الرأي 18 أغسطس 2005
تندرج أزمة المثقفين العرب، بجناحهم العلماني وجناحهم الاسلاموي معا، في إطار الأزمة التاريخية الشاملة التي تضرب الاجتماع العربي بأكمله. وهي الأزمة التي يعبر عنها الإخفاق المزدوج لمشروع الحداثة والبناء الوطني الذي كان موضوع استثمار تاريخي طويل عند المثقفين المحدثين من جهة ولمشروع إعادة تأسيس الهوية وتثبيتها على أسس إسلامية في مواجهة الهيمنة الغربية الذي انشغل به المثقفون الاسلامويون من جهة ثانية. وليس لهذه الأزمة علاقة ضرورية بالقيم التي يدافع عنها هذان الفريقان ولا بطبيعة المهام التي نذرا نفسيهما لها. إن جذورها تضرب عميقا في البنى والعلاقات الجوسياسية والجيواستراتيجية التي حكمت ولا تزال تحكم مشروع الحداثة العربية وتحدد آفاق تطوره أي البنى المعنوية والمادية معا. بل ليس الشرخ الذي يؤسس للفكر العربي الراهن ويفصل بين ضفتيه ومحوريه، بين إسلامييه وعلمانييه، سوى الصدى المباشر لغياب آفاق التحول التاريخي الفعلية في المنطقة. ولن تكون هناك إمكانية للخروج من الأزمة الفكرية التي تكرس انقسام النخبة المثقفة، وبالتالي تهميشها وانعدام فعاليتها المجتمعية، من دون أن تتحقق تغييرات أساسية في الظروف العامة تخلق فرصا جديدة للتقدم وتسمح بإعادة إطلاق المبادرة التاريخية في المجتمعات العربية وتوفر الأدوات والعناصر المادية والمعنوية اللازمة لتسريع وتيرة التنمية الحضارية.
لا يبشر الضغط العالمي القوي الراهن على المنطقة الشرق أوسطية اليوم في نظري بمثل هذا الانفتاح القريب كما لا يبشر به أيضا تدهور الأوضاع الإقليمية والوطنية التي تشير إلى استمرار النزاعات الداخلية وتجددها وتفكك النظم الحاكمة وفسادها وتهافتها معا. وهو ما يعزز احتمال سيادة طروحات الانكفاء على الذات والتمسك بالثوابت وتعميق النزعة الإجماعية والتوافقية في كل بلد ضد ما يتجلى من تهديدات جدية للهوية والاستقلال الجماعي. ولا يزال من الصعب تصور طفرة تقود إلى التخلي عن الرؤى المسيانية أو الخلاصية التي تحرك العديد من قطاعات الرأي العام الاسلامي وتزيد من احتمال تحول الحركات الاسلاموية بشكل فعلي في اتجاه الديمقراطية على منوال التحول الذي سمح لحزب العدالة التركي بتجاوز الحواجز العقلية والدينية التقليدية والقبول بالسلطة كوسيلة لإدارة الشؤون العامة في شروط الاكراهات التاريخية وبالتعامل مع الواقع والتكيف معه.
وبالرغم من العودة الرائعة للفكر النقدي في عموم البلاد العربية، لا يزال من المبكر أيضا الحديث عن طفرة في الوعي العربي العام تقوده إلى استعادة زمام المبادرة العقلية والحضارية من جديد قبل أن ينجح المثقفون في هضم صدمة الإخفاق التاريخي الذي ساهموا فيه ومن دون نقد التجربة الماضية والخروج منها بدروس ايجابية ومعرفة طبيعة الاختيارات الأساسية التي تحتاج إليها إعادة بناء الرؤية التاريخية وإنارة مسار النشاط الجمعي القادم. وهو ما يستدعي من قبل التيارات الإسلاموية تعميق المعرفة بمعنى التجدد الاسلامي أو تجدد الهوية وكيفيته وشروطه وفرصه، كما يستدعي من قبل التيارات التحديثية النجاح في بلورة مشروع تاريخي ل"لتقدم" العربي المنشود، إذا كان التقدم لا يزال هدفا ممكنا وقائما.
وسيتحتم على التيارات التحديثية في هذه الحالة العمل على إعادة تعريف معنى التقدم: هل هو تجاوز للتأخر بالمقارنة مع البلدان الصناعية أو التكنوعلمية وبالتالي استدراك ما لم يتم إنجازه من مهام بوسائل مختلفة ليبرالية أو دولوية أم هو اندراج في الدورة الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية للحضارة الانسانية الراهنة. وعندئذ يطرح سؤال: كيف يكون الاندراج وما مضمونه وما هي استراتيجياته ووسائله. أليس من الممكن الافتراض بأن سبب فشل التجربة الماضية للقرنين السابقين، أي التقدم عن طريق إصلاح الدين أو إصلاح الدولة (الملكية الدستورية) أو إصلاح العلاقات الجيوسياسية (الوحدة العربية)أو إصلاح المجتمع (الاشتراكية والمجتمع المدني) كامن بالضبط في تصور التقدم استدراكا للتأخر وتجاوزا له أم شقا لطريق جديدة تسمح، انطلاقا من المعطيات المحلية، لكن حسب مباديء كونية وعامة، بإعادة البناء المجتمعي الشامل في مستوياته المختلفة الاخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ هل يمكن تجاوز "التخلف" من دون إعادة تأسيس فلسفة "التقدم"؟ بل هل لا يزال هذا الزوج من المفاهيم مناسبا لطرح موضوع التحول المجتمعي في العالم العربي وفي غيره من البلاد؟ باختصار، هل المسألة مسألة تجاوز واستدراك أم هي مسألة إعادة بناء مجتمع كامل خرب ومتآكل، بصرف النظر عن أي مقارنة مع أي جماعة أخرى. وفي هذه الحالة سنجد أنفسنا أمام أسئلة جديدة سمحت لنا إشكالية استدراك التأخر، بالمنظور الاصلاحي الديني أو الليبرالي وبالمنظور الرديكالي الثوري الماركسي أو القومي، بالتهرب منها وتأجيلها وهاهي تعيد طرح نفسها علينا أكثر قوة من قبل: أي ثقافة وأي أخلاقية وأي دين وأي دولة وأي سياسة وأي قومية وأي علاقة بالمجموعة الانسانية، أي حضارة وأي طريق ومنهج لاستيعابها؟ باختصار، أي حداثة للعالم العربي أو أي حداثة عربية؟
وما يقال عن مفهوم التقدم وضرورة مراجعته يقال بالمثل عن مفهوم التجدد الذي يؤلف محور تأمل المثقفين الاسلامويين وتفكيرهم. فما المقصود بالتجدد؟ هل هو إحياء القيم العربية والاسلامية الأصيلة التي عرفتها المجتمعات العربية في الحقبة الاسلامية الأولى والتي كرست استقلالها السياسي والثقافي وقدرتها الابداعية وحولتها إلى بؤرة رئيسية إن لم تكن البؤرة الأولى للحضارة في عصرها؟ وهل يقوم هذا الإحياء على العودة إلى الصيغ المجتمعية والفكرية التقليدية أم يتطلب بالعكس تبديل هذه الصيغ الجامدة والمفوتة التي تمنع الأنا العربية أو الإسلامية من التفاعل مع العصر ومن مسايرة المطالب التاريخية الخاصة بالانخراط الايجابي في الحضارة الفكرية والمادية الراهنة؟ وما هي الطريق أو الوسيلة لتحقيق هذا التجدد في الماهية أو الهوية العربية الذي يشكل من زاوية نظر الاسلاميين أساس التجدد الثقافي والسياسي والحضاري معا؟
وبقدر ما يلح أصحاب هذا المذهب على محورية العمل على الذات وتحريرها من الاستلاب والتبعية والنسيان في مقابل التحديثيين الذين يركزون بالعكس على الشروط الخارجية لبناء هذه الأنا التاريخية والحضارية، يبدو لي أن السؤال الأكبر والأكثر راهنية - الذي ربما تشكل الاجابة عنه المدخل إلى جميع الإجابات المطلوبة على الأسئلة الأخرى العديدة بقدر ما تشكل شرط تجاوز القطيعة بين تيار الهوية وتيار الحداثة - هو التالي: هل يمكن تحقيق التقدم، أي تغيير شروط وجود المجتمعات العربية بما يجعلها أكثر توافقا مع متطلبات الحياة الحديثة ومعاييرها من دون تجدد الهوية، أي من دون تغيير مسبق في طبيعة الأنا الجمعية الفاعلة، وهل يمكن تحقيق تجدد الذات أو إعادة بناء هذه الأنا الجمعية القائمة وراء أي تغيير تاريخي، تقدما كان أم تجددا، بمعزل عن الشروط التاريخية أو من خارجها؟ وأي علاقة ممكنة ينبغي بناؤها بين مساري التغيير المطلوب على مستوى الواقع ومستوى الذات معا؟
هذه هي المسائل النظرية المطروحة على المجتمعات العربية للرد على تحديات التغيير المنشود والتي يتوقف على المثقفين العرب في العقود القادمة توفير الاجابات المتسقة والعقلانية عنها للحصول على موقع في خريطة السلطة الاجتماعية واستعادة المبادرة التي كانت للمثقف منذ بداية النهضة العربية.
لكن نستطيع منذ الآن أن نقول لتأكيد تفاؤل فعلي لا مصطنع: إن انخراط المثقفين الراهن أو بعضهم في السنوات الماضية، وبشكل أكبر فأكبر اليوم، إلى جانب الشعوب في معركة انتزاع الحقوق المدنية والسياسية، أي في مسيرة التحولات الديمقراطية العميقة، في إطار الهيئات المدنية والسياسية معا، وإن كان لا يقدم مثل هذه الإجابات المنتظرة بعد، إلا أنه يشكل المدخل الضروري الذي يعيد المثقف إلى مجتمعه ويمكنه من استعادة دوره في توجيه المسيرة العامة بقدر ما يسمح للمثقفين بالانخراط في الممارسة العملية ويقدم لهم فرصة الالتقاء في المعركة الواحدة من أجل الحرية والاستقلال عن الوصاية السياسية والأبوية معا. ومن هنا تمثل المشاركة في معركة الديمقراطية المفتوحة في البلاد العربية خشبة الخلاص الرئيسية اليوم إن لم نقل الوحيدة لخروج المثقفين كفاعل اجتماعي من نفق الانهزامية واحتقار الذات والهامشية للالتحاق بقاطرة التحول التاريخية العتيدة. وبقدر ما تساهم هذه المعركة في تحقيق التغيير واستعادة الأنا التاريخية المبادرة في استيعاب الحداثة وتوطينها تمهد الأرض لتجاوز القطيعة بين تيارات إسلاموية وتيارات علمانوية متنافية وتهيؤ للخروج من فقر المقاربة التاريخانية وسحرية المقاربة الثقافوية ورؤيتها الحضاروية التبسيطية معا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire