الجزية نت
16 سبتمبر 06
أجهضت السياسات الدولية المرتبطة بتحقيق متطلبات ضمان أمن إسرائيل وتوسعها على حساب جيرانها، والحصار المفروض على المشرق العربي بأكمله للتأمين على الطاقة النفطية الاستراتيجية التي تعتمد عليها القوى الصناعية، والاستبداد الطويل للنخب المحلية واستفرادها بشعوبها، مشاريع بناء الدولة في المشرق العربي جميعا، وحول هذه الدولة إلى أداة تتحكم بها المصالح الخاصة وحاجات الاستراتيجيات الدولية. فلم يعد لها وظيفة أكبر من تحييد الشعوب وشل إرادتها الجمعية والفردية. وبدل أن يتقدم في اتجاه النضوح والاكتمال، تقهقر مشروع الدولة الحديثة إلى الوراء، وفي إثره ما تتضمنه الدولة من معاني السيادة الإقليمية، والقدرة على الانجاز، وتحمل المسؤولية تجاه الشعوب، والعمل على تأهيلها للمساهمة في الحياة الدولية وتحسين شروط وجودها وترقيتها سياسيا وأخلاقيا.
بل ليس من المؤكد أن هناك فرصة في إقامة مثل هذه الدولة في بلادنا، في الأوضاع والشروط الجيوسياسية الاقليمية والعالمية الراهنة، التي تجعل من منطقتنا مسرح تنازع مستمر، ذي أبعاد إقليمية وعالمية معا، وموضع إملاءات خارجية لا تنتهي، وتحولها إلى بؤرة توترات وصراعات وحروب دامية لا حل منظورا لها. ولا يبدو لي أن هناك رغبة أيضا في قيامها، لا عند الدول الكبرى الوصية على المنظومة الدولية، وعلى المنطقة بشكل خاص، ولا حتى عند النخب الحاكمة المرتبطة بهذه الدول أو الساعية للاستقلال عنها.
وما نعرفه منها إلى الآن في البلاد العربية كان، وسيبقى لفترة طويلة، أشباه دول، لا تملك من السيادة ما يجعلها ملك مواطنيها، ولا من الشرعية والاستقرار ما يجعل منها إطارا لتوليد إرادة جماعية موحدة ومستقلة، ولا من الثقة بالنفس ما يؤهلها لتطوير شروط الحياة القانونية والسياسية والأخلاقية، فيحولها إلى دولة ديمقراطية، ولا من الموارد المعنوية والمادية ما يجعل منها أداة للارتقاء بمستوى حياة السكان عموما وتحقيق سعادتهم. فهي في الغالب مزرعة العاملين فيها وبقرتهم الحلوب.
فالدولة المجهضة سياسيا وأخلاقيا، أو المنقوصة والمختزلة إلى مظاهرها الأداتية، والتي تتحكم بها مصالح استراتيجية خارجية أو خاصة، هي بالتعريف ليست الدولة التي يقرر فيها مواطنوها مصيرهم ولكنها بالضرورة دولة أصحابها وأتباعهم. ولذلك وصل مشروع الدولة في المنقطة العربية إلى طريق مسدود. وهو مايفسر الوجهة التي تطورت إليها هذه المؤسسة الكبرى الجامعة والعلاقة التي تقيمها مع مجتمعاتها. كما يفسر عدم اكتراث الناس بها وتوجههم نحو مؤسسات أهلية كانت تعتبر لوقت قريب ثانوية وهامشية، لتامين مصالحهم وتحقيق ذواتهم وضمان شعورهم بآدميتهم. ولا تعبر شعارات المقاومة التي شهدنا اشتعالها كالنار في الهشيم بعد الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة، إلا عن السخط العارم ضد هذه الدولة ورغبة الانتقام منها والاستعداد للخروج عليها.
أصحاب شعار المقاومة على حق إذن عندما يقولون: إن المقاومة هي الأساس، وينبغي ان تكون لها الأولوية، لأنه لا دولة من دون سيادة، ولا سيادة مع استمرار السيطرة الأجنبية. لكن السؤال هو: هل هناك بالفعل اليوم مشروع مقاومة وطنية جامعة تحرك النخب والمجتمعات العربية، بل ثقافة مقاومة حقيقية، تتجاوز مفهوم الصدام مع القوى الأجنبية، وتنطوي على مشروع إعادة بناء العلاقات العربية، داخل المجتمعات وفيما بينها، على أسس جديدة تقطع مع نموذج الدولة الوطنية الرثة السابقة، وتقيم على أنقاضها مجتمعات موحدة ومتفاهمة قابلة للحياة والعمل والانتاج والابداع؟
بصرف النظر عما يبدو من مظاهر التماهي واسع الانتشار مع المقاومة والعداء للأجنبي، والغربي منه بشكل خاص، في البلاد العربية، لا أعتقد ان هناك مشروع مقاومة وطنية على مستوى العالم العربي، أو حتى المشرق العربي، أو أي دولة من دوله. وما هو قائم من مقاومات يعبر عن تفاقم الانقسام الوطني والنزاعات المرتبطة به، ويعكس الميل المتزايد عند الجميع إلى الخروج على الدولة وإرادة تحطيمها، بوصفها رمزا دائما للإحباط والحرمان والقهر. فلا تنشأ مقاومة وطنية إلا عندما تكون حاملة، وهو ما ينبغي أن ينعكس في سلوكها وعقيدتها وبرنامجها معا، لمشروع بناء وطني يجمع الأطراف المتفرقة ويتيح لها فرص التفاهم والتآلف والعمل المشترك. وما يجعلها وطنية هو توجهها لبناء حياة وطنية سليمة، مرتبطة بغايات وقائمة على قواعد عمل وقيم ومعايير عامة تنطبق على الجميع بالتساوي وتحظى بحد كبير من الإجماع العام. ولم تكن ثورة الاستقلال جامعة ومؤسسة لوطن إلا بقدر ما كان تحرير البلاد من الوصاية الأجنبية جزءا من مشروع بناء دولة وطنية يتساوى الجميع فيها أمام القانون ويؤسسون على الحرية الوطنية المكتسبة حرياتهم الفردية وحقوقهم الانسانية. وهو ما ينطبق كذلك على الانتفاضات السياسية الوطنية ضد الاستبداد والفساد. ومن الصعب القول إن هناك ما يشبه هذا المشروع في ما هو قائم من مقاومات وتمردات في البلاد العربية اليوم. بل إن هذه المقاومات تعكس، في طبيعتها ووسائل عملها وانقسامها وانتشارها، غياب هذا المشروع الوطني الجمعي، وارتداد الجماعات المتميزة والمختلفة التي كانت تشارك فيه على الدولة التي ترمز إليه، وسعيها إلى تأمين مصيرها الخاص بها على أنقاضها، سواء أكان ذلك من خلال السيطرة على مواقع ومصالح الجماعات الأخرى الشريك، أو بالانفصال عنها والارتباط بقوى خارجية، أو بالخروج الكامل من الساحة السياسية الداخلية من أجل لعمل في إطار جيوستراتيجي شامل والصدام المباشر، على الساحة العالمية، مع المنظومة الدولية باعتبارها مرتكز الدولة الناشزة وحاضنتها، وهو ما تمثله بعض الحركات المتطرفة الاسلاموية. وباستثناء فلسطين التي تحولت فيها حماس إلى امتداد بوسائل أخرى للحركة الوطنية الفلسطينية الساعية إلى التحرر من استعمار استيطاني بغيض، ليس في ما هو قائم بذرة أو جنين مشروع مقاومة وطنية، ولكن مشاريع مقاومة خصوصية تتغذى من بقايا المشروع الوطني وتعيش على حطامه.
ففي معظم هذه الحالات، لا ينبع رفض الدولة والعمل على تحطيمها من وجود مفهوم واضح لنظام بديل لها، ولا يرتبط بوجود مكونات إعادة بناء الدولة نفسها على أسس مختلفة، تضمن تجديد فكرتها وإعادة تأهيلها، وتحويلها إلى إطار لبناء حياة أو علاقات جمعية أخلاقية قائمة على قاعدة القانون والمساواة بين الأفراد والمشاركة في المسؤولية عند الرأي العام. إنه يعبر عكس ذلك عن خيبة الجماعات المختلفة بالدولة ويأسها من قدرتها على تلبية مطالبها العينية الملموسة في المشاركة في السلطة، أو على تأمين شروط الحياة والخدمات الأساسية، والمادية منها بشكل خاص. فهي لا تزال تقوم على السلب ولا تملك بعد، لا في النظرية ولا في الممارسة ولا في الشروط التاريخية، فرصة تحولها إلى حركة ايجابية تنحو نحو التوحيد والتوليف والبناء والتأسيس الأخلاقي والقانوني. لذلك هي تتخذ في كل الحالات، حتى عندما تكون وطنية الأهداف، أشكالا خصوصية تتميز بها عن غريمتها الأخرى، مذهبية أو أقوامية أو طائفية، وتجعل من هذا التميز منبعا لتوليد عصبية جزئية تشكل قاعدة للتضامن والتفاهم والألفة التي تمكنها من توفير السلوكات والفعاليات الكفاحية، الخاصة بها وحدها، وعلى نطاقها المحدود. وليس هناك بعد أي عقيدة او ايديولوجية أو قيمة أو شعار أو رمزيات يمكن أن تجمع بين الأطراف المقاومة، أو تشكل قاسما مشتركا لها. فما يقرب الواحدة ينفر الاخرى، وما يشكل هدفا لبعضها يشكل مصدر قلق وثورة عند بعضها الآخر، حتى عندما تنتمي جميعها إلى الايديولوجية الاسلامية أو القومية نفسها. فهي أقرب بالفعل إلى الممانعة منها إلى المقاومة، بقدر ما تعني الممانعة رفض النظام القائم فحسب من دون وجود أي مشروع بديل لإحلاله محله.
لذلك، بصرف النظر عن المظاهر السطحية الخادعة ، تعكس المقاومات العربية المتعددة الوطنية وما يجسدها من اندلاع الصراعات الداخلية وتفجرها بين مكونات الجماعة، أكثر مما تعبر عن التفاهم وبالأحرى الاجماع الوطني ضد هيمنة خارجية. وهي لا ترى هذه الهيمنة بعين واحدة ولا من الزاوية نفسها. وحتى عندما تستهدفها، فذلك لما تمثله في ميزان القوى المحلية أو الإقليمية، وعلى قدر مشاركتها في تحديد التوازنات الداخلية، أو عندما تشكل عائقا أمام تحقيق المشاريع الخصوصية. فما نعيشه بالعمق هو حرب أهلية، تقنعها وتكملها حروب خارجية. فالمقصود في النزاع هو دائما أطراف منافسة على السيطرة الداخلية سواء من أجل تحييدها أو إحراجها أو قطع الطريق عليها أو إخضاعها لأجندة خصوصية، في إطار أعادة اصطفاف القوى على أرضية النزاع على السلطة والموارد الوطنية. وكل الأطراف تسعى من خلال الممانعة وإعاقة مشاريع الغير إلى تحقيق مصالح جزئية خاصة بها. ولا يغير من ذلك كون هذه الأهداف مشروعة أحيانا وإنسانية، كتعديل علاقات الهيمنة الأقوامية أو الطائفية. وهذا يفسر أن عداء بعض المقاومات لقوى أجنبية معينة لا يمنعها من تبرير تحالفاتها مع قوى أجنبية أخرى، أو التفاهم معها ضد الجماعات المحلية المنافسة لها. باختصار، تشكل هذه المقاومات، إلا في ما ندر، مظهرا من تفكك الجماعة الوطنية وتبعثر أطرافها واهدافها، أكثر مما تشير إلى تمخض إرادة وطنية جديدة تعيد جمع العناصر والكسور المتفرقة، وتخلق قوة موحدة استثنائية تمكن من وضع حد للسيطرة وانتزاع هامش مبادرة أكبر تجاه القوى الدولية، وتؤسس للحقوق والحريات الأساسية داخل المجتمعات والدول العربية. ومن هنا نشهد بموازاتها تفاقم الانقسامات والنزاعات داخل المجتمعات أكثر من محاولات تجاوزها أو توليد شروط أفضل للعمل المشترك والتآلف والالتقاء الوطني.
وبالمثل، وفي السياق نفسه، وللأسباب ذاتها، لا أعتقد أن هناك اليوم نموا في ما نسميه ثقافة مقاومة وطنية، ولا تربة صالحة لانبثاق إرادة مواجهة جامعة وتاريخية، تقبل التضحية بالحاضر لصالح المستقبل، وتضع العمومي قبل الخصوصي في الرؤى والمواقف والمصالح والغايات معا، وتتحمل ما ينجم عن ذلك، في سبيل نبذ الوصاية الأجنبية وفرض الاستقلال الناجز وتحرير إرادة الشعوب العربية، ولا حتى في سبيل هدف أكثر وضوحا ومحدودية مثل تحرير الأراضي العربية المحتلة. وما هو قائم هنا وهناك من مقاومات أو شبه مقاومات يرتبط بوضعيات خصوصية جدا، ويعبر عن ردود أفعال مشتتة على اعتداءات مباشرة وهمجية مستمرة أكثر مما يعكس نمو إرادة جامعة للمواجهة، ورؤية واضحة ومتسقة لتغيير الأمر الواقع. إن ما هو جامع في البلاد العربية هو ثقافة الفساد والإفساد معا. وما نشهده من التأييد لردود الأفعال "المقاومة" هذه عند الرأي العام، بين فترة وأخرى، لا يمثل بأي حال ما تستدعيه المقاومة والوطنية معا، أي صعودا في موقع أخلاقيات التضحية والشهادة ونكران الذات عند الجماهير والمجتمعات العربية، بقدر ما يجسد نمو روح العصبية والخوف على الذات والقلق على المصائر الشخصية والفئوية. بل كثيرا ما يشير إلى نزعة الارضاء الذاتي التي تغطي على الاستقالة العملية وتبرر العطالة السياسية.
يدل على ذلك الاستسلام الشعبي الكامل تجاه شتى أنواع العدوان الداخلي، والاستسلام للأمر الواقع، وتحويل الاستسلام نفسه إلى منظومة فكرية وأخلاقية. وبالرغم من الانتشار الواسع النطاق للايديولوجية الدينية، والاسلامية منها بشكل خاص، لا تزال حركات المقاومة التي تسلتهم الفكر الديني أيضا، باستثناء فلسطين وشيعة لينان وربما العراق، تمثل نسبة محدودة جدا من جمهور المتدينين الواسع. فلا يمنع التدين من تمثل ثقافة الاستسلام وقيمها، أو ثقافة الهزيمة، كما سماها ياسين حاج صالح. فأمام الفساد والاستبداد والعدوان الخارجي لا يجد المتدين أمامه سوى طريقين: الثورة الشاملة على المجتمع الذي هو أصل الفساد والقهر ومثاله، وبالتالي الانخراط في السياسة التكفيرية التي تقود حتما إلى حمل السلاح ضد الطغاة وحماتهم الغربيين، وهو طريق القلة المتمردة، أو الانطواء على الحياة الخاصة على أمل إرضاء الله وكسب الآخرة ما دام من غير الممكن كسب الدنيا أو التأثير في شروط الحياة فيها، وهو طريق الأغلبية المنسحبة من اللعبة السياسية أي الوطنية. فبهذا الانسحاب يتبرأ هؤلاء من السلطة الاستبدادية المتوحشة، ومن المجتمع المدني المفعم بالفساد الحامل لها في الوقت نفسه. ومما يعزز نزعة الانسحاب من الحياة العامة ويبررها عند الأغلبية المتدينة انحسار الدلالات الدينية عن الأمة نفسها، وتحولها إلى خليط من قطاعات الرأي المتباينة والمتنازعة التي تسيطر عليها المصالح الخاصة المباشرة والمادية ولا تنطوي على أي معان روحية.
من الصعب في ظروف الفساد، وتأبيد الوصاية الروحية والاجتماعية والسياسية، وحكم الطغيان الذي يجعل من قتل المشاعر الانسانية وتفكيك عرى المجتمعات وتمزيقها وحرمانها من التواصل والتفاهم، شرط وجوده واستمراره، ولادة مقاومة، أو حتى ثقافة مقاومة وطنية، جوهرها التضحية والفداء ونكران الذات في خدمة الجماعة، وقاعدتها الوحدة العضوية والتضامن والاتحاد، أي كل ما هو أخلاقي ومثالي وبطولي معا. ما هو مسيطر على مناخ النخب الاجتماعية والرأي العام ومتاح اليوم، هو بالأحرى الأنانية والنذالة، والاستسلام للغرائز، وشهوة مراكمة الثروات وشره الاستهلاك، أكثر من أي شيء آخر. ولذلك يغلب على نظمنا السياسية حكم القوة والانتقام بدل حكم السياسة والقانون، وعلى مقاوماتنا وممانعاتنا سمة المقاومات والممانعات الجزئية، الانتهازية او الظرفية والانتقائية. وما أتاح استمرار حركات مقاومة مثل حزب الله وحركة حماس هو اندراجهما ضمن سياق مختلف عن سياق المجتمعات العربية الأخرى، المقسمة والمشتتة والمنهارة سياسيا ومعنويا، أعنى ارتباط الأول سياسيا واستراتيجيا بايران، وهي جمهورية فتية ذات استقلالية وإمكانيات كبيرة، وارتباط الثانية بالظروف الوطنية الخاصة بفلسطين التي أجهض فيها مشروع بناء دولة وطنية، حتى في حدودها الدنيا، وفي إطار التبعية الإقليمية والدولية. فالأول امتداد لحيوية القوة الايرانية، والثانية تعبير عن اليأس من الدولة والنظام الدولي في الوقت نفسه. وليس من المستغرب في هذه الحالة أن يشكل تحطيم مثالهما اليوم محور السياسات الإقليمية العربية والدولية الرامية إلى تخليد نظام السيطرة شبه الاستعمارية.
باختصار، بينما تقضي السيطرة الأجنبية على أي هامش استقلالية لا غنى عنه لبناء إرادة وطنية وسياسية محلية، أي دولة، يدمر الاستبداد الروح الأخلاقية التي لا غنى عنها لتوليد قيم التفاؤل والأمل والثقة والتضامن التي تشكل قاعدة أي مقاومة وطنية، وذلك بقدر ما يؤلف فرط العلاقات الاجتماعية وتدمير قيم التواصل والتفاعل والتكافل بين الأفراد أساس استمرار سلطة تعسفية، هي بالضرورة مطلقة، احتكارية، ولا إنسانية.
16 سبتمبر 06
أجهضت السياسات الدولية المرتبطة بتحقيق متطلبات ضمان أمن إسرائيل وتوسعها على حساب جيرانها، والحصار المفروض على المشرق العربي بأكمله للتأمين على الطاقة النفطية الاستراتيجية التي تعتمد عليها القوى الصناعية، والاستبداد الطويل للنخب المحلية واستفرادها بشعوبها، مشاريع بناء الدولة في المشرق العربي جميعا، وحول هذه الدولة إلى أداة تتحكم بها المصالح الخاصة وحاجات الاستراتيجيات الدولية. فلم يعد لها وظيفة أكبر من تحييد الشعوب وشل إرادتها الجمعية والفردية. وبدل أن يتقدم في اتجاه النضوح والاكتمال، تقهقر مشروع الدولة الحديثة إلى الوراء، وفي إثره ما تتضمنه الدولة من معاني السيادة الإقليمية، والقدرة على الانجاز، وتحمل المسؤولية تجاه الشعوب، والعمل على تأهيلها للمساهمة في الحياة الدولية وتحسين شروط وجودها وترقيتها سياسيا وأخلاقيا.
بل ليس من المؤكد أن هناك فرصة في إقامة مثل هذه الدولة في بلادنا، في الأوضاع والشروط الجيوسياسية الاقليمية والعالمية الراهنة، التي تجعل من منطقتنا مسرح تنازع مستمر، ذي أبعاد إقليمية وعالمية معا، وموضع إملاءات خارجية لا تنتهي، وتحولها إلى بؤرة توترات وصراعات وحروب دامية لا حل منظورا لها. ولا يبدو لي أن هناك رغبة أيضا في قيامها، لا عند الدول الكبرى الوصية على المنظومة الدولية، وعلى المنطقة بشكل خاص، ولا حتى عند النخب الحاكمة المرتبطة بهذه الدول أو الساعية للاستقلال عنها.
وما نعرفه منها إلى الآن في البلاد العربية كان، وسيبقى لفترة طويلة، أشباه دول، لا تملك من السيادة ما يجعلها ملك مواطنيها، ولا من الشرعية والاستقرار ما يجعل منها إطارا لتوليد إرادة جماعية موحدة ومستقلة، ولا من الثقة بالنفس ما يؤهلها لتطوير شروط الحياة القانونية والسياسية والأخلاقية، فيحولها إلى دولة ديمقراطية، ولا من الموارد المعنوية والمادية ما يجعل منها أداة للارتقاء بمستوى حياة السكان عموما وتحقيق سعادتهم. فهي في الغالب مزرعة العاملين فيها وبقرتهم الحلوب.
فالدولة المجهضة سياسيا وأخلاقيا، أو المنقوصة والمختزلة إلى مظاهرها الأداتية، والتي تتحكم بها مصالح استراتيجية خارجية أو خاصة، هي بالتعريف ليست الدولة التي يقرر فيها مواطنوها مصيرهم ولكنها بالضرورة دولة أصحابها وأتباعهم. ولذلك وصل مشروع الدولة في المنقطة العربية إلى طريق مسدود. وهو مايفسر الوجهة التي تطورت إليها هذه المؤسسة الكبرى الجامعة والعلاقة التي تقيمها مع مجتمعاتها. كما يفسر عدم اكتراث الناس بها وتوجههم نحو مؤسسات أهلية كانت تعتبر لوقت قريب ثانوية وهامشية، لتامين مصالحهم وتحقيق ذواتهم وضمان شعورهم بآدميتهم. ولا تعبر شعارات المقاومة التي شهدنا اشتعالها كالنار في الهشيم بعد الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة، إلا عن السخط العارم ضد هذه الدولة ورغبة الانتقام منها والاستعداد للخروج عليها.
أصحاب شعار المقاومة على حق إذن عندما يقولون: إن المقاومة هي الأساس، وينبغي ان تكون لها الأولوية، لأنه لا دولة من دون سيادة، ولا سيادة مع استمرار السيطرة الأجنبية. لكن السؤال هو: هل هناك بالفعل اليوم مشروع مقاومة وطنية جامعة تحرك النخب والمجتمعات العربية، بل ثقافة مقاومة حقيقية، تتجاوز مفهوم الصدام مع القوى الأجنبية، وتنطوي على مشروع إعادة بناء العلاقات العربية، داخل المجتمعات وفيما بينها، على أسس جديدة تقطع مع نموذج الدولة الوطنية الرثة السابقة، وتقيم على أنقاضها مجتمعات موحدة ومتفاهمة قابلة للحياة والعمل والانتاج والابداع؟
بصرف النظر عما يبدو من مظاهر التماهي واسع الانتشار مع المقاومة والعداء للأجنبي، والغربي منه بشكل خاص، في البلاد العربية، لا أعتقد ان هناك مشروع مقاومة وطنية على مستوى العالم العربي، أو حتى المشرق العربي، أو أي دولة من دوله. وما هو قائم من مقاومات يعبر عن تفاقم الانقسام الوطني والنزاعات المرتبطة به، ويعكس الميل المتزايد عند الجميع إلى الخروج على الدولة وإرادة تحطيمها، بوصفها رمزا دائما للإحباط والحرمان والقهر. فلا تنشأ مقاومة وطنية إلا عندما تكون حاملة، وهو ما ينبغي أن ينعكس في سلوكها وعقيدتها وبرنامجها معا، لمشروع بناء وطني يجمع الأطراف المتفرقة ويتيح لها فرص التفاهم والتآلف والعمل المشترك. وما يجعلها وطنية هو توجهها لبناء حياة وطنية سليمة، مرتبطة بغايات وقائمة على قواعد عمل وقيم ومعايير عامة تنطبق على الجميع بالتساوي وتحظى بحد كبير من الإجماع العام. ولم تكن ثورة الاستقلال جامعة ومؤسسة لوطن إلا بقدر ما كان تحرير البلاد من الوصاية الأجنبية جزءا من مشروع بناء دولة وطنية يتساوى الجميع فيها أمام القانون ويؤسسون على الحرية الوطنية المكتسبة حرياتهم الفردية وحقوقهم الانسانية. وهو ما ينطبق كذلك على الانتفاضات السياسية الوطنية ضد الاستبداد والفساد. ومن الصعب القول إن هناك ما يشبه هذا المشروع في ما هو قائم من مقاومات وتمردات في البلاد العربية اليوم. بل إن هذه المقاومات تعكس، في طبيعتها ووسائل عملها وانقسامها وانتشارها، غياب هذا المشروع الوطني الجمعي، وارتداد الجماعات المتميزة والمختلفة التي كانت تشارك فيه على الدولة التي ترمز إليه، وسعيها إلى تأمين مصيرها الخاص بها على أنقاضها، سواء أكان ذلك من خلال السيطرة على مواقع ومصالح الجماعات الأخرى الشريك، أو بالانفصال عنها والارتباط بقوى خارجية، أو بالخروج الكامل من الساحة السياسية الداخلية من أجل لعمل في إطار جيوستراتيجي شامل والصدام المباشر، على الساحة العالمية، مع المنظومة الدولية باعتبارها مرتكز الدولة الناشزة وحاضنتها، وهو ما تمثله بعض الحركات المتطرفة الاسلاموية. وباستثناء فلسطين التي تحولت فيها حماس إلى امتداد بوسائل أخرى للحركة الوطنية الفلسطينية الساعية إلى التحرر من استعمار استيطاني بغيض، ليس في ما هو قائم بذرة أو جنين مشروع مقاومة وطنية، ولكن مشاريع مقاومة خصوصية تتغذى من بقايا المشروع الوطني وتعيش على حطامه.
ففي معظم هذه الحالات، لا ينبع رفض الدولة والعمل على تحطيمها من وجود مفهوم واضح لنظام بديل لها، ولا يرتبط بوجود مكونات إعادة بناء الدولة نفسها على أسس مختلفة، تضمن تجديد فكرتها وإعادة تأهيلها، وتحويلها إلى إطار لبناء حياة أو علاقات جمعية أخلاقية قائمة على قاعدة القانون والمساواة بين الأفراد والمشاركة في المسؤولية عند الرأي العام. إنه يعبر عكس ذلك عن خيبة الجماعات المختلفة بالدولة ويأسها من قدرتها على تلبية مطالبها العينية الملموسة في المشاركة في السلطة، أو على تأمين شروط الحياة والخدمات الأساسية، والمادية منها بشكل خاص. فهي لا تزال تقوم على السلب ولا تملك بعد، لا في النظرية ولا في الممارسة ولا في الشروط التاريخية، فرصة تحولها إلى حركة ايجابية تنحو نحو التوحيد والتوليف والبناء والتأسيس الأخلاقي والقانوني. لذلك هي تتخذ في كل الحالات، حتى عندما تكون وطنية الأهداف، أشكالا خصوصية تتميز بها عن غريمتها الأخرى، مذهبية أو أقوامية أو طائفية، وتجعل من هذا التميز منبعا لتوليد عصبية جزئية تشكل قاعدة للتضامن والتفاهم والألفة التي تمكنها من توفير السلوكات والفعاليات الكفاحية، الخاصة بها وحدها، وعلى نطاقها المحدود. وليس هناك بعد أي عقيدة او ايديولوجية أو قيمة أو شعار أو رمزيات يمكن أن تجمع بين الأطراف المقاومة، أو تشكل قاسما مشتركا لها. فما يقرب الواحدة ينفر الاخرى، وما يشكل هدفا لبعضها يشكل مصدر قلق وثورة عند بعضها الآخر، حتى عندما تنتمي جميعها إلى الايديولوجية الاسلامية أو القومية نفسها. فهي أقرب بالفعل إلى الممانعة منها إلى المقاومة، بقدر ما تعني الممانعة رفض النظام القائم فحسب من دون وجود أي مشروع بديل لإحلاله محله.
لذلك، بصرف النظر عن المظاهر السطحية الخادعة ، تعكس المقاومات العربية المتعددة الوطنية وما يجسدها من اندلاع الصراعات الداخلية وتفجرها بين مكونات الجماعة، أكثر مما تعبر عن التفاهم وبالأحرى الاجماع الوطني ضد هيمنة خارجية. وهي لا ترى هذه الهيمنة بعين واحدة ولا من الزاوية نفسها. وحتى عندما تستهدفها، فذلك لما تمثله في ميزان القوى المحلية أو الإقليمية، وعلى قدر مشاركتها في تحديد التوازنات الداخلية، أو عندما تشكل عائقا أمام تحقيق المشاريع الخصوصية. فما نعيشه بالعمق هو حرب أهلية، تقنعها وتكملها حروب خارجية. فالمقصود في النزاع هو دائما أطراف منافسة على السيطرة الداخلية سواء من أجل تحييدها أو إحراجها أو قطع الطريق عليها أو إخضاعها لأجندة خصوصية، في إطار أعادة اصطفاف القوى على أرضية النزاع على السلطة والموارد الوطنية. وكل الأطراف تسعى من خلال الممانعة وإعاقة مشاريع الغير إلى تحقيق مصالح جزئية خاصة بها. ولا يغير من ذلك كون هذه الأهداف مشروعة أحيانا وإنسانية، كتعديل علاقات الهيمنة الأقوامية أو الطائفية. وهذا يفسر أن عداء بعض المقاومات لقوى أجنبية معينة لا يمنعها من تبرير تحالفاتها مع قوى أجنبية أخرى، أو التفاهم معها ضد الجماعات المحلية المنافسة لها. باختصار، تشكل هذه المقاومات، إلا في ما ندر، مظهرا من تفكك الجماعة الوطنية وتبعثر أطرافها واهدافها، أكثر مما تشير إلى تمخض إرادة وطنية جديدة تعيد جمع العناصر والكسور المتفرقة، وتخلق قوة موحدة استثنائية تمكن من وضع حد للسيطرة وانتزاع هامش مبادرة أكبر تجاه القوى الدولية، وتؤسس للحقوق والحريات الأساسية داخل المجتمعات والدول العربية. ومن هنا نشهد بموازاتها تفاقم الانقسامات والنزاعات داخل المجتمعات أكثر من محاولات تجاوزها أو توليد شروط أفضل للعمل المشترك والتآلف والالتقاء الوطني.
وبالمثل، وفي السياق نفسه، وللأسباب ذاتها، لا أعتقد أن هناك اليوم نموا في ما نسميه ثقافة مقاومة وطنية، ولا تربة صالحة لانبثاق إرادة مواجهة جامعة وتاريخية، تقبل التضحية بالحاضر لصالح المستقبل، وتضع العمومي قبل الخصوصي في الرؤى والمواقف والمصالح والغايات معا، وتتحمل ما ينجم عن ذلك، في سبيل نبذ الوصاية الأجنبية وفرض الاستقلال الناجز وتحرير إرادة الشعوب العربية، ولا حتى في سبيل هدف أكثر وضوحا ومحدودية مثل تحرير الأراضي العربية المحتلة. وما هو قائم هنا وهناك من مقاومات أو شبه مقاومات يرتبط بوضعيات خصوصية جدا، ويعبر عن ردود أفعال مشتتة على اعتداءات مباشرة وهمجية مستمرة أكثر مما يعكس نمو إرادة جامعة للمواجهة، ورؤية واضحة ومتسقة لتغيير الأمر الواقع. إن ما هو جامع في البلاد العربية هو ثقافة الفساد والإفساد معا. وما نشهده من التأييد لردود الأفعال "المقاومة" هذه عند الرأي العام، بين فترة وأخرى، لا يمثل بأي حال ما تستدعيه المقاومة والوطنية معا، أي صعودا في موقع أخلاقيات التضحية والشهادة ونكران الذات عند الجماهير والمجتمعات العربية، بقدر ما يجسد نمو روح العصبية والخوف على الذات والقلق على المصائر الشخصية والفئوية. بل كثيرا ما يشير إلى نزعة الارضاء الذاتي التي تغطي على الاستقالة العملية وتبرر العطالة السياسية.
يدل على ذلك الاستسلام الشعبي الكامل تجاه شتى أنواع العدوان الداخلي، والاستسلام للأمر الواقع، وتحويل الاستسلام نفسه إلى منظومة فكرية وأخلاقية. وبالرغم من الانتشار الواسع النطاق للايديولوجية الدينية، والاسلامية منها بشكل خاص، لا تزال حركات المقاومة التي تسلتهم الفكر الديني أيضا، باستثناء فلسطين وشيعة لينان وربما العراق، تمثل نسبة محدودة جدا من جمهور المتدينين الواسع. فلا يمنع التدين من تمثل ثقافة الاستسلام وقيمها، أو ثقافة الهزيمة، كما سماها ياسين حاج صالح. فأمام الفساد والاستبداد والعدوان الخارجي لا يجد المتدين أمامه سوى طريقين: الثورة الشاملة على المجتمع الذي هو أصل الفساد والقهر ومثاله، وبالتالي الانخراط في السياسة التكفيرية التي تقود حتما إلى حمل السلاح ضد الطغاة وحماتهم الغربيين، وهو طريق القلة المتمردة، أو الانطواء على الحياة الخاصة على أمل إرضاء الله وكسب الآخرة ما دام من غير الممكن كسب الدنيا أو التأثير في شروط الحياة فيها، وهو طريق الأغلبية المنسحبة من اللعبة السياسية أي الوطنية. فبهذا الانسحاب يتبرأ هؤلاء من السلطة الاستبدادية المتوحشة، ومن المجتمع المدني المفعم بالفساد الحامل لها في الوقت نفسه. ومما يعزز نزعة الانسحاب من الحياة العامة ويبررها عند الأغلبية المتدينة انحسار الدلالات الدينية عن الأمة نفسها، وتحولها إلى خليط من قطاعات الرأي المتباينة والمتنازعة التي تسيطر عليها المصالح الخاصة المباشرة والمادية ولا تنطوي على أي معان روحية.
من الصعب في ظروف الفساد، وتأبيد الوصاية الروحية والاجتماعية والسياسية، وحكم الطغيان الذي يجعل من قتل المشاعر الانسانية وتفكيك عرى المجتمعات وتمزيقها وحرمانها من التواصل والتفاهم، شرط وجوده واستمراره، ولادة مقاومة، أو حتى ثقافة مقاومة وطنية، جوهرها التضحية والفداء ونكران الذات في خدمة الجماعة، وقاعدتها الوحدة العضوية والتضامن والاتحاد، أي كل ما هو أخلاقي ومثالي وبطولي معا. ما هو مسيطر على مناخ النخب الاجتماعية والرأي العام ومتاح اليوم، هو بالأحرى الأنانية والنذالة، والاستسلام للغرائز، وشهوة مراكمة الثروات وشره الاستهلاك، أكثر من أي شيء آخر. ولذلك يغلب على نظمنا السياسية حكم القوة والانتقام بدل حكم السياسة والقانون، وعلى مقاوماتنا وممانعاتنا سمة المقاومات والممانعات الجزئية، الانتهازية او الظرفية والانتقائية. وما أتاح استمرار حركات مقاومة مثل حزب الله وحركة حماس هو اندراجهما ضمن سياق مختلف عن سياق المجتمعات العربية الأخرى، المقسمة والمشتتة والمنهارة سياسيا ومعنويا، أعنى ارتباط الأول سياسيا واستراتيجيا بايران، وهي جمهورية فتية ذات استقلالية وإمكانيات كبيرة، وارتباط الثانية بالظروف الوطنية الخاصة بفلسطين التي أجهض فيها مشروع بناء دولة وطنية، حتى في حدودها الدنيا، وفي إطار التبعية الإقليمية والدولية. فالأول امتداد لحيوية القوة الايرانية، والثانية تعبير عن اليأس من الدولة والنظام الدولي في الوقت نفسه. وليس من المستغرب في هذه الحالة أن يشكل تحطيم مثالهما اليوم محور السياسات الإقليمية العربية والدولية الرامية إلى تخليد نظام السيطرة شبه الاستعمارية.
باختصار، بينما تقضي السيطرة الأجنبية على أي هامش استقلالية لا غنى عنه لبناء إرادة وطنية وسياسية محلية، أي دولة، يدمر الاستبداد الروح الأخلاقية التي لا غنى عنها لتوليد قيم التفاؤل والأمل والثقة والتضامن التي تشكل قاعدة أي مقاومة وطنية، وذلك بقدر ما يؤلف فرط العلاقات الاجتماعية وتدمير قيم التواصل والتفاعل والتكافل بين الأفراد أساس استمرار سلطة تعسفية، هي بالضرورة مطلقة، احتكارية، ولا إنسانية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire