اتحاد 17 آب أغسطس 2005
في رده على مقال كنت قد كتبته في موضوع التمييز بين مفهومي الليبرالية والديمقراطية كتب الزميل عبد الرزاق عيد مقالا عنيفا بعنوان "النخب السورية وترف الاختيار بين الديموقراطية والليبرالية!" ( كلنا شركاء 8/8/2005 ) اعتبر فيه أن هذا التمييز هو من نوع الترف العقلي في بلد يعيش منذ أكثر من أربعين عاما تحت نير الشمولية والنظم الاستبدادية. والحجة الوحيدة التي يقدمها لتبرير موقفه من هذا التمييز الذي يندرج في مناقشة المسائل النظرية والاستراتيجية المتعلقة بعملية التحول الديمقراطي في سورية والبلاد العربية، هي أن "المجتمع السوري بحاجة، من منظور تاريخانية ماركس ذاته، إلى مرحلة انتقالية ليبرالية (عارية بلا لبوس) وبدون شروط بمعناها القاع ، الخام (الحرية كذات دون صفات ) ، بمعناها الطازج بدون أية منكهات ، تماما مثلما استلهمها الفكر الليبرالي العربي التنويري منذ بداية القرن العشرين من الكتاب الشهير لجان ستيوارت ميل "في الحرية" الذي لا يزال يمارس مرجعيته النظرية حتى اليوم ، حتى في المجتمع الأمريكي ذاته الأكثر تفننا وتفكها بأنواع الليبراليات القديم منها والجديد". فلا يملك المجتمع السوري المبتلي بالاستبداد ترف النقاش في موضوع الحرية ولا التفريق والتمييز ومن باب أولى كما يذكر في عنوان مقاله الاختيار بين الليبرالية والديمقراطية.
والواقع أن هناك في هذا الرد سوء فهم وابتعاد كبير عن مضمون المقال الذي كتبته وهدفه معا مردهما الاختلاف بين المنهج التاريخاني الخطي الذي يأخذ به عبد الرزاق عيد، وهو ما أوحى له الرجوع إلى كتابات عبد الله العروي وياسين الحافظ،، ومنهج النقد التاريخي الذي أتبعه والذي لا يعتمد نظرية المراحل التاريخية المتعاقبة وإنما السياقات التاريخية الخاصة والمركبة.
وسوء الفهم واضح في عنوان الرد نفسه. فليس في ما كتبته ما يشير من قريب أو بعيد إلى ضرورة الاختيار بين الليبرالية والديمقراطية على الإطلاق وإنما التمييز بينهما حتى لا يبتلع مفهوم الليبرالية إشكالية الديمقراطية نفسها ويحرم أولئك الذين لا يؤمنون بالليبرالية كفلسفة للحياة أو كاستراتيجية تنمية إقتصادية من حقهم في الانتماء إلى الديمقراطية والتمسك بنظامها من قوميين ويساريين وإسلامييين. فمستقبل الديمقراطية عندنا كما ذكرت يكمن في تعميم مفهومها وإرادة الأخذ بنظامها عند جميع التيارات الفكرية والسياسية لا حصرها بفريق ايديولوجي واحد وإدانة الآخرين بالبقاء، مهما حصل لهم من تجارب، في إطار الشمولية أو إغلاق الطريق أمام احتمال تقدمهم نحو مواقف ديمقراطية. ويفهم من هذا التمييز كما هو واضح أن من الضروري أن تفتح الديمقراطية صدرها لغير الليبراليين ولا يمكن بأي حال أن يفهم منه أن المطلوب هو الاختيار بين الديمقراطية والليبرالية أو أن الليبراليين لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين. ولا من باب أولى أن الديمقراطية تتطلب رفض الليبرالية أو العكس.
ومن بين الحجج التي استخدمتها لتبرير موقفي النظري في أهمية التمييز بين المفهومين أو عدم المطابقة بينهما هي أن الليبرالية نفسها من حيث هي مفهوم ونظام اقتصادي اجتماعي هي ظاهرة تاريخية متطورة ومتغيرة. ولذلك لا يمكن الاستمرار في استخدام مفهومها كما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر من دون النظر إلى الدلالات الجديدة أو الإضافية التي اكتسبتها عبر التجربة التاريخية. فهي لا تستخدم اليوم في الفكر السياسي المعاصر للتعبير عن فلسفة الحرية الفردية، كما يستخدمها خطاب النخبة العربية الراهنة في سعيها إلى التمايز عن النظم الشمولية، بقدر ما تشير إلى نموذج من النظم الاجتماعية التي لا تهتم بالحريات الفردية والمعايير الإنسانية في إدارة المجتمعات وتنظيمها بقدر ما تعطي الأولوية لمنطق النمو الاقتصادي الذي تعتقد أنه القاطرة لكل أشكال النمو السياسي والثقافي الأخرى. ولذلك ترتبط كلمة الليبرالية المتجددة منذ السبعينات من القرن الماضي بسياسات الخصخصة وتصفية دولة الرعاية الاجتماعية وترجيح كفة رجال الأعمال على حساب طبقات المنتجين وما كانوا يتمتعون به من ضمانات اجتماعية وتأمينات. وفي العموم يرتبط مفهوم الليبرالية اليوم بالتركيز على سياسات السوق العالمية وحرية التجارة وخلق شروط جذب الاستثمارات والرساميل لتحسين فرص التقدم الاقتصادي والتكيف مع حاجات توسع الرأسمالية العالمية. وعندما نصف اليوم في النقاش العالمي حكومة ما بالليبرالية فليس ذلك من أجل الإشارة إلى أنها تعتمد نظام التعددية السياسية أو الاعتراف بالحريات الفردية، وهو تحصيل حاصل بعد انهيار الفكرة الشمولية، وإنما بالعكس من ذلك للإشارة إلى أنها تتبع سياسات تخضع فيها حريات الأفراد وجميع الحقوق الإنسانية، التي استندت في نموها التاريخي إلى فلسفة الليبرالية الكلاسيكية، لمنطق التوسع الاقتصادي وتوحيد الأسواق العالمية وتشجيع الاستثمار، أي باختصار لتقديم مصالح رأس المال وفرص نموه على مصالح الفرد في العدالة والحرية والمساواة. وفي المقابل أصبح الدفاع عن هذه القيم وفي مقدمها توسيع اختيارات الفرد وضمان حرياته الأساسية محور برامج اليسار الذي تراجع نحو مواقع إنسانوية بعد أن انهارت برامجه التقليدية الوضعانية.
لكن حتى قبل هذا التاريخ، لم يكن التطابق بين الرأسمالية والحريات السياسية والمدنية هو السمة الغالبة على الليبرالية. فقد شهد القرن الماضي، خارج الدائرة الغربية والأطلسية عموما، تجارب اجتماعية عديدة لم ترتبط فيها الليبرالية الاقتصادية بالديمقراطية السياسية. وهو ما ميز تجربة اليابان قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية كما ميز في العقود القليلة الماضية تجربة النمور الآسيوية وما يميز اليوم تجربة أكبر جماعة سياسية قائمة، أعني الصين. ويشير ذلك كله إلى أنه لا يوجد تطابق حتمي أو كلي أو بالمطلق بين الاختيارات الاقتصادية الليبرالية والاختيارات السياسية الديمقراطية. ومن هنا قلت إن من المفيد لأصحاب التيار العربي الليبرالي الوليد أن يدخلوا هم أيضا هذا التمييز في حسابهم حتى لا ينخدعوا باحتمال صدور الديمقراطية تلقائيا عن تطبيق سياسات الخصخصة والاندراج في السوق العالمية وأن يدركوا أن تحقيق هذه الديمقراطية ليس تحصيل حاصل وإنما يحتاج إلى عمل سياسي كبير وواسع على المستويات النظرية أولا، أي في مجال تعميق الوعي بها وبمتطلبات تحقيقها، وعلى المستويات العملية ثانيا التي تعني النجاح في بناء الفاعل الاجتماعي المؤهل لبنائها أو القادر عليه. لا يعني هذا أبدا أن الليبرالية مناقضة للديمقراطية أو أنه لا معنى لقيام حزب ليبرالي في العالم العربي. إنما يعني أن تبني الليبرالية لا يؤسس اليوم لوحده لإدراج البلاد والمجتمعات في مسار الديمقراطية ولا يعفي من العمل الموازي لتأمين الشروط الإضافية، النظرية والعملية أيضا، لتعزيز فرص اختيار نظام الحريات الفردية. ولعل إدراك الليبراليين العرب الجدد لهذه الحقيقية هو الذي دفعهم لإطلاق اسم الليبراليين الديمقراطيين على حركتهم وليس الليبراليين فحسب.
وهذا يعني أننا لن نستطيع بلوغ الوضعية المجتمعية السياسية التي تسمح بالانتقال من نظم السلطة المطلقة إلى نظم تعددية ثم ديمقراطية من دون أن ننجح أولا في حل التناقضات القائمة داخل الوعي المجتمعي نفسه، أي في بلورة رؤية متسقة للعملية التحويلية، وثانيا في بناء قطب ديمقراطي واسع يضم جميع أو أغلب تيارات الرأي العام العربي. فلا يكفي للوصول إلى الديمقراطية أن يتبناها الليبراليون من دون الآخرين وأن ينكروا على خصومهم الفكريين من القوميين واليساريين والاسلاميين حقهم في اعتماد الديمقراطية أو الانتماء لنظامها وفكرتها. إن تقدم قضية الديمقراطية يحتاج إلى تبنيها من قبل الجميع، قوميين ويساريين وإسلاميين، حتى لو لم يكن هذا التبني على مستوى واحد وبشكل كامل. ومن مصلحة الديمقراطيين أو من يكافحون بالفعل من أجل مجتمعات عربية ديمقراطية عدم قصر أبوة هذا النظام على تيار من دون غيره وبالعكس إظهار اتساقه مع جميع التيارات الأخرى أو إذا أمكن بناء هذا التوافق والاتساق.
واضح إذن أننا هنا في مجال التدقيق المفهومي الذي لا بد منه لصوغ أي رؤية نظرية متسقة لا غنى عنها لتطوير الممارسة السياسية، وهنا بيت القصيد. بالمقابل عندما يكتب عبد الرزاق عيد بأننا لا نملك ترف التدقيق في مفهوم الليبرالية والديمقراطية في ظروفنا الصعبة الراهنة وعلينا أن نقبل بالليبرالية بعجرها وبجرها كما تفرض علينا، فهذا يفترض أن الليبرالية والديمقراطية آتيين إلينا على حصان التاريخ الأبيض من تلقاء نفسهما ومن المحتمل أن تؤدي اشتراطاتنا عليهما إلى تجفيلهما ومنعهما من الوصول. فعلينا أن نقبل بهما كما هما ولا نصعب الأمور علينا وعليهما. بل يفهم من كلامه أن مثل هذا التفكير بشروط تحقيقهما هو من قبيل التدلل أو حتى البطر الذي يؤدي بصاحبه إلى الخسارة لا محالة. وهذا يعني أن عبد الرزاق قد فهم أن معركتنا كانت ضد الليبرالية وما تعنيه من اعتراف بالحريات الأساسية وأن تمييزنا المفهومي لم يكن سوى ذريعة للجم هذه الحريات الفردية التي تعد بها الليبرالية باسم قيم لا حاجة إلى التذكير بها مثل المساواة والعدالة الاجتماعية.
والحال أن مشكلتنا ليست كما يعتقد عيد في تقليم أظافر الليبرالية السياسية التي تتجه إلينا ولا في رفضنا لها وإنما بالعكس في عدم قدومها أو صعوباته الجمة، مما يحتاج إلى عمل ضروري لتذليل العقبات التي تحول دون قدومها وتوسيع دائرة الاستقطاب الديمقراطي الذي يحتاج إليه بناؤها أكثر مما يحتاج إلى مديح ظلها أو الاختيار بين أشكالها. ولو كنا ضامنين لحركة التاريخ التلقائية التي تدفعنا نحو الليبرالية الديمقراطية ومؤمنين بها لأصبح التفكير النظري في إشكالية الديمقراطية ترفا عقليا بالفعل. بيد أن المشكلة هي أن الليبرالية والديمقراطية ليستا تحصيل حاصل ولا يمكن الوصول إليهما من دون السعي إليهما. فهما نتيجة عمل المجتمع وكفاحه النظري والعملي وليس ثمرة حتمية تاريخية. ومن الممكن في غياب مثل هذا العمل أو بسبب عدم اتساقه أن لا نعرف أيا منهما، أقصد لا الليبرالية الاقتصادية المحركة لاقتصاد السوق الرأسمالي المنتج ولا الديمقراطية المكونة لمواطنية حقيقية حرة ومتساوية. فلا شيء يمنع من أن يأتي الانفتاح الاقتصادي كما حصل حتى الآن في صورة إعادة بناء للسوق الاحتكارية العائلية أو المافيوية. كما لا شيء يمنع من أن يترافق اقتصاد السوق الاحتكارية المافيوية بديكتاتورية عسكرية أو مدنية. فكلاهما ثمرة بناء اجتماعي. وطبيعتهما مرتبطة بنوعية هذا البناء واتساقه النظري والعملي. ومن دون هذا العمل البناء لن يقدم التاريخ بذاته شيئا، لا رأسمالية ولا ليبرالية ولا ديمقراطية، وإنما الفوضى والخراب فحسب.
ومن الواضح أنه من الصعب فهم ذلك إذا بقينا مشدودين إلى فكر ما قبل نهاية الحرب الباردة ولم نستوعب دروس الثورة المعرفية الجديدة التي قادت إليها أزمة الحداثة. وهذا ما يقودنا إلى جوهر موضوع الخلاف أعني الاختلاف المنهجي. فبعكس ما تشير إليه المدرسة التحديثية التاريخانية والوضعانية العربية التقليدية التي وجهت لها النقد في كتاب "المحنة العربية"، وهي المدرسة التي يجسدها على أفضل وجه عبد الله العروي ويسين الحافظ وكثير من التنويريين والتقدمويين الحاليين الذين يستشهد بهم الزميل عبد الرزاق عيد، أنا لا أعتقد أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ مراحل متعاقبة حتمية. ولا ينبع ضعف التجربة العربية من أننا لم نمر بالمرحلة الليبرالية التي لا بد منها حتى نستطيع الوصول إلى المرحلة الاشتراكية. كما أنني لا أعتقد أن الأصل في مشكلة الاشتراكية كما كانت مطروحة في الستينات والسبعينات في بلادنا نقص التقاليد الليبرالية ولكن بالعكس تماما، انعدام شروط إعادة إنتاج الليبرالية "الأصلية" أو "الحقيقية" ذاتها. ولم تكن الاشتراكية التي طرحت نفسها بديلا عنها سوى التعبير المباشر عن هذه المشكلة والهرب من مواجهتها معا.
وهذا يعني أن الخطأ لا يكمن في تقدير أولوية المراحل وإنما في تاريخانية المراحل ذاتها. وما يستحق النظر في "بيان من أجل الديمقراطية" الذي صدر في السبعينات، ليس تقديمه مرحلة الديمقراطية على الاشتراكية وإنما نقد مفهوم الاشتراكية نفسه ومن ورائه مفهوم المراحلية التاريخية وبالتالي سعيه إلى إعادة طرح قضية التحول التاريخي من منظور رفض النماذج والمراحل الجاهزة لا رفض نظرية حرق المراحل وحدها. وفي هذه الحالة لن يمكن حل المهام التاريخية، أو المشاكل التي تطرحها الحداثة على المجتمعات الفقيرة والصغيرة والمتأخرة، من دون إعادة نظر جذرية في نظريات الفكر السياسي ومفاهيمه نفسها وفي الاستراتيجية الاجتماعية أيضا وبالتالي من دون قدرة على العمل من خارج الصيغ التي عرفتها الدول الليبرالية الأولى. فالتاريخ ليس تعاقبا للحقب المماثلة وليس تكرارا لنماذج واحدة وإنما هو إبداع مستمر لصيغ ونماذج وبالتالي لمفاهيم ورؤى واستراتيجيات جديدة مركبة تخترق المراحل والنماذج نفسها وتعيد تركيبها على أسس وحسب معايير مختلفة. وهذا ما يرهن طبيعة التغيير الحاصل في بلد ما بالكفاح النظري والعملي الذي يخوضه المجتمع وينفي عن كلاهما صفة الترف أو عدم اللزوم.
باختصار إن المشكلة لا تكمن في تهذيب الليبرالية السياسية وتشذيبها وإنما بالعكس في بناء الرؤية النظرية والعملية الضرورية لايجادها وتمهيد الطريق لقدومها. فهي لا يمكن أن تأتي من دون هذا الوعي الصحيح بشروط "قدومها" ذلك أنها لن تأتي من تلقاء نفسها ولكنها تحتاج كي تتحقق إلى عمل اجتماعي كبير أي انخراط المجتمع كله في عملية تحول نظرية وسياسية معا. فهي ليست مرحلة قادمة لا محالة بقوة التاريخ والطبيعة وإنما هي بناء اجتماعي قد يحصل وقد لا يحصل وقد ينجح وقد يخفق أيضا. لكن على جميع الأحوال لن تأتي من دون بناء فكرتها بشكل متسق وهو ما يتطلب الدقة في التفكير والتدقيق في المفاهيم وفي استراتيجية العمل والصراع لتذليل الطريق الموصل إليها.
وكما أنني لا أعتقد بوجود مراحل ثابتة مطبوعة في ترسيمة تاريخية كونية سابقة على قيامها فأنا لا أعتقد أيضا بوجود مقدرات مجتمعية ثابتة أو نموذجية. فالمجتمعات هي ثمرة عمل أبنائها في شروط بيئتهم المحلية والإقليمية والعالمية. ونظرية المراحل التاريخية الماركسية الخماسية المعروفة تجريد عمومي محض. ولذلك قلنا عنها أنها ترسيمة فحسب ولا علاقة لها بالتاريخ الفعلي لأي مجتمع من المجتمعات. ففي الواقع لم يتطور أي مجتمع حسب المراحل الخمسة على الإطلاق. فالمجتعات التي تشهد تطورا نموذجيا لصيغة تنظيمية، أو لمرحلة من المراحل الماركسية، وتكون موطنها الأول تنطبع بها وتخفق عادة في التكيف مع مرحلة لاحقة ومن باب أولى في توليدها. ومتى ما مر وقت المرحلة على مجتمع انعدمت شروط إعادة إنتاجها كما هي ودخل هذا المجتمع في سياق مختلف يفرض عليه إعادة نظر جذرية بشروط تحقيقها حتى يستطيع استدراك المهام التاريخية المرتبطة بها. فالتصنيع الذي شهدته وتشهده بلدان العالم الثالث يختلف اختلافا جذريا في مضمونه وآليات تحقيقه وشروطه عما حصل في المجتمعات التي حدثت فيها الثورة الصناعية الأولى ولا يعطي الثمار ذاتها ولا الهياكل نفسها. وقد ارتبط تعميم الليبرالية الاقتصادية والنجاح في الثورة الصناعية في القارات الثلاث الفقيرة بنشوء نظم ديكتاتورية قوية لم تكن قادرة على البقاء والانجاز أيضا إلا بقدر ما كانت حليفة للولايات المتحدة والحلف الأطلسي عموما في الحرب الباردة. ولا شك في أن دخول بلدان جديدة صغيرة وفقيرة كالبلدان العربية في نظام الليبرالية الاقتصادية في عصر السوق العالمية والعولمة وفي عصر الثورة التقنية والعلمية لن يتم بالشروط اليابانية والصينية ذاتها ولن يقدم النتائج السياسية والثقافية نفسها التي قدمها للدول التي دخلت فيه في عصر الثورة الصناعية الأولى والسوق الوطنية. وكما أنه لا توجد في نظري مراحل مماثلة وثابتة تمر بها الشعوب أو تفرض نفسها على الشعوب من دون إرادتها ومن دون عملها، لا مشاعية ولا عبودية ولا إقطاعية ولا رأسمالية ولا اشتراكية، كذلك لا توجد في نظري في التاريخ الاجتماعي حتميات صارمة. ومن الممكن لبعض المجتمعات أن تموت وتزول من الوجود أو أن تنحل كمجتمعات وتذوب في غيرها قبل أن تعرف الليبرالية أو الديمقراطية.
ومن هنا لم يذهب "بيان من أجل الديمقراطية" مذهب القائلين بضرورة المرور بالمرحلة الليبرالية كما ذهب العروي ولكنه انتقد مفهوم الاشتراكية نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة لكتاب الخيار الديمقراطي في سورية الذي سعى إلى تمييز فكرة السوق داخل الرأسمالية كي يعيد تفكيك مفهوم الليبرالية نفسه. فهما لا يتحدثان عن مرحلة تاريخية حتمية أو ضرورية ينبغي التسليم لها أو بها وإنما عن كفاح المجتمعات بفئاتها المختلفة من أجل بناء نظام إجتماعي يحترم الإنسان، أي بناء النظام المدني الأساسي الذي يمكن المجتمعات من إنجاز جميع "مهام" المراحل التاريخية التي أخفقت من قبل في تحقيقها، لكن في إطار إبداعي أي تركيبي يدمج بين هذه المهام المختلفة وحسب جدول أعمال خاص بها وبتاريخها الذاتي، واللحاق بالمسيرة التاريخية العامة والمتواصلة. فلا توجد مراحل متعاقبة هنا ولكن صيغ تركيبية تخترق المراحل وتتجاوزها وتعيد صياغة المهام وتجدد فيها وتختصر منها. ولا توجد حتميات تاريخية وإنما رهان على وعي البشر أنفسهم وكفاحهم. وهذا هو الذي يميز مفهومنا للديمقراطية، التي تقوم على اجتهاد المجتمعات وجهدها وترتبط بهما، عن مفهوم الليبرالية التي تفرض نفسها كمرحلة تاريخية تسبق الاشتراكية وتؤسس لها كما توحي به بعض تأويلات الماركسية المتأخرة ، وهو كذلك الذي يميز منهج النقد والابداع التاريخي عن منهج التاريخانية التبسيطية والتجريدية. فالمراحل التاريخية من وحي التاريخ النظري أما النظم الاجتماعية الحية فهي من صنع المجتمعات وثمرة كفاحها. ولذلك فإن صلاحها يرتبط بصواب تفكيرها وحسن سياساتها. ويخشى على المجتمعات التي لا ترى في الجهد النظري النقدي سوى إضاعة للوقت ومعارضة للتاريخ أن لا تعرف من حركة التحول الاجتماعي سوى الاستقرار على تلك النماذج الدنيا من التنظيم الاجتماعي التي لا تعتمد معيارا للتراتبية وتقدير المسؤولية سوى معيار العنف وإرادة القوة. وهو ما يسود اليوم مجتمعاتنا على مستوى الدولة ومستوى النخب الاجتماعية وما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة تحكم علينا بأن نأكل بعضنا البعض وتحرمنا من إطلاق أي ديناميكية تاريخية إبداعية.
والواقع أن هناك في هذا الرد سوء فهم وابتعاد كبير عن مضمون المقال الذي كتبته وهدفه معا مردهما الاختلاف بين المنهج التاريخاني الخطي الذي يأخذ به عبد الرزاق عيد، وهو ما أوحى له الرجوع إلى كتابات عبد الله العروي وياسين الحافظ،، ومنهج النقد التاريخي الذي أتبعه والذي لا يعتمد نظرية المراحل التاريخية المتعاقبة وإنما السياقات التاريخية الخاصة والمركبة.
وسوء الفهم واضح في عنوان الرد نفسه. فليس في ما كتبته ما يشير من قريب أو بعيد إلى ضرورة الاختيار بين الليبرالية والديمقراطية على الإطلاق وإنما التمييز بينهما حتى لا يبتلع مفهوم الليبرالية إشكالية الديمقراطية نفسها ويحرم أولئك الذين لا يؤمنون بالليبرالية كفلسفة للحياة أو كاستراتيجية تنمية إقتصادية من حقهم في الانتماء إلى الديمقراطية والتمسك بنظامها من قوميين ويساريين وإسلامييين. فمستقبل الديمقراطية عندنا كما ذكرت يكمن في تعميم مفهومها وإرادة الأخذ بنظامها عند جميع التيارات الفكرية والسياسية لا حصرها بفريق ايديولوجي واحد وإدانة الآخرين بالبقاء، مهما حصل لهم من تجارب، في إطار الشمولية أو إغلاق الطريق أمام احتمال تقدمهم نحو مواقف ديمقراطية. ويفهم من هذا التمييز كما هو واضح أن من الضروري أن تفتح الديمقراطية صدرها لغير الليبراليين ولا يمكن بأي حال أن يفهم منه أن المطلوب هو الاختيار بين الديمقراطية والليبرالية أو أن الليبراليين لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين. ولا من باب أولى أن الديمقراطية تتطلب رفض الليبرالية أو العكس.
ومن بين الحجج التي استخدمتها لتبرير موقفي النظري في أهمية التمييز بين المفهومين أو عدم المطابقة بينهما هي أن الليبرالية نفسها من حيث هي مفهوم ونظام اقتصادي اجتماعي هي ظاهرة تاريخية متطورة ومتغيرة. ولذلك لا يمكن الاستمرار في استخدام مفهومها كما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر من دون النظر إلى الدلالات الجديدة أو الإضافية التي اكتسبتها عبر التجربة التاريخية. فهي لا تستخدم اليوم في الفكر السياسي المعاصر للتعبير عن فلسفة الحرية الفردية، كما يستخدمها خطاب النخبة العربية الراهنة في سعيها إلى التمايز عن النظم الشمولية، بقدر ما تشير إلى نموذج من النظم الاجتماعية التي لا تهتم بالحريات الفردية والمعايير الإنسانية في إدارة المجتمعات وتنظيمها بقدر ما تعطي الأولوية لمنطق النمو الاقتصادي الذي تعتقد أنه القاطرة لكل أشكال النمو السياسي والثقافي الأخرى. ولذلك ترتبط كلمة الليبرالية المتجددة منذ السبعينات من القرن الماضي بسياسات الخصخصة وتصفية دولة الرعاية الاجتماعية وترجيح كفة رجال الأعمال على حساب طبقات المنتجين وما كانوا يتمتعون به من ضمانات اجتماعية وتأمينات. وفي العموم يرتبط مفهوم الليبرالية اليوم بالتركيز على سياسات السوق العالمية وحرية التجارة وخلق شروط جذب الاستثمارات والرساميل لتحسين فرص التقدم الاقتصادي والتكيف مع حاجات توسع الرأسمالية العالمية. وعندما نصف اليوم في النقاش العالمي حكومة ما بالليبرالية فليس ذلك من أجل الإشارة إلى أنها تعتمد نظام التعددية السياسية أو الاعتراف بالحريات الفردية، وهو تحصيل حاصل بعد انهيار الفكرة الشمولية، وإنما بالعكس من ذلك للإشارة إلى أنها تتبع سياسات تخضع فيها حريات الأفراد وجميع الحقوق الإنسانية، التي استندت في نموها التاريخي إلى فلسفة الليبرالية الكلاسيكية، لمنطق التوسع الاقتصادي وتوحيد الأسواق العالمية وتشجيع الاستثمار، أي باختصار لتقديم مصالح رأس المال وفرص نموه على مصالح الفرد في العدالة والحرية والمساواة. وفي المقابل أصبح الدفاع عن هذه القيم وفي مقدمها توسيع اختيارات الفرد وضمان حرياته الأساسية محور برامج اليسار الذي تراجع نحو مواقع إنسانوية بعد أن انهارت برامجه التقليدية الوضعانية.
لكن حتى قبل هذا التاريخ، لم يكن التطابق بين الرأسمالية والحريات السياسية والمدنية هو السمة الغالبة على الليبرالية. فقد شهد القرن الماضي، خارج الدائرة الغربية والأطلسية عموما، تجارب اجتماعية عديدة لم ترتبط فيها الليبرالية الاقتصادية بالديمقراطية السياسية. وهو ما ميز تجربة اليابان قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية كما ميز في العقود القليلة الماضية تجربة النمور الآسيوية وما يميز اليوم تجربة أكبر جماعة سياسية قائمة، أعني الصين. ويشير ذلك كله إلى أنه لا يوجد تطابق حتمي أو كلي أو بالمطلق بين الاختيارات الاقتصادية الليبرالية والاختيارات السياسية الديمقراطية. ومن هنا قلت إن من المفيد لأصحاب التيار العربي الليبرالي الوليد أن يدخلوا هم أيضا هذا التمييز في حسابهم حتى لا ينخدعوا باحتمال صدور الديمقراطية تلقائيا عن تطبيق سياسات الخصخصة والاندراج في السوق العالمية وأن يدركوا أن تحقيق هذه الديمقراطية ليس تحصيل حاصل وإنما يحتاج إلى عمل سياسي كبير وواسع على المستويات النظرية أولا، أي في مجال تعميق الوعي بها وبمتطلبات تحقيقها، وعلى المستويات العملية ثانيا التي تعني النجاح في بناء الفاعل الاجتماعي المؤهل لبنائها أو القادر عليه. لا يعني هذا أبدا أن الليبرالية مناقضة للديمقراطية أو أنه لا معنى لقيام حزب ليبرالي في العالم العربي. إنما يعني أن تبني الليبرالية لا يؤسس اليوم لوحده لإدراج البلاد والمجتمعات في مسار الديمقراطية ولا يعفي من العمل الموازي لتأمين الشروط الإضافية، النظرية والعملية أيضا، لتعزيز فرص اختيار نظام الحريات الفردية. ولعل إدراك الليبراليين العرب الجدد لهذه الحقيقية هو الذي دفعهم لإطلاق اسم الليبراليين الديمقراطيين على حركتهم وليس الليبراليين فحسب.
وهذا يعني أننا لن نستطيع بلوغ الوضعية المجتمعية السياسية التي تسمح بالانتقال من نظم السلطة المطلقة إلى نظم تعددية ثم ديمقراطية من دون أن ننجح أولا في حل التناقضات القائمة داخل الوعي المجتمعي نفسه، أي في بلورة رؤية متسقة للعملية التحويلية، وثانيا في بناء قطب ديمقراطي واسع يضم جميع أو أغلب تيارات الرأي العام العربي. فلا يكفي للوصول إلى الديمقراطية أن يتبناها الليبراليون من دون الآخرين وأن ينكروا على خصومهم الفكريين من القوميين واليساريين والاسلاميين حقهم في اعتماد الديمقراطية أو الانتماء لنظامها وفكرتها. إن تقدم قضية الديمقراطية يحتاج إلى تبنيها من قبل الجميع، قوميين ويساريين وإسلاميين، حتى لو لم يكن هذا التبني على مستوى واحد وبشكل كامل. ومن مصلحة الديمقراطيين أو من يكافحون بالفعل من أجل مجتمعات عربية ديمقراطية عدم قصر أبوة هذا النظام على تيار من دون غيره وبالعكس إظهار اتساقه مع جميع التيارات الأخرى أو إذا أمكن بناء هذا التوافق والاتساق.
واضح إذن أننا هنا في مجال التدقيق المفهومي الذي لا بد منه لصوغ أي رؤية نظرية متسقة لا غنى عنها لتطوير الممارسة السياسية، وهنا بيت القصيد. بالمقابل عندما يكتب عبد الرزاق عيد بأننا لا نملك ترف التدقيق في مفهوم الليبرالية والديمقراطية في ظروفنا الصعبة الراهنة وعلينا أن نقبل بالليبرالية بعجرها وبجرها كما تفرض علينا، فهذا يفترض أن الليبرالية والديمقراطية آتيين إلينا على حصان التاريخ الأبيض من تلقاء نفسهما ومن المحتمل أن تؤدي اشتراطاتنا عليهما إلى تجفيلهما ومنعهما من الوصول. فعلينا أن نقبل بهما كما هما ولا نصعب الأمور علينا وعليهما. بل يفهم من كلامه أن مثل هذا التفكير بشروط تحقيقهما هو من قبيل التدلل أو حتى البطر الذي يؤدي بصاحبه إلى الخسارة لا محالة. وهذا يعني أن عبد الرزاق قد فهم أن معركتنا كانت ضد الليبرالية وما تعنيه من اعتراف بالحريات الأساسية وأن تمييزنا المفهومي لم يكن سوى ذريعة للجم هذه الحريات الفردية التي تعد بها الليبرالية باسم قيم لا حاجة إلى التذكير بها مثل المساواة والعدالة الاجتماعية.
والحال أن مشكلتنا ليست كما يعتقد عيد في تقليم أظافر الليبرالية السياسية التي تتجه إلينا ولا في رفضنا لها وإنما بالعكس في عدم قدومها أو صعوباته الجمة، مما يحتاج إلى عمل ضروري لتذليل العقبات التي تحول دون قدومها وتوسيع دائرة الاستقطاب الديمقراطي الذي يحتاج إليه بناؤها أكثر مما يحتاج إلى مديح ظلها أو الاختيار بين أشكالها. ولو كنا ضامنين لحركة التاريخ التلقائية التي تدفعنا نحو الليبرالية الديمقراطية ومؤمنين بها لأصبح التفكير النظري في إشكالية الديمقراطية ترفا عقليا بالفعل. بيد أن المشكلة هي أن الليبرالية والديمقراطية ليستا تحصيل حاصل ولا يمكن الوصول إليهما من دون السعي إليهما. فهما نتيجة عمل المجتمع وكفاحه النظري والعملي وليس ثمرة حتمية تاريخية. ومن الممكن في غياب مثل هذا العمل أو بسبب عدم اتساقه أن لا نعرف أيا منهما، أقصد لا الليبرالية الاقتصادية المحركة لاقتصاد السوق الرأسمالي المنتج ولا الديمقراطية المكونة لمواطنية حقيقية حرة ومتساوية. فلا شيء يمنع من أن يأتي الانفتاح الاقتصادي كما حصل حتى الآن في صورة إعادة بناء للسوق الاحتكارية العائلية أو المافيوية. كما لا شيء يمنع من أن يترافق اقتصاد السوق الاحتكارية المافيوية بديكتاتورية عسكرية أو مدنية. فكلاهما ثمرة بناء اجتماعي. وطبيعتهما مرتبطة بنوعية هذا البناء واتساقه النظري والعملي. ومن دون هذا العمل البناء لن يقدم التاريخ بذاته شيئا، لا رأسمالية ولا ليبرالية ولا ديمقراطية، وإنما الفوضى والخراب فحسب.
ومن الواضح أنه من الصعب فهم ذلك إذا بقينا مشدودين إلى فكر ما قبل نهاية الحرب الباردة ولم نستوعب دروس الثورة المعرفية الجديدة التي قادت إليها أزمة الحداثة. وهذا ما يقودنا إلى جوهر موضوع الخلاف أعني الاختلاف المنهجي. فبعكس ما تشير إليه المدرسة التحديثية التاريخانية والوضعانية العربية التقليدية التي وجهت لها النقد في كتاب "المحنة العربية"، وهي المدرسة التي يجسدها على أفضل وجه عبد الله العروي ويسين الحافظ وكثير من التنويريين والتقدمويين الحاليين الذين يستشهد بهم الزميل عبد الرزاق عيد، أنا لا أعتقد أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ مراحل متعاقبة حتمية. ولا ينبع ضعف التجربة العربية من أننا لم نمر بالمرحلة الليبرالية التي لا بد منها حتى نستطيع الوصول إلى المرحلة الاشتراكية. كما أنني لا أعتقد أن الأصل في مشكلة الاشتراكية كما كانت مطروحة في الستينات والسبعينات في بلادنا نقص التقاليد الليبرالية ولكن بالعكس تماما، انعدام شروط إعادة إنتاج الليبرالية "الأصلية" أو "الحقيقية" ذاتها. ولم تكن الاشتراكية التي طرحت نفسها بديلا عنها سوى التعبير المباشر عن هذه المشكلة والهرب من مواجهتها معا.
وهذا يعني أن الخطأ لا يكمن في تقدير أولوية المراحل وإنما في تاريخانية المراحل ذاتها. وما يستحق النظر في "بيان من أجل الديمقراطية" الذي صدر في السبعينات، ليس تقديمه مرحلة الديمقراطية على الاشتراكية وإنما نقد مفهوم الاشتراكية نفسه ومن ورائه مفهوم المراحلية التاريخية وبالتالي سعيه إلى إعادة طرح قضية التحول التاريخي من منظور رفض النماذج والمراحل الجاهزة لا رفض نظرية حرق المراحل وحدها. وفي هذه الحالة لن يمكن حل المهام التاريخية، أو المشاكل التي تطرحها الحداثة على المجتمعات الفقيرة والصغيرة والمتأخرة، من دون إعادة نظر جذرية في نظريات الفكر السياسي ومفاهيمه نفسها وفي الاستراتيجية الاجتماعية أيضا وبالتالي من دون قدرة على العمل من خارج الصيغ التي عرفتها الدول الليبرالية الأولى. فالتاريخ ليس تعاقبا للحقب المماثلة وليس تكرارا لنماذج واحدة وإنما هو إبداع مستمر لصيغ ونماذج وبالتالي لمفاهيم ورؤى واستراتيجيات جديدة مركبة تخترق المراحل والنماذج نفسها وتعيد تركيبها على أسس وحسب معايير مختلفة. وهذا ما يرهن طبيعة التغيير الحاصل في بلد ما بالكفاح النظري والعملي الذي يخوضه المجتمع وينفي عن كلاهما صفة الترف أو عدم اللزوم.
باختصار إن المشكلة لا تكمن في تهذيب الليبرالية السياسية وتشذيبها وإنما بالعكس في بناء الرؤية النظرية والعملية الضرورية لايجادها وتمهيد الطريق لقدومها. فهي لا يمكن أن تأتي من دون هذا الوعي الصحيح بشروط "قدومها" ذلك أنها لن تأتي من تلقاء نفسها ولكنها تحتاج كي تتحقق إلى عمل اجتماعي كبير أي انخراط المجتمع كله في عملية تحول نظرية وسياسية معا. فهي ليست مرحلة قادمة لا محالة بقوة التاريخ والطبيعة وإنما هي بناء اجتماعي قد يحصل وقد لا يحصل وقد ينجح وقد يخفق أيضا. لكن على جميع الأحوال لن تأتي من دون بناء فكرتها بشكل متسق وهو ما يتطلب الدقة في التفكير والتدقيق في المفاهيم وفي استراتيجية العمل والصراع لتذليل الطريق الموصل إليها.
وكما أنني لا أعتقد بوجود مراحل ثابتة مطبوعة في ترسيمة تاريخية كونية سابقة على قيامها فأنا لا أعتقد أيضا بوجود مقدرات مجتمعية ثابتة أو نموذجية. فالمجتمعات هي ثمرة عمل أبنائها في شروط بيئتهم المحلية والإقليمية والعالمية. ونظرية المراحل التاريخية الماركسية الخماسية المعروفة تجريد عمومي محض. ولذلك قلنا عنها أنها ترسيمة فحسب ولا علاقة لها بالتاريخ الفعلي لأي مجتمع من المجتمعات. ففي الواقع لم يتطور أي مجتمع حسب المراحل الخمسة على الإطلاق. فالمجتعات التي تشهد تطورا نموذجيا لصيغة تنظيمية، أو لمرحلة من المراحل الماركسية، وتكون موطنها الأول تنطبع بها وتخفق عادة في التكيف مع مرحلة لاحقة ومن باب أولى في توليدها. ومتى ما مر وقت المرحلة على مجتمع انعدمت شروط إعادة إنتاجها كما هي ودخل هذا المجتمع في سياق مختلف يفرض عليه إعادة نظر جذرية بشروط تحقيقها حتى يستطيع استدراك المهام التاريخية المرتبطة بها. فالتصنيع الذي شهدته وتشهده بلدان العالم الثالث يختلف اختلافا جذريا في مضمونه وآليات تحقيقه وشروطه عما حصل في المجتمعات التي حدثت فيها الثورة الصناعية الأولى ولا يعطي الثمار ذاتها ولا الهياكل نفسها. وقد ارتبط تعميم الليبرالية الاقتصادية والنجاح في الثورة الصناعية في القارات الثلاث الفقيرة بنشوء نظم ديكتاتورية قوية لم تكن قادرة على البقاء والانجاز أيضا إلا بقدر ما كانت حليفة للولايات المتحدة والحلف الأطلسي عموما في الحرب الباردة. ولا شك في أن دخول بلدان جديدة صغيرة وفقيرة كالبلدان العربية في نظام الليبرالية الاقتصادية في عصر السوق العالمية والعولمة وفي عصر الثورة التقنية والعلمية لن يتم بالشروط اليابانية والصينية ذاتها ولن يقدم النتائج السياسية والثقافية نفسها التي قدمها للدول التي دخلت فيه في عصر الثورة الصناعية الأولى والسوق الوطنية. وكما أنه لا توجد في نظري مراحل مماثلة وثابتة تمر بها الشعوب أو تفرض نفسها على الشعوب من دون إرادتها ومن دون عملها، لا مشاعية ولا عبودية ولا إقطاعية ولا رأسمالية ولا اشتراكية، كذلك لا توجد في نظري في التاريخ الاجتماعي حتميات صارمة. ومن الممكن لبعض المجتمعات أن تموت وتزول من الوجود أو أن تنحل كمجتمعات وتذوب في غيرها قبل أن تعرف الليبرالية أو الديمقراطية.
ومن هنا لم يذهب "بيان من أجل الديمقراطية" مذهب القائلين بضرورة المرور بالمرحلة الليبرالية كما ذهب العروي ولكنه انتقد مفهوم الاشتراكية نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة لكتاب الخيار الديمقراطي في سورية الذي سعى إلى تمييز فكرة السوق داخل الرأسمالية كي يعيد تفكيك مفهوم الليبرالية نفسه. فهما لا يتحدثان عن مرحلة تاريخية حتمية أو ضرورية ينبغي التسليم لها أو بها وإنما عن كفاح المجتمعات بفئاتها المختلفة من أجل بناء نظام إجتماعي يحترم الإنسان، أي بناء النظام المدني الأساسي الذي يمكن المجتمعات من إنجاز جميع "مهام" المراحل التاريخية التي أخفقت من قبل في تحقيقها، لكن في إطار إبداعي أي تركيبي يدمج بين هذه المهام المختلفة وحسب جدول أعمال خاص بها وبتاريخها الذاتي، واللحاق بالمسيرة التاريخية العامة والمتواصلة. فلا توجد مراحل متعاقبة هنا ولكن صيغ تركيبية تخترق المراحل وتتجاوزها وتعيد صياغة المهام وتجدد فيها وتختصر منها. ولا توجد حتميات تاريخية وإنما رهان على وعي البشر أنفسهم وكفاحهم. وهذا هو الذي يميز مفهومنا للديمقراطية، التي تقوم على اجتهاد المجتمعات وجهدها وترتبط بهما، عن مفهوم الليبرالية التي تفرض نفسها كمرحلة تاريخية تسبق الاشتراكية وتؤسس لها كما توحي به بعض تأويلات الماركسية المتأخرة ، وهو كذلك الذي يميز منهج النقد والابداع التاريخي عن منهج التاريخانية التبسيطية والتجريدية. فالمراحل التاريخية من وحي التاريخ النظري أما النظم الاجتماعية الحية فهي من صنع المجتمعات وثمرة كفاحها. ولذلك فإن صلاحها يرتبط بصواب تفكيرها وحسن سياساتها. ويخشى على المجتمعات التي لا ترى في الجهد النظري النقدي سوى إضاعة للوقت ومعارضة للتاريخ أن لا تعرف من حركة التحول الاجتماعي سوى الاستقرار على تلك النماذج الدنيا من التنظيم الاجتماعي التي لا تعتمد معيارا للتراتبية وتقدير المسؤولية سوى معيار العنف وإرادة القوة. وهو ما يسود اليوم مجتمعاتنا على مستوى الدولة ومستوى النخب الاجتماعية وما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة تحكم علينا بأن نأكل بعضنا البعض وتحرمنا من إطلاق أي ديناميكية تاريخية إبداعية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire