الجزيرة نت 7 فبراير 2002
قد يبدو استمرار النخب الحاكمة لعقود طويلة دليلا على الاستقرار الذي تسعى إليه جميع الدول والحكومات من أجل خلق مناخ ملائم للتنمية وجذب الاستثمار. هذا صحيح عندما يتم التجديد للنخبة الحاكمة من خلال مسار طبيعي واستشارة شعبية واضحة. لكن الأمر يختلف عندما يكون الاستمرار في الحكم نتيجة الاستخدام القاسي للقوة أو التلاعب بالرأي العام ومنع التعبير عن المصالح الاجتماعية الحقيقية. ففي هذه الحال لا ينبغي الحديث عن الاستقرار ولكن عن أزمة تداول السلطة أو أزمة التداول على السلطة. وتعبر الأزمة عن إخفاق النظام في القيام بوظائفه، والمقصود هنا وظائف التعبير عن التوازن الفعلي للمصالح الاجتماعية المتعددة، وتتجسد في الاختناق والانسداد وما ينجم عنهما من تفاقم للتوترات والتناقضات واحتدام للصراعات العلنية أو الدفينة تحت سطح الاستقرار الشكلي. وبقدر ما يصبح العنف المقنع أو المعلن الوسيلة الوحيدة للخروج من أزمة لا تسمح الطرق القانونية بالخروج منها يجنح جميع اطراف النظام إلى تطوير التقنيات والساحات الموازية وغير الشفافة للسياسة والتي تعبر عن استمرار السياسة المحرمة سياسيا بوسائل أخرى غير طبيعية وغير سياسية وبالتالي غير عقلانية. ومن هذه التقنيات والساحات الموازية والأسواق السوداء للسياسة النزعات الطائفية والعشائرية واالدينية. فهذه هي الطريق الوحيدة التي تستطيع القوى الاجتماعية من خلالها أن تفرض دورها وتضمن حضورها السياسي واستمرارها في عالم الصراع الدموي من أجل الحفاظ على النفوذ والبقاء.
هكذا يحول الاستمرار في الحكم بالقوة أو استمرار حكم القوة الصراع الاجتماعي من صراع على تداول السلطة والمسؤولية الى حرب مواقع ونفوذ داخل الفضاء الاجتماعي يسعى من خلالها الطرف الحاكم إلى تأكيد حضوره في الميدان ليس عن طريق ما يحققه من انجازات للمجتمع, فهذا ممتنع عليه بسبب انشغاله بالحرب ولكن من خلال انتصاره على الخصم. وبالمثل لا تستطيع المعارضة أو القوى المحرومة أن تعبر عن نفسها وتتجاوز تهميشها إلا من خلال ما يمكن أن تسببه من مشاكل وتحمله من تهديدات للنظام. وهو ما يمكن أن نلحظه أيضا في مستوى العلاقات الدولية أالتي تسيطر عليها اليوم القوة الأمريكية تجاه الأطراف الأخرى المهمشة أو التي تريد تهميشها. فبإثارته المشاكل أمام النظام يطمح الطرف المهمش والمنبوذ الى تأمين مشاركته في الحياة العمومية حتى لو كان ذلك بوسائل غير صحية. وما يفعله الأصوليون تفعله الكثير من القوى الاجتماعية المنبوذة داخل المجتمع وعلى الصعيد الدولي بوسائل أخرى وللسبب ذاته. وهذا ما يقود إلى ما أسميه بحرب المواقع المستمرة في حياتنا السياسية. فلا وجود عموميا ممكنا ولا تأكيد للحضور والنفوذ وبالتالي مشاركة في الحياة العمومية إلا بالمقاومة السلبية والحرب غير العلنية. ولا يستطيع أحد أن يفرض اعترافه في ساحة سياسية مغلقة ومحرمة إلا بقدر ما يظهر قدرته على خرق المحرمات وكسر جدران العزلة والمنع. ولذلك تتحول السياسة أيضا إلى تراشق بالقذائف والشتائم والاتهامات والتخوين المتبادل. ويحل التناحر الدائم بين جميع القوى الواقفة بعضها للبعض الآخر بالمرصاد محل التعاون والتفاهم والحوار والتداول. وهذا ما يفسر ما نشهده في جميع الدول العربية من تنابذ وانعدام ثقة وصراع لا يرحم بين العلماء والأحزاب الحاكمة منها وغير الحاكمة والجيش وقوى الأمن والإدارة وغيرها من مراكز القوى السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتكون في هذا النظام في وجه بعضها البعض وتدخل في تنازع وتنافس عدائي يدفع بها الى التفتت الدائم والانقسام. وحرب المواقع هذه هي حرب التحييد المتبادل أيضا. فكل من لا يستطيع التعبير عن نفسه وتأكيد وجوده بوسائل ايجابية أي بالمشاركة في الانجاز يسعى إلى تحقيق هدفه بمنع الآخر من الانجاز وسد السبل أمامه وإضعاف فرص نجاحه. هذا هو قانون أو منطق العمل في نظام احتكار السلطة العمومية وانعدام التداول الحر والسليم بها من قبل أطراف المجتمع المختلفة.لكن حرب التحييد المتبادل لا تمثل رد الفعل الحتمي على انعدام تداول السلطة أو التعويض عنه فحسب وإنما تؤسس أيضا لمنطق اقتسام الغنائم في الدولة وتوزيع الموارد الوطنية على قاعدة ميزان القوة. فالذي يفرض نفسه بأي وسيلة كانت : قرابة عائلية أو قوة عسكرية أو مركز نفوذ داخلي أو خارجي, يؤهل نفسه بالضرورة للمشاركة في الغنيمة وتقاسم الثروة ويطمح عن جدارة في أن يحصل على نصيب من العقود والكمسيونات والمنافع والكرامات يعادل قدرته على تهديد التوازنات الداخلية. ومن هنا يختفي مفهوم الفساد نفسه. فالحصول على المزايا الخاصة لا يبدو في وعي المرتشين ولا مستغلي النفوذ خرقا للقاعدة والعرف والأخلاق ولكنه كتكريس للقانون السائد وللعرف المقبول وللأخلاق "الخصوصية" "الوطنية". وكل من يحصل على مزايا تبدو في الأحوال الطبيعية لا قانونية يعتبر أنه لم يحصل في الواقع إلا على حقه وأنه لو لم يأخذ هو الرشوة لأخذها خصمه ومنافسه. فهو لم يسيء لأحد ولكنه نفع نفسه. والواقع أن سيطرة منطق توزيع الغنائم على حساب منطق التداول على السلطة كأساس للاعتراف بالأهلية بين قوى النخبة المتعددة يعني في الوقت نفسه زوال الشعور بالمصالح العمومية وفناء التفكير من وجهة نظر الارتقاء بشروط حياة المجتمعات كموضوع للسياسة والممارسة العمومية. إن النظام التوزيعي يعطي للجميع الانطباع, وأعني جميع المتنافسين على السلطة والنفوذ, بأنه لا يوجد في الواقع إلا مصالح خصوصية, ومن حق كل فرد أن يدافع عن تعظيم هذه المصالح الخاصة. وبالمقابل يبدو المعارضون الذين يذكرون بالمصلحة العمومية ويطالبون بنشر رؤية أشمل للمسائل السياسية والاقتصادية الوطنية وكأنهم هم الغشاشون والمخادعون الذين يخفون سعيهم لدخول ميدان تقاسم المنافع وراء شعارات أخلاقية ووطنية لا أساس لها من الواقع والحقيقة. فغير المستفيد أوغير الباحث عن تعظيم منافعه الشخصية لا بد أن يكون مزاودا أشرا يسعى إلى زعزعة النظام والاستقرار ويعمل من دون أن يدري وربما بوعي لخدمة الدول الأجنبية. وينبغي للنظام أن يبذل جهدا أكبر في الكشف عن هؤلاء المزاودين وتحييدهم أو كف يدهم مما يبذله لكشف المسيئين للمصالح العامة ومعاقبتهم. فمشكلة هؤلاء معروفة وبسيطة هي الانتفاع الشخصي أما صاحب المباديء فهو يتطلع إلى السلطة ويسعى إلى قسمة جديدة يخرج فيها القائمين ويحل محلهم. هكذا لا يعود الفساد ظاهرة خطيرة ولا شاذة ولا يظهر في عين صانعيه خروجا على المباديء ولكن ممارسة طبيعية وتعبيرا عن الولاء والتوافق مع النظام ورفض المعارضة والمزاودة المبدئية.
فالنخبة الحاكمة لاتشجع على الفساد من خلال الرشوة التي تقدمها للموالين لها فحسب ولكنها تدفع إلى استفحاله أيضا بضربها المستمر لأصحاب المباديء وتحييدهم ومعاقبتهم. فهم بالنسبة إليها الخطر الفعلي لأنهم يظهرون بالضبط معارضة فعلية, حتى لو لم ينطقوا بكلمة واحدة, للأساس الذي يقوم عليه النظام ويبني عليه قاعدته الاجتماعية, أعني قاعدة تقاسم الغنائم والرشوة المنظمة المعممة.
والواقع أن مجتمعات التحييد المتبادل وتقاسم الغنائم هي الوجه المقابل للمجتمعات الفعلية التي لا تقوم ولا تستمر إلا بسبب خلقها شروطا أفضل لتبادل المنافع وزيادة المكاسب القانونية والفكرية والسياسية والحضارية والاقتصادية للجميع. فهي إذن مجتمعات مضادة للاجتماع تماما كما نتحدث عن المادة وضد المادة. ولا يكسب فيها الأفراد شيئا ولكنهم يخسرون جميعا لصالح فئة تقل عددا باستمرار من المسيطرين سيطرة متزايدة أيضا وعائلية أكثر فأكثر على مقدرات البلاد. ففي هذه المجتمعات يحل قانون التخويف المتبادل أي تبادل الأضرار والأذى محل قانون تبادل المنافع كأساس لبقاء الاجتماع والحفاظ على وحدة النظام. ففي الأصل يبعث اللقاء في إطار مجتمع واحد وثقافة ودولة وتاريخ مشترك مشاعر تقارب وتراحم بين الناس ويعمق التعاون والتضامن والتفاهم والثقة بين الأفراد. ويعمل هذا التعاون على تعظيم فرص كل واحد منهم في التقدم وتحسين الأحوال. ومن هنا يعتبر تبادل المنافع هو مبرر وجود المجتمعات وبقائها. فإذا انعدم تبادل المصالح والمنافع أو ضعف لم يعد لوجود المجتمعات واستمرارها بشكل مستقل عن غيرها قيمة وأصبح من المحتم أن تندمج بغيرها من المجتمعات الأخرى التي نجحت بشكل أفضل في الاحتفاظ بقيم النزاهة والصدق والثقة والتعاون والتفاهم والتنظيم, أي بالقيم التي تمكنها من تحقيق التراكم المادي والمعرفي والتقني التي لا بد منها للارتفاع بمستوى حياة أفرادها وضمان استمرارهم يعيشون على مستوى معايير حضارة عصرهم. وهذا هو أساس نشوء الإمبرطوريات التاريخية التي ضمت شعوبا كثيرة مختلفة وقامت على أنقاض دول قومية أو شبة قومية لا تحصى.
ومن الصعب تصور مخرج من هذا النظام أو أي تغيير له من دون تصور نشوء ديناميكية تنافس سياسي جديدة تزعزع استقرار منطق التوزيع القائم للغنائم والمكارم والمكاسب وتفرض آلية جديدة لتداول السلطة السياسية وتوزيعها، من منطق المسؤولية الجماعية وتراكم الثروة والخبرة الوطنية. وهذا هو ما ترمي إليه النضالات الديمقراطية والعمل لتوسيع دائرة الحريات ونقل الصراع من الميدان الاقتصادي إلى الميدان السياسي والفكري. ففي البقاء في المستوى الاقتصادي وحده، سواء أتعلق الأمر باقتصاد السوق أو اقتصاد التخطيط، ليس هناك أي أمل في المس بمنطق نظام تقاسم المغانم وزعزعته.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire