الاتحاد 13 سبتمبر 06
قلت في مقال سابق أن الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة قد طرحت أسئلة، أو أعادت طرح أسئلة مصيرية على الفكر والسياسة العربيين، سيكون من الصعب علينا التحرك مستقبلا في أي اتجاه قبل الإجابة عنها. وفي مقدمة هذه الأسئلة سؤال العرب المستمر منذ أكثر من قرن، والذي شكل ضعف الجواب، أو الأجوبة المبسطة والسطحية عنه، مصدرا لجميع الانقسامات والتوترات داخل الحركة الوطنية العربية ولا يزال. وهو الذي أدان غياب النقاش الجدي والمعمق فيه تاريخنا الحديث بالتذبذب الذي لا ينتهي بين الوطنية الشعبوية الانفعالية والتبعية الخانعة، بين التمرد الطائش والعمل في خدمة الاستراتيجيات الأجنبية. وأعني سؤال: لمن الأولوية في تركيز الجهد الوطني؟ للمقاومة والتصدي للاحتلال والهيمنة الأجنبية، في سبيل تحرير الإرادة الشعبية، أم هي لبناء الدولة وتطوير أدائها كأداة قانونية سياسية وتحقيق التنمية الانسانية، الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والتقنية، وبالتالي الاندراج في حضارة العصر وتمثل أفكاره وقيمه وأخلاقياته؟
وعلى أي واحدة من هاتين الاستراتيجيتين ينبغي الرهان؟ على الثورة أو، كما نقول اليوم، المقاومة، وما يمكن أن تولده من أثر على إرادة الخصم، الغربي والاسرائيلي معا، تدفعه إلى التراجع والتنازل عن الأرض ومشاريع الهيمنة الإقليمية، أم على الدولة وما ينجم عن تطويرها وتحسين شروط عملها وأدائها بالتعاون مع الدول الكبرى، والتفاهم معها، من إنقلاب في شروط حياة المجتمعات العربية، يجعلها أكثر قدرة في المستقبل على التعامل الندي مع الدول الأخرى القوية، الإقليمية والعالمية؟ وهل هناك أمل في أن نحقق عن طريق المقاومة، والمواجهة الجذرية للهيمنة الغربية، بأشكالها المختلفة، كخيار أول، من الأهداف المادية والسياسية، أكثر مما نحققه عن طريق تحسين عمل الدولة وانخراطنا في المنظومة العالمية التي تؤطرها، والقبول بمعايير عملها ووسائلها السياسية والقانونية، أو ما يسمى بالشرعية الدولية، كما يقول أصحاب خيار الدولة والنظام والتفاهم والتسوية مع الدول الكبرى أو النظام الدولي؟ والعكس أيضا صحيح. فهل تساعدنا الدولة بشكل أكبر على تحرير مجتمعاتنا من التأخر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني والعلمي والأخلاقي، من المقاومة التي تبعث بالضرورة، بسبب المواجهة وروح التحدي، قيم البطولة والتضحية والفداء والتجدد الحضاري؟ وهل تقدم الدولة فرصا أكبر للأمة كي تتجاوز انقساماتها الطائفية والمذهبية والقبلية والاجتماعية، وبالتالي كي تجدد شبابها وحيويتها وتستعيد لحمتها الوطنية الممزقة، كما يقول أنصار خط المقاومة، التي تضع الجميع أمام عدو واحد وهدف واحد ؟ وهل يشكل التنظيم العقلاني والقانوني الذي تجسده الدولة، ويشكل غاية وجودها، لمصالح البشر وحرياتهم وحقوقهم وواجباتهم، منهجا أفضل لتحقيق التقدم المادي والأخلاقي، وبالتالي الارتقاء إلى مستوى المجتمعات المتقدمة والتعامل بندية معها، والاندراج في التاريخ العالمي للحضارة الراهنة، من المنهج الذي تمثله المقاومة، بما يفجره من عاطفة وطنية والتزام عميق بالجماعة وولاء لها وتماه جماعي معها يؤسس لوحدة الأمة واستقلال إرادتها، ويزيد من طموحها لارتقاء معارج التقدم ومباراة الأمم الأخرى في الوصول إلى أقصى درجات التقدم والرقي الحضاري؟
هذه ليست المرة الأولى التي يطرح فيها هذا السؤال، كما يمكن لبعضنا أن يعتقد. فقد طرح منذ بداية دخول المجتمعات العربية في الحقبة الحديثة، وما رافق هذا الدخول من اختلاط بين بناء دولة حديثة لكن تابعة، وفي سياق التبعية أيضا، وصراع ضد الهيمنة الأجنبية وفي سبيل الاستقلال وتحقيق السيادة والحفاظ على الهوية. ونجد أصداءا كبرى لهذا السؤال في موقف محمد عبده من الثورة العرابية التي وجد فيها توريطا للأمة في معركة كبرى قبل أن تنضج شروطها وفي الاتهامات التي ستوجه لهذا المصلح الكبير أيضا بالمشاركة في تطبيق برنامج إصلاح إدارة كرومر البريطانية أو على الأقل القبول بالعمل في ظلها.
وكما هو واضح، لا يتعلق السؤال المطروح بانقسامات عقائدية ولا دينية وإنما بإمكانية بلورة أجندة وطنية مقبولة من الجميع. وهو سؤال تكاد الوطنية العربية تنفرد وحدها في طرحه بطريقة درامية والفشل في ايجاد رد ايجابي موحدعليه.
والسؤال مهم لما يتوقف عليه من اختيارات وما يربتط به من استثمارات معنوية وسياسية ومادية. إذ تفترض عملية بناء الدولة وتطوير قدراتها والاستفادة منها خيارات مختلفة كليا عن خيارات المقاومة. فلا تستخدم كلاهما الأساليب نفسها ولا الوسائل ذاتها، وليس لهما غايات واحدة. فخيار الدولة يفترض بالضرورة القبول بسياسة الممكن، والعمل على تطوير أحوال المجتمعات كخطوة ضرورية على طريق تحقيق استقلالها، والمراهنة في هذا التطوير على ترقية النظم القانونية ومناهج العمل السياسية والتربوية التي لا غنى عنها في تحسين شروط حياة البشر المادية والارتقاء بكفاءات الأفراد السياسية والفكرية. ولا مجال لبناء الدولة وتطويرها والاستفادة منها من دون الانخراط في المنظومة الدولية، والاندماج فيها، والقبول بالعمل حسب معاييرها القانونية. فالدولة جزء من نظام عالمي لا تستقيم ولا تظهر نجاعتها إلا بقدر ما تتفاعل معه وتحترم قواعد عمله وتخضع لمحدداته، أي تأخذ منه وتعطيه. وهو ما يطلق عليه اسم العمل ضمن الشرعية الدولية اليوم. فلا توجد دولة خارج منظومة النظام الدولي، ولا تستمر من دون مراعاة القواعد التي تحكم هذا النظام وتضبط سلوك أعضائه. فلا توجد الدولة منفلتة من أي قيد خارجي وداخلي، ولا تقوم في فراغ. وارتباطها بالنظام الدولي هو شرط لتطورها وتطور أدائها معا، بقدر ما يرتبط هذا التطور والتطوير بنمو التعاون والشراكة الاقتصادية والثقافية والعلمية والتقنية بين الدول وعبرها بين الشعوب والمجتمعات. الدولة أداة لتنظيم علاقات الأفراد في ما بينهم في إطار تنظيم العلاقات الدولية بين المجتمعات نفسها. فالقانون المحلي له أساسه في قواعد العلاقات الدولية التي تنص على السيادة، والعكس صحيح أيضا.
وبالعكس، تفترض الثورة أو المقاومة نقض الشرعية القائمة لتحقيق ما يبدو مستحيل التحقيق على قاعدتها، أي تكسير النظام، الداخلي أو الدولي، أو تغييره وتعديله، لفتح آفاق جديدة وانتزاع حقوق مشروعة وجوهرية لا تسمح طبيعته بتأمينها أو تحول دون تحقيقها بصورة طبيعية. وهي لا تركز على الارتقاء بشروط الحياة القانونية والتربوية والأخلاقية بقدر ما تراهن على تعبئة العصبية الوطنية أو الدينية لقلب السلطة أو السيطرة القائمة. ولا تهتم ببناء المؤسسات والأطر الإدارية التنظيمية العقلانية بقدر ما تركز استثماراتها في بناء الهوية، وتأكيد الخصوصية، وتعميق الشعور بالولاء للجماعة الثورية والمقاومة. فليس هناك في نظرها أفضل من إبراز التمايز والانفصال والاستقلال عن الآخر، بل وتحويل هذا الأخير إلى عدو، سبيلا لتوليد الطاقات الكفاحية المتجددة الضرورية لكسر إرادة الخصم وتعظيم فرص النجاح وضمانها. ولا تتردد في سبيل الوصول إلى هذا الهدف في التضحية بشيء، ماديا كان أم معنويا، مما يعتبره أنصار الدولة بنى تحتية أو مرافق عامة أو مؤسسات ضرورية لسير الحياة المدنية أو موارد اقتصادية، بما في ذلك أحيانا زوال الدولة التابعة او ما يشبه الدولة أو تخريب وسائل الانتاج المادية والثقافية. فالثورة مثل المقاومة لا تهتم إلا بالمصائر الجماعية. أما تحسين شروط حياة الفرد الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية فليست من أولوياتها أو من الغايات الرئيسية لها. إن غايتها تحقيق أغراض عمومية وجامعة، تشكل شرطا لأي حياة فردية صالحة، وفي مقدمها، استقلال الجماعة والحفاظ على الهوية أو التخلص من السيطرة والوصاية الأجنبية. ولا تفيد الوسائل القانونية والإدارية والتقنية التي تتبعها الدولة لتحقيق أهدافها في تحقيق غايات المقاومة وأهدافها. فهدف القوانين تكريس الأمر الواقع، الدولي والاجتماعي، بينما تغيير هذا الأمر هو الذي يشكل مبرر وجود المقاومة ومطلبها الأول. لذلك كثيرا ما تتهم المقاومات من قبل خصومها وأعدائها معا بالارهاب لأنها تقف بالتعريف ضد الأمر القائم، وبالتالي ضد القانون السياسي والشرعي الذي يحفظ هذا الأمر القائم ويساعد على استمراره.
فما الذي يضمن بالفعل، بشكل أفضل، تجديد المجتمعات العربية الخربة والمفوتة والمنحلة، ويعيد لها الحيوية ويجعل منها مجتمعات منتجة وفاعلة ومبدعة، تعامل بندية من قبل المجتمعات العالمية الأخرى، هل هي استراتيجية المقاومة أو الثورة التي يدعو إليها اليوم الاسلاميون على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم، ومن ورائهم كثير من القوى القومية العربية التي فقدت الأمل هي أيضا بنظام الدولة الوطنية أو القومية الحديث الذي نادت به طويلا، أم استراتيجية إصلاح الدولة وتحسين شروط عملها وأدائها، والارتقاء بفعاليتها في إطار المنظومة الدولية، حتى لو عنى ذلك القبول بشروط الهيمنة العالمية والعمل من خلالها على توسيع هامش سيادة الدولة وتعظيم قدراتها وتطوير وسائل عملها بالتفاعل مع البيئة الدولية، كما تدعو إليها القوى الليبرالية أو شبه الليبرالية المنبعثة من ركام التجارب القومية أو المنقلبة عليها؟.
وعلى أي واحدة من هاتين الاستراتيجيتين ينبغي الرهان؟ على الثورة أو، كما نقول اليوم، المقاومة، وما يمكن أن تولده من أثر على إرادة الخصم، الغربي والاسرائيلي معا، تدفعه إلى التراجع والتنازل عن الأرض ومشاريع الهيمنة الإقليمية، أم على الدولة وما ينجم عن تطويرها وتحسين شروط عملها وأدائها بالتعاون مع الدول الكبرى، والتفاهم معها، من إنقلاب في شروط حياة المجتمعات العربية، يجعلها أكثر قدرة في المستقبل على التعامل الندي مع الدول الأخرى القوية، الإقليمية والعالمية؟ وهل هناك أمل في أن نحقق عن طريق المقاومة، والمواجهة الجذرية للهيمنة الغربية، بأشكالها المختلفة، كخيار أول، من الأهداف المادية والسياسية، أكثر مما نحققه عن طريق تحسين عمل الدولة وانخراطنا في المنظومة العالمية التي تؤطرها، والقبول بمعايير عملها ووسائلها السياسية والقانونية، أو ما يسمى بالشرعية الدولية، كما يقول أصحاب خيار الدولة والنظام والتفاهم والتسوية مع الدول الكبرى أو النظام الدولي؟ والعكس أيضا صحيح. فهل تساعدنا الدولة بشكل أكبر على تحرير مجتمعاتنا من التأخر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني والعلمي والأخلاقي، من المقاومة التي تبعث بالضرورة، بسبب المواجهة وروح التحدي، قيم البطولة والتضحية والفداء والتجدد الحضاري؟ وهل تقدم الدولة فرصا أكبر للأمة كي تتجاوز انقساماتها الطائفية والمذهبية والقبلية والاجتماعية، وبالتالي كي تجدد شبابها وحيويتها وتستعيد لحمتها الوطنية الممزقة، كما يقول أنصار خط المقاومة، التي تضع الجميع أمام عدو واحد وهدف واحد ؟ وهل يشكل التنظيم العقلاني والقانوني الذي تجسده الدولة، ويشكل غاية وجودها، لمصالح البشر وحرياتهم وحقوقهم وواجباتهم، منهجا أفضل لتحقيق التقدم المادي والأخلاقي، وبالتالي الارتقاء إلى مستوى المجتمعات المتقدمة والتعامل بندية معها، والاندراج في التاريخ العالمي للحضارة الراهنة، من المنهج الذي تمثله المقاومة، بما يفجره من عاطفة وطنية والتزام عميق بالجماعة وولاء لها وتماه جماعي معها يؤسس لوحدة الأمة واستقلال إرادتها، ويزيد من طموحها لارتقاء معارج التقدم ومباراة الأمم الأخرى في الوصول إلى أقصى درجات التقدم والرقي الحضاري؟
هذه ليست المرة الأولى التي يطرح فيها هذا السؤال، كما يمكن لبعضنا أن يعتقد. فقد طرح منذ بداية دخول المجتمعات العربية في الحقبة الحديثة، وما رافق هذا الدخول من اختلاط بين بناء دولة حديثة لكن تابعة، وفي سياق التبعية أيضا، وصراع ضد الهيمنة الأجنبية وفي سبيل الاستقلال وتحقيق السيادة والحفاظ على الهوية. ونجد أصداءا كبرى لهذا السؤال في موقف محمد عبده من الثورة العرابية التي وجد فيها توريطا للأمة في معركة كبرى قبل أن تنضج شروطها وفي الاتهامات التي ستوجه لهذا المصلح الكبير أيضا بالمشاركة في تطبيق برنامج إصلاح إدارة كرومر البريطانية أو على الأقل القبول بالعمل في ظلها.
وكما هو واضح، لا يتعلق السؤال المطروح بانقسامات عقائدية ولا دينية وإنما بإمكانية بلورة أجندة وطنية مقبولة من الجميع. وهو سؤال تكاد الوطنية العربية تنفرد وحدها في طرحه بطريقة درامية والفشل في ايجاد رد ايجابي موحدعليه.
والسؤال مهم لما يتوقف عليه من اختيارات وما يربتط به من استثمارات معنوية وسياسية ومادية. إذ تفترض عملية بناء الدولة وتطوير قدراتها والاستفادة منها خيارات مختلفة كليا عن خيارات المقاومة. فلا تستخدم كلاهما الأساليب نفسها ولا الوسائل ذاتها، وليس لهما غايات واحدة. فخيار الدولة يفترض بالضرورة القبول بسياسة الممكن، والعمل على تطوير أحوال المجتمعات كخطوة ضرورية على طريق تحقيق استقلالها، والمراهنة في هذا التطوير على ترقية النظم القانونية ومناهج العمل السياسية والتربوية التي لا غنى عنها في تحسين شروط حياة البشر المادية والارتقاء بكفاءات الأفراد السياسية والفكرية. ولا مجال لبناء الدولة وتطويرها والاستفادة منها من دون الانخراط في المنظومة الدولية، والاندماج فيها، والقبول بالعمل حسب معاييرها القانونية. فالدولة جزء من نظام عالمي لا تستقيم ولا تظهر نجاعتها إلا بقدر ما تتفاعل معه وتحترم قواعد عمله وتخضع لمحدداته، أي تأخذ منه وتعطيه. وهو ما يطلق عليه اسم العمل ضمن الشرعية الدولية اليوم. فلا توجد دولة خارج منظومة النظام الدولي، ولا تستمر من دون مراعاة القواعد التي تحكم هذا النظام وتضبط سلوك أعضائه. فلا توجد الدولة منفلتة من أي قيد خارجي وداخلي، ولا تقوم في فراغ. وارتباطها بالنظام الدولي هو شرط لتطورها وتطور أدائها معا، بقدر ما يرتبط هذا التطور والتطوير بنمو التعاون والشراكة الاقتصادية والثقافية والعلمية والتقنية بين الدول وعبرها بين الشعوب والمجتمعات. الدولة أداة لتنظيم علاقات الأفراد في ما بينهم في إطار تنظيم العلاقات الدولية بين المجتمعات نفسها. فالقانون المحلي له أساسه في قواعد العلاقات الدولية التي تنص على السيادة، والعكس صحيح أيضا.
وبالعكس، تفترض الثورة أو المقاومة نقض الشرعية القائمة لتحقيق ما يبدو مستحيل التحقيق على قاعدتها، أي تكسير النظام، الداخلي أو الدولي، أو تغييره وتعديله، لفتح آفاق جديدة وانتزاع حقوق مشروعة وجوهرية لا تسمح طبيعته بتأمينها أو تحول دون تحقيقها بصورة طبيعية. وهي لا تركز على الارتقاء بشروط الحياة القانونية والتربوية والأخلاقية بقدر ما تراهن على تعبئة العصبية الوطنية أو الدينية لقلب السلطة أو السيطرة القائمة. ولا تهتم ببناء المؤسسات والأطر الإدارية التنظيمية العقلانية بقدر ما تركز استثماراتها في بناء الهوية، وتأكيد الخصوصية، وتعميق الشعور بالولاء للجماعة الثورية والمقاومة. فليس هناك في نظرها أفضل من إبراز التمايز والانفصال والاستقلال عن الآخر، بل وتحويل هذا الأخير إلى عدو، سبيلا لتوليد الطاقات الكفاحية المتجددة الضرورية لكسر إرادة الخصم وتعظيم فرص النجاح وضمانها. ولا تتردد في سبيل الوصول إلى هذا الهدف في التضحية بشيء، ماديا كان أم معنويا، مما يعتبره أنصار الدولة بنى تحتية أو مرافق عامة أو مؤسسات ضرورية لسير الحياة المدنية أو موارد اقتصادية، بما في ذلك أحيانا زوال الدولة التابعة او ما يشبه الدولة أو تخريب وسائل الانتاج المادية والثقافية. فالثورة مثل المقاومة لا تهتم إلا بالمصائر الجماعية. أما تحسين شروط حياة الفرد الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية فليست من أولوياتها أو من الغايات الرئيسية لها. إن غايتها تحقيق أغراض عمومية وجامعة، تشكل شرطا لأي حياة فردية صالحة، وفي مقدمها، استقلال الجماعة والحفاظ على الهوية أو التخلص من السيطرة والوصاية الأجنبية. ولا تفيد الوسائل القانونية والإدارية والتقنية التي تتبعها الدولة لتحقيق أهدافها في تحقيق غايات المقاومة وأهدافها. فهدف القوانين تكريس الأمر الواقع، الدولي والاجتماعي، بينما تغيير هذا الأمر هو الذي يشكل مبرر وجود المقاومة ومطلبها الأول. لذلك كثيرا ما تتهم المقاومات من قبل خصومها وأعدائها معا بالارهاب لأنها تقف بالتعريف ضد الأمر القائم، وبالتالي ضد القانون السياسي والشرعي الذي يحفظ هذا الأمر القائم ويساعد على استمراره.
فما الذي يضمن بالفعل، بشكل أفضل، تجديد المجتمعات العربية الخربة والمفوتة والمنحلة، ويعيد لها الحيوية ويجعل منها مجتمعات منتجة وفاعلة ومبدعة، تعامل بندية من قبل المجتمعات العالمية الأخرى، هل هي استراتيجية المقاومة أو الثورة التي يدعو إليها اليوم الاسلاميون على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم، ومن ورائهم كثير من القوى القومية العربية التي فقدت الأمل هي أيضا بنظام الدولة الوطنية أو القومية الحديث الذي نادت به طويلا، أم استراتيجية إصلاح الدولة وتحسين شروط عملها وأدائها، والارتقاء بفعاليتها في إطار المنظومة الدولية، حتى لو عنى ذلك القبول بشروط الهيمنة العالمية والعمل من خلالها على توسيع هامش سيادة الدولة وتعظيم قدراتها وتطوير وسائل عملها بالتفاعل مع البيئة الدولية، كما تدعو إليها القوى الليبرالية أو شبه الليبرالية المنبعثة من ركام التجارب القومية أو المنقلبة عليها؟.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire