التقرير الاستراتيجي السوري ٤
تموز/آب ٢٠١٤
هل هناك مخرج سوري للحرب؟
بالرغم من التقلبات والانعطافات الكبيرة التي ميزت الشهرين الماضيين من عمر الثورة المسلحة السورية، لاتزال آفاق الحل أو الخروج من النفق مغلقة تماما. ولا يكاد الموقف السياسي يشهد أي تغير يذكر، لا في معسكر النظام ولا في معسكر الثورة والمعارضة ولا في معسكر الدول الاقليمية والبلدان الصديقة التي وقفت منذ الأشهر الأولى إلى جانب الثورة ولا تزال. فلا يكاد التقدم الذي تحرزه المعارضة أو النظام على الأرض وفي الميدان العسكري ينعكس كثيرا على المواقف السياسية أو يغيرها. ويبدو أن ما يحكم موقف الأطراف اليوم أمران : الأول هو الاعتقاد الراسخ عند الجميع بان التغيرات التي تحصل في الميدان العسكري او الدبلوماسي ليست حاسمة ولا نهائية ولن تكون، وأن من الممكن بسهولة قلبها، والثاني اعتقاد الجميع أيضا، بعدم قبول الاطراف الدولية بأي حسم عسكري لصالح طرف من الأطراف السورية، ورفض أي محاولة لقطع الطريق على فرص التسوية السياسية التي يعتقد الكثيرون أن سورية لا يمكن أن تستعاد وتعود إلى الحياة من دونها.
النظام : خيبة الأمل
فمن ناحية النظام، استمر الموقف على حاله منذ بداية الثورة وهو السعي إلى حسم المعركة عسكريا ورفض أي حوار أو مفاوضات تفضي إلى تقديم تنازلات تضعف قوة النظام أو تؤدي إلى تغييره. وبموازاة هذا الموقف المبدئي من الصراع، وهو رفض الاعتراف بالثورة، والاصرار على التعامل معها على أنها مؤامرة كونية على سورية تقوم بها منظمات إرهابية ممولة من الخليج والدول الغربية الاستعمارية، لم يكف النظام عن تطوير استراتيجيته على محورين : الأول محور التصعيد المستمر في القتال وإدخال الأسلحة النوعية، من الطيران والصواريخ الباليستية والاسلحة الكيماوية، حتى بعد ان وقع على اتفاق إزالتها وتدميرها مع الامم المتحدة، وذلك لإبقاء مقاتلي المعارضة تحت الضغط الدائم ومنعهم من إمكانية الاستفادة من الوقت لتنظيم انفسهم وتوحيد صفوفهم وتجاوز المصاعب والثغرات التي تعاني منها خططهم واستراتيجياتهم، والثاني توسيع دائرة الحرب لتشمل المدنيين بشكل علني وواضح بهدف خلق فجوة متنامية بين الثوار وحاضنتهم الشعبية في المناطق غير الخاضعة له، وفي الوقت نفسه معاقبة المواطنين في تلك المناطق على قبولهم السلطة الجديدة أو خضوعهم لها.
ولم يغير النظام أبدا من تكتيكاته الإعلامية والنفسية. فهو في كل مرة يصعد فيها ويزيد من عدد القتلى وحجم الدمار، كان يؤكد أن الحرب قد انتهت، وأن ما تبقى هو جيوب ستتعقبها قواته وتقضي عليها في زمن قصير، أياما أو أشهرا على الأكثر. لذلك بالاضافة إلى ثباته على مواقفه السياسية الرافضة للحل، بقي النظام مخلصا ايضا لخطابه الذي أطلقه منذ بدء الثورة، فكلام رئيسه ومعه أنصاره وإعلاميوه، لا يختلف اليوم في مضمونه عن أول خطاب ألقاه بعد أقل من شهر على الثورة، ولا عن كلام مستشارته السياسية التي اعتادت على استخدام كلمة "خلصت" العامية السورية، لتؤكد أن النظام ربح الحرب وحسم المعركة لصالحه. مما يعني أيضا أنه لن تكون هناك حاجة لأي حوار أو مفاوضات، وأن الدول التي تطالب بمثلها عليها أن تقبل الاعتراف بالانتصار الكامل للنظام.
وقد أضيف لهذا السيناريو المستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات، سيناريو آخر يؤكد على المعنى ذاته، هو توقيع الهدن والمصالحات الوطنية التي يريد النظام ان يستخدمها برهانا واضحا على هذا الانتصار الموعود، وتعبيرا عن خسارة المعارضين "الارهابيين" المعركة وقبولهم بالخضوع للنظام من جديد، وترتيب أوضاع بعضهم، حتى من المقاتلين، مع اجهزة الأمن والمخابرات. وفي الأشهر الاخيرة، بدأ النظام يبني على هذه الهدن والمصالحات رؤية لحل شامل يقضي نهائيا على فكرة المفاوضات التي تنص عليها قرارات مجلس الامن المتعلقة بجنيف ١ وجنيف٢، ويضع قضية الحل السياسي كليا بين يدي النظام وحده، من دون المعارضة، وأكثر من ذلك من دون تدخل الامم المتحدة نفسها التي لا تزال تصر على تعيين وسيط لها يتابع مسألة التسوية السياسية. وقد نشرت بعض الصحف عناصر مما سمي بخطة الحل من تحت، أي على مستوى المجموعات المقاتلة المحلية، بدل الحل من فوق، أي من خلال اتفاق القادة والمسؤولين الكبار في المعارضة والنظام. والمقصود أن يسعى النظام إلى تحقيق تهدئة في المناطق، كل على حدة، تتبعها انتخابات مجالس محلية عندما يحين الوقت، بصلاحيات أوسع مما كان قائما، قبل أن يحدد موعدا للانتخابات التشريعية، وبعد عدة سنوات يمكن إجراء انتخابات رئاسية تنهي عملية الانتقال السياسي التي ينظمها ويقودها ويشرف عليها في هذه الحالة النظام وحده من ألفها إلى يائها
الذي عزز موقفه هذا من رفض أي حوار أو تفاوض سياسي يقود إلى تنازلات، مهما كانت شكلية، هو الدعم الكبير الذي وصله من حزب الله والميليشيات العراقية والحرس الثوري الايراني، بالإضافة إلى الدعم السياسي والدبلوماسي الذي قدمته له روسيا الاتحادية، وضمن له ان يجهض مؤتمر جنيف٢ من دون أي مساءلة أو حساب.
وقد انعكس تفاؤل النظام بالنصر النهائي والحاسم على ماسمي بخطاب القسم، الذي افتتح به بشار الاسد ولاية ثالثة بعد الانتخابات الشكلية التي نظمها في حزيران/ يونيو الماضي، لإضفاء بعض الشرعية على استمراره في الحكم بعد نهاية ولايته الثانية. وجاءت تصريحات وزير دفاعه في يوم الجيش، مطلع آب/ أغسطس ٢٠١٤، لترسخ في ذهن السوريين هذه الفكرة التي لم تكف وسائل إعلام النظام عن تكرارها، عندما ذكر في خطابه أن النظام قد حقق النصر الكامل في الإطار الاستراتيجي وطالب مقاتلي المعارضة بتسليم سلاحهم والعودة إلى “حضن الوطن”. وقد زاد من تفاؤل النظام بإمكانية الخروج من العزلة والمقاطعة التي فرضها عليه المجتمع الدولي، التقدم الذي أحرزته داعش في الجزيرة والعراق، وإعلانها عن دولة الخلافة، واعتقد لفترة أن من الممكن الاستفادة من هذا التهديد الجديد من أجل إعادة طرح نفسه كأحد القوى الكفؤة التي أثبتت جدارتها وقدراتها في الحرب الداخلية، وأن يعرض جهوده للمشاركة في ما يريد أن يكون الحرب العالمية والاقليمية ضد الارهاب، على أن يعتبر الثوار جميعا هدفا لهذه الحرب.
لكن من الواضح اليوم، أكثر فأكثر، أن أمل النظام في قبول الولايات المتحدة بتجنيده شريكا في الحرب ضد الارهاب قد خاب. فمن جهة لا يبدوا الأمريكيون وحلفاؤهم مستعجلون على الدخول في سورية في مواجهة الدولة الاسلامية التي تشكل اليوم تحديا كبيرا لايران والأسد بالدرجة الاولى، بمقدار ما تقطع طريق التواصل بين الحليفين وتنهي حلم الهلال الشيعي المتصل من قم إلى بيروت. ومن جهة ثانية ليس للولايات المتحدة ولا للدول الغربية أي مصلحة في التحالف مع ميليشيات الأسد الدموية وغير الفعالة، وليست بحاجة ماسة لها، وبإمكانها الانتظار حتى يتحقق الانهاك المتبادل، وتدريب قوات سورية خاصة، هي ما تسميه بالكتائب المعتدلة، تثق بها بشكل أكبر وتخضع لاشرافها. ومن جهة ثالثة، ربما كان هناك بعض من يتحدث عن مرحلة جديدة تستدعي مراجعة الحسابات التحالفات الاقليمية، داخل الإدارة الامريكية وفي الأوساط الدبلوماسية الغربية، بل ربما العربية أيضا، وعدم التفريط بقدرات قوات الأسد في الحرب ضد الارهاب، لكن هناك شك كبير في ان تجرؤ أي دولة غربية مهمة على الدخول في عملية إعادة تسويق للأسد ونظامه، خاصة بعد عرض ال ١١ ألف وثيقة لما ينبغي أن يسمى المحرقة النازية الجدية في معتقلات الاسد، التي كشف عنها مصور الجيش السوري المنشق الملقب ب قيصر، والتي هزت ضمير كل من اطلع عليها.
الجيش الحر : بصيص أمل
خيبة الأمل التي وصل إليها النظام بعد أكثر من أربعين شهرا على بدء الحرب لإخماد ثورة السوريين لا تعني ان أمور المعارضة السياسية والجيش الحر سليمة، وأن معسكر الثورة لا يعاني من مشاكل كبيرة أيضا بعد سنوات المواجهة والقتال الدامي. ولعل أكبر هذه المشاكل تلك التي تتعلق بالكتائب المسلحة التي لم تنجح حتى الآن في توحيد نفسها تحت قيادة مركزية واحدة، ولا تزال تقاتل على جبهات متفرقة من دون تنسيق يذكر، وحتى على الجبهة الواحدة نادرا ما تنجح الكتائب في تشكيل قوة منظمة واحدة تعمل بالتعاون والتنسيق. وهي في الغالب تتقاسم مناطق نفوذ وتقوم بعمليات تصب أكثرها في الدفاع عن مواقعها، مع ضمان التعاون والتنسيق من خلال غرف العمليات المشتركة.
كما يعاني الجيش الحر من تمسكه بالأسلوب القتالي نفسه الذي ورثه من حرب المقاومة الشعبية، وتأخره في في تغيير استراتيجية الدفاع من داخل الأحياء والمدن، والتحول نحو استراتيجية متحركة، تركز جهود الكتائب على قطع مواصلات قوات الاسد ومهاجمة خطوط امدادها ومراكز قيادتها. وقد أظهرت هذه الاستراتيجية فشلها منذ اللحظة التي تبين فيها ان النظام لايعبأ بحياة المدنيين وإنما يوظف محاصرة المقاتلين في المدن لتوجيه ضرباته الانتقامية مباشرة إلى الحاضنة الشعبية، هدف الحرب الرئيسية، لتحميلها العبء الأكبر في الحرب ومعاقبتها لتجرؤها على الخروج على سلطته. وهكذا صارت حرب القتل العشوائي وتدمير المدن وفرض حصار الجوع عليها وتشريد ملايين المهاجرين الجزء الرئيسي من حرب الأسد والوسيلة الأقسى للضغط على الشعب السوري وإجباره على دفع الثمن غاليا لكل ساعة مقاومة. وكان من المؤمل أن يشكل سقوط بابا عمرو في حمص، مطلع عام ٢٠١٢ ، واضطرار مقاتليها إلى الخروج منها، درسا مفيدا في هذا المجال ويقوي الحافز إلى تغيير الاستراتيجية البسيطة التي تبناها المقاتلون المبتدئون منذ البداية. لكن ربما منع من ذلك استمرار الرهان على امكانية دفع المجتمع الدولي خارج دائرة تحفظه، وإجباره، أمام المذابح الجماعية، على فرض مناطق حظر جوي لحماية المناطق المحررة من الانتقام والقصف العشوائي. وهذا لم يحصل، كما أن استبعاد الضباط والجنود المنشقين أو تهميشهم، لأي سبب كان، مطامح شخصية للقادة الميدانيين أم ضغوطا أجنبية، قد حرم الجيش الحر من خبرة عسكرية مهنية، ومن جهود قادة عسكريين كان من الممكن أن يساهموا بشكل عميق في إعادة تنظيم القوات المقاتلة وبلورة خطط وتكتيكات عسكرية مختلفة وملائمة.
وفي السياق ذاته ينبغي النظر إلى مشكلة هيئة أركان الجيش الحر التي فشلت في أن تتحول إلى هيئة اركان حقيقية للجيش الحر ترسم الخطط العسكرية وتسهر على تطبيقها وتأمين حاجات الكتائب المقاتلة. وما من شك أنه كان لتعدد القوى الدولية والأهلية التي تحتفظ بعلاقات مباشرة مع الكتائب، لما تقدمه لها من دعم بالمال أو السلاح، دور كبير في هذا الفشل وفي الابقاء على حالة التشرذم الذي لا يزال غالبا عليها. وهو السبب ذاته الذي منع من الاعتراف بدور للقيادة السياسية في توجيه الكتائب وتسيير شؤونها، وأبقى على القطيعة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، أملا في أن تحتفظ كل دولة أو جمعية مساهمة في دعم الكتائب لنفسها بمواقع نفوذ داخلها. وهذا ما حكم على جميع المحاولات التي قام بها قادة المجلس الوطني منذ بداية تشكيله لتوحيد القوى المقاتلة وإدماج العسكريين المنشقين في صفوفها بالفشل. ومما زاد من اتجاه قادة الكتائب إلى الاحتفاظ باستقلالهم ورفض الاندماج في قوى مقاتلة منظمة أوسع، تنوع مصادر الدعم واحتكار متلقينه من القادة له والحيلولة دون مشاركة الآخرين فيه. وكان من الطبيعي أن يساهم شح الموارد في مرحلة الجدب التي بدأت منذ منتصف عام ٢٠١٣ في تعزيز هذا الموقف الأناني من قبل قادة الكتائب ورفض أي خطة تنظيم تقود إلى تقاسم ما يصلها من تبرعات أو من سلاح مع بقية الكتائب القريبة منها. لكن من بين هذه الأسباب جميعا، كان غياب قيادة سياسية واضحة للثورة وتكريسها، هو الذي عزز أكثر من أي عامل آخر سعي قادة الكتائب للاحتفاظ باستقلالهم والدفاع عن محمياتهم، وشجع مع مرور الوقت على نشوء ظاهرة أمراء الحرب، الذين يستقطبون الدعم الأكبر نتيجة علاقاتهم أو فهلويتهم، ووسع من دائرة مجموعة الكتائب الأكبر التي لا تتلقى إلا النذر اليسير منه، والتي وجدت نفسها في أوضاع لا تحسد عليها، واضطر الكثير من عناصرها إلى البحث عن موارد تقيهم الفاقة. وهذا ما شجع على الالتحاق بالكتائب الاسلامية الطابع التي كانت اكثر حظا بسبب ما تحظى به من تعاطف من قبل العديد من الجمعيات الأهلية السورية والخليجية بشكل خاص، وما يتمتع به الاسلاميون عموما من علاقات عابرة للدول. وفي هذا السياق حصل التغيير السريع في أسماء الكتائب لتصبح أكثر قربا من تطلعات الجمعيات والقوى الداعمة.
لكن الضربة الأكبر التي ستتلقاها الكتائب الثورية سوف تأتي من جهة داعش والميليشيات التكفيرية الأخرى التي عملت، حتى من دون تنسيق مباشر مع النظام، كقوات تابعة له تحارب خلف خطوط الجيش الحر لتضعه بين فكي كماشة يصعب الخروج منها. وهذا ما تماشى مع خطة النظام الأولية التي كانت تسعى إلى إغراق البلاد في الفوضى ونقل الحرب من أرضيتها الحقيقية، كمواجهة لثورة شعبية عميقة الجذور والمطالب، إلى حرب نظام الدولة ضد منظمات متطرفة وفي الأغلب أجنبية.
على هذه المشكلات والتحديات الكبيرة التي أحدثها تغير شروط الحرب واستراتيجياتها لم ينجح الجيش الحر في بلورة أي رد قادر على إعادة ترتيب اوضاعه وتنظيم قواه من جديد، وتحديث خططه واستراتيجياته بما يتماشى مع التغيرات التي أحدثها تنامي التدخل الايراني واللبناني والعراقي في الحرب، وتبدل الاستراتيجيات والمواقع بين الأطراف. وكان من الطبيعي أن يقود التخبط الذي شهدته المعارضة، في سياق الصراع على قيادة الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، مع ضعف البرامج والخطط أو انعدامها، والتركيز على الأشخاص والحساسيات الشخصية والتكتلات الظرفية، الى تشجيع الدول الداعمة على تولي مهمة إعادة هيكلة الجيش الحر وتدريبه وتسليحه، وربما إعادة رسم أهداف قتاله ومحاور حركته بنفسها.
المعارضة السياسية : البحث عن الذات
كان من المفروض أن يشكل المجلس الوطني السوري ( ١٦ ايلول/ سبتمبر ٢٠١١)، ومن بعده إئتلاف قوى المعارضة والثورة (١٢ تشرين الثاني نوفمبر ٢٠١٢) قيادة سياسية للثورة، تجمع أطرافها، وتحشد طاقاتها، وتنظم دعمها، وتنسق خططها، وتحدد أهدافها واستراتيجياتها، وتمثلها على الصعيد الدولي. لكنه، من بين هذه الاهداف جميعا، لم ينجح إلا في مهمة واحدة هي تمثيل الثورة خارجيا، وذلك بفضل الدعم الاستثنائي والدائم لدبلوماسيات الدول الصديقة التي وقفت مع حقوق الشعب السوري ردا على الصلف الذي عاملها به الأسد لدى تدخلها للبحث عن حل أو تسوية سياسية تنزع فتيل الحرب والانفجار، وإصراره على أسلوب الإملاءات والتحدي والمكابرة والتصعيد في القتل المتعمد والمدروس للمتظاهرين السلميين بهدف ردعهم وثنيهم عن الاستمرار في حركة الاحتجاج.
وقد سيطر على ائتلاف المعارضة الأول والثاني، منذ بداية العمل التمثيلي الخارجي، جو من النزاع والتنافس على المواقع لعب فيه النظام الداخلي للمجلس الوطني، والذي حذا الإئتلاف الثاني حذوه، دورا كبيرا وحاسما، عندما قصر مدة ولاية رئيس المجلس على ثلاثة أشهر يمكن تجديدها لمرة واحدة. كان هذا البند عقب أخيل في تجمعات المعارضة السورية، وقاد فعلا إلى إجهاضها بمقدار ما حرمها من النمو الطبيعي ومراكمة الخبرة والرصيد الرمزي والسياسي، وأطاح في النهاية بصدقية رجالاتها وسلامة التزاماتهم الوطنية وأظهرهم بمظهر المتنازعين على اقتسام غنائم الثورة قبل أن تحقق الانتصار، وذلك في أعين المجتمع الدولي الداعم لها، وبشكل أكبر في أعين الشعب السوري المنكوب. فلم يحرم هذا الإجراء المعارضة من تكوين رموز وطنية مستقرة وقادرة على كسب ثقة الجمهور والتواصل معه، ولكنه جعل من نهاية أي ولاية انتخابية معركة عنيفة على موقع الرئاسة، وشجع جميع الأعضاء على الطموح إلى الوصول إليها، وسهل على المتنافسين التشهير بمنافسيهم وتشويه سمعتهم والإساءة إلى إنجازاتهم، لتبرير تقاعسهم أو طموحهم الشخصي، مما جعل مناسبات التجديد مادة إعلامية مثيرة للصحافة، وأفضل دعاية يمكن للنظام ان يوجهها لتشويه صورة المعارضة بأكملها. وفي النهاية رسخت معارك التنافس على رئاسة المجلس والائتلاف الاعتقاد بان المعارضين السوريين لا يمكن أن يتفقوا على شخص بينهم، وأن المعارضة غير قادرة على أن تشكل البديل عن الأسد بينما هي في حالة نزاع دائم. وراء هذا البند الذي قوض مسيرة مؤسسات المعارضة تكمن إرادة سلبية لا تستطيع فرض زعامتها وترفض الاعتراف بأي زعامة لا تنبع منها، وتصب عندها. وهي مستعدة لتقويضها مهما كان الثمن. وهذا ما حصل بالفعل، فتاريخ المعارضة السورية منذ نشاتها، في مواجهة الأسد، وبشكل أخص بعد انطلاق الثورة، هي تاريخ حرق أوراق جميع المتنطعين للزعامة والقتل السياسي والرمزي لأي شخصية كان من الممكن أن تتكون كشخصية قيادية في تجربة الثورة وصراع السوريين المرير من أجل التحرر والانعتاق.
شيئا فشيئا تحولت المعارضة، بسمعتها السيئة، عبأ على الثورة بالفعل بدل أن تكون عربة تشدها، ترفع من رصيدها وتساهم في إقناع الدبلوماسية الدولية، الصديقة والعدوة، بضرورة حسم الموقف، وعدم انتظار سفك الاسد مزيدا من الدماء، ووقف المجزرة القائمة في سورية منذ سنوات. وقد قطع الكثير من مؤيدي الثورة ومن اعضاء تجمعات المعارضة، منذ زمن طويل، أملهم في إصلاح جسم المعارضة هذا وتغيير نظام الائتلاف الداخلي وإعادة تنظيم شؤونه على أسس جديدة. لكن الخوف من الفراغ دفع الكثير منهم أيضا إلى التغاضي عن الأخطاء، ومسايرة الواقع. وفي خطوة مهمة، كان من الممكن أن تشكل حلا لتجاوز صورة الرمال المتحركة التي تثيرها رؤية المعارضة، تم تشكيل حكومة مؤقتة. وكان الأمل في أن تتمكن المعارضة بتشكيل هذه الحكومة من تجاوز الصورة المشوهة التي أعطتها عن نفسها من خلال إئتلافاتها الهشة، وأن تقدم للشعب السوري والعالم جسما تنتفيذيا منظما وثابتا، مكونا من مجموعة من أصحاب الكفاءة والخبرة، لا تخضع مناصب المسؤولية فيه للتغيير الدوري، ولا تتنازع فيه الأطراف والأجنحة على النفوذ الايديولوجي والسياسي، ولا تدخل في حساباته المحاصصات من أي نوع كان. وكان بعض أعضاء الائتلاف يعتقدون أن هذا هو أفضل ما يمكن أن يخرج من الإئتلاف.
لكن أظهرت الأشهر القليلة الماضية التي أعقبت تشكيل الحكومة، والقرارات التي صدرت عن الهيئة العامة للإئتلاف مطلع الشهر الماضي وأدت إلى نزع الثقة عن رئيس الحكومة والحكومة المؤقتة، أن هذا التفاؤل لم يكن في مكانه.
يثير انشغال المعارضة بنفسها ونزاعاتها، والتمدد المستمر لقوى داعش وربما جبهة النصرة، التي بدأت تميل إلى التحالف معها بعد إعلان دولة الخلافة الاسلامية، وغياب أي سياسات ابداعية أو مقترحات جديدة لدى الدول المساندة للقضية السورية، وتحول الدبلوماسية الدولية بنظرها نحو الحروب الأحدث في العراق وغزة وليبيا وبلدان اخرى، شعورا عميقا لدى السوريين بالخطر من تهميش قضيتهم وتراجع الجهود لايجاد مخرج من الحرب الدموية، واستمرار المراوحة في المكان، أي في نفق لا تظهر له نهاية بعد. ويحاول النظام الاستفادة من تراجع الاهتمام الدولي بالصراع السوري من أجل تثبيت مواقعه العسكرية وتوسيع دائرة سيطرته في المناطق الحيوية في حلب وريف دمشق بأي ثمن، ومن دون السؤال عن الخسائر البشرية والسياسية والاجتماعية التي تكبدها سياسة الارض المحروقة للسكان المدنيين ومستقبل الشعب السوري برمته.
وتظهر إحصاءات الشهرين الأخيرين ارتفاعا كبيرا في نسبة الضحايا حتى بالمقارنة مع أكثر الأشهر دموية في الأشهر السابقة، كما يزداد تصلب موقف النظام في مفاوضات الهدن المحلية التي يفرضها على المقاتلين المحاصرين في مناطق متعددة، في حمص الجديدة (الوعر) والغوطة الشرقية والجنوبية، ومناطق أخرى.
وعلى جبهة المعارضة، يثير هذا الجمود والمراوحة في المكان في الوضع السوري ردود أفعال مختلفة ومتصاعدة من قبل القوى المقاتلة على الأرض أو القريبة منها، كما يفتح سوق المبادرات السياسية عند أطراف المعارضة وفي تياراتها المختلفة. فقد زادت الدعوات في الشهرين الماضيين، بموازاة اليأس من الإئتلاف إلى تشكيل مجلس قيادة داخلي للثورة، بمشاركة ممثلي الجبهات الخمس، الشمالة والشرقية والوسطى والجنوبية والغربية، مع بقاء الباب مفتوحا أمام الفصائل الأخرى الراغبة في الانضمام. وقد تشكلت لجنة متابعة من مجموعة كبيرة من الفصائل المتوزعة على عموم الارض السورية.
كما دفع الخوف من الجمود وتطبيع الاحوال المأساوية الرئيس الأسبق المستقيل للإئتلاف الوطني إلى الإعلان عن مبادرة يدعو فيها النظام إلى القبول بحوار تقريبا من دون شروط، من أجل التوصل إلى حل يستبعد المعارضة "المرتهنة" والنظام معا، ويقوم على تسليم السلطة إلى حكومة تنكوقراطية. وفي موازاة ذلك يتنامى أمل النظام في امكانية استرجاع مقعده أو جزءا من مكانته في المجتمع الدولي من خلال إعلان استعداده للمشاركة في ما تبقى له من قوى في الحرب الاقليمية التي يعد لها اليوم على الارهاب.
آفاق الحل
من المؤكد أن التحولات المتسارعة التي أعقبت إعلان "دولة الخلافة"، وما أثارته من مخاوف متنامية لدى دول وحكومات المنطقة بأكملها، قد بعثت الأمل في امكانية حلحلة الصراعات السياسية والاقليمية والبحث عن تسويات، شبيهة بتلك التي ادت إلى انسحاب نوري المالكي من السلطة وتعيين حيدر العبادي رئيسا للوزراء مكانه، مع التأكيد على مهمته الاساسية في إعادة توحيد العراقيين وإعطاء السنة منهم مكانهم الطبيعي، ووضع حد لتهميشهم وإذلالهم. فدخول دولة الخلافة على الخط، وما يمكن أن يحمله من احتمال فقدان السيطرة الاقليمية وانتشار الفوضى وتعميم الخراب، يخلق، في نظر العديد من المراقبين، قاعدة مصالح مشتركة بين الخصوم الاقليميين والدوليين.
لكن يقف في مواجهة تحقيق هذه الأمل في سورية عقبات كثيرة. فهناك قبل الوصول إلى ذلك طريق طويلة ينبغي على السوريين أن يقطعوها قبل أن يأملوا بتفاهم امريكي ايراني في سورية كما حصل في العراق. أولا لأن المطلوب في سورية ليس التفاهم على رئيس جديد فحسب ولكن تغيير النظام بأكمله، وثانيا لأن ايران هي الدولة الأقل حقا في المطالبة بتقاسم النفوذ مع واشنطن في بلد كسورية يشكل مركز مصالح استراتيجية حيوية للدول الإقليمية الكبرى الأخرى، من الخليج إلى مصر إلى تركيا. ولن يسلم احد من هؤلاء لطهران بالنفوذ الأول، كما هو الحال في العراق.
لكن في ما وراء هذا وذاك، في سورية شعب ساهمت طهران بشكل علني ومباشر، أو عن طريق ميليشياتها التابعة، وتحت إشراف قاسم سليماني نفسه في تدمير شروط حياته بأكملها ومحو جزء كبير من حضارته ومدنه وعمرانه وتشريد الملايين من أبنائه، ولا تزال تدفع إلى الموت كل يوم عشرات السوريين الأبرياء لتحافظ على نفوذ استثنائي وتنفرد بالقرار وتتصرف بقسوة وعنف وعدم اكتراث للحياة الانسانية. فإذا كانت التسوية تعني في العراق إشراك فريق سياسي إضافي في سلطة تبقى تحت النفوذ الايراني الرئيسي، فإن الخروج من محنة الحرب السورية يستدعي التحرر من نظام كامل، يشكل الدعم الايراني عصبه الرئيسي اليوم، ويعني تغييره خسارة ايران لموقع هو حجر الزاوية في صراح نفوذها الاقليمي الذي أرادت له ان يمتد من المتوسط إلى قم.
كما لا يزال التفاهم الدولي والإقليمي بعيدا جدا عن ان يتحقق بين الروس والغربيين من جهة، والعرب والايرانيين من جهة ثانية. وليس هناك أمل في أن يتقدم هذا التفاهم قريبا مع إصرار طهران على سياسة التدخل الواسعة، عبر تدريب الميليشيات وتسليحها في اكثر من بلد من البلدان العربية، ومع غياب أي تصور مشترك حول آليات ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة، وبشكل خاص في ما يتعلق بدول الخليج التي تعاني من قلق شديد، وعدم ثقة بالغة.
التطورات العسكرية والميدانية: انتصارات وانتكاسات في سياق اللاحسم
شهدت الساحة السوريّة في الفترة الممتدة ما بين 15 حزيران/ يونيو – 15 آب/ أغسطس تطورات عسكريّة هامة خلقت معطيات استراتيجية جديدة. ويمكن القول في تلخيص المشهد العسكريّ، أن الوضع القتالي لفصائل المعارضة السورية تحسن نسبيا أمام قوات النظام في بعض المناطق، بعد سلسلة من الانتكاسات تركت تداعياتها وهددت معاقل استراتيجية للثورة كما جرى في حلب، وريف حماه. بالمقابل، شهدنا تراجعا ملحوظ لفصائل المعارضة على اختلاف تصنيفاتها، أمام تنظيم الدولة الإسلاميّة، والذي اكتسب زخمًا معنويا وعسكريًا من تطورات المشهد العراقي، لاسيما بعد أحداث الموصل 10 حزيران/ يونيو 2014، وسيطرته، بالاشتراك في فصائل عراقية أخرى، على محافظات ومساحات واسعة من العراق. ونتيجة لذلك، ولعوامل أخرى سنتطرق إليها في تفاصيل المشهد العسكريّ، سيطر تنظيم الدولة على مدن الميادين والبوكمال وكامل ريف دير الزور، ومن ثم على الأحياء التي تسيطر عليها فصائل المعارضة في المدينة، والتي وكما أوردنا في التقرير السابق، كانت مطوقة بالكامل من قبل تنظيم الدولة:
يغطي هذا التقرير شهرين من تحولات المشهد العسكري في عموم الجغرافيا السوريّة، ويحاول الوقوف على نقاط القوة، والضعف لدى المعارضة المسلحة، والفرص والمخاطر القائمة:
حلب: هبة خجولة ضد مسعى النظام لحصارها
مطلع تموز/ يوليو 2014، كانت قوات النظام قد سيطرت على مساحة واسعة من المدينة الصناعيّة، وقرية الشيخ نجار ، والتي تشكل مع القرى المحيطة لها المدخل الشمالي الشرقيّ لمدينة حلب، ليصبح على مسافة كيلومترات قليلة من مدرسة المشاة، أكبر الثكنات العسكرية التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة. المفاجئ، أن تقدم النظام في هذه المنطقة ، كان سريعا جدًا، فعلى الرغم من جميع التحذيرات والدلائل التي كانت تشير إلى مسعاه في السيطرة عليها، فإن المعارضة عجزت عن الدفاع عن منطقة استراتيجية لها، لأسباب عدة، أهمها شح وندرة السلاح، والذي انقطع بشكل شبه كامل خلال شهر أيار/ مايو، وحزيران/ يونيو من هذا العام، والانشغال بقتال تنظيم الدولة في محاور عدة في ريف حلب الشماليّ، والخلافات بين الفصائل المسلحة، أكانت بين الفصائل الإسلامية، والتي أثرت على الأداء العسكري لغرفة عمليات أهل الشام، او الفصائل الصغيرة.
قسم النظام خطته للسيطرة على المناطق الصناعية إلى مراحل، الأولى، كانت للسيطرة على التلال المحيطة بها، وقد نجح في ذلك، بتواطئ قصدي أو غير قصدي من تنظيم الدولة، ولربما حصل تقاطع في المصالح بين الطرفين الراغبين في محاصرة المعارضة والظفر بالمدينة كاملة، فقد سمح تنظيم الدولة لقوات النظام بالتقدم إلى التلال المحيطة بالمنطقة الصناعية، من خلال قرى يسيطر عليها وهي " شامر، والطعانة، والمقلبة". والثانيّة، تكثيف القصف بالبراميل المتفجرة، على الأحياء في القسم الشرقي من المدينة، مستهدفا خطوط إمداد المعارضة، والحاضنة الشعبية التي هجر سكانها هذه الأحياء جراء القصف اليومي، والخسائر الكبيرة. ونتيجة غياب خطة عسكرية تجمع الجهود، لمواجهة الخطر المحدق، تسلل النظام إلى المنطقة الصناعية بعد نفاذ الذخيرة لدى فصائل المعارضة وتأخرها بإرسال التعزيزات، ومستفيدًا من قصف مدفعيته التي نصبها على التلال المحيطة في الشيخ يوسف والزرزور والشيخ زيات والطعانة، لأماكن تمركز الثوار، ومستفيدا أيضا من وجود قواته في القرى المحيطة في المنطقة الصناعية وأهمها الشيخ زيات، والمقبلة والرحمانية، فانسحبت فصائل المعارضة من المنطقة لتبقى على تخومها.
كانت تطورات المدينة الصناعية تنذر بكارثة كبيرة لقوات المعارضة العاملة في حلب، فعبد سيطرة النظام على سجن حلب المركزي، استطاع أن يحوله إلى قاعدة انطلاق لإحكام قبضته على المدينة الصناعية وهو ما حصل بالفعل، وبذلك تكون قوات النظام رسمت طوقا حول حلب يبدأ من معامل الدفاع في خناصر ( شرق) مرورا بالمنطقة الصناعية والسجن المركزي، ووصولا إلى مدرسة المشاة". ومن شأن ذلك، وفيما لو استمر التقدم لقوات النظام، أن يفرض حصارًا شبه محكم على الأحياء الشرقية لحلب، بحيث لا يبقى للمعارضة سوى منفذ أو منفذين لإمدادات السلاح والإغاثة إلى المدينة يقع في منطقة كفرا حمرا، وهي منطقة مهددة من حندرات وفق الخريطة رقم 1:
(خريطة رقم 1 )
أمام هذا الخطر المحدق بالجميع، أكان في حلب وريفها، أو في عموم مناطق الشمال، وللتعامل مع هذه المستجدات، أعلنت فصائل في المعارضة السوريّة عن مبادرات عدة منها عسكريّة ومدنيّة من أبرزها، البيان الموحد الذي أصدر منتصف تموز/ يوليو 2014، تحت مسمى " انقاذ مدينة حلب"، ونص على تشكيل قوة عسكرية قوامها 600 عنصر بقيادة عسكرية موحدة من فصائل عدة؛ حركة حزم، وجبهة ثوار سورية، الفرقة 13، والفرقة 11، وصقور الشام، وجبهة النصرة، وفيلق الشام، وجبهة ثوار سراقب، لمساعدة الفصائل المعارضة للتصدي لتقدم النظام، ولتقدم تنظيم الدولة. ولكن هذه المبادرة، وعلى الرغم من وصول طلائع من المقاتلين لحلب، إلا أنها لم يكتب لها النجاح التام، لتعدد الإرادت، والايديولوجيات، وتناقض المصالح. وكانت حادثة انشقاق رتل لواء دواود، - والذي من المفترض أن يصل إلى حلب المدينة، فغير وجهته إلى الرقة، مبايعا من جديد تنظيم الدولة بعد أن اجبرته المواجهة مطلع عام 2014، على الغاء بيعته الأولى، - بمثابة تقويض لجهود هذه المبادراة. ومن المبادرات العسكريّة أيضًا، إعلان الاندماج الكامل بين فصائل الجبهة الإسلامية (لواء التوحيد – جيش الإسلام – حركة أحرار الشام الإسلامية – ألوية صقور الشام – الجبهة الإسلامية الكردية) في حلب تحت قيادة عسكرية واحدة، والغاء جميع المسميات ليكون هذا الاندماج الأول من نوعه، كونه اندماج مناطقي لا فصائلي.
على صعيد أخر برزت مبادرة من نوع أخر وسميت " سيف حلب لأهل الشام"، هي مباردة غير عسكرية، لكنها تهتم بتأمين الدعم اللوجستي ( الطعام، شراب، ملبس .. ) للمقاتلين على الجبهات من أجل تحسين أدائهم، وتعزيز قدراتهم على التصدي، وقد اضم ناشطون مدنيون في المدينة لجبهة تفعيل العمل المدني ومحاسبة الفصائل المسلحة المقصرة.
بالمحصلة، يمكن القول، أن مبادرات الفصائل، وزيادة التنسيق فيما بينها، ووصول بعض شحنات الأسلحة، مكنت الفصائل المسلحة في حلب، من ايقاف النظام ومنعه مرحليا من مسعاه لتطويق حلب، وحصارها. لكن هذه المبادرات على أهميتها، لا يمكن، ووفقا لألية عملها، أن تحقق نتائج فاعلة على المدى الطويل، وقد يكون مصيرها كالمبادرات والاندماج التي سبقتها.
إن مواجهة الخطر المحدق بحلب وبالثورة بشكل عام يتطلب الانطلاق إلى تنسيق اكبر، واجتراح استراتيجية عسكرية طالما تحدثنا عنها، تبتعد عن الفصائلية، وتركز على الهدف العام بمواجهة النظام واسقاطه، لا على أمور ثانوية حاليا كشكل الدولة، وطبيعة كل فصيل مشارك، وافكاره وداعميه الإقليميين .. الخ. في هذا السياق، تعتبر الخطوة والتي أقدمت عليها مجموعة من الفصائل المسلحة ( عددها 17) بتشكيل قيادة عسكرية موحدة للثورة خطوة هامة يمكن البناء عليها إذا توافرت ظروف موضوعية تتيح تجاوز المظاهر السلبية السابقة، وتتجه بنا إلى عمل عسكري منسق إن لم يكن موحد.
إن مواجهة قوات النظام وتقويض مسعاه بحصار المدينة في حلب، لا تقل أهمية عن مواجهة خطر أخر محدق بهذه المدينة ألا وهو تنظيم الدولة، والذي استفاد من الزخم العسكري وتقدمه في الفرقة 17، واللواء 93 في الرقة، والمعنوي المتمثل بانضمام مقاتلين من لواء داود، الذي شن هجومًا عسكريا في ريف حلب الشمالي استطاع خلاله السيطرة على نحو 17 بلدة من أبرزها اخترين، وتركمان، ليصل إلى حدود مارع، محاولا من جديد السيطرة على مدينة اعزاز ومعبر باب السلامة الحدودي مع تركيا، ليقطع الإمدادات عن قوات المعارضة، ويفرض حصارًا على المدينة تمكنه من السيطرة عليها.
المنطقة الوسطى: ضربة مؤلمة للنظام في مورك
نجحت فصائل الجيش الحر، والفصائل الإسلامية وجبهة النصرة، وعلى مدار5 شهور بالتصدي لقوات النظام في مدينة مورك الاستراتيجية، والتي – وكما ذكرنا في تقارير سابقة – تشكل نقطة عبور مهمة لإمدادات قوات النظام بشكل عام، ولمعسكري الحامدية، ووادي الضيف المحاصرين ( انظر الخريطة رقم 2). لكن النظام، ولأهمية هذه النقطة، لم يستسلم، ولم يأبه بالخسائر اليومية في العدة والعتاد والجنود، واستمر في محاولاته المتكررة لاقتحام الجزء الذي تسيطر عليه قوات المعارضة والواقع على الطريق الدولي دمشق – حلب. وفي ظل الفشل المتكرر، بدأ النظام، والذي استجلب ميليشيات حزب الله وأخرى عراقية للمشاركة، منتصف تموز/ يوليو 2011، عملية عسكريّة واسعة، اتبع فيها تكتيك لطالما اتبعه سابقًا يقوم على تشديد قصف المنطق، واستهداف مقار وخطوط امداد المقاتلين بقوة نارية كبيرة، بشكل يؤدي إلى انهيار دفاعاتهم، ومن ثم يتبعها باقتحام بري من الثغرات الهشة. يمكن القول أن النظام استطاع بداية أن يحقق نجاحات هامة فيو مورك، وكاد يسيطر على المدينة برمتها. الأمر الذي دفع الفصائل العاملة هناك إلى إطلاق نداء تحذيري ضمن حملة أطلق عليها ناشطون " نصرة مورك".
ونظرًا للأهمية الاستراتيجية للمدينة، وللتداعيات العسكرية السلبية التي قد تنجم عن فقدانها، كفتح طريق الإمداد، وإعادة السيطرة على حواضن رئيسية للثورة مثل مدينة كفرزيتا، واللطامنة في ريف حماه الشمالي – الغربي، وفك الحصار عن معسكري الحامدية ووادي الضيف، استجابت فصائل عدة للنداءت التحذيرية، وأطلقت معركة " بدر الشام الكبرى"، ونجحت في استعادة المواقع التي خسرتها المعارضة، بل وسيطرت على معظم النقاط العسكرية الخاضعة لسيطرة قوات النظام في جميع المحاور.
( خريطة رقم 2)
وفي ظل الزخم العسكري والمعنوي الذي كسبته فصائل المعارضة في مورك، وأمام انهيار دفاعات النظام، نحج الثوار، ومن خلال حركة التفافية، في السيطرة على بلدة خطاب، ورحبتها العسكرية واستولوا على كميات من الأسلحة الثقيلة من ضمنها دبابات، وصواريخ مضادة للدبابات، واقتربوا مسافة ( 10) كم من مطار حماه العسكري والذي يعتبر أهم مطار في المنطقة الوسطى والشمال بالنسبة لقوات النظام، واستهدفوه بعشرات من صواريخ الغراد، ما عطل حركته جزئيا ولفترة محدودة.
لا تكمن اهمية السيطرة على قرية خطاب بالنسبة للمعارضة المسلحة في العنائم والعتاد فقط، بل تكمن بشكل رئيس في موقعها. تشكل قرية خطاب راس مثلث ( أنظر الخريطة رقم 3) يتوسط قريتين تعتبران بوابة حماه المدينة؛ قمحانة من جهة الشمال؛ وهي قلعة حصينة، اختار أغلبية سكانها الوقوف إلى جانب النظام منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة، وكانت مصدر رئيس لتوريد الشبيحة والذين تولوا قمع المظاهرات السلمية العارمة التي شهدتها المدينة. والشيحة من جهة الغرب؛ وهي قرية سنية محايدة إلى حد كبير باستثناء وجود بعض المخبرين فيها؛ لم تشترك في المظاهرات ولم تنخرط -باستثناءات بسيطة - في العمل المسلح لأسباب تتعلق بالبئية الأهلية المحيطة بها، ووجود مسؤولين في الدولة من سكانها.
( خريطة رقم 3)
السيطرة على خطاب تهدد هاتين النقطتين الهامتين بشكل يهدد سيطرة النظام على حماة المدينة، فتهديد قمحانة يصعب من مهمة قوات النظام بإمداد قواته المتبقية في ريف حماه الشمالي وريف ادلب الجنوبي، ويقلل من الضغط على طيبة الإمام ومورك. وهنا لا بد من التعامل مع النقطة العسكرية في جبل زين العابدين والتي تعتبر خط الدفاع الأول عن حماة المدينة من جهة الشمال. في حين تساهم السيطرة على الشيحة في قطع أوصال الريف الغربي الحساس بالنسبة للنظام مع المدينة. ولا شك بإن التمدد المدروس غربا ( دون استفزاز حقيقي للقرى المؤيدة) سوف يربك حسابات النظام، ولسوف يعيد جذوة العمل المسلح إلى قرى مثل كفر الطون و تيزين ( القريبة من المطار العسكري).
تعد التطورات في ريف حماه الشمالي والغربي هامة جدًا، وإذا ما أحسنت المعارضة إدارة المعركة كما جرى في خان شيخون، فإنها ستحقق مكسبا استراتيجيا يعوض خسارة حمص. يبقى أن الخارطة العسكرية في مدينة حماة غير واضحة المعالم حتى الآن، فبالرغم من الدور الكبير الذي لعبة شباب المدينة في معارك ادلب وريف حلب، فإنهم عجزوا حتى الآن عن تنظيم العمل المسلح بشكل يؤسس لكتائب عسكرية محلية فاعلة تنسق مع بعضها.
الغوطة: النظام يستعيد المليحة، وجوبر تقاوم وتهدد العاصمة
لم تمر الغوطة، بظروف أحلك مما عاشته وعايشته خلال الأشهر الأخيرة. لقد حققت سياسة القضم، والتي اتبعها النظام مع قرى وبلدات الغوطة الشرقية، نتائجها العسكريّة بالنسبة له لاستكمال حصار قرى وبلدات الغوطة الشرقية. بعد سقوط العتيبة، والعبادة، والنشابية، ثم حتيتة التركمان أصبحت بلدة المليحة تمثل إحدى أهم بوابات الغوطة الشرقية، والسيطرة عليها يعني اطباق الحصار على الغوطة بشكل شبه كامل، ما قد إلى يؤدي إلى سقوط بلداتها تدريجيا.
تعتبر بلدة المليحة نقطة استراتيجية هامة سواء لفصائل المعارضة أو للنظام، لأنها تبعد قرابة 5 كم عن دمشق، وتمثل الحد الفاصل بين جزء الغوطة الشمالي ( الواقع تحت سيطرة المعارضة)، والجنوبي المحاذي لمطار دمشق الدولي والواقع تحت سيطرة قوات النظام.
على مدار أشهر، يحشد النظام، وحزب الله والميليشيات العراقية القوات، وتبدأ العملية تلو العملية للسيطرة على المليحة. وكما عند النظام، كانت معركة المليحة مصيرية لدى فصائل الغوطة على اختلافاتها، والتي أرسلت طلائعها للدفاع عن البلدة ومنع سقوطها. وبين تقدم هنا، وتراجع هناك، كان في بعض الأحيان يحسب بالأمتار والمباني، استمرت المعركة على ضراوتها. وفي ظل ضعف الإمكانيات، وعدم الخروج عن تكتيك رد الفعل عند المعارضة، حقق النظام اختراقات هامة وسيطر على محاور عدة من المليحة، حتى أنه نجح في عزل مجموعات المعارضة عن بعضها. وأمام هذا الواقع، لم يكن أمام قوات المعارضة والفصائل الجهادية من خيار، سوى الاجتماع والتنسيق فيما بينها، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم عبر هجوم يخلخل دفاعات النظام، ويستعيد النقاط التي سيطر عليها خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. وكما جرت العادة، بدأ هجوم الثوار بعملية انغماسية لأحد مقاتلي النصرة ( 3 اب/ اغسطس 2014)، والذي فجر سيارته بتجمع عسكري لقوات النظام والميليشيات العراقيّة، تلاه اشتباكات داخل وخارج مناطق الحصار، نتج عنها عدد كبير من القتلى في صفوف النظام والميليشيات المؤيدة له، وكسر الحصار جزئيًا عن المليحة.
كان تقدم قوات المعارضة انجازًا هاما فيما لو استطاع الثوار المحافظة عليه، كونه يشكل ضربة لحسابات النظام في المليحة وفي الغوطة بشكل عام، ويعيد المشهد العسكري إلى ماقبل بداية أبريل/ نيسان 2014، تاريخ بدء العملية العسكرية للنظام على المليحة والذي روج لها باعتباره معركة حاسمة لن تستمر سوى أيام، ويفيد في إعادة تفعيل العمل العسكري في محاور الغوطة خارج الحصار، ولاسيما في القرى القريبة من مطار وطريق دمشق الدولي، وهي مناطق تؤلم النظام كثيرًا ( انظر الخريطة 4).
( خريطة رقم 4 )
لكن النظام استطاع من جديد ترتيب قواته، ووضعه العسكري في المليحة، وساعده وصول تعزيزات اضافية من حزب الله والميليشيات العراقية، في القيام بهجوم مضاد انتهى بالسيطرة على المليحة، وانسحاب الثوار منها، والبدء في سيناريو حصار على الغوطة أكثر شدة من السابق.
وفي محور لا يقل أهمية عن محور المليحة، أحرزت فصائل المعارضة وعلى رأسها الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام وألوية الحبيب المصطفى انجازا عسكريًا هامًا تمثل بالسيطرة على حاجز عارفة، وهو حاجز يطل على مدينة دمشق عند محور ساحة العباسين، ومؤلف من 6 مباني سكنية، استخدمها النظام كخط دفاع أول لمنع أي تقدم باتجاه ساحة العباسين. وجرت السيطرة على حاجز عارفة باستخدام تقنيات الأنفاق وتفجير المباني، ثم الهجوم المضاد. وهو تكتيك بدأ ينتشر في عموم المناطق السوريّة، لاسيما في المدن المكتظة بالمباني السكنية والسكان، حيث يصعب اشعال مواجهة مباشرة ودائمة. وعلى الرغم من محاولاته المتكررة، عجز النظام عن استعادة السيطرة على الحاجز، وهو ما يجعل المقاتلين على بعد مئات الأمتار عن ساحة العباسين ثاني أهم مركز في العاصمة دمشق، وهذا له قيمة رمزية تدل على فشل استراتيجية النظام بعزل العاصمة عن المواجهات.
تأسيسا على ما سبق، فإن ما أطلق عليه " معركة تطويق مطار دمشق الدولي"، والتي بدأت بعد كسر الحصار عن المليحة، في مواقع كالغزلانية وخان الشيخ يجب أن تكون مدروسة ولا تعتمد على ردات الفعل والتخطيط الارتجالي. وقد يكون الحصار في الغوطة فرصة للكتائب للتوحد، لاسيما
أخيرًا، يمكن القول أن ما جرى في المليحة وجوبر قد يشكل فرصة لفصائل المعارضة تدفعهم إلى التوحد والتنسيق لاسيما وأن تسريبات تتحدث عن اقتراب تشكيل جيش موحد في الغوطة يضم غالبية الفصائل، ومجلس قضاء موحد يتولى فض النزاعات والتي أثرت سلبيا على العمل العسكري في هذه المنطقة.
يبقى الإضاءة على ظاهرة سلبية، تنتشر على نقاط الوصل والمعابر التي توصل ما بين الجزء الخاضع لسيطرة النظام، والخاضع لسيطرة المعارضة في الغوطة، وتتجلى في ظاهرة لصوصية يمكن توصيفها بشكل أدق بـ " ظاهرة أمراء الحصار". إذ أن بعض المجموعات التي تنتسب للجيش الحر او تنتحل صفته، عقدت اتفاقيات مصلحية مع التجار المتعطشين للربح من لقمة المستضعفين والمحاصرين، وبموجب هذه الاتفاقيات يقوم المجموعات المسلحة بعرقلة دخول المساعدات الى الغوطة، لاسيما تلك المخصصة لها من الأمم المتحدة، والتي تهدر من أجل تخليصها طاقات وجهود، فقط من أجل هدف دنيء ألا وهو ترويج بضائع تجار الحروب باسعار مرتفعة جدا في ظل غيابها وحاجة الناس إليها.
عرسال: فخ استدرجت إليه الفصائل السورية
تتفق جميع الفصائل المسلحة الموجودة في منطقة القلمون على أن عرسال اللبنانية ( السوريّة) هي رئة الثورة ومتنفسها الوحيد المتبقي، وتجمع غالبيتها بما فيها جبهة النصرة على أن دخول عرسال خطأ أضر بها، وبالثورة السوريّة بشكل عام.
لكن السياق الذي جرت فيه المواجهة في عرسال، يدل على أنها لم تكن " أزمة طارئة" تفاقمت، أو "كرة ثلج" تدحرجرت من فراغ، فخلفت كارثة وراءها. فقد كانت " أزمة عرسال"، بقصد أو بدون قصد، المخرج الذي توافق عليه الفرقاء اللبنانيين لتحريك مياهم الراكدة، وملفاتهم العالقة.
تقع عرسال ضمن الجغرافيا اللبنانية بلاشك، لكن إذا ما قاربنا المسألة من زاوية اقتصاديّة ( حركة التبادلات التجارية والاقتصادية)، والاجتماعية ( العادات، والتقاليد، صلات القربى، وخصوصيتها الطائفية أيضا) نجدها أقرب إلى ان تكون " سورية". الأمر الذي أهل عرسال دون غيرها من قرى البقاعين الأوسط والشمالي، لاستقبال اللاجئين السوريين. وبخلاف الأصوات، واللافتات والتصريحات العنصريّة، لم تشتك عرسال من اللاجئين وازدياد عددهم الى ( 100-120) الف، بما يفوق عدد سكانها. قدر لعرسال، وكما للثورة السوريّة، جيش لبنانيّ منحاز، تجمع عليه القوى السياسيّة اللبنانية شكليا، لكنها تتنافس على من يستأثر به. أما قيادته، ممثلة بجان قهوجي، فعينها ومنذ بدء الفراغ الرئاسي في لبنان على منصب الرئاسة، فكما هو متعارف عليه لبنانيًا، فإن هذا المنصب يمنح وفي أوقات الأزمات وغياب الإجماع، لقائد الجيش التوافقي، بعد أن يسجل في رصيده " معركة إنقاذية" للبنان الكيان والدولة. وبناء عليه، لم يجد قهوجيّ أفضل من مكافحة الإرهاب، ومواجهة التطرف الأصولية ( حصرت باللبنانين السنة) رافعة لبلوغ مراده، فخاض جولاته في صيدا، وطرابلس، وأخيرًا في عرسال مستفيدًا من أخطاء من يركب موجة الاحتجاج، ليفرغها من مضمونها، ويحيد بها إلى مسائل فرعية وطائفية سرعان ما تأخذ شكل المواجهة المسلحة مع مؤسسة لا يريد أحد في لبنان، أن تسقط أو تتهشم باعتبارها المؤسسة السيادية الوحيدة المتبقية.
في تفاصيل عرسال، وتفاقم أزمتها ما يؤكد رغبة لبنانية في افتعالها. أولاً: ليست المرة الأولى التي يدخل فيها المسلحون، وعماد جمعة ( أبو أحمد) قائد لواء فجر الإسلام الذي بايع داعش حديثًا إلى عرسال. وتؤكد جميع الشهادات ، أن جمعة كان يتردد إلى عرسال باستمرار، ويمر ويفتش على حواجز الجيش اللبناني. كما أن اعتقاله، وإن كان السبب المباشر للأزمة، لاسيما بعد أن اقدمت مجموعة تبايع جبهة النصرة على استهداف أحد الحواجز العسكرية، لم يكن سبب تفاقمها. فرد الجيش اللبناني، وقصفه العشوائيّ لمخيمات اللاجئين هو السبب الذي أذكى الأزمة وأججها، خاصة بعد صمته على القذائف والصواريخ التي تنهال من قرى لبنانية مؤيدة لحزب الله على عرسال ومخيماتها. وبدلاً من أن تبادر قيادة الجيش إلى احتواء المشكلة، جيشت لمعركة حاسمة وبمسميات عريضة ضد " الإرهاب".
بالغ اللبنانيون في قضية الإرهاب، وبالطبع كانت هذه المبالغة مقصودة وممنهجة. فبخلاف الراويات الرسمية والشعبية اللبنانية والتي تحدثت عن دخول تنظيم الدولة إلى لبنان لاحتلاله وإلحاقه بالخلافة التي أعلنها في العراق وسورية، دخل مقاتلو الدولة والنصرة، وعلى الرغم من خصومتهم، إلى عرسال برفقة مقاتلين سوريين أخرين ينتسبون إلى فصائل سورية إسلامية ومن الجيش الحر وذلك بعد نداءات استغاثة من أهاليهم وعائلاتهم الموجودة في عرسال الذين وجودا أنفسهم تحت وابل من قذائف لا يعرف مصدرها.
كانت الفصائل السوريّة تدرك أن عرسال " فخ" نصب لها لاستدراجها، وأن دخولها سيفيد حزب الله بالدرجة الأولى على اعتبار أن هذه المعركة ستشغلهم عن استنزاف حزب الله في القلمون السوريّة لاسيما وأنها ألحقت به خسائر بشرية كبيرة خلال الأشهر الأخيرة، كما أن دخولها لعرسال سيمنح حزب الله الفرصة لتأكيد روايته عن حماية لبنان استباقيا من الخطر السوريّ. على الرغم من ذلك، اتخذت هذه الفصائل القرار بالدخول لا على حسابات استراتيجية بل حمية وخشية على ذويهم وأقاربهم. ومنذ دخولها، وعلى الرغم من اشتباكها مع الجيش اللبناني واختطافها بعض الجنود، حرصت على التجاوب مع مبادرة هيئة علماء المسلمين للانسحاب من عرسال مقابل ضمانات. ونؤكد هنا، أن من عرقل خروج المسلحين وانسحابهم هو الجيش والقوى السياسية اللبنانية، وليس الفصائل السوريّة. وقد بلغ الأمر بالجيش، وبمدفعية بعض القرى القريبة من عرسال أن قصف الوفد المفاوض لتعطيل العملية.
بالمحصلة، تضررت الثورة من دخول الفصائل إلى عرسال، وحقق الفرقاء اللبنانيون أهدافهم عندما أجمعوا أن ما جرى في عرسال كان مخرجًا لأزماتهم ودافعا لإعادة اتصالات مقطوعة بين فرقاء مختلفين.
المنطقة الشرقية تغرق بظلام الدولة، والنصرة تجهز إماراتها
مطلع عام 2014، حصلت مواجهة عسكريّة بين فصائل مسلحة ( الجيش الحر، الفصائل الإسلامية، جبهة النصرة) التي توحدت ضد انتهاكات تنظيم الدولة ومسعاه للسيطرة على المناطق المحاصرة، وانتهت بطرد التنظيم من مناطق عدة في الشمال وفي دير الزور. أنذاك كانت جميع التوقعات تدل أن تنظيم الدولة في طريقة إلى الزوال، ولكن ظروف ذاتية وموضوعية استغلها التنظيم مكنته من من استعادة ما خسره، واحتلال مناطق أخرى كريف دير الزور ومدينتها، ليسيطر على المنطقة الشرقية ويزيل الحدود مع العراق ويفرض نفسه كفاعل يمتلك قدرات على التأثير في الإقليم، وهي:
أولاً: غياب الإجماع على قتال تنظيم الدولة: كما هو معروف، فإن من بدأ المواجهة ضد التنظيم في سوريا هو جيش المجاهدين، لحقته جبهة ثوار سوريا، وفصائل من الجبهة الإسلامية تضررت من تمدد تنظيم الدولة ونفوذه، وأخيرا جبهة النصرة. وفي الوقت الذي تبت فيه فصائل الجيش الحر الحل الاستئصالي، والذي يقتضي إكمال المعركة حتى نهايتها وطرد التنظيم بشكل نهائي من سورية، تبنت فصائل الجبهة الإسلامية ولاسيما حركة أحرار الشام موقفا ملتبسا مبهما، فانخراطها في المواجهة التي انطلقت 3 كانون الثاني/ يناير 2014، لم يكن هدفه استئصال التنظيم وطرده نهائيا، بل تحجيمه واضعافه واجباره على قبول التحكيم المقترح من قبلها، وهو ما ضيع فرصة حقيقة في إخراج التنظيم وبشكل كامل من سورية.
ثانيا: الانشغال العسكري عن قتال التنظيم: يعود ذلك إلى أسباب عدة وفي مقدمتها تصعيد قوات النظام والميليشيات الحليفة له هجماتها العسكرية على مناطق حيوية تسيطر عليه المعارضة، ولاسيما مدينة حلب وريفها؛ ما أدى إلى انشغال قوات المعارضة في سد الثغرات التي أوجدتها المواجهة مع تنظيم الدولة بغية تحصين مواقعها، والصمود أمام محاولات النظام المتكررة فرض حصار مطبق على المدينة. وساهم تراجع تدفق الإمدادات الخارجية في التأثير على فاعلية بعض القوى التي تصدت لمحاربة التنظيم في ريف حلب الشمالي والشرقي، الأمر الذي جعل مدينة الرقة، المركز الرئيس للتنظيم في سوريا، مستقرة وغير مهددة، بشكل منح التنظيم الفرصة لاستعادة زمام المبادرة والهجوم على مواقع المعارضة واستنزاف قدراتها خارج مناطق وجوده.من ناحية أخرى، انشغلت كتائب دير الزور وكما ذكرنا في التقرير السابق، بمسائل ثانوية كتنظيم استثمار النفط، والعوائد الاقتصادية، عن تهديدات التنظيم المتكررة للمدينة، الأمر الذي وضعها في موقف حرج جدا بعد أن نجح التنظيم في السيطرة على غالبية أرياف دير الزور، وفرض حصارا مطبقا على المدينة. وبالطبع ينسحب الموقف في حلب ودير الزور على مناطق أخرى متعددة في سوريا.
ثالثاً: تواطؤ نظامي الأسد والمالكي مع التنظيم ضد الثوار: لا نستحضر هنا نظرية المؤامرة، والخطاب التبريري الذي يقول بأن تنظيم الدولة هو صنعية أسدية أو إيرانية، بل نستحضر تقاطع الأهداف والمصالح بين كل من تنظيم الدولة والنظام السوري وحكومة المالكي، فاستمرار تنظيم الدولة وازدياد نفوذه كان في قائمة أولويات الاستراتيجية العسكرية لنظام دمشق؛ لاستثماره دعائيا وإعلاميا والدلالة على أن "بديله" هو "التطرف" و"الإرهاب" و"الفوضى". انطلاقا من ذلك، تجنب نظام الأسد ولفترات طويلة استهداف تنظيم الدولة أو الاشتباك معه، بل على العكس ساعد النظام تنظيم الدولة على الانتصار في مواجهات عديدة مع فصائل المعارضة، كما جرى في مدينة الباب بريف حلب، وفي دير الزور وغيرها. وبالتالي وجد الثوار أنفسهم في مواجهة عدوين يمتلكان القوة العسكرية والإمكانات.
أما حكومة المالكيّ، فبعد اندلاع الانتفاضة السلمية والمسلحة في العراق، عملت ما أمكن، لإلصاق تهمة الإرهاب والتطرف بالحراك الاحتجاجي المطالب باستقالة المالكي واستعادة الحقوق المسلوبة، وإلغاء سياسة التهميش.
وبدأ التواطؤ بين حكومة المالكيّ وتنظيم الدولة منذ منتصف عام 2013، عندما سهل المالكي هروب مئات القيادات والعناصر الفاعلة في التنظيم، وبالطبع وجدت هذه العناصر الهاربة من سوريا "قاعدة" يمكن الاستقرار فيها لإعادة فاعلية ونشاط التنظيم، واستمر هذا التواطؤ باستهداف مركز لمواقع التنظيم الحدودية لدفع مقاتليه للانتقال نحو سوريا والاستقرار فيها. وترجح تقارير استخباراتية عدة، أن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي قد نقل مقر إقامته إلى مدينة الرقة، واتخذها عاصمة لدولته الإسلامية. وبناء عليه، أصبحت خطط التنظيم تصاغ وتبدأ من سوريا؛ بمعنى أنه أصبح تنظيما جهاديا عراقيا، لكن مركزه ورأسه في سورية.
رابعا: ثورة العشائر في العراق: جاءت ثورة العشائر المسلحة في الأنبار والفلوجة، والمدن العراقية الأخرى لتكون طوق نجاة لإعادة تأهيل التنظيم وانخراطه ضمن العمل المسلح ضد حكومة المالكي. حرص قادة الحراك الاحتجاجي في العراق على نفيّ أي علاقة وارتباط بين حراكهم السلمي ولاحقا المسلح، وبين تنظيم الدولة. وفي الوقت الذي اشتدت واتسعت المواجهات في الأشهر الأخيرة الماضية، بين عشائر العراق والجيش العراقي، دخل تنظيم الدولة إلى المناطق الملتهبة وطرح نفسه كقوة عسكرية إلى جانب الثوار العراقيين. قوبل وجود تنظيم الدولة في صفوف الثوار المسلحين بالرفض في البداية، إلا أنه وبعد فترة زمنية قصيرة، ونتيجة للقصف الجوي والمدفعي العنيف، غض الثوار الطرف عن وجود عناصر التنظيم. وعندما بدأت المعركة الأخيرة السريعة في الموصل، كان التنظيم على رأسها، وبحكم توحد قوته وتنظيمه وتشتت الأخرين تمكن من السيطرة على جميع المناطق التي خرجت عن سيطرة المالكي وهو ما أعطاه زخما عسكريا ومعنويا مكنه من نقل قسم من قواته ومعداته إلى سورية ليستعيد مواقعه.
تشكل سيطرة تنظيم الدولة على كامل المنطقة الشرقية في سورية تهديدا كبيرًا للثورة، فعدا عن اهميتها الاقتصادية لوجود أهم مصادر البلد النفطية والغازية والمائية والزراعية فيها، فإن الثورة كمشروع سلطة مستقبلي هددت، وأصبحت تتوزع في جزر معزولة عن بعضها، وبالطبع فإن هذه الجزر مهددة دائما من قبل خصومها وعلى رأسهم النظام السوري وتنظيم الدولة.
لقد كان دخول الحركات الجهادية، وسكوت فصائل المعارضة عليها وبالاً على الثورة السوريّة، وترك تداعياته السلبية الظاهرة الآن، فهذه الحركات وان تقاطعت في الهدف مع الثورة في اسقاط النظام، لكن اهدافها ومشاريعها تختلف إلى درجة كبيرة وتتناقض مع مشروع الثورة الذي لا يرمي إلى التخلص من النظام وحسب، بل بناء دولة ديمقراطية عادلة لجميع السوريين، وليس إلحاقها بمشاريع مخترعة ماضوية كاستعادة الخلافة أو انشاء دولة دينية أصولية متزمتة تستبدل الاستبداد العسكري باستبداد أخر يرتكز على أسس دينية. وحتى جبهة النصرة، والتي كانت عند نشأتها مشروع تجديدي للقاعدة يبتعد عن تكتيكاتها التقليدية، واهدافها السريعة، ويسعى إلى الانفتاح على باقي الفصائل ضمن فهم " دفع الصائل"، بدأ يستنسخ مشروع تنظيم الدولة. فالنصرة التي وجدت نفسها مستنزفة أمام التنظيم لاسيما بعد خروج قسم كبير من المهاجرين ومبايعتهم لأمير تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي، بدأت، وفي سبيل المحافظة عليهم، بتغيير نهجها وسلوكها محاولة تقليد تنظيم الدولة وخطابه التحفيزي عن الإمارة والدولة الإسلامية. وقد جاءت التغييرات في هيكلية قيادة تنظيم النصرة لتؤكد ذلك، إذ عزل شرعيها العام أبو ماريا القحطاني، والذي كان رأس حربة في دفع التنظيم للتعاون والتنسيق مع الفصائل والعمل على احتواء الخلافات معها، ومحاربة نموذج تنظيم الدولة القائم على الفرض الزجري والإجباري لشكل الحكم المتمثل في الإمارة الإسلامية. وبدلاً من القحطاني، عين سامي العريدي شرعي عام ليكون خطوة في سلسلة خطوات (الانسحاب من الهيئات الشرعية في حلب وريف دمشق، تشكيل جهاز قضائي وأمني خاص، السيطرة على المناطقة الحدودية تحت ذريعة " ردع المفسدين") تسعى النصرة إلى تحقيقها قبل الانتقال إلى إعلان الإمارة والتي تحدث عنها مسؤولها العام أبو محمد الجولاني في تسريب أكدته النصرة. وكما هو معروف، فإن العريدي، يمثل جناحًا في النصرة يسعى إلى التعجيل بإعلان الإمارة، وتحكيم الشريعة بغض النظر عن الموقف الميداني وقبول ورفض باقي الفصائل.
الجانب الحقوقي والإنساني: قرار أممي نافذ، وتعليق لقرارات أخرى
كل يوم يمر دون إيجاد حل للأزمة السورية يعني مزيدا من الشهداء والجرحى والمعتقلين، فالآلة الحربية لاتتوقف عن حصد أرواح العشرات يوميا. وقد تجاوز عدد الضحايا من المدنيين والذين قتلهم النظام حوالي 112 ألف، من بينهم قرابة 16 ألف طفل و 14 ألف امرأة قتلتهم قوات النظام السوري، في حين تجاوزت أعداد الجرحى 1.1 مليون شخص، وذلك منذ بداية الثورة السورية حتى نهاية شهر تموز/2014 بحسب عدة تقارير صادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
أما داعش والمجموعات التكفيرية فقد قتلت مايقارب الثلاثة آلاف شخص بينهم 700 مدني و 2300 من الثوار الذين وقفوا ضدها. وتسببت أيضًا قذائف الهاون العشوائية التي تطلقها بعض فصائل المعارضة المسلحة في مقتل قرابة ال 500 شخص.
لم يغير قرار مجلس الأمن رقم 2165 المتعلق بالأمور الانسانية ووقف القصف العشوائي والذي صدر بتاريخ 14 تموز/ يوليو 2014 من هذا الواقع الدموي. ولكنه ساهم بادخال كميات جديدة من المساعدات عبر الحدود التركية، وأيضا عبر الحدود الاردنية. ففي تاريخ 6 أب/ أغسطس 2014 دخلت سيارات تحوي مواد غذائية وطبية، وذلك بالتنسيق والتعاون مع المكاتب الإغاثية المحلية المتواجدة في محافظة درعا، عبر معبر درعا القديم الخاضع لسيطرة المعارضة السورية والذي قامت السلطات الأردنية بفتحه لتسهيل مرور المساعدات عبره.
وربما ساعد على ذلك، بعد فشل القرار 2139 بتاريخ 22 شباط/ فبراير 2014 الصغية الملزمة للقرار 2165 الذي هدد بإجراءت ردعية وزجرية تجاه النظام ردعته عن عرقلة مرور قوافل المساعدات أو الاعتراض عليها أو قصفها كما كان يفعل سابقا.
لكن، باستثناء السماح بإدخال بعض المساعدات الإنسانية، استمر نظام الاسد في تحدي الإرادة الدولية، وصعد في الهجمات العشوائية، واستخدام القنابل البرميلية وتابع حصار الجوع على العديد من المناطق المكتظة بالسكان. وهذا ما أشارت إليه تقارير منظمة هيومان رايتس ووتش وخاصة في تقريرها بتاريخ 30 تموز/ يوليو 2014، الذي حمل عنوان "وابل من البراميل المتفجرة".
فعلى الرغم من أن القرار 2118، كان تحت الفصل السابع، إلا أن استخدام تدابير زجرية أو فرض عقوبات كان يتطلب دعوة مجلس الأمن من جديد للانعقاد واتخاذ قرار يتيح استخدم مثل هذه الإجراءات، وهو ما استغله النظام للمماطلة في تنفيذ القرار، بل التوسع في استخدام مواد كيماوية لا تدخل ضمن تصنيفات الأسلحة الكيماوية، كغاز الكلور.
وفي هذا السياق، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريرا بعنوان "لايوجد خط أحمر" أظهرت فيه أن نظام الأسد لم يكف عن استخدام الغازات السامة ضد المدنيين، وأنه لجأ إليه في مالايقل عن 27 مرة، استهدف فيها 11 منطقة في سورية، تقع ضمن ثلاثة محافظات هي : ريف دمشق و حماة و ادلب.
كما وثق تقرير في مجلس الأمن صدر بتاريخ 24 تموز/ يوليو 2014، تصاعد الهجمات التي تشنها قوات النظام ضد المستشفيات. ورصد 12 هجوما على مؤسسات استشفائية خلال شهر واحد هو شهر حزيران/ يونيو 2014، وذلك في كل من حلب وحماة وحمص وادلب وفي ريف دمشق، وأكد أن منفذها هو قوات النظام السوري الذي يستخدم وحده سلاح الطيران. كما وثق التقرير قتل الطواقم الطبية، حيث أحصى في ذلك الشهر مقتل 19 شخصا من الطاقم الطبي، 18 منهم على يد قوات النظام، وواحد على يد مقاتلي المعارضة.
وفي ملف الهدن وما يسميه النظام بالمصالحات، ثابر النظام على الإخلال بتعهداته للمقاتلين الذي سلموا أنفسهم، لتسوية أوضاعهم وعودتهم إلى ما أسماها " حياتهم الطبيعية”. فقد تحدثت عدة تقارير حقوقية عن تصفية المئات ممن سلموا أنفسهم عبر عمليات التسوية والهدن. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان فقد اعتقل النظام السوري مالايقل عن 1860 شخصا منهم منذ بداية عام 2014 حتى نهاية شهر تموز/ يوليو الماضي في كل من حمص وريف دمشق، وهؤلاء جميعا من الذين خرجوا بتسويات مع المناطق المحاصرة.
عدا عن أن سياسة الاعتقالات لم تتوقف يوما واحدا بالتوزاي مع سياسة التصعيد العسكري، ولم تتوقف أجهزة النظام الأمنية عن خطف واعتقال جميع من هم في سن الخدمة الالزامية. وقد شملت عمليات الخطف والاعتقالات المناطق الموالية للنظام والمناطق المعارضة له والخاضعة لسيطرته على حد سواء. وقد حصل الخطف والاعتقال حتى لمن يمتلك أدلة من الحكومة السورية تسمح له بتأجيل الخدمة العسكرية، وذلك بعد أن امتنع معظم السوريين عن إرسال أبنائهم للخدمة في جيش النظام.
وإذا كانت ال55 ألف صورة التي التقطها المصور المنشق عن النظام السوري "قيصر" تظهر فظاعة وسادية مايتعرض له المعتقلون داخل مراكز الاحتجاز النظامية منها وغير النظامية، فإن عدم المبالاة من قبل المجتمع الدولي تشجع النظام على الاستمرار في هذا السلوك. وتبين التقارير أن هناك على الأقل خمس معتقلين يفقدون حياتهم كل يوم تحت التعذيب في سجون ومعتقلات النظام. وهذا ما يؤكد إخفاق مجلس الأمن في مجلس الأمن الوفاء بالتزاماته التي تنص على أنه "أصبح حظر التعذيب معيارا حاسما عالميا، أي أنه مبدأ يتمتع بمرتبة أعلى في الأهمية على قوانين المعاهدات"، كما جاء في بيان تأسيس محكمة الجنايات الدولية.
ولاتقتصر معاناة السوريين على الانتهاكات التي يرتكبها النظام السوري والميليشات الموالية له، وإن كانت هي الأعظم والأكثر منهجية، فلقد ابتلي السوريون، بمجموعات متطرفة، ذات أهداف وتطلعات خاصة، ترتكب في سبيل تحقيقها ألوانا متنوعة من الانتهاكات، وأضحى الشعب السوري بين فكي كماشة، فلقد قام تنظيم الدولة الإسلامية بعمليات اغتيالات بالجملة وقتل ممنهج ومؤدلج وإبادة جماعية لمئات المدنيين من عشيرة الشعيطات التي وقفت في وجه تمدده في محافظة دير الزور، وقام بنشر صور لتلك الإعدامات، لبث الرعب في صفوف السوريين، إضافة إلى التضييق على سكان المناطق التي يسيطر عليها وإرهابها، واستيلائه على كثير من المنشآت التابعة للملك العام وتحويلها لى مقرات خاصة، بما في ذلك المدارس والمساجد والكنائس، وفي بعض الأحيان بعض المنازل الخاصة. وقد دفعت هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق السوريين رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة السيد باولو بينيرو في مقابلة مع صحيفة الديلي تلغراف إلى اعتبار "مقاتلي تنظيم الدولة المتطرف المسؤولين عن ارتكاب فظائع في سورية هم "مرشحون مناسبون لإدراجهم على القائمة السوداء" للجنة التحقيق. وكانت لجنة التحقيق الدولية قد صرحت سابقا بأنها أدرجت العديد من قادة النظام على قائمة مرتكبي جرائم الحرب، ولكنها وللأسف الشديد لم تطلع أحدا على تلك القائمة أو تقوم بنشرها، ونحن نعتقد أن كل تأخير في نشر القائمة يشجع المجرمين على ارتكاب مزيد من الجرائم، كما يشجع غيرهم على الاقتداء بهم.
إلى جانب ذلك تتفاقم يوميا معاناة أكثر من 11 مليون مواطن سوري داخل وخارج سوريا، ممن هم بحاجة إلى مساعدات إغاثية، بعد أن فقدوا بشكل شبه كامل القدرة على العمل، وتزداد محنة السكان الواقعين داخل المناطق المحاصرة، كما هو الحال في الغوطة الشرقية وفي داريا، حيث يعاني أكثر من 35 ألف من أمراض تحتاج إلى معالجات سريعة، وسط نقص صارخ في الغذاء والدواء، في ظل صعوبة وصول إمدادات الأمم المتحدة أو غيرها إلى تلك المناطق واحتكار بعض الفاسدين من تجار تلك المناطق السلع لزيادة أرباحهم. ويزيد من شدة المعاناة موسم الجفاف غير المسبوق الذي يضرب المنطقة، والذي ساهم في الاضرار بالمحاصيل الزراعية، وفي الحصول على مياه الشرب عبر الآبار الارتوازية.
أما خارج سوريا فيعتبر وضع اللاجئين السوريين في لبنان هو الأسوء، ففي منطقتي البقاع وعكار يتواجد مالايقل عن 500 مخيم غير رسمي، وقد فاقمت التطورات الأخيرة في عرسال من معاناة اللاجئين السوريين. وتسبب قصف الجيش اللبناني العشوائي في إحراق مالايقل عن 822 خيمة، كما أدت العمليات العسكرية إلى مقتل مالايقل عن 61 مدني بينهم 17 طفل و 7 نساء، إضافة إلى إصابة 720 آخرين مابين إصابات متوسطة إلى خطيرة، من بينهم مصابين من أهالي منطقة عرسال.
إن تدهور الأوضاع الإنسانية في سورية دليل واضح على فشل مجلس الأمن وتقصيره في الوفاء بالتزاماته تجاه الشعب السوري، وعلى الخلل البنيوي الذي منعه حتى الآن من التوافق على أرسال ملف نظام الأسد إلى محكمة الجنايات الدولية. وأكثر ما يتجلى من خلاله هذا الفشل وذاك التقصير التخلي عن تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية على الحالة السورية التي تمارس فيها منذ أكثر من ثلاث سنوات عملية مستمرة للابادة الجماعية، وجرائم وصفتها جميع المنظمات الانسانية في تقارير موثقة بالجرائم ضد الانسانية.
كل ذلك يشير إلى الوضع المأساوي الذي ترك فيه الشعب السوري، ويبرهن على أن مجلس الامن لا يزال للأسف غير قادرة على القيام بمسؤولياتها في حفظ الأمن والسلام في العالم طالما بقيت قراراته رهن إرادة الدول ومصالحها الوطنية والوقتية.
توصيات : ماذا بقي من أفاق للحل؟
في غياب أي أفق لتفاهم دولي وإقليمي، يبقى الأفق الوحيد لوقف محتمل للقتل والدمار، وفتح نافذة أمل للحل، كامنا في التوصل إلى تفاهم سوري سوري، يستعيد من خلاله الشعب المنكوب القسم الأكبر من المبادرة السياسية، ويفرض على جميع الدول احترام الحد الأدنى من حقوقه في أي مساومات وتسويات إقليمية ودولية قادمة.
والواقع أن التفاهم السوري ضروري لأي حل حتى لو انحلت عقدة النزاعات الإقليمية والدولية، وهي بعيدة عن أن تحل. لكن بغياب مثل هذا التفاهم السوري الوطني من المؤكد أن هذا الحل سيكرس تقاسم النفوذ بين المتفاهمين، ولن يكون للشعب السوري فيه أي نصيب.
بالتأكيد، هناك عقبات لا تنتهي تقف ضد مثل هذا التفاهم السوري، لكنها ليست مستحيلة التجاوز، إذا نجحنا في عزل الاطراف الممانعة للتفاهم، وتوصلت الأطراف المعنية به إلى الاتفاق على المبدأ الأساسي للحل، وهو في نظرنا مكون من شقين : أولا استعادة الشعب، بالمعنى السياسي، أي السوريين جميعا وبالجملة، حقوقهم الطبيعية، حقوق المواطنة الكاملة والمتساوية التي لا يساوم عليها، ومن دون تمييز، وثانيا، نظرا للسياق الدامي الذي واكب عملية لانتقال الديمقراطي، التوافق على اجراءات إضافية خاصة بطمأنة الجماعات، الأقلية أو غير الأقلية، الخائفة أو التي أثيرت مخاوفها من قبل النظام، وربما من بعض الدول الاجنبية، والتي يخشى أن تتعرض لأعمال انتقامية أو ردات فعل سلبية.
وهذا يعني الاعتراف بالمطلب الرئيسي الذي ثار من أجله الشعب وقدم أغلى التضحيات، وهو الانتقال من الديكتاتورية المطلقة والقاتلة إلى النظام الديمقراطي الذي يعبر عن إرادة الشعب، ومن وراء ذلك الاعتراف بالشعب ككيان مستقل ومصدر السلطات، ومرجع الدولة الوحيد، وفي الوقت نفسه الاعتراف بالمخاطر المحتملة التي تهدد حقوق بعض الجماعات، ومراعاة المخاوف المشروعة لها والحاجة إلى طمأنة المواطنين جميعا، من دون تمييز، في إطار إجراءات مرحلة الانتقال وتسهيل الخروج من الحرب والدخول في النظام الديمقراطي الجديد.
ولا يمكن التضحية بأي شق من هذه المعادلة من دون قطع طريق التوافق الوطني، ومن ثم تحطيم أي أمل بالخروج من القتال الدائر منذ سنوات. فلا يمكن الاخلال بالنظام الديمقراطي للرد على مخاوف مشروعة لبعض الجماعات، وإلا لأصبح معنى طمأنة البعض تهديد سلامة وأمن وحقوق الآخرين، أي الجميع. وبالمثل لا يمكن ضمان أن لا يتحول الإقرار بالنظام الجمهوري الديمقراطي وحكم القانون، بعد سنوات من العنف والحرب الدموية، إلى تهميش للأقليات، وربما الانتقام من بعضها، إن لم تتخذ إجراءات إضافية، مؤقتة أو دائمة، للحفاظ على روح الجمهورية ونظام الديمقراطية والمساواة ومنع التحول الديمقراطي الهادف إلى أنسنة الحياة العمومية والارتقاء بها وباخلاقيات الفرد والشعب معا، إلى مناسبة او فرصة لتهميش واستبعاد البعض وتحويلهم إلى ضحايا الديمقراطية والتغيير.
يحتاج العمل على التوصل إلى تفاهم سوري سوري، إلى حوار مفتوح يعطي الفرصة لسوريين، من أصول ومنابع مختلفة، لكن تجمعهم مباديء وطنية وإنسانية واحدة، للبحث، بشكل صريح وجدي وشفاف، عن آليات تساهم في تطمين الجميع، وتفتح ثغرة في جدار الحرب الدموية المستمرة منذ سنوات. ونقترح أن يكون هناك لقاء وطني دائم، تتعاقب عليه وتشارك شخصيات سورية مختلفة، بعيدا عن أي تدخلات أجنبية، وباستبعاد أية شخصيات تمثل هذه التدخلات أو تعكسها، للنقاش في المخرج واقتراح صيغ وإبداع حلول. وفي هذا اللقاء السوري، ستولد ربما أول خطوة تدفع السوريين إلى الالتقاء ببعضهم والتواصل في ما بينهم، من دون وصايات ولا محسوبيات ولا استزلام، وتطوير ما كان ينبغي أن يحصل منذ زمن طويل، أي التواصل والتفكير الجماعي والنقاش في ما حرمتهم منه الديكتاتورية لعقود طويلة، أي التفاهم على مباديء واضحة، ومن أجل مشروع سياسي مقبول من الجميع ومثير للحماس والتضحية، مشروع بناء سورية ومستقبلها ومستقبل أبنائها جميعا بلا استثناء أو تمييز.
لا توجد بعد أطراف جاهزة للدخول في مشروع الحوار الوطني السوري، ولا نعتقد أنها ستولد من تلقاء ذاتها، بينما يفعل النظام من جهة، وداعش وأخواتها من الجهة الثانية، على شق الصف وتعميق الشرخ كل يوم أكثر من السابق، من خلال المجازر اليومية، الطائفية وغير الطائفية، وعبر ما تثيره الحرب الاعلامية من استقطاب وتعبئة لقطاعات الرأي العام السوري واحدتها ضد الآخر. لذلك ينبغي العمل على ايجادها وتشجيعها وتطويرها.
ليس الحوار المنشود ولا ينبغي أن يكون حوارا بين المعارضة والنظام، ولا هو حوار بين أطراف المعارضة نفسها، وإنما هو حوار بين جميع السوريين المؤمنين بضرورة إنقاذ بلدهم وبالقيم الأساسية للحكم الديمقراطي بما يعنيه من تأكيد حكم القانون والمساواة بين الجميع. وهو لا يستثني أحدا غير القوى المتطرفة التي تراهن هي نفسها على تقسيم الشعب وشق صفوفه ودفع بعضه إلى مواجهة البعض الآخر لتستمر في الحكم أو لتدافع عن الإمارات التي تريد أن تقيمها في مكان الوطن السوري وعلى أنقاضه. ويشكل عزل أمراء الحرب، وعلى رأسهم نظام بشار الأسد، وفريقه، وتقريب السوريين من بعض وإعادة صياغة العهد الوطني الجديد الذي ستقوم عليها سورية المستقبل المهام الرئيسية لهذا الحوار
والخلاصة ليس هناك بعد في الأفق لا مخرج عسكري للصراع ولا مخرج سياسي. فالحسم العسكري مستبعد حتى لو توفرت الأسلحة والامكانيات، لأنه يعني استمرار الحرب الإقليمية وزيادة اشتعالها. أما الحل السياسي فيقف ضده رفض النظام السوري ومن ورائه طهران أي تسوية لا تضمن انقاذ الأسد وتجنيبه وفريقه المحاسبة، واستمرار نفوذ النظام الايراني في سورية ووصايته عليها. وربما كان الأمل الوحيد هو في الخروج من جهة المجتمع نفسه، بتقريب وجهات نظر قطاعات الرأي وتشكيل رأي عام سوري وطني ضاغط على النظام وعلى الدول الصديقة والعدوة، وعلى أمراء الحرب الذين لا اكتراث لهم بمعاناة الناس ولا التخفيف عنهم. وإلا سوف يبقى الأسد يغذي الضغائن والاحقاد ويستخدمها للبقاء في الحكم، بعيدا عن يد القضاء العادل، على أي جزء من البلاد، وتبقى الدول الأجنبية تدفع بالسوريين، من ثوار ومعارضين، بشكل أكبر إلى العمل ضمن استراتيجيتها ومن اجل أجندتها الخاصة التي عادت كما كانت منذ حرب الخليج، الحرب على الارهاب، وعلى الأسد في سياق هذه الحرب وبمقدار ما تخدم أهدافها.
---------------------------------------------
الفصائل المشاركة في غرفة عمليات مورك الموحدة؛ لواء جند الرحمن، جبهة الشام الفوج 111، لواء المعتز بالله، لواءفرسان الحق، جبهة ثوار سوريا، لواء احرار مورك، كتيبة الشهيد ابوفراس، لواء شهداء مورك، اجناد الشام، لواء حطين، لواء التمكين، الفرقة 13، تجمع صقور الشام، الفرقة 101، لواء الخطاب، لواء الانصار، كتيبة الحق المبين، لواء الفاتحين، تجمع العزة، لواء المجاهدين، لواء عباد الرحمن، لواء احرار حلفايا، جبهة الانقاذ، جبهة النصرة، لواء ابو العلمين، لواء المجد، حركة حزم، صقور الاسلام اهل السنة ،لواء الفرسان، شهداء المعرة كتيبة درع سيف الله المسلول ،لواء الفرسان (فيلق الشام)