بعد الضجة الكبيرة التي أثارتها مبادرات الاصلاح الخارجية في سياق البحث عن وسيلة لإضفاء الشرعية على مشروع السيطرة الأجنبية على مقدرات منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية همدت الأمور وصمتت الأصوات جميعا: تلك التي كانت تنادي بالاصلاحات العتيدة في العاصمة الأمريكية وتلك التي كانت تهول في الأمور في أوساط النخب العربية ومحازبيها. وبالرغم من أن هذا التراجع الغربي عن التلاعب بشعارات الاصلاح والديمقراطية حرصا على تعاون الحكومات لم يضعف علاقات التبعية ولا قلل من أثر الهيمنة الأجنبية كما أنه لم يزد فرص الاصلاحات الداخلية إلا أنه أعاد المنطقة إلى السؤالات القديمة ذاتها التي أثارها جمود الأوضاع العربية والتي كنت أعتقد ولا أزال أنه من المستحيل الرد عليها من أفق الخصوصية الإقليمية أو بالأحرى من خارج أفق العالمية. ولعل أهم الدروس التي ينبغي استخلاصها بعد سقوط غبار هذه المعركة الاصلاحية الوهمية هي أن الحقائق العالمية الكبرى لعصر العولمة قد فرضت نفسها على خصوصيات الأوضاع العربية وبينت أن العالم العربي، بالرغم من كل ما يتميز به وضعه من سمات استثنائية مرتبطة بمسائل النفط وإسرائيل وحساسية الموقع الجيوستراتيجي خضع في النهاية للقوانين العمومية لحقبتنا التاريخية.
وكانت العولمة قد طرحت منذ عقود وقبل أن تتفجر الأزمة الكبرى الشرق أوسطية مسائل التحول الديمقراطي ضمن الاشكالية العالمية على النحو التالي: هل تقود العولمة إلى زيادة فرص التحول نحو الديمقراطية في البلاد العربية كما هو الحال في بقية الدول النامية بل والعالم أجمع؟
وقد برزت في الاجابة على هذاالسؤال وجهتا نظر متناقضتان. تقول الأولى إن العولمة بقدر ما تضعف من سيطرة الدولة الوطنية على فضاءاتها الثقافية والإعلامية الخاصة، وبالتالي بقدر ما تقلل من قدرتها على تكوين قاعدة إجتماعية واسعة من الزبائن السياسيين، وتربط مصير التنمية فيها بالسوق العالمية، لا بد أن تدفع إلى زيادة فرص التحولات الديمقراطية وتوسيع دائرة الانخراط فيها من قبل المزيد من بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية.
أما وجهة النظر الثانية التي يدافع عنها تيار نقد العولمة، وريث الاتجاهات اليسارية الماركسية والنقدية عموما، فقد كانت ترى عكس ذلك تماما، أي أن العولمة تشكل أكبر تهديد للنظام الديمقراطي، ليس في البلاد النامية فقط ولكن في بلدان الديمقراطية الناضجة والراسخة ذاتها، أعني البلدان الصناعية الكبرى نفسها. وأهم الحجج التي قدمت لتفسير ذلك تركزت على ما بدا ولا يزال وكأنه جوهر العولمة والدافع الحقيقي والعميق لها, أي توسع الرأسمالية. فبقدر ما تتقدم عملية التوسع الرأسمالي هذه وما تعنيه من دمج للأسواق وفتح لأسواق جديدة كانت مغلقة أو هامشية أو مهمشة سوف يسيطر منطق الربح الذي هو منطق الرأسمال على حياة المجتمعات ويدفع إلى الخلف جميع المعايير والمؤشرات الأخرى الثقافية والسياسية والاجتماعية. وبقدر ما يسيطر منطق البحث الشامل عن أقصى الأرباح، ويعم جميع بقاع الكرة الأرضية سوف تفقد الدولة والسلطة السياسية التي تمثلها محتواها ومقدرتها على عمل أي شيء، وتتحول برمتهاإلى مسرح يضم حشدا من رحال مسلوبي الإرادة. وفي هذه الحالة لا بد أن تفقد الديمقراطية التي هي المحتوى الحقيقي للدولة الحديثة أو الدولة الأمة شرعيتها. ومن هنا تصور هؤلاء أن العولمة ستكون لا محالة مصيدة الديمقراطية.
ولا يعني فقدان الدولة الحديثة لمحتواها الديمقراطي شيئا آخر هنا سوى تراجع سيطرة المجتمع على السلطة العمومية أو المركزية لصالح أقلية من المضاربين الدوليين ورجال الأعمال والمافيات العالمية والشركات المتعدية الجنسية التي سوف تستخدم نفوذها وأدوات سيطرتها أو ضفطها على السلطة العمومية كي تفرض سياساتها على الحكومات وتهيمن على الأسواق الدولية.
باختصار تفيد نظرية تعارض العولمة مع الديمقراطية بأن الخضوع لمنطق الاقتصاد، أو بالأحرى منطق الربح، لا بد أن يفرغ الديمقراطية من محتواها ويضع السلطة جميعها في أيدي أصحاب الرساميل الذين يقررون وحدهم، في الواقع، ومن منطلق تحصيل أقصى الأرباح، مصير المجتمعات البشرية. وبالعكس، تحتاج الديمقراطية إلى أخلاقية الحرية وإلى دولة قانونية وتوازنات سياسية اجتماعية يضمنها التنظيم الحزبي والنقابي التعددي والمجتمع المدني عموما، كما تحتاج إلى حد أدنى من التضامن والتوزيع العادل للثروة. ولا يمكن تحقيق ذلك في سياق تطور العولمة وما تقود إليه من تهميش متزايد للجمهور الواسع وتعميم للبطالة.
في الواقع ينطلق أصحاب وجهة النظر الأولى التي تراهن على العولمة في سبيل تحقيق المزيد من الاصلاحات الديمقراطية من فرضيتين رئيسيتين أولاهما أن الدول الكبرى الديمقراطية تسعى إلى، أو هي معنية بتحقيق الديمقراطية في البلاد النامية على سبيل تعميم نموذجها الاجتماعي السياسي وتوسيع دائرة انتشار قيم الحرية الفردية التي تؤمن بها. وثانيهما أن رأسمالية السوق نفسها، وهي السائدة منذ الآن في العالم كله، تفترض وتتطلب ما يمكن اعتباره سوقا سياسية مماثلة ومقابلة لها تقوم على قاعدة التنافس بين أفراد النخبة الاجتماعية على الوصول إلى مناصب المسؤولية. وهذا يعني أنه بقدر ما تتجه الأمور في اتجاه الليبرالية الاقتصادية وتتوسع دائرة النفوذ والسيطرة الغربية على المقدرات العالمية، ترتفع حظوظ تحقيق الديمقراطية في البلاد النامية.
والحال ليس هناك تاريخيا ومنطقيا ما يدعم هاتين الفرضيتين. إن الدول الديمقراطية الكبرى تتحدث بالفعل عن تعميم القيم الديمقراطية، وهي تخشى سيطرة النظم الشمولية مثل النظم الفاشية والشيوعية، لكن ليس هناك ما يبرر الاعتقاد بأنها مستعدة لوضع الخيار الديمقراطي في مقدمة أولوياتها في علاقاتها بالدول الأخرى. إن الدول سواء أكانت صغيرة أو كبيرة لا تحدد سياساتها على أساس عمل الخير وتحسين نمط حياة أو طريقة حكم المجتمعات الأخرى، ولكن على أساس مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. وبعد انهيار النظم الشمولية القوية، لم يعد هناك أي تهديد حقيقي للنظم الديمقراطية القائمة يفرض عليها من وجهة نظر مصالحها الاستراتيجية التعبئة باسم الديمقراطية ضد الخطر المحتمل. إن وجود نظم مستبدة وضعيفة ولا شعبية يمكن الضغط عليها بسهولة وتحقيق مصالح الدول الكبرى عبرها أكثر فائدة لها من وجود ديمقراطيات لا بد أن تعكس طموح شعوب العالم الثالث وجوعها للعدالة العالمية والتنمية والمشاركة في السياسات الدولية. وبالمثل، كل التجارب الحديثة، الناجحة أو شبه الناجحة، التي نشأت في القرن العشرين دلت على أن من الصعب تحقيق تنمية رأسمالية تبعية في البلاد النامية في إطار المنافسة الدولية العالية اليوم من دون اتباع سياسات قمعية هي وحدها التي تسمح بالاحتفاظ بمعدل منخفض للأجور وبطاعة كلية للنظام. فالرأسمالية المحلية المحصورة بين مطرقة السوق العالمية وسندان المجتمعات المنكوبة لا يمكن أن تكون ليبرالية وهي تتطلب حتما الاستبداد السياسي، وهو ما لا تزال صوره بارزة في نموذج التنانين والنمور الآسيوية، وفي الصين وكل الدول التي تسعي إلى تحقيق تراكم رأسمالي سريع في العصر الراهن. إن عصر التوافق بين نظام الحرية الاقتصادية ونظام الحرية السياسية قد ولى منذ زمن طويل. لكن هذا لا يمنع بالتأكيد أن تسعى الدول الكبرى، وهو ما تقوم به بالفعل، إلى فرض الصبغة الديمقراطية والتعددية الشكلية على نظم قمعية في الجوهر، تتحكم بها نخب محدودة مرتبطة بالخارج، وتقوم بتنظيم الأمن والاستقرار فيها أجهزة أمنية تستخدم خبراء من الدول الديمقراطية ذاتها. فهذه الصبغة من المحسنات الضرورية لنظام الهيمنة الدولي القائم، ومن مستلزمات كسب الشرعية.
هذا ما يفسر في الواقع انهيار الآمال التي عقدت في السنوات القليلة الماضية على سياسات العولمة الجديدة في سبيل توسيع دائرة ممارسة الحريات الديمقراطية في العالم، تماما كما انهارت من قبل آمال المراهنة على النظام العالمي الجديد الذي وقفت وراءه الدول الكبرى في سبيل توفير حد أدنى من احترام القانون الدولي والتقليل من استخدام المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين في العلاقات الدولية. فلا عملت الدول الكبرى كما وعدت على تطبيق القانون الدولي ولا تعمقت مسيرة الديمقراطية في البلدان العربية والنامية. إن ما حصل كان العكس من ذلك تماما، فقد ترافق نشوء ما سمي بالنظام العالمي الجديد بانفجار الحروب الداخلية والعرقية في العديد من البلاد الفقيرة، وبازدياد شراسة الدول الصناعية في سعيها لاقتسام الأسواق ومناطق النفوذ والموارد العالمية في مواجهة تصاعد وتيرة المنافسة بينها لتحسين صادراتها على حساب غيرها وتجاوز أزمة البطالة التي تعرفها مجتمعاتها. كما ترافق تطور العولمة مع تفريغ الديمقراطيات الوطنية من محتواها وتعميم نظم فاشية جديدة موجهة بشكل أساسي ضد الشعوب ولصالح حفنة من رجال الأعمال المتلاعبين بالقانون ومن النخب التي تتعيش على فتات موائدهم، سواء أأخفت هذه النظم حقيقتها وراء واجهة تعددية أم احتفظت، كما هو الحال في العديد من البلاد العربية، بصورتها التقليدية الكالحة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire