يناير 2005
يعمل الاستمرار في إخضاع السوق إلى منطق السيطرة السياسية العسكرية، بقدر ما يولد ارستقراطية مالية جديدة ويكرس سيطرتها الآلية، على تفريغ الدولة الحديثة من مضمونها، أي من مفاهيم الوطن والمؤسسة والمواطنية والقانون والحرية الشخصية. وهو ما يفسر العودة القوية في إطار السلطة القائمة إلى تعبئة العصبيات العشائرية والعائلية وتكريس قانون القرابة والولاء والانتماء الخاص والتمديد له إلى ما لانهاية. فمن خلال اختراق الدولة الحديثة من قبل البنيات والقيم الزبائنية فقط تستطيع الارستقراطية الجديدة أن تحول مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية إلى ما يشبه ميليشيات القرون الوسطى التي تضمن لها التفوق والاستمرار. وهكذا تتحول الدولة الحديثة من إطار قانوني وسياسي يضمن للمجتمع المكون من أفراد أحرار ومتساوين تنظيم شؤونهم وتجاوز تناقضاتهم وحلها بالوسائل السلمية، ومن ثم تحقيق وحدتهم وتضامناتهم مع تجنب الحرب والصراع الأهليين، إلى أداة لإخضاع المجتمع بالقوة واستخدام العنف الشرعي لقهره وتركيعه.
هذا ما آلت إليه في الواقع عملية الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق في ظروف الإبقاء على نظام السيطرة الشمولية المعتمد على تعليق القانون وإلغاء المراقبة والمساءلة الوطنية وتكريس العلاقات الزبونية. وهو الذي يفسر أن الانفتاح الاقتصادي لا يقود هنا إلى نشوء آليات سوق رأسمالية قائمة على درجة أو أخرى من التنافسية والشفافية وحرية الحركة للقوى الاجتماعية وإنما إلى نشوء سوق رأسمالية مقيدة ومحكومة بالتوازنات العشائرية والسياسية والأمنية وبالتالي مفتقرة بالضرورة للشفافية والمنافسة القانونية معا. وهي تسير جنبا إلى جنب مع تحلل عناصر الدولة الحديثة القانونية والموطنية وتنامي القوانين والإجراءات المقيدة للحريات جميعا والقائمة على التمييز والرشوة المنظمة. وبقدر ما يعكس هذا الوضع افتقار رأسمالية العائلة والعشيرة الناشئة في أحشاء بيرقراطية الدولة إلى أي حافز للتغيير السياسي يؤكد راهنية الإبقاء على أنماط الحكم العسكري والأمني وحتمية إعادة إنتاجها. وكما أنه لا أمل لهذه الرأسمالية في الوجود والاستمرار مع تشغيل أليات ووسائل المراقبة والمحاسبة والشفافية والمساءلة القانونية والسياسية، فليس بإمكانها التطور والنماء من دون االاستخدام المعمم للعنف الذي يضمن لها وحده لجم القوى الاجتماعية المنتجة والعاطلة والمهمشة والاستمرار في الاستفادة من الميزات الاستراتيجية نفسها التي استفاد منها جيل آبائها للانتقال من حال البؤس إلى مصاف الطبقة الارستقراطية المكرسة، أي احتكار السياسة والاستخدام المعمم للعنف العملي أو الرمزي المستبطن .
وبعكس ما يراهن عليه الاتحاد الأوروبي الذي يعتقد أن تدعيم القطاع الخاص مهما كان نوعه لا بد أن يفتح باب التعددية السياسية والديمقراطية في المستقبل، وليس من الضروري الاصرار منذ البداية في إطار التعاون مع دول الجنوب التمسك بملفات الديمقراطية وحقوق الانسان، أظهرت التجربة أن الدمج بين السياسات النيوليبرالية الجديدة والسلطة العشائرية الارستقراطية التسلطية لا يقود في أي مرحلة لاحقة إلى الانفتاح السياسي ولا إلى تجديد قواعد عمل النظام والطبقة الحاكمة. فرأسمالية العشيرة مدانة حتما بالاعتماد الدائم على تعبئة العصبية العائلية والعشائرية وتفكيك اللحمة الوطنية وتذريرها. وهي بالضرورة رأسمالية Clanique أرستقراطية ومافيوزية معا تعتمد التلاعب بالقوانين والمداخلات الشخصية. ولذلك فهي غير منتجة وليس في برنامجها ولا مشروعها ولا طاقتها إطلاق عملية التنمية أو خلق فرص عمل جديدة. ولا يكمن السبب فقط في أن تكوين هذه الطبقة الزبونية لا يتم إلا على حساب نشوء الطبقة الوسطى المنتجة ولكن في أن هذا التكوين لا يمكن أن يتحقق من دون أن يقطع الطريق على نشوء طبقة رأسمالية عمومية نشيطة وحية مكونة من رجال الأعمال الأكفاء والمنتجين والمبادرين. والرأسمالية العشيرية ليست في الواقع إلا نوعا من رأسمالية المضاربة التي برزت في سياق عملية الانتقال البسيط للثروة، ومن دون جهد ومن دون منافسة، داخل قائمة العائلات والأسر نفسها التي سيطرت على الدولة واستغلت نفوذها فيها لتحقيق طفرتها التاريخية.
يلقي هذا التحليل بالمقابل بعض الضوء على مسألة استشراء الفساد وغياب أي سياسة جدية لمكافحته أو الحد منه. فالفساد لا يصدر هنا عن انحراف أو نقص فعالية في النظام وإنما هو قانون النظام الحقيقي، أي الأساس لنشوء التراكم الرأسمالي بالنسبة لرأسمالية ارستقراطية مرتبطة بالسيطرة السياسية وتابعة بشكل جوهري لها. لذلك ما كان من الممكن للتحرير الاقتصادي أن يعني هنا تراجع الفساد بقدر ما عنى تفاقمه بموازاة تقدم عملية التحرير بل تحوله هو نفسه إلى قاعدة نمو الاقتصاد الجديد ومحركها. فتحقيق هذا التراكم على أكمل وجه وفي أسرع شكل هو الذي يقود سياسات تحديث النظام القائم وتطويره وليس أي حساب اجتماعي آخر أو مصلحة وطنية عامة. فمحرك نشاط وعمل ارستقراطية الدولة والسوق المبتورة القائمة لا يرتبط لا بالتفكير في مستقبل البلاد ولا يتطور الانتاج ولا بتوسع استثماراتها في الداخل وإنما جمع أكثر ما يمكن من الثروة قبل أن يحين وقت تصديرها على شكل ودائع واستثمارات إلى السوق العالمية. وهي تريد أن تستفيد من كل يوم يمر قبل الانفجار الاجتماعي الذي تنظر إليه كقدر لا بد منه وتعد قوى الأمن لتحقيق الانتصار عليه. إنها تعيش في حرب مستمرة كامنة مع المجتمع. وليس النظام السياسي وتشكيلات السلطة التي طورتها إلا تعبيرا وتجسيدا لإرادة التعايش بشكل دائم، سياسيا وفكريا، مع هذه الحرب.
لكن إذا كان استمرار النظام التسلطي والشمولي شرطا لنشوء الرأسمالية العشيرية وأرستقراطية المال ولأعمال المافيوزية فهو ليس ثمرة لها. إن استمراره لا يمكن تفسيره إلا بوضعه داخل دائرة العلاقات الجيوسياسية والجيوستراتيجية التي حددت شروط تكون الدول وبلورة القوى السياسية وتوازناتها داخل البلاد العربية8.
والمهم أن ندرك أنه، ما لم يتعرض نظام الاحتكار المطلق للسلطة السياسية والاقتصادية والثقافية الذي يمثله الحكم في إطار قوانين الطواريء وحرمان المجتمع من أي حياة مدنية أو سياسية للانهيار من تلقاء نفسه، كما حصل في البلاد الأخرى الشمولية، أو أن يواجه معارضة قوية وقادرة من طرف المجتمع، لن يكون هناك أي أمل بأي تغيير جدي سياسا كان أم إقتصاديا. فليس للطبقة-العشيرة أي مصلحة في أن تعدل في آليات السيطرة الكلية والاحتكار المرتبطة بالنظام الشمولي أو تأهيلها. فهي تقدم لها أفضل الشروط لتحقيق التراكم السريع أو بالاحرى لتمديد مرحلة التراكم البدائي القائم على استخدام القوة المجردة لرفع عوائد ريع الموقع السياسي إلى حدها الأقصى، وإذا أمكن، مراكمة الثروة ورأس المال من دون أي استثمار آخر سوى الرشوة الضرورية لكسب المحاسيب والأعوان قبل الاستثمار في الخارج. فكيما تضمن لنفسها الانطلاق من ضيق الاقتصاد الوطني الصغير نحو رحابة السوق العالمية التي تشكل منذ الآن امتدادا طبيعيا لها ليس عندها خيار آخر سوى تحقيق المعادلة الصعبة: أقصى معدلات التراكم بأسرع وقت وبأدنى تكلفة. وهو ما يقود إلى منطق عمل السخرة ونمطه.
هذا ما آلت إليه في الواقع عملية الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق في ظروف الإبقاء على نظام السيطرة الشمولية المعتمد على تعليق القانون وإلغاء المراقبة والمساءلة الوطنية وتكريس العلاقات الزبونية. وهو الذي يفسر أن الانفتاح الاقتصادي لا يقود هنا إلى نشوء آليات سوق رأسمالية قائمة على درجة أو أخرى من التنافسية والشفافية وحرية الحركة للقوى الاجتماعية وإنما إلى نشوء سوق رأسمالية مقيدة ومحكومة بالتوازنات العشائرية والسياسية والأمنية وبالتالي مفتقرة بالضرورة للشفافية والمنافسة القانونية معا. وهي تسير جنبا إلى جنب مع تحلل عناصر الدولة الحديثة القانونية والموطنية وتنامي القوانين والإجراءات المقيدة للحريات جميعا والقائمة على التمييز والرشوة المنظمة. وبقدر ما يعكس هذا الوضع افتقار رأسمالية العائلة والعشيرة الناشئة في أحشاء بيرقراطية الدولة إلى أي حافز للتغيير السياسي يؤكد راهنية الإبقاء على أنماط الحكم العسكري والأمني وحتمية إعادة إنتاجها. وكما أنه لا أمل لهذه الرأسمالية في الوجود والاستمرار مع تشغيل أليات ووسائل المراقبة والمحاسبة والشفافية والمساءلة القانونية والسياسية، فليس بإمكانها التطور والنماء من دون االاستخدام المعمم للعنف الذي يضمن لها وحده لجم القوى الاجتماعية المنتجة والعاطلة والمهمشة والاستمرار في الاستفادة من الميزات الاستراتيجية نفسها التي استفاد منها جيل آبائها للانتقال من حال البؤس إلى مصاف الطبقة الارستقراطية المكرسة، أي احتكار السياسة والاستخدام المعمم للعنف العملي أو الرمزي المستبطن .
وبعكس ما يراهن عليه الاتحاد الأوروبي الذي يعتقد أن تدعيم القطاع الخاص مهما كان نوعه لا بد أن يفتح باب التعددية السياسية والديمقراطية في المستقبل، وليس من الضروري الاصرار منذ البداية في إطار التعاون مع دول الجنوب التمسك بملفات الديمقراطية وحقوق الانسان، أظهرت التجربة أن الدمج بين السياسات النيوليبرالية الجديدة والسلطة العشائرية الارستقراطية التسلطية لا يقود في أي مرحلة لاحقة إلى الانفتاح السياسي ولا إلى تجديد قواعد عمل النظام والطبقة الحاكمة. فرأسمالية العشيرة مدانة حتما بالاعتماد الدائم على تعبئة العصبية العائلية والعشائرية وتفكيك اللحمة الوطنية وتذريرها. وهي بالضرورة رأسمالية Clanique أرستقراطية ومافيوزية معا تعتمد التلاعب بالقوانين والمداخلات الشخصية. ولذلك فهي غير منتجة وليس في برنامجها ولا مشروعها ولا طاقتها إطلاق عملية التنمية أو خلق فرص عمل جديدة. ولا يكمن السبب فقط في أن تكوين هذه الطبقة الزبونية لا يتم إلا على حساب نشوء الطبقة الوسطى المنتجة ولكن في أن هذا التكوين لا يمكن أن يتحقق من دون أن يقطع الطريق على نشوء طبقة رأسمالية عمومية نشيطة وحية مكونة من رجال الأعمال الأكفاء والمنتجين والمبادرين. والرأسمالية العشيرية ليست في الواقع إلا نوعا من رأسمالية المضاربة التي برزت في سياق عملية الانتقال البسيط للثروة، ومن دون جهد ومن دون منافسة، داخل قائمة العائلات والأسر نفسها التي سيطرت على الدولة واستغلت نفوذها فيها لتحقيق طفرتها التاريخية.
يلقي هذا التحليل بالمقابل بعض الضوء على مسألة استشراء الفساد وغياب أي سياسة جدية لمكافحته أو الحد منه. فالفساد لا يصدر هنا عن انحراف أو نقص فعالية في النظام وإنما هو قانون النظام الحقيقي، أي الأساس لنشوء التراكم الرأسمالي بالنسبة لرأسمالية ارستقراطية مرتبطة بالسيطرة السياسية وتابعة بشكل جوهري لها. لذلك ما كان من الممكن للتحرير الاقتصادي أن يعني هنا تراجع الفساد بقدر ما عنى تفاقمه بموازاة تقدم عملية التحرير بل تحوله هو نفسه إلى قاعدة نمو الاقتصاد الجديد ومحركها. فتحقيق هذا التراكم على أكمل وجه وفي أسرع شكل هو الذي يقود سياسات تحديث النظام القائم وتطويره وليس أي حساب اجتماعي آخر أو مصلحة وطنية عامة. فمحرك نشاط وعمل ارستقراطية الدولة والسوق المبتورة القائمة لا يرتبط لا بالتفكير في مستقبل البلاد ولا يتطور الانتاج ولا بتوسع استثماراتها في الداخل وإنما جمع أكثر ما يمكن من الثروة قبل أن يحين وقت تصديرها على شكل ودائع واستثمارات إلى السوق العالمية. وهي تريد أن تستفيد من كل يوم يمر قبل الانفجار الاجتماعي الذي تنظر إليه كقدر لا بد منه وتعد قوى الأمن لتحقيق الانتصار عليه. إنها تعيش في حرب مستمرة كامنة مع المجتمع. وليس النظام السياسي وتشكيلات السلطة التي طورتها إلا تعبيرا وتجسيدا لإرادة التعايش بشكل دائم، سياسيا وفكريا، مع هذه الحرب.
لكن إذا كان استمرار النظام التسلطي والشمولي شرطا لنشوء الرأسمالية العشيرية وأرستقراطية المال ولأعمال المافيوزية فهو ليس ثمرة لها. إن استمراره لا يمكن تفسيره إلا بوضعه داخل دائرة العلاقات الجيوسياسية والجيوستراتيجية التي حددت شروط تكون الدول وبلورة القوى السياسية وتوازناتها داخل البلاد العربية8.
والمهم أن ندرك أنه، ما لم يتعرض نظام الاحتكار المطلق للسلطة السياسية والاقتصادية والثقافية الذي يمثله الحكم في إطار قوانين الطواريء وحرمان المجتمع من أي حياة مدنية أو سياسية للانهيار من تلقاء نفسه، كما حصل في البلاد الأخرى الشمولية، أو أن يواجه معارضة قوية وقادرة من طرف المجتمع، لن يكون هناك أي أمل بأي تغيير جدي سياسا كان أم إقتصاديا. فليس للطبقة-العشيرة أي مصلحة في أن تعدل في آليات السيطرة الكلية والاحتكار المرتبطة بالنظام الشمولي أو تأهيلها. فهي تقدم لها أفضل الشروط لتحقيق التراكم السريع أو بالاحرى لتمديد مرحلة التراكم البدائي القائم على استخدام القوة المجردة لرفع عوائد ريع الموقع السياسي إلى حدها الأقصى، وإذا أمكن، مراكمة الثروة ورأس المال من دون أي استثمار آخر سوى الرشوة الضرورية لكسب المحاسيب والأعوان قبل الاستثمار في الخارج. فكيما تضمن لنفسها الانطلاق من ضيق الاقتصاد الوطني الصغير نحو رحابة السوق العالمية التي تشكل منذ الآن امتدادا طبيعيا لها ليس عندها خيار آخر سوى تحقيق المعادلة الصعبة: أقصى معدلات التراكم بأسرع وقت وبأدنى تكلفة. وهو ما يقود إلى منطق عمل السخرة ونمطه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire