation. This is not applicable only to the Arabs and Israelis, but to all the conflicts in the world. And Israel cannot be an exception as some extremists believe.

In short
WSN – America says that in God it trusts ; Europe says that it believes in the union ; Israel says that it is devoted to the “promised land” …In your opinion, in what believe the Arabs?

B.Ghalioun : The Arab world believes in the USA; it is also its problem, as it is considered as the unique source of all salvation.
WSN – The arabs may be in need for a miracle. But the miracles are engendered by faith. What if faith is just what the Arabs lack today?

B.Ghalioun : The Arabs’ faith we have just mentioned does not engender miracles, -alas! - but only frustration.
WSN – All the Arabs’ relations with the West, since the XIX century to this day, are negative and lacking balance. Why did the Arabs fail where the Asians succeeded?

B.Ghalioun : Because the Asians believe in themselves and in their capacities.
WSN – The Western televisions have transformed the butcheries of the Middle East into a show ; and the Arabs went imitating the Westerners in these show technics, thus becoming negative watchers of their own slaughtering to an idiotic-masochistic extent. Is it possible that the Arab world lost its mind?

B.Ghalioun : What you said expresses in my eyes a dangerous development in the “victim culture”, because of the permanent impotency and the inability to build anything, additionally to the increase of foreign pressures and the feeling of being besieged and marginalised. The “victim syndrome” becomes thus the only escape from responsibilty.
WSN – No less than 8 Palestinian ministers and 28 members of the Parliament – included its president – have been arrested by Israel under the charge of membership in a terrorist organisation (Hamas). Even if they have been murdered instead of being arrested, the Arab world would not budge. All these persons represent actually the Palestinian authority, which is practically no longer existing. So, what is the purpose of adopting a policy that you cannot defend because your adversary is much stronger than you are so that he can crush you whenever he wants?

B.Ghalioun : I think that the “Hamas” leaders have been propelled to power by a number of people that has lost any hope in a near political solution with Israel, thus opting for death rather than an humiliating obedience. The choice of “Hamas” expressed the total despair not a productive and optimistic program of action. It is the feeling that nothing was left to them, not a single hope. And the reason behind that is the American-Israeli profound understanding over spoiling the Palestinians from any significative political achievement, which is conveyed by the arrest of the ministers and the members of parliament.
WSN – What is the difference between the Iraqi Baath regime and the Syrian Baath regime?

B.Ghalioun : The Iraqi Baath regime is victim of its own ideology, while the Syrian is victim of its pragmatism.
WSN – Do you think it is possible to reform Syria from inside, which means without changing the whole regime?

B.Ghalioun : To reform means to change the regime, because the regime means the rules of practising power. There is no way for implementing reforms on whatever level without previoulsy reforming the rules of practising and distributing power on institutions and social actors. The monopolization of power and its perpetuation in the hands of one consecrated elite is the source of all the problems. It is not possible either to rely on the same elites that produced and made a living of debasement and corruption, as a basis for a regime that would be founded on the principles of right and law and repect of the citizens’ will.
WSN – Is the Syrian civil society able to change the situation as to democratize and reform the country without some help from the outside?

B.Ghalioun : No. Neither the civil nor the political societies in Syria or in any other Arab country, are able to build up a democratic regime without external support. Yet, the support does not mean foreign intervention. The outside does not mean necessarily an imperialist agenda and political manipulations. It may be also a political and moral support provided by the civil society institutions and the democratic forces as an expression of solidarity with other democratic forces in the world. I do not think that there is any possibility for the democratisation of any country in today’s world if it is not accompanied by a genuine development program, which would need an international support as it was the case for Eastern Europe. This is indeed true for the Middle East, because it is essentially a region of great foreign interventions, and because the despotism out there is the result of these interventions more than the fruit of a local popular will. The help required here from the Western Powers, for the success of democracy , is to stop supporting dictatorial regimes and forcing local economies to respond to the needs of foreign domination, as we see today.
WSN – Is what you said about Syria also relevant to other Arab States?

B.Ghalioun : Surely, it is.
WSN – Is democracy a “step by step” build up, or a shock?

B.Ghalioun : There is no general theory for shifting to democracy ; and sometimes one may bet on pushing towards democracy throug strong pulsations in case there is a minimum of communication between the power elite and the people. However, when such communication is deficient as we see in several Arab countries, then talking about the “step by step” option is just a waste of time and an adjournment of the sought change. Yet, it is the own nature of the democratic forces and its capacities that finally decide what would be the style of change. In the Arab world, ostensibly there is a great difficulty to push the current regimes to move towards a democratic shift even on a gradual scale. This is a cause of fear from future big social explosions which would not be necessarily a granted way to positive democratic mutations. The result may be as well more chaos and infighting. The point here must be the necessary focalisation on the build up of democratic forces in all cases and probabilities. For these forces are the guarantee for any change, whatever, as they are the guarantee against the dangers of unpredicted explosions.
Paris , August 7, 2006.
Mr Hichem Karoui
Editor France
World Security Network Foundation

dimanche, septembre 03, 2006

كتاب جديد عن فكر برهان غليون


"كتاب جديد عن فكر برهان غليون حول الدولة العربية الراهنة وأسئلة عن نهاية الاستبداد"

01/09/2006 القدس العربي

أوقاتنا كلها تبدو ملائمة للحديث عن الدولة العربية التي باتت في مهب الريح حسب تعبير الباحث والكاتب المغربي عبدالسلام طويل الذي قدم أطروحة باذخة في هذا الإطار، تحت عنوان: الدولة العربية في مهب الريح ، دراسة في الفكر السياسي عند برهان غليون ، وأهمية الدراسة لا تتأتى ـ فحسب ـ من القدرة والدقة اللتين عالج بهما الطويل موضوعه، بل تتأتى من ذلك التوقيت الصارم والدقيق الذي تتبدى فيه الأمة العربية أحوج ما تكون إلى إعادة النظر في الأسس التي قامت عليها، وكيفية معالجاتها سواء كان ذلك يتعلق بأبعادها الثقافية والمعرفية أو يتعلق بالبنيات الاجتماعية التي تخلفت عنها، لذلك أهم فصول الكتاب تلك الفصول- في نظري- التي تناولت مشروعية الدولة وأزمة الديمقراطية ومحدداتها، وكذلك ما قدمه عبدالسلام الطويل فيما يتعلق بظاهرة الاستبداد، بالاضافة ـ طبعا ـ الى القراءة المعمقة لجدل العلاقة بين الدين والسياسة، ومأزق العلمانية كبديل ديمقراطي وكذلك الموقف من الحركة الإسلامية، وتلك الاشارة لا تنكر ـ بالقطع ـ الأهمية البالغة التي تنعقد على الفصل التمهيدي والفصل الأول للأطروحة حول اشكالية التحديث السياسي في الفكر العربي المعاصر، وهو الفصل الذي تناول مفهوم الحداثة من وجوه مختلفة لكنه ذلك التناول المجرد الذي يحيل الى العمل النظري المحض، وكذلك الفصل الأول الذي تناول فيه الطويل إشكالية الحداثة والموقف من التراث عند برهان غليون.ومنذ مقدمته في الفصل التمهيدي يشير الطويل الى ان ثمة إجماعاً ينعقد على اعتبار الاستبداد بكل أشكاله جرثومة التخلف، وإن تعددت الرؤى حول كيفية معالجة هذا الاستبداد عند الفرق المختلفة.كما يشي الباحث نفسه، الذي يستعرض مفهوم الحداثة في بعده الغربي وكيف استقبلته النخبة العربية بسجالاتها الواسعة التي دارت حوله، ثم يفرق ايضا بين الحداثة والتحديث ويعود في هذه التفرقة الى عدد من أبرز الأسماء العربية والاجنبية ويقول: الملاحظ أن التمييز بين الحداثة والتحديث يكاد يلازم كل الدراسات الجادة في حقل الثقافتين العربية والغربية رغم ما يعتريه من تباين وغموض وعدم تحديد، فمحمد أركون يعتبر أن هذا التفريق بين الحداثة والتحديث لازم وضروري لأنهما يحيلان الى مصطلحين غير متطابقين فالحداثة هي موقف للروح امام مشكلة المعرفة انها موقف للروح من كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل الى معرفة ملموسة للواقع، أما التحديث فهو مجرد ادخال آخر المخترعات الاستهلاكية واجراء تحديث شكلي أو خارجي لا يرافقه أي تغير جذري في موقف المسلم من الكون والعالم، ثم يتناول الباحث جدلية المفهوم نفسه لدى هشام شرابي ورشيد العلمي وآلن تورين ومارشال برمان يورجن هابرماس، ثم يتناول الخصائص الكبرى للحداثة والتحديث، فعلى المستوى التحديثي السياسي يرى عبدالسلام الطويل أن الحداثة هي انتقال بالهياكل السياسية الى نوع من العصرنة أو عقلنة السلطة حسب تعبيره، ويرى الطويل أن ذلك يعني تحديد الوظائف الأساسية للدولة وبناها عبر نظم الإدارة وتوزيع مسؤولياتها، كذلك يضيف عنصر توسيع المشاركة السياسية كأحد شروط التحديث السياسي لكنه يتوقف مليا أمام بعض دعاة التحديث الغربي لا سيما صمويل هنتنغتون بسبب تجاوزه مفهوم ماركس حول الوعي الطبقي الى توسيع رقعة هذا الوعي ليتقاطع مع فئات من طبقات مختلفة. ويتناول ايضا الحداثة وما بعد الحداثة، ويشير بداية الى ذلك الغموض والتشوش غير اليسيرين اللذين يحيطان بمفهوم ما بعد الحداثة لكنه ينقل لنا أهم تلك الخصائص التي تميزها فيما يتعلق بردتها عن الحداثة وانطوائها ـ حسب تعبيره ـ على تيار فلسفي ما بعد بنيوي ظهر في فرنسا، ثم يتناول المؤلف السياق التاريخي للحداثة، ثم يخص الحداثة العربية بجانب غير يسير من حديثه.


الحداثة العربية.. تراجع وانحسار
يشير الباحث عبدالسلام الطويل الى ان الوطن العربي دخل مرحلة الحداثة بنفس الشروط التاريخية التي كانت عليها أوروبا، ويرى أن مصر ربما ـ كنموذج ـ كانت أفضل من أوروبا، وهو الأمر الذي جعل عددا من المؤرخين ـ حسب الطويل ـ يؤكدون أن الطبقة الوسطى العربية كانت بصدد انجاز مشروعها الخاص والمستقل للنهضة والتصنيع والتحديث. ويضيف الطويل ان اوروبا ـ على النقيض ـ حققت حداثتها بعد تعميم الصناعة ونشر التعليم وقيم العقلانية والتنوير ونظمت إرادات شعوبها ومصائرها ضمن كيانات قومية موحدة على أسس موضوعية، وأشاعت مبادئ العلاقات الديمقراطية بالمساواة أمام القانون وضمان حقوق المواطنة والحريات الشخصية والعامة، الى آخر ما يذكره الباحث في هذا السياق الذي يستفيض في شرح أسباب انجاز أوروبا لمشروعها الحداثي.ثم يعود الطويل ليشرح الظاهرة الاستعمارية التي أدخلت الاقطار العربية في سياق مختلف، فقدت فيه أدنى قدرة على تجديد مستقبلها، ويقول: أرغمت ـ يقصد تلك الدول المستعمرة بفتح الميم ـ على الدخول في سياق تاريخ محكوم بمجموعة من الثنائيات المفروضة من خارج سياق تطورها الذاتي:تاريخ التقليد في مواجهة التحديث، والتخلف في مواجهة الغرب والاستبداد في مواجهة الديمقراطية، لكن الطويل يعود فيقرر أن انتصار حركات التحرر الوطني بعد حقبة الاستعمار منحت الشعوب أملا في امتلاك المستقبل، ثم يعود ويقول ان شيئا من مشكلات الوطن العربي لم يحل رغم تغير الكثير من البنى في العالم العربي، ويرجع السبب في ذلك ـ حسبما يذكره الطويل ـ الى ان النهضة الصناعية في الغرب استطاعت ان تحمل معها نمطا جديدا من أنماط الانتاج وبالتالي أنماط التفكير والتنظيم الاجتماعيين، وهي حالة لم تكن تعرفها المجتمعات العربية لأنها نابعة من تاريخ مفارق لها.ويضيف الطويل: كما كان للمجتمعات العربية أنماط وبنى اجتماعية وتنظيمات ومنظومات من القيم وقواعد السلوك والتفكير مغايرة نابعة من تاريخها الخاص ومتميزة عما كانت تتمتع به أوروبا ايضا بحيث لم يكن من الممكن لهذه المجتمعات التي وجدت في موضع البلدان المغلوبة أن تنفي هويتها وثقافتها وشروط تشكلها التاريخي، وتأخذ بالتالي بالأنماط الجديدة بالسهولة، والمرونة المفترضة .
الحداثة الغليونية
في فصل بعنوان إشكالية الحداثة والموقف من التراث عند برهان غليون يشير الباحث الى ان غليون خطا خطوة بعيدة عن فكرة انتقاد التراث والتقليد والدين وغيرها من اسباب، واستخدم منهجه الشهير الاجتماعيات التاريخية.ويوضح الطويل آليات عمل هذا المنهج من خلال مرجعية يقول انها تعود الى اعتقاد غليون بأن التطور التاريخي العام للإنسانية يقتضي تحسين تصور منهجي يسمح برؤية التفاعل العميق في تاريخ التطور الخاص والعام في مختلف الجماعات والثقافات، والخروج من ضيق المجتمع الى رحابة التاريخ الاجتماعي الذي ينظر الى المجتمعات باعتبارها تجسيدات لنظم حضارية.ويوضح الطويل مستطردا أن غليون قدم ثلاثة مفاهيم إجرائية هي الحضارة والمدنية والثقافة. أما مفهوم الحضارة لدى غليون فيعني ـ حسب الطويل ـ المكتسب الانساني الشامل الذي يمكن تعميمه علي جميع الثقافات. بينما يعبر مفهوم المدنية عن هوية الجماعة الثقافية باعتباره مولدا لمجمل المباديء العقلية والمادية وشبكات التواصل التي تقوم عليها الجماعات وتتجدد ثم يتناول الباحث مفهوم الحداثة والتحديث عبر تعبير غليون الدولة التحديثية، وكذلك مفهوم النهضة أو التقدم، ثم التطور الذي يرهنه غليون ـ حسب الباحث ـ في الحرية باعتبارها معيارا للحكم على التطور التاريخي والتمييز بين الأنظمة الاجتماعية ويقول: ان ذلك يرتبط بمدى تحرير الطاقات والملكات والمواهب الاجتماعية الفردية التي يسمح بها نظام معين بالنظر الى نظام آخر ويستطرد الطويل قائلا: انه تبعا لذلك فان التطور التاريخي لا يصبح تقدما إلا بتحقيقه امكانية أكبر للتحرر.ثم يستعرض المؤلف موقف غليون من العصرية والمعاصرة ويلخصه في قول غليون: لقد أصبحت ثقافتنا عصرية، أي قلدت في فروعها ومنتجاتها الثقافة السائدة، لكنها وربما لهذا السبب بالذات لم تصبح معاصرة ، أما مفهوم غليون حول الرجعية والتقدمية لا سيما في الاشتقاقين اللذين تم صكهما حول الحداثة التقدمية التي وقف خلفها التيار الاشتراكي بكافة طوائفه والحداثة الرجعية التي وقف خلفها رجال البرجوازية الغربية.ويري غليون أن هذا التقسيم لا يحمل أي دلالة تاريخية موضوعية فعلية وانما ـ حسب الطويل ـ كان عامل تسريع لحركة الاندماج بالغرب والاقتداء به. وينقل الباحث عن غليون قوله باسم التقدمية وتحت مظهر العداء الشديد للرأسمالية، وبالتالي باسم الجماهير الشعبية، يمكن نقل الغرب كما هو دون خوف، أي اتباع سياسة تحديثية عمياء لا تتورع عن القيام بتصفية كلية للتراث الماضي، وعن التدمير العنيف للبنيات والهياكل والقيم المادية والروحية المحلية! وحول مفهوم التجديد يرى الباحث انه موضوع شديد الصلة لدى غليون بالتجديد الديني وهو ما يعني ـ حسب غليون ـ إعادة النظر في القواعد، والقيم والأفكار التي تقوم عليها السياسة في العالم العربي.ويقول الباحث عبدالسلام الطويل أن غليون في هذا المنحى اعتبر ان المدخل الاساسي لفهم السياسة، لا بما هي نظرية وانما بما هي ممارسة في الحياة الاجتماعية، هو مدخل الاسلام باعتباره أولا: عقيدة مؤثرة في سلوك الناس وباعتباره ثانيا: مؤسسة تاريخية تضبط وتنظم وتعيد انتاج جزء كبير من علاقات الأفراد والجماعات. ثم ينتقل الباحث للبحث تفصيليا في أهم محددات الحداثة عند برهان غليون ويتناول عبر ذلك مفهومه للعقل والأخلاق والثقافة والهوية، والعولمة والرأسمالية وفلسفة التغيير الاجتماعي، ثم يتناول إشكالية العلاقة بين الحداثة والتراث ونقد غليون لموقف الفكر العربي المعاصر من التراث، ثم في الفصل الثاني يتناول إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي عند غليون وكذلك مأزق العلمانية والبديل الديمقراطي، والموقف من الحركة الاسلامية.وفي الفصل الثالث يتناول عبدالسلام الطويل إشكالية الدولة عند غليون وهو الفصل الذي يستحق التوقف مليا، حيث انه يمثل النتيجة التي آل اليها مشروع الحداثة العربية شاخصة امام الابصار لدرجة تفقأ العين الكليلة، أفعل ذلك لقناعة خاصة بحاجتنا الماسة الى وضع أيدينا على مثل هذه الأوجاع مع التسليم باهمية المقدمات النظرية التي حملت مشاريع مهمة من نوعية مشروع غليون نفسه.

أزمة الدولة العربية بين الاستبداد والفساد
ومنذ البداية يشير الباحث الى التأكيد الدائم من غليون على أن الاستبداد ظل ظاهرة ملازمة لطبيعة الدولة العربية، وينقل عنه قوله: تشكل ظواهر انعدام آليات التداول الطبيعي للسلطة، واحتكار مراكز القيادة من قبل نخب لا تتمتع في اغلب الأحيان، بالحد الأدنى من الاخلاق المدنية والكفاءة المهنية، وغياب الحريات العامة، وتفاقم الانتهاكات اليومية لحقوق الانسان، وفرض المراقبة السياسية والفكرية على الافراد وهيمنة السلطة الشخصية من النمط الأبوي، والخلط المتزايد والفادح بين الدولة والحزب الواحد والقبيلة أو الطائفة، وتعميم اجراءات العسف السياسي والقانوني، والتمييز المكشوف بين المواطنين، والقمع والعقاب الجماعيين. كل هذه الظواهر التي لا يمكن ان تخفي على عين أي مراقب، تشكل الحقيقة اليومية للسلطة في المجتمعات العربية، وتعكس القطيعة التي لا تكف عن التفاقم بين الدولة والمجتمع هكذا يعبر بوضوح برهان غليون.ويرى الباحث هنا تعقيبا على غليون أن دولة من هذا النوع عقيدتها الوحيدة هي الايمان بنفسها، وهو ـ في رأيه ـ ما يفسر شبه الاجماع من مختلف المدارس الفكرية على الطبيعة التسلطية والاستبدادية للدولة العربية، ويشير الباحث الى أن غليون لا يربط بين الاستبداد وبين الدولة المركزية أو غير المركزية، ولكن ذلك ينتج ـ بالأساس ـ من الرغبة في بناء نظام سياسي يمنع القوى الاجتماعية النازعة الى الاندماج في الدولة من ممارسة ضغطها وحريتها، وهو ما يعني تحولها الى دول ديكتاتورية تعسفية ـ حسب الطويل ـ تلغي التعدد والاختلاف ولا تؤمن به كما أنها لا تطبقه. ويشير الباحث الى الشقة الواسعة التي تفصل بين رؤى برهان غليون لبنية الدولة العربية ورؤى عدد من المفكرين مثل محمد جابر الانصاري وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط ومحمد أركون، وتلك الشقة قائمة على رفض غليون الربط بين واقع الدولة العربية وبين تراثها وبنيتها ومخيالها الاجتماعي وقاعها الجيوسياسي، وهو ما يطلق عليه الباحث خطأ منهجيا بنيويا لدى غليون يفترض دائما وجود علاقة تنافٍ وتنابذ وقطيعة بين البعد التاريخي الأنثروبولوجي للظواهر الاجتماعية والسياسية، ويحاول الباحث تقديم عدد من المقاربات بين هؤلاء المفكرين الذين ذكرهم وبين غليون، ثم يشير الى ان الرجل لم يعبأ كثيرا بالمناهج التي عول عليها وكذلك المناهج التي نبذها، واختار ان يذهب بعيدا في تناوله لأزمة الدولة الوطنية العربية حيث يرى ـ حسب الطويل ـ ان الدولة بدلا من أن تمثل المركز الرئيسي لانضاج القرارات وتجميعها واعادة نشرها وتوزيعها على مجموع القوى الاجتماعية الفاعلة، وبدل أن تقوم بدور العامل الرئيسي على تجاوز التناقضات الاجتماعية أيضا، تشكل بالعكس من ذلك من خلال قراراتها وسياساتها، طرفا في النزاع الاجتماعي أو انعكاسا مباشرا لطرف محلي أو أجنبي! ثم يرصد عبدالسلام الطويل على نحو تفصيلي أول عناصر ضعف الدولة العربية، ويرى أن المصدر الأول لهذا الضعف الاخلاقي والسياسي يرجع الى طبيعتها اللا وطنية ويتمثل ذلك ـ حسب قوله ـ في عجزها عن الاستجابة الفعالة للحاجات والمطالب الاجتماعية، وهذا الضعف هو الذي يفسر ميلها الشديد والمستمر، من منطلق التعويض وايجاد التوازن، الى تطوير القوة المسلحة العسكرية التي يتم توظيفها في اللعبة السياسية.وينتقل الباحث الى أزمة المشروعية في الدولة العربية، ويشير الى موقف برهان غليون من مفهوم المشروعية الذي يتناول عبره تلك الكيانات الهشة التي تسمي دولا، بينما وجودها يعاني من أزمة تحقق حادة، وهي دولة يراها تقوم على العصبيات ولا يمكنها أن تنتج أي تراكم معرفي يخلق منظومة من القيم والتقاليد.ويشير الباحث إلى أن غليون لا يحصر أزمة الدولة العربية في طبيعتها شبه المطلقة فحسب، بل في تمحور السلطة ـ حسب الطويل ـ في خدمة مصالح شديدة الخصوصية والضيق، الأمر الذي جعل من استبداد هذه السلطة استبدادا مضاعفا، كما يتطرق الباحث أيضا الى الطابع القطري للدولة العربية الذي جعل الافراد يتعاملون معها باعتبارها هيكلا إداريا وليس سياسيا.بقي القول أن كتاب الدولة العربية في مهب الريح صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان سلسلة أطروحات جامعية للباحث المغربي عبدالسلام الطويل بمقدمة ضافية للدكتورة نيفين مسعد، ويقع الكتاب في حوالي 485 صفحة من القطع الكبير.
محمود قرني"القدس العربي"

حول العراق والمسألة الكردية صحيفة كوردستان الجديدة– أقليم كوردستان

أجرى اللقاء عدالت عبدالله – مسؤول قسم الدراسات في صحيفة كوردستان الجديدة- العراق – أقليم كوردستان
ولد برهان غليون في مدنية حمص في سوريا وحصل على الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي من جامعة السوربون عام 75، ثم على درجة أخرى للدكتوراه في العلوم الإنسانية عام 82. وهو يعمل أستاذاً في جامعة السوربون، ومديراً لمركز دراسات الشرق المعاصر. صدر له حتى الآن عشرات الكتب باللغتين العربية والفرنسية. ولكي نطلع على آرائه حول تطورات عراق اليوم والعالم العربي والقضية الكردية، أجرينا معه هذا اللقاء لصحيفة كوردستاني نوى اليومية التي يصدرها الإتحاد الوطني الكردستاني، كما وبهدف أن يفيد ما جاء في مضمون اللقاء القارىء العربي أتفقنا مع رئيس تحرير صحيفة الإتحاد الغراء على نشر اللقاء في الإتحاد أيضاً وذلك على حلقات.
3 آب 06

* في مقال لك نَشَرتّه صحيفة الرأي و الذي يحمل عنوان "عندما يصبح الإحتلال تحريراً، نجدك تنحاز ، نوعاً ما ، الى كلمة الإحتلال لوصف التواجد الأجنبي على الأراضي العراقية بينما تَعرض بنفسك لنا في مضمون المقال نفسه الإتجاهات العراقية المختلفة لتسمية ما حدث للعراق مع سقوط النظام السابق و ما بعده، و قد فسرت هذا الإختلاف بأزمة الوطنية،.ولكن لنسأل مجدداً كيف ياترى يمكن لنا أن نُعَرّف الوطنية في وطن معين يسمى العراق ؟!، اليس من الأفضل الآن أن يُبَدَل هذا المفهوم بمفهوم المواطنية كما يذهب اليه العالم الإجتماعي الفرنسي آلان تورين لاسيما بعد أن فقد المفهوم الأول و بسبب سياسات التهجير و التطهير العرقي و الطائفي للبعث كل معانيه لدرجة تمتد آثارها و وقعها الى عهد ما بعد صدام ؟
غليون:

وجود قوات أجنبية تقوم بتسيير شؤون البلاد بدل السلطة المحلية الوطنية هو احتلال، بصرف النظر عن الظروف التي أدت إلى هذا الاحتلال وأهدافه. وقد احتلت معظم البلدان العربية بعد الحرب العالمية الأولى باسم مساعدة الشعوب على تقرير مصيرها. وسمي الاحتلال وصاية في المشرق وحماية في بعض بلدان المغرب. وكان أيضا مدعما بقرارات دولية وتحت رعاية عصبة الأمم التي اندثرت في ما بعد. بالتأكيد ما تعيشه العراق هو احتلال. لكن يمكن القول إن الذي جر هذا الاحتلال على العراق، والتدخل الأمريكي السافر في شؤونه، هو نظام الاستبداد، بسياساته الداخلية القائمة على القهر والقتل وانتهاك حقوق الانسان بصورة جماعية، وبسياساته الخارجية القائمة على الغطرسة والعدوان والاستهتار بالقيم الانسانية. ووجدت فئات عديدة من المجتمع العراقي، وفي مقدمها الأكراد، لكن ليس وحدهم، فالعرب الشيعة في الوضعية نفسها تماما، أن من مصلحتهم التحالف مع الشيطان للخلاص من الظلم والقهر والعدوان، حتى لو كان داخلي الأصل والمصدر.
ولا شك أن سياسات النظام الصدامي الخرقاء قد قضت على روح الوطنية العراقية، أي الشعور بالوحدة وتضامن المصالح والأهداف والغايات بين مكونات الشعب العراقي المذهبية والقومية. وذلك لأن مصالح العديد منها أصبحت تتضارب مع بعضها البعض في مواجهة النظام وتحت سلطته قبل أن ينفق. وكان هو نفسه قد استغل الانقسامات الداخلية ولعب عليها في سبيل البقاء والاستمرار وتخليد السلطة القائمة. فلم يعد هناك مجال للاجماع على رأي ولا موقف.
والأمر مستمر إلى حد كبير حتى الآن. وفي مكان الوطنية العراقية، أي ولاء جميع مكونات الشعب العراقي للعراق الدولة وعملهم المشترك على دعمها وتعزيز مكانتها وسيادتها وازدهارها، أصبح كل طرف يسعى إلى تحقيق أهدافه الحقيقية الخاصة به وتعزيز مصالحه خارجها أو على هامشها. وهكذا أصبحت كردستان العراق في واقع الامر دولة قائمة بذاتها، حتى لو لم تكن معلنة كدولة مستقلة، كما أن هناك مطالب قوية عند الشيعة لتحقيق مشروع مشابه تحت اسم الفيدرالية، أي الاستقلال بشؤون المناطق ذات الأغلبية الشيعية عن المناطق الأخرى وإخضاعها لأهداف ومصائر وسلطات مختلفة أو متميزة عن السلطة المركزية العراقية.
لم يعد هناك ما يوحد العراقيين بشتى أصولهم ومذاهبهم حقيقة، وهذا ما أطلقت عليه اسم أزمة الوطنية العراقية. ولا أعتقد أن في الأفق بعد ما يبشر بظهور مخرج من هذه الأزمة. فليس هناك ما يمكن أن يعيد لحم المكونات الرئيسية للشعب العراقي بعد أن اتجه الكرد بشكل واضح نحو بناء قومية، وما يشبه الدولة القومية الخاصة بهم، والشيعة يطمحون إلى ما يشبه ذلك في الجنوب. ولن يغير عنف بعض المنظمات السنية من هذا التباعد المضطرد بين هذه المكونات تحت تأثير جاذبيات كبرى خارجية. وسوف تبقى الأمور معلقة بانتظار ما سيسفر عنه التحول الكبير الراهن في المنطقة، سواء في ما يتعلق بمصير القومية الكردية، أو بوضع الجمهورية الاسلامية ودورها الإقليمي أيضا. ولا يبدو أن الديمقراطية يمكن أن تشكل مركز إجماع أو أن تسد فراغ الوطنية المنفرطة. وهو ما يفسر استمرار العنف بين الطوائف والجماعات المختلفة من تحت رداء العمليات الارهابية التي تقوم بها عناصر ومجموعات أقلوية لا تمثل بالضرورة إرادة الأغلبية من الطوائف الكبرى.
وبالنسبة للوطنية، كتبت أكثر من مرة أنها ذات وجهين مترابطين ومتفاعلين. الأول هو الحفاظ على السيادة والاستقلال للدولة والمجتمع. ذلك أن دولة خاضعة لغيرها لا يمكن أن تشكل إطارا سياسيا صالحا لانبثاق إرادة شعبية سيدة ومستقلة، وبالتالي لبلورة تشريع مستمد منها يخضع له الجميع طوعا وعن اختيار. وعندما تخضع الدولة لإرادة خارجية يمتنع عليها أن تكون تعبيرا عن إرادة داخلية حقيقية، أي عن إرادة موحدة وبالتالي وطنية. بهذا المعنى الوطنية ترتبط بالسيادة والاستقلال. الوجه الثاني والأهم للوطنية، يتعلق بالمواطنية ويعني تحقيق الدولة شروط الحرية والمساواة والعدالة التي تحول الأفراد من رعايا إلى مواطنين، أي إلى رجال أحرار مسؤولين وقادرين على التعاون في بناء وتسيير الدولة والبلاد التي يعيشون فيها ويقررون بالتساوي مصيرها. وهو ما ينشيء مع الوقت أخوة في الوطنية تضاف إلى الأخوة الدينية أو الأقوامية وتتجاوزها. وكما أن الوطنية لا تنفصل عن المواطنية، لأن السلطة إذا ارتبطت بمصادر خارجية، استبدادية او اجنبية، ولم تصدر مباشرة عن إرادة شعبية، تنزع بالضرورة إلى التمييز بين المواطنين وتقديم بعضهم على بعض، حسب معايير الولاء والخضوع والزبونية. كذلك لا تنفصل المواطنية عن الوطنية، ذلك أن السلطة التي لا تتمتع بالسيادة والاستقلال عن الدول الاجنبية تضطر بالضرورة إلى الانتقاص من حقوق الشعب وحرياته للتغطية على المصالح الخارجية التي تفرض نفسها عليها. وجميع الحكومات العميلة التي تعرفها بلداننا تنحو نحو الديكتاتورية تماما كالحكومات القومية المتطرفة التي تنكر الحقوق والحريات الفردية الأساسية باسم الدفاع عن الحقوق الجماعية في السيادة والقوة والوحدة القومية.
ولعل أصل أزمة الوطنية في البلاد العربية، وفي العديد من البلاد الأخرى أيضا، هو هذا التناقض المصطنع أو المفروض، بسبب ظروف البيئة الإقليمية والاستراتيجيات الدولية، والعداء الناجم عنه، بين قيم الوطنية المرادفة للاستقلال والسيادة العامة وقيم الوطنية المرتبط بتنمية الحقوق والحريات الفردية والجماعية داخل الدولة نفسها. لكن يبدو لي أن ما يعيشه المشرق العربي من تحديات خارجية كبرى، بسبب وجود إسرائيل، وتعلق الدول الكبرى بأمنها وسلامتها، وكذلك بسبب وجود أهم مصادر الطاقة التي يحتاجها العالم الصناعي فيها، يؤسس لتناقض لا يكاد يمكن تجاوزه، ولهوة يصعب ردمها بين هذين المطلبين والبرنامجين. وهو وضع نادر العثور على مثيل له في مناطق أخرى من العالم. ففي العديد منها يمكن بسهولة التوفيق بين مطالب الاستقلال ومطالب التنمية الداخلية، الاقتصادية والسياسية والقانونية. بل إن فتح آفاق هذه التنمية يجعل من السهل على الحكومات التساهل في مسألة السيادة والاستقلال، وتجاوز مفاهيمهما التقليدية، ما دامت الحصيلة تحقيق مصالح أكبر مادية وسياسية للسكان. أما في البلدان العربية فلا تعني المساومة على الاستقلال فتحا لآفاق تعاون أكبر مع الدول الصناعية، ولا فرصا أكبر للتقدم والتنمية البشرية، ولكنها تتطابق مع القبول بالأمر الواقع، أي الاستسلام لأجندة السيطرة الأجنبية وما تعنيه من تثبيت للوضع القائم في فلسطين، أي للاحتلال والاستعمار الاستيطاني التوسعي، وللسيطرة السياسية والاستراتيجية الكاملة على مصير المنطقة. وهو ما لا يمكن أن ينسجم مع أي إرادة بناء دولة قانونية وسياسية تعكس الحد الادنى من إرادة مجتمعها ومصالحه. من هنا تبدو القضية الوطنية، في مطالبها الخارجية، في المشرق العربي، محددة وجوهرية، لا يمكن تجاوزها في أي محاولة لبناء دولة قانونية تحتاج للحد الأدنى من الكفاءة والشرعية والصدقية. وهو ما يفسر حساسية الشعوب العربية لهذا الوجه الخارجي من الوطنية ويسهل على الحكام الطغاة أيضا إمكانية استغلال هذه الشعوب وتركيعها واغتصاب حقوقها وحرياتها الأساسية، باسم الدفاع عن الاستقلال والسيادة والمصالح الوطنية العليا.

سؤال
* كل المؤشرات و المعطيات الحالية و التجربة التي مر بها العراق بعد زوال النظام السابق حتى يومنا هذا، تحيلنا مجدداً الى التفكير في إيجاد صيغ أخرى بديلة لتنظيم العراق سياسياً و إدارياً و السيطرة الأمنية عليه، و كلما فكرنا في ذلك لانجد حلاً الإ القبول بنظام فدرالي، أي فدرلنة البلاد، ولكن ثمة مخاوف عراقية، أو بتعبير آخر مخاوف سنية ( و أعتذر على طيفنة مكونات الشعب العراقي) من مثل هذا النظام، لأن السنة يعتبرونه تمهيد لتقسيم العراق، ما هو منظورك لقيام نظام فدرالي في العراق و صحة المخاوف التي تُظّهَر تجاهه؟

غليون:

ليس اسم الفيدرالية أو مفهومها بالمطلق هو الذي يدفع إلى الاختلاف ويثير مشاكل، ولكن ما تنطوي عليه الفكرة وتشير إليه بالنسبة لكل من الاطراف المنخرطة في النزاع في سياق الوضع العراقي الخصوصي الراهن. فبينما تعني الفدرالية تحرير الأطراف الكردية والشيعية من التزاماتها العميقة تجاه الدولة العراقية المركزية، وترك الآفاق مفتوحة أمام احتمالات اندماجها في وحدات سياسية أخرى، أو تعزيز ارتباطها بها، في كردستان تركيا وغيرها بالنسبة للأكراد، وايران الاسلامية بالنسبة للشيعة، تعني بالنسبة للسنة تهميشا نهائيا في المعادلة العراقية. فالفدرالية تغطي مشاريع مختلفة كليا. وبينما يستطيع الأكراد الرهان، وهو ما يفعلونه بالتاكيد، على مشروع قومي بتجاوز العراق أو يقف إلى جانبه، ولا يهتمون كثيرا نظرا لهذا المشروع، بمستقبل العراق كوحدة سياسية، وكما يستطيع الشيعة الرهان على مشروع الاستقلال الذاتي للمناطق الشيعية المرتبط بعلاقات وثيقة مع ايران الدولة الكبرى، وما يقدمه ذلك من منافع وفوائد مادية واستراتيجية، لا يملك السنة مشروعا آخر في العراق سوى العراق المركزي نفسه، أي العراق القديم الذي هو اليوم في طريقه للانحلال. ولذلك ما كان بإمكانهم إلا أن يجعلوا من الحفاظ على الدولة المركزية ورفض الفيدرالية مشروعهم الخاص للإبقاء على العراق والبقاء في قلب العراق وتكوين نواته الأساسية.
باختصار الفدرالية لا تطرح هنا كوسيلة تقنية لتنظيم شؤون مجتمع عراقي وطني موحد ومستقر يتحول من المركزية إلى اللامركزية، كما هو حاصل في العديد من المجتمعات الحديثة، وكما ينبغي أن يحصل في المجتمعات العربية أيضا، لإعطاء المناطق والمحليات سلطات أوسع وإمكانيات أكبر لتحقيق التنمية المحلية، ولكنها تطرح بالعكس كبديل عن العراق المركزي، وكتغطية في الواقع على انحلاله وانفصال مكوناته وانكسار لحمته الوطنية. لذلك تبدو فكرة الفدرالية وكأنها تخفي مشروع تقسيم العراق وإنهائه. وفي الظروف الراهنة ليس هناك أي شك في أن الفيدرالية الكاملة ستعمل على تسريع تجزئة العراق وتفتيته.
لذلك أنا أعتقد أنه إذا كان من المشروع والممكن تطبيق الفكرة في ما يتعلق بالمنطقة الكردية باعتبارها تضم قومية متميزة عن بقية مناطق العراق، بلغتها الخاصة وثقافتها ونمط حياة سكانها، فلا شيء يمكن أن يبرر نظاما فدراليا في المناطق العربية الأخرى سوى التسليم بالقطيعة الطائفية والقبول بمعايير التمايزات المذهبية. وإذا دخل العراق في هذا الاعتبار لن يكون هناك إمكانية في المستقبل لبناء أي دولة وطنية، أي مدنية، تفترض التعامل مع المجتمع كأفراد مواطنين، متساوين في الحقوق والواجبات، لا كجماعات طائفية أو موالين وتابعين لمذهب أو عشيرة. فلا تستقيم الطائفية مع الدولة، ولا يمكن أن تعيش معها. فإما أن تكون الأسبقية لعلاقة الولاء لزعيم الطائفة والعشيرة، او يكون الخضوع لقانون واحد يقف أمامه الجميع، زعيم العشيرة وخادمها، متساوين وأحرار. فالدولة هي نقيض الطائفة من حيث هي تنظيم للأفراد حسب مباديء الحرية والمسؤولية الفردية وفصل السلطات ومحاسبة المسؤولين ومساءلتهم. أما الطائفية فهي تعني الولاء للزعيم الروحي والتسليم له والطاعة لمن والاه. ولا يمكن أن يتطور في حجرها أي مفهوم للحرية الفردية الفكرية والسياسية، ولا للمسؤولية الوطنية، العامة والخاصة، ولا للقانون والمساواة بين الأفراد والمحاسبة، على قاعدة العمل والانتاج والكفاءة.

* نلاحظ في كتابات العديد من المثقفين العراقيين و الباحثين لغة من التشاؤم إزاء مستقبل العراق، إذ أغلبهم لا يرون في ثقافة المجتمع العراقي، كإمتداد طبيعي للمجتمعات العربية و الإسلامية، عناصر و بنى و تجارب معينة تساعد في تُحول العراق الى مجتمع ديمقراطي- حداثي التفكير و التدبير ، أي مجتمع عقلاني خالِ من النزعات الطائفية و القبلية/العشائرية الضيقة التي تتحكم الآن كما في السابق بقيم المجتمع سياسياً و إجتماعياً و إقتصادياً و حتى سايكولوجياً، هل هذا يعني أن الديمقراطية و الحداثة الفكرية/العقلية و القيم الأخرى التي ساعدت مجتمعات كثيرة في تحولها التاريخي و تجاوز أزماتها و ظلماتها و بالتالي ضمان تقدمها و تحضرها، أصبحت مجرد حلم، أم أن كل هذا مرهون بوعينا بالذات و التاريخ و الواقع و بإرادتنا على التغيير؟

غليون:
من الواضح أننا لسنا اليوم أمام عراق معافى ومتحرر من الصراعات والتناقضات والنزاعات والأوهام الدينية والقومية والقبلية، ولكن أمام عراق خرج من تحت نير الاستبداد مثخنا ومدمى، وتعرض فيه جميع السكان، بصرف النظر عن أصولهم وطوائفهم، لرضات وجروح وتنكيل وأعمال قتل بربرية، أفقدتهم ثقتهم واحدهم بالآخر، وقضت على أي معنى لتواجدهم كمجموعة سياسية، أي أفقدتهم ايمانهم بأنفسهم كجماعة وطنية. ولا يختلف هذا كثيرا عما حصل ويحصل في بعض الدول العربية الأخرى. وهذا ما يفسر مشاعر التشاؤم واليأس، الذي يتجلى أيضا في عمليات الإرهاب الإجرامية التي يقوم بها، من دون شك، قطاع من العراقيين الذين فقدوا الأمل بكل شيء، وسلموا قيادتهم لأصحاب المشاريع الإرهابية الدولية، أو استسلموا لمشاعر الانتقام والموت من دون تردد.
لكن لا ينبغي لهذا الوضع الاستثنائي الكارثي أن ينسينا بالفعل وحدة العراقيين العميقة، التي تأسست في الحقبة الوطنية، ولا أن يفقدنا الأمل بقدرة العراق على الانبثاق من رماده، كالكثير من المجتمعات التي خربت بنيانها الحروب الداخلية والخارجية ثم لم تلبث أن خرجت من تحت الأنقاض أكثر قوة وحيوية ووحدة. لكن لن يحصل هذا بين يوم وليلة. ثم إن القوى الخارجية التي تتلاعب بمصير العراق والمنطقة لا تسهل شروط انبعاث العراق من أنقاضه، وتغلبه على جروحه وأحقاده. إنما ليس هناك أي شك في أن إمكان ولادة العراق الجديد قائمة وموجودة. ويكفي من أجل ذلك أن يدرك الجميع، أولئك المراهنين على مستقبل خارج العراق، أو على أشلائه، أو على مساعدات خارجية تعيد لهم عراقهم الذي مات وانتهى، أنه لا مستقبل لهم جميعا من دون العراق، وليس هناك بديل أفضل له في الأفق المنظور سوى التشتت والاحتلال وربما الاقتتال، وأن المساعدات الخارجية التي تبدو نزيهة وحريصة على مستقبل العراق، لا تسعى لنجدة العراق بقدر ما توظف فيه لتحقيق اهدافها الخاصة، أقول يكفي وصول العراقيين إلى مثل هذا الإدراك حتى يستعيد العراق حياته وثقته بنفسه وقدرته على التقدم والتفوق والعطاء. فالعراق بلد كبير وغني بكل شيء، وغني بتنوع سكانه قبل أي أن يكون غنيا بأي موارد أخرى، وهي وفيرة. إنما كي نصل إلى هذا الطور، لا بد من أن تزول الأوهام الكبيرة التي ولدت في العقود الماضية كرد فعل على الطغيان والديكتاتورية وفقدان الثقة بالنفس، وأن يدرك جميع العراقيين أن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم مرتبط بالاستثمار في العراق وتنميته وتطويره، وليس بأي مشروع آخر، بصرف النظر عن أصولهم القومية والمذهبية. بل إن نجاحهم في إنقاذ العراق وتخليصه من كوابيسه وتحريره من توتراته العنيفة هو مدخلهم الرئيسي للاستفادة من وشائج القربي التي تربطهم بما هو وراءه وخارجه. ليس هناك بديل عن عراقي ديمقراطي بالمعنى الكامل للكلمة، أي وطني ومواطني معا، بعيد عن الوصايات الأجنبية وخال من كل أشكال الهيمنة الأقوامية والمذهبية.

* لنتحدث الآن عن الأكراد و دورهم في معادلات المنطقة و مستقبل دول إقليمية قُسَمت عليها هذه القومية..و لنذكر أولاً أنك من أشد المدافعين عن الديمقراطية و حقوق الإنسان، و نفهم إهتمامك الكبير أيضاً بمصير المجتمعات العربية و الوطن العربي، لدرجة أحياناً تَظهر لنا بمظهر مناضل فكري يبحث نظرياً و من خلال أبحاث و كتب و دراسات عن بنية المشاكل و الأزمات و التحديات التي يواجهها العالم العربي لتقدم اليه فيما بعد أفكاراً و طروحات و مفاهيم و إنتقادات أملاً منك في تحسين أحواله أو مراجعة أوضاعه أو معالجة أزماته أو مساعدة نهوضه أو بناء حداثته غير التقليدية -الرثة ، هل يمكن أن تقدم لنا إذاً وجهة نظر حول سبل تعامل العالم العربي القويم ،لا سيما الدولتين العربيتين العراق و سوريا، مع الملف الكوردي، و برأيك، ماهي القواسم المشتركة التي يمكن أن توحد صفوف الكورد و العرب في المنطقة و تقطع الطريق أمام أي إستغلال أجنبي للقضية الكوردية ؟

غليون:
معك حق أن تحصر المسألة في علاقة الكرد بالعرب بسورية والعراق، فهي ليست مطروحة في العالم العربي خارجهما. ويتمتع الأكراد بسمعة طيبة جدا ويحظون بعطف كبير في أوساط الرأي العام العربي عموما، بقدر ما يرتبط اسم صلاح الدين الأيوبي بهم في مخيلة العرب والمسلمين عموما. ويكاد من الصعب الحديث عن مسألة كردبة في معظم أوساط الرأي العام العربي، حتى في بلد كسورية اتبعت فيه الحكومة البعثية، في عقود ماضية سياسات إجرامية بحق الساكنة الكردية. فالأكراد لا يظهرون في دمشق والمدن السورية الأخرى كما لو كانوا جسما غريبا او متميزا عن الجسم الاجتماعي العام، ولا ينظر إليهم على أنهم أقلية متميزة عن بقية أبناء الشعب السوري.
ذكرت ذلك لأقول إن السياسات العدوانية التي طبقها نظام البعث في العراق وسورية، وكان مضمونها القضاء على الهوية الكردية، أو محاصرتها بوسائل مختلفة، عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لا تنبع من أي فكرة سلبية تسود أوساط الرأي العام العربي عن الأكراد، وليس لها أي جذور او مرتكزات في الثقافة العربية، لا في ا لثقافة القديمة التي يغلب عليها الطابع الاسلامي الديني بالتاكيد، ولا في الثقافة الحديثة التي تكونت في عصر النهضة والتي كانت تدعو إلى الحرية والعدالة والمساواة والأخوة بين جميع الشعوب الاسلامية والعربية.
لا بل إن من الصعب أن تجد جذورا لها في الفكر القومي العربي الحديث، سواء ما أنتجه المفكرون القوميون مثل ساطع الحصري أو قسطنطين زريق أو غيرهما، او ما ارتبط بأفكار وممارسات جمال عبد الناصر الذي يمثل نموذج السياسة القومية العربية وتجسيدها، في العصر الحديث، وكان صديقا كبيرا للشعب والقضية الكرديتين معا. ولن تجد أي وثيقة أو نص لأي مفكر عربي يستحق هذا الاسم تشير إلى الأكراد بسلبية أو تتساهل مع حقوقهم الطبيعية، بما في ذلك مفكري حزب البعث نفسه الذي ارتكبت المجازر والاعتداءات تجاه الأكراد في ظل حكمه وبغطاء منه.
ويحق لنا أن نتساءل، إذا لم يكن القضاء على الهوية الكردية وحصارها مطلبا شعبيا، أو لم يكن له أساس أو رصيد عند الرأي العام السوري والعراقي، وكان من الصعب ايجاد نصوص ذات صدقية تبرر للفاعلين فعلهم، وتجعل اضطهاد الأكراد عملا يجلب الشعبية، فمن أين جاءت سياسات الاضطهاد والظلم هذه وعلى أي أساس انبت؟
ينبغي القول أولا إن ما حصل بالنسبة للأكراد هو ثمرة تفكير وتخطيط مجموعات من العكسريين وأجهزة الأمن والمخابرات، محدودي الأفق والثقافة والضمير معا، سيطروا على مقدرات البلاد في الدولتين، واستخدموها لتحقيق مآرب شخصية، وتخليد زعامات وهمية. ومارسوا في سبيل تحقيق أهدافهم وتعظيم زعمائهم وتخليد إنجازاتهم سياسات إجرامية لم يكن ضحيتها الأكراد فقط وإنما جميع المكونات الوطنية والاجتماعية. وقادوا في النهاية الدول التي حكموها إلى الخراب والدمار. وربما كان الدافع الرئيسي لهم في عملهم هذا هو التعصب الناجم عن الجهل وضيق الأفق الذي جعلهم يفهمون القومية كحركة إقصائية، على غرار ما حصل ويحصل في البلدان المحيطة بهم، في تركيا وايران الشاه في ذلك الوقت، وغرار ما حصل مع القوميين المتطرفيين المسمين باليعاقبة في فرنسا، في القرن التاسع عشر، والذي جعل الدولة تمارس سياسة محو منهجي للثقافات واللغات غير الرسمية، على أمل الوصول إلى أمة أكثر توحدا وتجانسا وبالتالي قوة. ولا شك أيضا أن ما شجع على ذلك هو انسداد أفق التحولات التي ارتبطت بحركة القومية العربية نفسها، وإخفاق عملية التوحيد والعجز عن مواجهة إسرائيل. فقد بدا إخضاع الأكراد وتجريدهم إذا أمكن من هويتهم هو أحد الانجازات التي يمكن للسلطات الفاشلة أن تبيعها لرأيها العام باسم القومية أو كبضاعة قومية.
لكن ذلك لا يعني أن لا مسؤولية على المثقفين والمفكرين والقادة السياسيين في ذلك. ولعل مصدر الخطأ لا يكمن في هذا المجال في ما كتب أو نشر أو قيل ضد الأكراد كثقافة وشعب، ولكن في ما لم يقل وما لم يناقش في فكرنا القومي، أعني مشكلة الأٌقليات والجماعات القومية المتميزة عموما. فقد سيطرت فكرة الأمة العربية المعرضة للاضطهاد، او المضطهدة من قبل الدول الاستعمارية الغربية، على الأذهان إلى درجة منعت المفكرين والمثقفين والسياسيين من إمكانية النظر إلى ما يمكن أن يحصل من إضطهاد داخل هذه الأمة نفسها، ليس إزاء الأقليات الدينية والقومية فحسب، ولكن إزاء الفئات الاجتماعية وأصحاب المصالح كلهم. فلم يعد هناك احترام لأي حقوق خاصة، لا حقوق النقابات ولا الجماعات الدينية ولا القومية ولا لحقوق الأفراد انفسهم. لقد جبت الحقوق القومية، أي سيطرة الدولة والنظام القومي المتماهي معها، جميع الحقوق الأخرى.
من هذا الفراغ الخطير في النظرية القومية التي عالجت مسألة الاستعمار والأمبريالية ولم تعالج مسألة الحريات والحقوق الجماعية والفردية، أي حقوق الجماعات والأفراد، ومن الفراغ الخطير في السياسة القومية التي لم تلحظ العلاقة بين هذه الحقوق وقومية الدولة واستقلالها وسيادتها، دخل جميع الطامحين والمتسلقين على شجرة القومية وشعاراتها للحصول على مواقع سياسية لا يستحقونها، وتكوين أرصدة معنوية قومية. وبسبب هذا الفراغ لم يجدوا امامهم من يردعهم في أوساط المثقفين والرأي العام ويقول لهم إنهم بذلك يخونون الأمانة ويدمرون الأساس التي تقوم عليه الدولة نفسها. بل إن هذا الغياب قد منع الرأي العام من أن يرى ما يحصل، وهو يحصل أمامه، أي أن يفهمه ويكشف عن معناه من حيث هو اضطهاد وقهر غير مبرر وغير مقبول، لا أن يرى فيه إجراءات أمنية عادية او عقوبات رادعة ضد من غامر بالتمرد على السلطة ومد يده إلى الدول الأجنبية.
كل هذا يعيدنا إلى مأساة القومية التي تفصل بين الوطنية كدفاع ضد الهيمنة الخارجية والوطنية كتثبيت للحقوق والحريات الأساسية ووضع الضمانات الدستورية لاحترامها وممارستها.
الآن تغير الوضع كثيرا. فقد حصل الأكراد في العراق على استقلال ذاتي حقيقي. ولهم برلمانهم الخاص وحياتهم السياسية والثقافية المتميزة والمستقلة. وهم يشاركون بقوة بالحكومة المركزية حيث يحتل زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني منصب رئيس الجمهورية، إلى جانب مناصب وزارية أخرى يحتلها سياسيون أكراد. ولن يكون من الممكن العودة عما تحقق في العراق. وليس هناك أي خطر يتهدد هذه الانجازات. وهذه أرضية صالحة لنقل العلاقات العربية الكردية من ساحة الصراع او التنافس إلى ساحة التعاون والشراكة الوطنية، في العراق وخارجه: الشراكة لبناء الديمقراطية والأمن وتحقيق التنمية البشرية وتحسين شروط حياة السكان ورفع مستويات معيشتهم.
أما في سورية فلا يزال الامر معلقا. لأن نظام الحكم الأمني والمخابراتي الذي كان في أساس تفجير المشكلة الكردية لا يزال لم يتغير بعد. ولا تزال المشاكل الكبيرة التي يعاني منها الاكراد، وفي مقدمها الاعتراف بحقوقهم الثقافية وإعادة الجنسية إلى جميع من حرموا منها من دون حق وبطريقة لا شرعية، وإيلاء منظقتهم ما تستحقه من عناية واهتمام في مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، قائمة كما هي منذ عدة عقود. لكن الأكراد يشكلون منذ الآن مكونا أساسيا من مكونات المعارضة الديمقراطية السورية، وهم شركاء أساسيين في مشروع التغيير الديمقراطي السوري، وبالتالي في بناء النظام الجديد الذي سيولد منه. وبالإضافة إلى ما يضمنه هذا النظام، أو ينبغي أن يضمنه بالتعريف، من حقوق متساوية لجميع مواطني سورية من عرب وكرد وغيرهم، لن يطرح الاعتراف بحقوق الأكراد الجماعية أي إشكال على أي حكم ديمقراطي مواطني قادم. وليس هناك شك في أن الأكراد السوريين سوف يحصلون على جميع حقوقهم من دون تفريط، وليس بين قطاعات ا لرأي العام السوري من ينكر هذه الحقوق أو يخشى تحقيقها، باستثناء حفنة من أحفاد صاحب مشروع الحزام الأخضر السيء الذكر الذي أصبح اليوم نكرة حتى داخل حزبه الحاكم نفسه.

* كيف تنظر الى أكراد سوريا، أنك توقعت ذات مرة أن يلعب الأكراد دوراً نشطاً في أي تغيير سياسي مقبل في سوريا، ماهي طبيعة هذا الدور و كيف يلتقي مع إتجاهات أخرى وطنية معارضة لسياسات سوريا الداخلية التي تنتقدها كثيراً و لاتجد فيها ما تبشر بتحول سوريا الى نظام ديمقراطي أو على الأقل تمهيد الطريق للتحول الديمقراطي ، و كيف تُقَيّم دور المعارضة الكوردية في سوريا و نقاط ضعفها و قوتها؟

غليون:
بسبب ما يعيشه الشعب الكردي عامة من نهضة قومية، احتفظ الأكراد السوريون، بنشاطية سياسية أقوى بكثير مما يسم بقية مواطنيهم، سواء ما تعلق بانتشار الممارسة السياسية أو القدرة على الحشد الجماهيري أو بارتفاع الروح المعنوية العامة للناشطين السياسيين. وقد سمح هذا المناخ للأكراد بالتحرك بديناميكية أكبر، وجعل منهم أحد أهم القوى المعارضة في سورية، إلى جانب قوى المعارضة الديمقراطية الأخرى والقوى الاسلامية. وليس من الصعب ملاحظة حضورهم الكبير في نشاطات هذه المعارضة وداخل هيئاتها الإتلافية أيضا، وبشكل خاص في إئتلاف إعلان دمشق. وبسبب هذه النشاطية الواضحة، تعرض المكون الكردي في السنوات الثلاث الماضية للقمع والتنكيل أكثر من المكونات الاخرى، خاصة في صفوف الشباب، بدءا بإطلاق النار على المتظاهرين وانتهاءا بفصل العديد من الطلبة من جامعاتهم مرورا باتساع دائرة الاعتقالات والتعقبات التعسفية للناشطين.
هذه الحيوية السياسية التي تسم المنطقة الكردية تشكل من دون شك نقطة قوة أساسية، وتفتح للنخبة السياسية الكردية السورية أفقا واسعا للمشاركة في الحركة الديمقراطية وممارسة نفوذ كبير فيها. لكن هذا لا ينبغي بالتاكيد أن يخفي نقاط ضعف هذه المعارضة أيضا، في شقيها الكردي والعربي معا. أعني التشتت والانقسام وتعدد الأحزاب والتنظيمات الصغيرة وعدم القدرة على العمل الجماعي الثابت والمستمر. وهو ما يفسر سيطرة الزعامات الشخصية على حساب العلاقات الموضوعية، وصعوبة التغلب على روح الخصومة والتنافس والنزاع بين الأفراد على احتلال المناصب. وهو ما يمنع من تطور روح القيادة كالتزام ومسؤولية، بدل أن تكون تكريسا لزعامات وتشريفا لشخصيات وتأكيدا لولاءات عائلية أو قبلية أو مذهبية.

ولعل السبب الأهم لهذا الوضع ضعف الثقافة السياسية عموما في بلادنا، وسيطرة نموذج العلاقات الشخصية وروح الولاء والانتماء للأفراد أكثر من الوفاء للمباديء والقواعد والقيم والقوانين. وهو ما يرتب على المفكرين والمثقفين ومسؤولي هيئات المجتمع المدني مسؤوليات كبيرة، في إطار إعادة صوغ الوعي وأساليب العمل العمومي، الجمعي والوطني، في السنوات القليلة القادمة. لكن لا ينبغي التوقف كثيرا عند ذلك. فليس لدي أي شك في أن المجتمعات لا تستعيد حيويتها واتساقها ووحدة تفكيرها ونجاعة أساليب عملها وتنظيمها إلا من خلال الممارسة العملية. ففي كفاحها من أجل إصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية، وعملها على تجديد قواعد العمل الوطني وأنظمته معا، ستجد حركات المعارضة السورية نفسها مدفوعة لا محالة إلى إصلاح أوضاعها الداخلية وتجديد أسس تفكيرها وعملها، في الوقت نفسه.