الاتحاد 21 اكتوبر 09
اكتشفت محمد السيد سعيد من خلال مداخلاته ومقالاته الصحفية قبل أن تجمعنا صداقة الفكر والممارسة والعمل السياسي والانساني. وكان محمد السيد في نظري باحثا لامعا تميز بنزاهة علمية نادرة وبسداد رأي استثنائي. فهو أحد ألمع المفكرين العرب المعاصرين وأبرز مثقفي جيله وأكثرهم نشاطا وإخلاصا وصدقية
ففي مجتمعات عربية ضلت أو تشعر غالبية أبنائها أنها ضلت طريق التقدم الذي كانت تحلم به قليل من المثقفين أو أصحاب الرأي لم يتعرض للاحباط واليأس. وبينما اختار القسم الأكبر من هؤلاء الانحناء للأمر الواقع، ومسايرة الوضع متخلين عن أحلامهم التغييرية، القومية أو الاشتراكية أو الديمقراطية، وانقلب قسم آخر على مواقفه السابقة أو تنكر لها باسم الواقعية أو التحولات التاريخية أو الانفتاح على العالم، ورضي قسم آخر بالانسحاب والانكفاء على النفس، بقيت أقلية من المثقفين، ومنها محمد السيد سعيد مصرة على الاختيارات التي ألهمت الحركات الاجتماعية والوطنية في البلاد العربية منذ بداية النهضة العربية أو ما نطلق عليه اسم النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني الايمان بإمكانية تحويل العالم العربي والارتقاء به إلى مصاف المجتمعات الحديثة وتجديد بنياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
وبعكس المثقفين الآخرين الذين تخلوا بشكل أو آخر وعلى طريقتهم الخاصة عن أحلام التغيير ومشاريعه، أو أولئك الذين احتفظوا بعكس الأوائل، بأفكارهم ومواقفهم كما هي ورفضوا الاعتراف بالأمر الواقع، طرح هذا الموقف منذ البداية ولا يزال، أعني موقف التمسك بمشروع التغيير والتجديد والتحديث، تحديا نطريا وعمليا كبيرا، صرف محمد السيد سعيد، كما فعلت القلة القليلة التي سلكت الطريق نفسه في مصر وغيرها من البلاد العربية، كل وقتهم لمواجهته والرد عليه. فبينما لا تستدعي مسايرة الأمر الواقع القائم سوى تشغيل ملكة التكيف البسيط، التي تبررها الواقعية والابتعاد عن الأحلام التي لا يمكن تحقيقها، ولا يطرح الحفاظ على المواقف التقليدية أي تساؤل جديد، يتطلب الحفاظ على حلم التغيير، في سياق الانكفاء والردة وانحسار الآمال، جهدا استثنيائيا وهذا ما نسميه بالتكيف أو التكييف الإبداع بين الحلم والواقع، وما يترتب عليه من مراجعة مزدوجة يتعلق جزء منها بإعادة تقويم الحلم نفسه ومراجعة فكرته والجزء الآخر بإعادة تحليل الواقع نفسه والتمعن في ما تبدل فيه وجعل الأفكار والشعارات المطروحة في مرحلة ما مقطوعة عنه أو بعيدة المنال.
باختصار، كيف يمكن الاستمرار في معركة التغيير العربي، الاجتماعية والسياسية والثقافية، في واقع الهزيمة وتراجع المجتمعات نفسها عن أحلامها القديمة وسيطرة الأفكار المحافظة ونزعة الارتداد عن مشروع الحداثة وعليها سعيا وراء هوية ثابتة أو أصالية؟ وبمعنى آخر كيف يمكن الحفاظ على حلم التغيير وقيمه وإبقاء شعلة التحرر الانساني قائمة في مواجهة موجة اليأس الكاسحة التي لا تعني شيئا آخر في نهاية التحليل سوى التسليم للأمر الواقع والاستسلام؟ الرد على هذا التحدي هو الذي شكل محرك تفكير محمد السيد ومحتوى نضالاته العملية وغايته في آن. وهو الذي لا يزال يشكل محور تفكير وعمل الكثير من المثقفين الآخرين الذين رفضوا القبول بالهزيمة، أي التسليم بالأمر الواقع والتعامل مع إجهاض مشروع الحداثة العربية كما لو كان أمرا محتما ونهائيا.
وفي سياق هذا الرد انصبت جهود هؤلاء، وفي مقدمهم السيد سعيد على محورين:
الأول إعادة البناء النظري لمشروع التغيير نفسه،وترشيده، أي إخضاعه للنقد التاريخي والعقلي وإبراز ما كان جوهريا فيه يرتبط بحاجات اندراج المجتمعات في عصرها وتاريخ حضارتها، وما كان ثانويا أي ثمرة الظرف الخاص الذي ولد فيه ولم يعد موجودا ولا راهنا ولا مهما. وليس مثل هذا العمل بالأمر البسيط والواضح. ذلك إن التقدم فيه يستدعي مقدرة على أخذ مسافة عن أفكارنا المسبقة وعن العقائديات والتصورات السابقة التي درجنا على تبريرها والدفاع عنها إن لم على تقديسها خلال حقبة طويلة. وهذا ما يصعب تحقيقه من مقدرة موازية على الارتفاع عن النماذج المجردة وإعادة النظر إليها على ضوء القيم والمقاصد العليا التي يبرر الحفاظ عليها وحده عملية التضحية بها والتجرؤ على تبديلها هكذا لم يكن من الممكن، على سبيل المثال، مراجعة فكرة القومية التي ارتبطت بالوحدة والقوة والاستقلال من دون إبراز فكرة الشعب والأمة وحقوقها السياسية والمدنية، أي من دون الاسترشاد بالمواطنية كقيمة سياسية وأخلاقية وطنية معا. وما كان من الممكن التخلي عن النماذج السوفييتية وشبه السوفييتيه التي ارتبطت بالاشتراكية من دون العودة إلى قيم العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية والأخلاقية وأخلاقيات الحرية التي تأسست عليها سياسة الأمم الحديثة. وبالمثل ما كان من الممكن مراجعة الفكرة العربية كما تبلورت في الخمسينات وأشكال تجسيدها وسبل العمل لتحقيقها كما خطت على يد أصحاب الدعوة القومية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين وقادت إلى إخفاقات وخيبات أمل كفرت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ، أقول ما كان من الممكن ذلك من دون إعادة بناء فكرة العروبة بارتباطها بالقيم العصرية الجديدة التي حولتها إلى محور لاستراتيجية تقارب وتقريب بين الأقطار العربية وتأسيس لجغرافية سياسية تفتح آفاق التنمية الاقتصادية وترسخ أسس الاستقرار والسلام في المنطقة، وبين الشعوب العربية
والثاني، تجديد أسس الممارسة وأساليب العمل وأهدافه المرحلية. وكما كان الرجوع إلى قيم التغيير وغاياته، مما لا يتوفر إلا لأصحاب المباديء طريقا لأعادة النظر في التصورات والصيغ والنماذج الجاهزة الموروثة للتغيير، كان الرجوع إلى معيار النجاعة والفاعلية والتواصل مع الكتلة الاجتماعية المستهدفة في أي مشروع تغيير منطلقا لتجديد أساليب العمل وإبداع مقاربات استراتيجية جديدة لضمان استمرار حركة التغيير وتقدمها. وهذا ما أدى بنا إلى اكتشاف العمل على صعيد المجتمع المدني وتطوير وسائل التواصل المختلفة مع جمهور يشكل عزله وتهميشه وإسكاته الشرط الأول لأعادة إنتاج النظم الاجتماعية والسياسية القائمة.
في هذا النقد المزدوج النظري والعملي للوضع القائم، كان محمد السيد من دون أدنى شك رائدا. وقد كانت مجلة البديل التتويج الأخير لفكره وعمله. ولا تشير البديل هنا إلى نظام آخر غير النظام الاجتماعي القائم فحسب ولكن إلى بديل آخر للعمل النقدي أو للنقد العملي وللمعارضة بالمعنى الجديد أيضا.
فمن باب الوفاء لفكرة العدالة والمساواة أعاد محمد السيد سعيد النظر في أنماط التفكير الاشتراكي واليساري عموما، وربطها بالديمقرطاية وبالمجتمع المدني، حتى جعل من هذه الأبعاد الأخيرة محور عمله ونشاطه، السياسي والمدني. ومن باب الوفاء لقيم الحداثة والتنمية والاستقلال الوطني والسيادة القومية أعاد النظر أيضا في الفكرة القومية العربية الناصرية وغير الناصرية، ولم يوفر فرصة لتأكيد خيار التقارب والتكامل والاندماج بين البلاد العربية وبعكس الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي الذين دفعهم اكتشاف الديمقراطية إلى الانخراط في ما ينبغي تسميته نزعة العداء للهوية والافتتان بالنزعة الليبرالية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية، دافع محمد السيد بكل قوة واقتناع عن الارتباط الذي لا ينفصم بين قيم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وبعكس الكثير من المثقفين الذين مرت عليهم خدعة مشاريع الدمقرطة التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش الأمريكية، وأيدتها الدول الأوروبية، بقي ايمان محمد السيد لا يتزعزع في استقلالية حركة التغيير العربية، وفي الارتباط الذي لا ينفصم بين مطلب الديمقراطية ومطلب السيادة الوطنية.
كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتخطى محمد السيد خطوط الفصل القاطعة التي اصطنعها مثقفونا وأحزابنا في مجتمعاتنا السياسية، تلك التي تكرس إعادة إنتاج الوضع القائم أيضا، بتكريسها القطيعة والعداء بين القوميين والقطريين، والعلمانيين والاسلاميين، والليبراليين والاشتراكيين، وأن يبني لنفسه موقعا في ما وراء ذلك، يتجاوز هذه المواقف ويجمع بينها معا، معياره التغيير والنجاعة والفعل، وأن يطمح من خلال ذلك إلى تحرير آجيال الشباب من رواسب صراعات الماضي الميت ونقاشاته المكبلة، ويسعى إلى تعبئتهم وشدهم إلى معركة التغيير وتجديد مجتمعاتهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية. بهذا المعنى كان محمد السيد، كما ذكر هو عن نفسه، يساريا بين الليبراليين وليبراليا بين اليساريين، قوميا بين القطريين ومصريا بين القوميين، أي صلة الوصل بينهم أيضا. وجوهر هذه الصلة هو ابتداع خطة عملية لدفع عملية التغيير، بمعناه العميق، أي تغيير الواقع نفسه لا فكرته.
وهذا التغيير هو الذي جعل محمد السيد يكتشف أيضا الحركة المدنية وينخرط فيها كما لم يفعل أي واحد منا. لقد كان السيد مفكرا عمليا وثوريا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يترك فرصة للتأثير في الواقع، نظرية كانت أم عملية، لم يستغلها ويستثمرها. وكان لهذا السبب أيضا حاضرا في كل المناسبات النضالية، واثقا من عمله متفائل العقل، بالرغم من صعوبات العمل وتحديات الواقع الكبيرة جميعها.
ولأنه وهب نفسه لمشروع تغيير الواقع العربي لم يترك ميدانا للعمل لم ينخرط فيه، من المقالة إلى السياسة إلى المقاومة والمظاهرة والاضراب. لكن إخلاصه لمبادئه وذكائه الاستثنائي الذي جنبه خداع الذات وتغذية الأوهام التي غالبا ما يقع فيها الناشطون العموميون، السياسيون والمدنيون، عن أنفسهم وعن الآخرين وعن الواقع الاجتماعي أيضا جعلت منه رجل بصيرة استثنائي. فكان بامتياز رجل علم من دون ادعاء التجرد عن الايديولوجية والاختيارات السياسية والفكرية، ورجل سياسة من دون أي تطلع لمواقع السلطة. لقد كان رجل قيادة فكرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، مثقف الكلمة الحرة والفكرة الثورية والمنهج الحواري والعقلاني الهاديء والوفي في الوقت نفسه. رجل التضحية والشجاعة والتواضع ونكران الذات والمسؤولية
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire