الوطن 14 يناير 2005
جاء تصريح المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي مارك براون الذي قال فيه، في حديث نشرته صحيفة "النهار" اللبنانية السبت الماضي، ان العالم العربي هو المنطقة الوحيدة التي يتراجع مستوى حصتها الاقتصادية من الرفاهية العالمية بينما تتقدم مناطق أخرى أو على الأقل تراوح مكانها، ليذكرنا من جديد، إذا كانت هناك حاجة للتذكير، بالمأزق الكبير الذي لا تزال تواجهه عملية التنمية الاقتصادية ومشاريع الاصلاح العتيدة في البلاد العربية. لكن الأهم في تصريح مارك براون هو تأكيده أيضا بأنه لا يمكن فصل هذا التراجع عن طبيعة النظم التسلطية القائمة في العالم العربي وما تعنيه من نقص شديد في المشاركة السياسية. والسؤال الذي يثيره تصريح المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية لا يتعلق بمدى صحة الارتباط بين التنمية الاقتصادية والنظام السياسي أو نقص المشاركة ولكن يتعلق بالأسباب التي دفعت معظم الحكومات العربية إلى تصور عملية الاصلاح الاقتصادي بعيدا عن أي عملية موازية للاصلاح السياسي خلافا لما حصل في المناطق العالمية الأخرى. فليس هناك شك في أن ما ميز تجربة البلاد العربية في الانتقال نحو اقتصاد السوق والاندراج في السياسات النيوليبرالية هو تمسك الحكومات العربية بسياسة الفصل بين الانفتاح الاقتصادي والانفتاح السياسي. كما أنه ليس هناك شك في أن الاحتفاظ بالنظم التسلطية القديمة ما كان له إلا أن يساهم في إفراغ عملية الاصلاح الاقتصادي نفسها من محتواها بما عناه من تكريس سيطرة الحكومات والنخب الفاسدة نفسها ومن الاستمرار في التلاعب بالقانون وغياب المعايير الموضوعية والمحاسبة العمومية وانعدام الشعور بالمسؤولية العامة والافتقار للشفافية.
ينبغي القول بداية أن الفصل بين الانفتاح الاقتصادي والانفتاح السياسي أو التفكير بالاصلاح الاقتصادي بمعزل عن السياسة ليس اختيارا تقنيا أو فنيا. إنه بالدرجة الأولى اختيار سياسي واجتماعي يهدف إلى ضمان تحكم الفئات الحاكمة بعملية الانفتاح وبثمارها معا ومنع فئات أخرى من الاستفادة منها, سواء أكانت فئات رأسمالية، أي مالكة لرأس المال وطامحة إلى المشاركة في الاستثمار، أم شعبية تريد استغلال فرص الانفتاح السياسي لتعزيز نفوذها وتقوية تنظيمها والحفاظ على مصالحها في مواجهة رجال المال والأعمال.
ومن هنا يشكل الاحتفاظ بالنظم التسلطية القائمة في البلاد العربية في إطار تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي أفضل وسيلة لضمان سيطرة العائلات والأسر الحاكمة على موارد الاقتصاد الرأسمالي الجديد أو النامي في إطار الانفتاح على الخارج والاندماج في السوق العالمية. فهي تقدم لهم فرصة التحكم الكلي بعملية الانفتاح ووتيرتها كما تمكنهم من إدارة دفة توزيع المصالح بصورة منهجية. فالنخب الحاكمة ومن يرتبط بها من الأقرباء العائليين والمحاسيب والأزلام هم الذين يستفيدون بالدرجة الأولى من قوانين الانفتاح وما يرتبط بها من عمليات تخصيص ومن صفقات ومعونات وتدفقات خارجية وإعادة تأهيل لبعض القطاعات وتوسيع دائرة الاستثمار فيها. ولعل أكثر ما يقدمه الاحتفاظ بالنظم التسلطية من فوائد لأصحاب الحظوة والحكم في إطار الانفتاح الاقتصادي الجاري هو إخضاع القوانين الجارية لخدمة مصالحهم المباشرة بما يعنيه ذلك من امتيازات في الوصول إلى المعلومات والحصول على الصفقات ومن الاستفادة من مناخ السرية وغياب المنافسة ومن أمكانية تطبيق أسعار احتكارية على السلع والخدمات والأسواق تؤمن الربح السريع أو بالأحرى الهوامش الريعية الكبيرة. ولا يمكن لمثل هذا التحكم شبه الكامل بموارد الاقتصاد أن يحصل من دون الامساك معا وفي الوقت نفسه من قبل العائلات الحاكمة بالسلطتين الاقتصادية والسياسية. فهي تضمن بذلك تحييد جميع الأطراف الاجتماعية الأخرى بمن فيها رجال الأعمال والرأسماليين غير التابعين أو غير المحسوبين على النظام وإخراجهم من دائرة المنافسة الاقتصادية بل القضاء عليهم.
ومن الطبيعي أن يترتب على هذا التطور الاستثنائي نشوء رأسمالية من طبيعة خاصة تستغل علاقات المصاهرة والقرابة والزبونية لضمان توافق السلطتين الاقتصادية والسياسية وتأمين السيطرة البسيطة على آلية تراكم رأس المال. ولا يغير في ذلك ميل الطبقة الجديدة إلى أن تتكون على شكل شبكات مصالح متضاربة ومتنافسة تتنازع للحصول على مناقصات الدولة التي تحدد هي نفسها هامش الريع المرتبط بها، أي تتصارع على تقاسم الثروة العامة واقتسامها لا على مراكمتها عبر تطوير الاستثمار وتوسيع دائرة الانتاج والانفاق لتطوير القاعدة التقنية والعلمية. وبالمقابل، وبالرغم من تراكم الثروات الكبيرة وتوسع الأسواق، تبقى الرأسمالية رأسمالية ضعيفة فاقدة للحيوية والابتكار كما يستمر الافتقار الشديد إلى طبقة رأسمالية ذات تقاليد ووعي وطني ومواطني ورؤية استراتيجية شاملة وطويلة المدى.
في هذا النمط الخصوصي والعائلي من الانتقال نحو اقتصاد السوق العالمية أو المعولمة نجد التفسير والتبرير الوحيد للابقاء على نظام الوصاية الفكرية والمدنية والسياسية التي يجسدها نظام الحزب الواحد أو إلغاء الحياة السياسية ورفض إجراء أي تعديل أو تغيير أو إصلاح على قواعد العمل العمومي القائمة والتقوقع بشكل أكبر على مفهوم السلطة الأحادية والشاملة. وفيه نجد أيضا معنى حرص أصحاب المناصب بمختلف مستوياتهم على البقاء في مناصبهم إلى النهاية مع الأمل والعمل أيضا على توريثها لأبنائهم. وفي هذا النمط الخاص أيضا نجد التفسير المناسب لنشوء رأسمالية من طبيعة مافيوزية تجنح إلى التصرف كأرستقراطية جديدة أو تعيد بناء المجتمع على أسس الأبوية الإقطاعية والفاشية الجديدة. والواقع، كما يشكل الفصل بين السلطة السياسية وأصحاب المصالح الاقتصادية سمة رئيسية من سمات الدولة القانونية الحديثة ومصدر الحراك الطبقي في مجتمعات عصرنا يشكل الاندماج بين السلطتين سمة أساسية من سمات الدولة أو السلطة الإقطاعية القديمة التي كانت تقوم على منع الحراك الاجتماعي وتثبيت السكان والفئات الاجتماعية في مراتب جامدة وتكريس السلطة والثروة معا كحق محسوم وثابت لارستقراطية وراثية محصورة في جزء محدود من العائلات التي نجحت عن طريق تفوقها في تنظيم الميليشيات المسلحة في وضع يدها على السلطة ولا تزال تملك القوة الكافية للاحتفاظ بها.
أما الحجج التي ترددها الارستقراطية المالية الجديدة لتبرير رفض الاصلاح السياسي والانفتاح، وما تدعيه من حرص على جعل الأولوية في خياراتها لتأمين لقمة الخبز وفرص العمل للعاطلين والنمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة، وهو ما كذبه ويكذبه واقع الحال كل يوم, فليس سوى ذرائع للتغطية على عملية نقل الثروة والسلطة في دائرة العائلات الحاكمة ذاتها من جيل الآباء إلى جيل الأبناء لا غير ولا علاقة لها بأي خيارات سياسية جدية وعملية. والأمر نفسه ينطبق أيضا على ما يشاع من ذرائع حول خطر الفوضى الكامن وراء الانفتاح السياسي.
يشكل هذا النمط من الانتقال نحو اقتصاد السوق في البلاد العربية وبعض البلدان الأخرى الموجودة في وضعيات مشابهة التربة الخصبة لنشوء رأسمالية خاصة قائمة على المضاربة والاحتكار واستغلال النفوذ وفي سياقها لولادة وازدهار ارستقراطية مالية تعتمد علي نفوذها السياسي وموقعها الاحتكاري لتأمين وجودها واستمرارها أكثر مما تعتمد على كفاءتها الاقتصادية التنافسية. كما يشكل أيضا العقبة الرئيسية أمام ولادة الرأسمالية بالمعنى الموضوعي والتاريخي للكلمة, أي الاستثمار الرأسمالي الذي يعتمد التراكم فيه على تثمين العمل وزيادة الانتاج وتحسين الانتاجية والتقدم التكنولوجي, ويكون بالتالي منبعا للتجديدات والابتكارات التقنية والعلمية والإدارية. لكن أهم ما تحمله صيغة هذا الانتقال نحو اقتصاد السوق من دون انفتاح سياسي هو تأمين استمرار احتكار السلطة السياسية من قبل الفئات العائلية ذاتها بالرغم من تغيير النظام الاقتصادي. فبفضلها تضمن الارستقراطية الجديدة وقاعدتها العشائرية والزبونية أن لا يتحول الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق إلى مناسبة لبروز طبقة رجال أعمال جديدة رأسمالية بالمعنى الحقيقي للكلمة تنازعها على ما أصبح يبدو لها نوعا من الملكية الشخصية الموروثة أو التي يمكن وراثتها. فهي تقطع الطريق على نشوء طبقة رأسمالية فعلية مستقلة عن السلطة والإدارة وبالتالي وبالضرورة طبقة حاملة لإمكانية ولادة قوة سياسية جديدة تعبر عنها وتفرض إعادة النظر في طبيعة السلطة وقواعد ممارستها وتضع موضع السؤال الاستمرار في احتكارها.
فليس هناك شك، وهذا ما تراهن عليه القوى الخارجية التي تدعم الانتقال نحو اقتصاد السوق، أن نشوء طبقة رأسمالية قائمة على المنافسة الفعلية والسوق الحرة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أي رأسمالية ذات مضمون سياسي لا يمكن إلا أن تهدد على المدى البعيد، بل المتوسط، نظام سيطرة النخب العائلية الجامدة التي لا يماثلها إلا ما كان عليه الحال في مجتمعات القرون الوسطى. ومن أجل قطع الطريق على مثل هذا الاحتمال تجد هذه النخب نفسها مدفوعة إلى تطبيق سياسات تتعارض مع أي تنمية اقتصادية حقيقية لأنها تهدف إلى منع نشوء رأسمالية موضوعية وتنافسية كما تهدف إلى تفكيك أي حقيقة سياسية وطنية وإحلال صيغ التفاهم العشائري والعائلي محلها. هذا ما يفسر الواقع المؤلم الذي تحدث عنه المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة، واقع أن البلاد العربية وحدها تتراجع في مسيرة التنمية الانسانية بينما تتقدم بلاد أخرى لا تحظى بالقليل من الموارد التي تملكها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire