الجزيرة نت 7 اكتوبر 09
كائنا من كان المسؤول الفلسطيني الذي اتخذ قرار مطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتأجيل مناقشة تقرير غولدستون بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن ما حدث لا يشكل استهانة لا حدود لها بحياة الفلسطينيين الذين قضوا بسلاح الدمار الشامل الذي استخدمته إسرائيل، ولا بحياة أولئك الذين سيقضون به بعد الآن، ولكنه يمثل أكثر من ذلك ضربة أليمة للقضية الفلسطينية برمتها، وبشكل خاص لجميع أولئك الذين يكافحون في بيئة دولية معادية ومنحازة لتل أبيب في السراء والضراء، للكشف عن حقيقة ما يجرى في فلسطين، وتسليط الضوء على ما يعانيه شعبها من هدر للحقوق، وما تعتمد عليه إسرائيل، في سعيها لتوسيع رقعة الاستيطان وللابقاء على الاحتلال، من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان.
جميع الأسباب التي يقدمها مسؤولون فلسطينيون لتبرير قرارهم الفريد مرفوضة من قبل الرأي العام العربي ولا تصمد أمام أي تحليل سياسي، سواء ما تعلق منها بالضغوط الأمريكية القوية التي ذكرت صحيفة ها آرتس أنها مورست على الرئيس الفلسطيني باسم حماية مفاوضات السلام من التردي، أو التهديدات التي ذكرت بعض المصادر الدبلوماسية أنها وجهت إلى رئيس وزرائه بقطع كافة المساعدات التي تمنحها الإدارة الأميركية للسلطة الفلسطينية، وكذلك توقيف إسرائيل عائدات الضرائب التي تعتمد عليها السلطة في دفع رواتب موظفيها، أو المخاوف من أن تنعكس نتائج ذلك على الأداء الاقتصادي في الضفة الغربية. أما التذرع بقبول الدول العربية والاسلامية بالقرار أو مشاركتها فيه، وهو ما ثبت بطلانه بعد التصريحات التي صدرت عن العديد من ممثليها، فهو حجة أقبح من ذنب. ذلك أن المسؤول عن مصير الشعب الفلسطيني والمخول في اتخاذ القرار المطلوب للحفاظ على حقوقه هو القيادة الفلسطينية. ومن واجبها أن تتخذ القرار الصائب سواء حصلت على تأييد الدول العربية والاسلامية أم لا.
فالحال أن الرأي العام العربي، الملدوغ أكثر من مرة من جانب العدالة الدولية، بالكاد صدق صدور مثل هذا التقرير واحتمال تحويله إلى مجلس الامن. فقد وقعت إسرائيل لأول مرة تقريبا في الفخ، ووجدت نفسها، بسبب مغالاتها في الاستهتار بالرأي العام العالمي، واعتدادها بمقدرتها على طمس الحقائق، ونتيجة صورة المعاناة القاسية التي نقلتها أجهزة الإعلام عن الحرب غير المشروعية وغير المبررة التي خاضتها ضد شعب غزة، وتحت ضغوط قوية ومتواصلة لقطاعات واسعة من الرأي العام ومئات منظمات حقوق الانسان الدولية، أقول وجدت إسرائيل نفسها أمام ما يمكن أن نسميه احتمال التعرض لمحاسبة سياسية وقانونية وأخلاقية نادرة الحصول على ممارساتها اللاإنسانية المستمرة في فلسطين منذ أكثر من خمسين عاما. وكان العرب، مثلهم مثل أنصار الحق الفلسطيني في العالم كله، ينتظرون بفارغ الصبر مثل هذه الفرصة ليضعوا حكومات العالم "الديمقراطي والحر" التي تدعم إسرائيل، وتغض النظر عن جميع ما تقوم به من تصرفات، وترتكبه من جرائم أمام الحقيقة، وتوقف مساعيها الدائمة لحماية إسرائيل وتجنيبها المحاسبة والعقاب.
في هذا السياق النادر الحصول، أمكن لأول مرة تشكيل لجنة تحقيق دولية ونشر تقرير من قبل وفد تابع للأمم المتحدة، أنيطت رئاستة بشخصية جنوب أفريقية لا يستطيع أحد من أنصار إسرائيل أن يتهمها بالانحياز للعرب أو الفلسطينيين. وصدر التقرير المنتظر يندد، بالرغم من نقائصة العديدة، بسياسة الحرب الاسرائيلية، وينتقد استخدام إسرائيل لأسلحة دمار شامل، مثل قنابل الفوسفور الأبيض والقذائف المسمارية في مناطق مأهولة بالسكان. ويبين على لسان أطباء أجانب إن الجيش الإسرائيلي استخدم قنابل دايم ضد المدنيين، منبها إلى خطورة هذه القنابل رغم أنها غير محظورة في القانون الدولي، كما يشير إلى احتمال استخدام الجيش الاسرائيلي قنابل اليورانيوم المنضب وغير المنضب. ولا يخفي التقرير ما قام به الجيش الإسرائيلي من اعتداءات على أسس الحياة المدنية في قطاع غزة، وتدميره البنية الصناعية التحتية، وشبكات الإنتاج الغذائي، ومنشآت المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحي والسكن. وهو ما يشكل -حسب التقرير- انتهاكا للقانون الدولي، ويمكن أن يشكل جريمة حرب.
بانكشاف مثل هذه الحقائق للرأي العام، لم يكن هناك أدنى شك في أن إسرائيل كانت ستتعرض لإدانة علنية، وربما إلى ملاحقات قانونية لبعض قادتها ومسؤوليها العسكريين الذين أثبت التقرير أنهم قاموا بجرائم حرب عندما استخدموا المدنيين الفلسطينيين دروعا بشرية، وقصفوا مؤسسات يعرفون أنها تحولت إلى ملاجيء للمدنيين الفارين من القصف الهمجي، وفي مقدمها مقر الأونروا الذي كان يحوي ما بين 600 و700 مدني، ومستشفى الوفاء في مدينة غزة وتقاطع الفاخورة قرب مدرسة تابعة للأونروا في جباليا كانت تؤوي 1300 مدني.
وبالكاد يصدق الإنسان أن القيادة الفلسطينية اتخذت مثل هذا القرار الذي ستكون الخاسرة الوحيدة منه. فهو لن يعزز سلطتها المترنحة منذ وقت طويل ولكنه يوجه لها ضربة قاضية من الصعب أن تقف على رجليها بعدها. وبعكس ما اعتقد أصحاب هذا القرار، لن يدفع التبرع بإخراج إسرائيل من هذا الفخ تل أبيب إلى تليين موقفها أو التعامل بصورة أفضل مع السلطة الفلسطينية ولكنه سيزيد من استهتارها بها واحتقارها لها بقدر ما سيعزز ثقة قوى التطرف الاسرائيلية القابضة على الحكم في إسرائيل، بصحة سياساتها ونجاعتها. وقد أعلنت قيادات حماس منذ الآن أن من المستحيل عليها الجلوس مع من اتخذ هذا القرار، مما يعني أن أحد أسوأ آثاره تعطيل عملية المصالحة الوطنية الفلسطينية التي كدنا نعتقد باستحالتها قبل أن يعلن بعض المسؤولين الفلسطينيين عن قرب انعقاد مؤتمرها في القاهرة في نهاية هذا الشهر. وبقدر ما سيشجع هذا القرار المشؤوم إسرائيل على الاستمرار في سياستها التقليدية المستهترة بأي قانون، سوف يحبط جميع أولئك الذين يعملون من أجل العدالة والإنصاف في العلاقات الدولية، وفي مقدمهم المنظمات المدنية التي بذلت وتبذل جهودا استثنائية من أجل كسر جدار الصمت والحماية المحيط بإسرائيل. وقد أجهز هذا القرار منذ الآن على معنويات جميع أولئك الذين كانوا يراهنون على تفعيل القانون وتفعيل ضغط الرأي العام من أجل الدفع في اتجاه حل تفاوضي يقطع الطريق على الحرب والتطرف معا. ومما يزيد من أثر المأساة أن قادة فلسطينيين كان من المنتظر منهم أن يستغلوا مثل هذا الحدث أقصى إستغلال للضغط على إسرائيل وحرمانها من إمكانية التستر الدائم على جرائم انتهاك حقوق الفلسطينيين كانوا شركاء في جريمة قتل القانون وإجهاض التضامن العالمي مع حقوق الفلسطينيين وإحباط كل من يأمل بحل سياسي للنزاع الدموي القائم.
لا شيء يمكن أن يعوض الخسائر الكبرى الناجمة عن هذا القرار الذي حرم الشعب الفلسطيني من حقه في أن يعرف الرأي العام بمعاناته التاريخية وما يتعرض له يوميا من تنكيل واضطهاد، بمثل ما حرم الرأي العام العالمي من حقه في معرفة ما يجري في فلسطين من مصادر لا يشك أحد في احتمال انحيازها للعرب والفلسطينيين.
ماذا تستطيع تصريحات المسؤولين الفلسطينيين التي تسعى إلى التخفيف من وقع الصدمة الفضيحة بالتأكيد على أن القرار يقضي بتأجيل النقاش على التقرير ولا يعني إلغاءه؟ وفي أي مناخ سوف تحصل مناقشة التقرير في آذار مارس القادم بعد أن جاءت الضربة القاسية للدول والمنظمات المدنية المدافعة عن حقوق الفلسطينيين من الفلسطينيين أنفسهم؟ وأي جدوى لاستمرار العمل على فضح انتهاكات اسرائيل لحقوق الانسان إذا كان قادة الفلسطينيين هم أول المساهمين في تجنيب إسرائيل المساءلة وفي الاستهتار بحقوق شعبهم والتضحية بها؟ وماذا يستطيع تشكيل لجنة تحقيق أن يفعل بعد أن تم إجهاض التقرير، وانهارت الثقة بالسلطة الفلسطينية التي اتخذته، ودخلت قضية الوحدة الوطنية في أزمة جديدة حادة، وأثبتت الولايات المتحدة أيضا، بهذه المناسبة، أن أسلوبها في العمل من أجل السلام، والقائم على تأكيد حرصها على مصالح إسرائيل وإرضاء قادتها مهما كانت مطالبهم وممارساتهم، لا يعمل من أجل تحقيق تسوية عادلة تنهي النزاع الشرق أوسطي ولكنه يقود بشكل مستقيم، وهذا ما يحصل منذ سنوات، إلى تقويض ثقة الشعب الفلسطيني بقيادته وتكريس الوضع القائم الذي تريده اسرائيل لاستكمال مشروعها الاستيطاني العلني والرسم؟
ليس هناك ما يمكن أن يعيد للرأي العام الفلسطيني الثقة ويطمئن المنافحين عن حقوق الفلسطينيين في العالم العربي والخارجي معا سوى تقديم أولئك المسؤولين لاستقالاتهم وإفساح المجال أمام جيل جديد من القادة، أكثر إحساسا بمعاناة الفلسطينيين واحتراما لمشاعرهم وتفكيرهم، للحلول محلهم. فنحن لسنا هنا أمام سياسة يمكن فهمها وتبريرها وإنما أمام ما ينبغي تسميته "هارا كيري" فلسيطيني سوف يترك آثارا لا تمحى على مسار القضية الفلسطينية لأعوام عديدة قادمة. ولا تستطيع القيادة القائمة بعد الآن أن تتحدث باسم الفلسطينيين ولم تعد تملك الصدقية التي تخولها الدفاع عن حقوقهم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire