الاتحاد 1 حزيران يونيو 11
لم يكن الشعور بفراغ السلطة في دمشق قويا عند الرأي العام السوري والعالمي كما هو عليه اليوم. فبعد أكثر من شهر ونصف على آخر خطاب للرئيس السوري توجه به إلى أعضاء حكومته الجديدة لحثهم على تحسين نوعية الخدمات العامة المقدمة للمواطنين، يكاد يكون المشهد خاليا من أي مبادرة أو قرار أو توجيه سياسي أو بيان من قبل الحكم، إذا استثنينا حديث وزير الخارجية وليد المعلم الذي قال فيه إنه ليس رجل سياسة وإنما هو منفذ فحسب. لا يعني هذا الصمت المريب لرجال الدولة أنه لا توجد هناك سياسة ولكنه يعني أن السياسة الوحيدة التي اختارها أصحاب النظام هي أن يطلقوا يد الأجهزة الأمنية والعسكرية في الأحياء والمدن للاستمرار في تطبيق سياسة القمع والعقوبات الجماعية على المتظاهرين، بانتظار أن تحدث معجزة تسمح لرجال السياسة في النظام أن يخرجوا على الرأي العام بخطاب جديد يؤكد أنهم انتصروا، وأنهم هم الوحيدون الذين يقررون مصير البلاد، وبرنامج الاصلاح ورزنامته وحدوده. وهذه السياسة هي التي لم يكف المسؤولون السوريون على التأكيد عليها بتردادهم دائما أنهم لا يقبلون بالضغط عليهم ولا ينبغي لأحد أن يحلم أن يستطيع بالضغط أن ينال شيئا منهم. هم أسياد البلاد وسوف يبقون أسيادها، وأي إصلاح يمكن تقديمه سيكون كرما منهم ولا معنى له إلا إذا قبله الشعب كما هو وأعلن أنه مدين به للنظام .
لكن الحملات التأديبية التي نظموها منذ أكثر من شهرين لتحقيق هذا الهدف، والتي ترجمت باجتياح منهجي للمدن والأحياء التي تشكل بؤرا قوية للثورة، وما قاموا به من قتل عشوائي للمتظاهرين، واعتقالات بالجملة للألوف منهم، قد باءت جميعا بالفشل. وبدل أن تخلق الوضع الذي حلم به النظام، كما صرحت به منذ أسبوعين مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان عندما قالت إن السلطة سيطرت على الوضع واستعادت المبادرة، وما نقل عن الرئيس نفسه بعد أيام من ذلك، من أنه يعتقد أن القضية انتهت، قدمت هذه الحملات البرهان القاطع على أن بركان ثورة الحرية يزداد زخما يوما عن يوم، وأن المبادرة لا تزال في يد القوى الشبابية التي لم تكن أفضل تنظيما وتنسيقا في ما بينها مما هي عليه اليوم، وأنه إذا كان هناك من انتهى بالفعل فهو النظام نفسه وليس العكس. والمقصود هنا من الانتهاء أن النظام استنفد خياراته جميعا.
والواقع أن القيادة السياسية السورية لم تفكر ولو لحظة واحدة في احتمال أن لا تستطيع قمع الثورة وإخمادها، ولم يكن لديها أي رؤية سياسية لما يمكن أن تفعله في حالة كهذه. لقد كانت على ثقة مطلقة بأنها تملك وسائل القمع التي تمكنها من إعادة الشعب إلى أقفاصه القديمة، وأن المسألة ليست سوى مسألة وقت وتوسيع منظم لدائرة العنف والتنكيل والعقاب الجماعي للسكان لعلهم ينقلبون أيضا على فكرة ثورة الحرية ومسيراتها. وقد وضعوا في خدمة هذه الخطة كل ما لديهم من موارد عسكرية وقمعية ومن أجهزة إعلامية، ومن رصيد سياسي وعلاقات دولية، ولم يسألوا عن شيء لا عن رأي عام سوري ولا عربي ولا دولي، بل لم يسألوا حتى عن رأي حلفائهم السياسيين في العالم العربي والعالم. فتورطوا بجرائم يندى لها جبين البشرية، وذاع صيت عنفهم في أصقاع الأرض، فابتعد العالم عنهم، في الوقت الذي فقدوا فيه أي أمل في أن ينظر إليهم أحد بوصفهم نظاما سياسيا أو يتمتع بالحد الأدنى من منطق السياسة ومفهومها، كما هي ممارسة في بداية هذا القرن الواحد والعشرين.
من هنا شكل إخفاق خطة قمع الحركة الاحتجاجية الشعبية مأزقا استراتيجيا خطيرا للنظام. فمن جهة فقد النظام بسبب انتهاكاته الخطيرة لحقوق الانسان وتحوله في نظر العالم إلى ما يشبه نظام احتلال أجنبي، آخر ما كان يملكه من رصيد، ولم يعد هناك من يراهن، حتى من القوى المؤيدة له، في سورية وخارجها، على أي مبادرة إصلاحية، تصدر عنه أو عن رئيسه. وهذا ما عبر عنه إلحاق اسم الرئيس السوري بقائمة الأسماء أو الشخصيات التي تطبق عليها عقوبات دولية من قبل الحكومات الاوروبية والأمريكية. لكن من الجهة الثانية قطعت سياسات العنف الدموي التي مارسها تجاه الشعب بأكمله لانتزاع النصر على الحركة الاحتجاجية بأي ثمن كل احتمالات فتح حوار جدي مع قوى المعارضة، تسمح للنظام بالمناورة للبقاء او لاستعادة جزء من المبادرة السياسية. ولم يعد أحد يؤمن في سورية والخارج أن نظاما يستخدم هذا القدر من العنف يمكن أن يستمر، فما بالك بقبول شباب الانتفاضة مبدأ الحوار مع مسؤولين تحولوا إلى رمز للعنف والقتل المنظم ولا يوفرون وسيلة للايقاع بهم والقضاء عليهم.
باختصار إن فشل الحل الأمني المطبق منذ عشرة أسابيع متواصلة والذي راح ضحيته ألوف القتلى والجرحى والمعتقلين والمنكوبين والمشردين من جهة، واستبعاد الحل السياسي، أي احتمال القبول بحوار مع النظام من قبل قوى الاحتجاج للتوصل إلى تسوية من الجهة الأخرى، لم يبق أمام النظام أي خيار سوى الهرب إلى الأمام والتصعيد النوعي في العنف بحيث يزداد الضغط على الشعب، ويتعمق الخوف مما هو أعظم. هذا هو مغزى التوجه نحو قتل الأطفال والتمثيل بجثامينهم وجثامين الشباب أيضا، كما كان معنى إطلاق النار على النساء العزل منذ بضعة أيام، وتسليم هذه الجثامين الممثل بها لأسرها، في الأسبوع الماضي، ثم إطلاق النار على حافلة للأطفال يوم السبت الفائت، بعد جمعة حماة الديار، راح ضحيتها عشرة أطفال، خمسة منهم بجروح خطيرة وهاجر الطفلة الشهيدة الإضافية. كل ذلك جزء من رسائل مزدوجة موجهة أولا للشعب السوري مفادها أن هذا هو ما ينتظركم إذا قررتم الاستمرار في مسيرات مناهضة النظام والعمل على تغييره. وثانيا للرأي العام العالمي تؤكد له أن عزل النظام ومحاصرته ومعاقبته لن تزيده إلا شراسة وتحللا من أي التزامات أخلاقية أو سياسية، من تلك التي تحدد سلوك الدولة تجاه مواطنيها، وفي مقدمها حفظ أمنهم، مما تؤكد عليها اليوم منظمات حقوق الانسان والمحافل الدولية.
أمام نظام يتهاوى سياسيا، ويترك فراغا يغري جميع القوى المعادية للنظام بمحاولة استثماره، ليس من المقبول ولا المسموح أن تبقى المعارضة السياسية مشتتة أو غائبة عن الصورة. وبقاؤها في هذا الوضع، مهما كانت مبرراته، تخلق فراغا خطيرا يثقل على شباب الثورة بمقدار ما يترك آفاق التغيير مجهولة وغامضة، ويغري أيضا الكثيرين بالاستفادة من هذا الفراغ لتحقيق مصالح ليس لا علاقة لها بما بذله الشهداء من دماء من أجل تحرير وطنهم من الاستعمار الداخلي. من هنا ربما أصبح من الضروري لشباب الانتفاضة أن يشاركوا هم أنفسهم في إطلاق شرارة تكوين الهيئات السياسية التي تتماشى مع تطلعاتهم وتعكس طموحاتهم وتواكب كفاحهم من أجل سورية جديدة، سورية حرة وديمقراطية تضمن الأمن والحرية والعدالة والمساواة لجميع أبنائها. وربما سيساعد مثل هذا العمل على تحرير المعارضات السياسية التي وجدت صعوبات في التحرك إلى الأمام، بعد شهرين ونصف من الكفاح البطولي والدامي لشباب الثورة المعجزة، من قيودها، ويدفعها إلى الالتحام بهم ومواكبة مسيرتهم الظافرة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire