الاتحاد 7 اكتوبر 09
التطور الذي تشهده العلاقات السورية التركية منذ بعض السنوات يثير الاهتمام والتأمل من عدة زوايا. الاولى والأهم تنبع من أنه يشكل، بما يميزه من روح الاستمرارية، والالتزام بالاستحقاقات والأسس القانونية، والتقدم المطرد على ميادين عمل متعددة، استراتيجية وسياسية واقتصادية وعلمية، الحالة الوحيدة الناجحة من التعاون بين قطرين في المنطقة، بما في ذلك بين الأقطار العربية. والثانية ترتبط بدور الايديولوجية ومكانها في نمو العلاقات بين الدول والشعوب. فمن المعروف أن جزءا كبيرا من تراث القومية العربية التي لا تشكل عقيدة الحكم فحسب ولكن الشعب، أو غالبيته، أيضا، في سورية، قد نما في الصراع مع الفكرة الطورانية والتشهير بسياسة العثمانيين الأتراك وتحميلهم مسؤولية انحطاط الثقافة والحضارة العربيتين. والزاوية الثالثة تحيل إلى تاريخ من العداء الدائم تقريبا منذ تكوين الجمهوريتين السورية والتركية في مطلع القرن الماضي حتى سنوات قليلة سابقة. وإذا كان هذا العداء قد تركز في بداية الاستقلال السوري على ذكرى الاضطهاد العثماني ثم ضم تركيا مقاطعة لواء اسكندرون عام 1938 فإنه لم يلبث حتى شمل قضايا كثيرة أخرى، وأهمها من دون شك الاختيارات الاستراتيجية المتعارضة للبلدين، الاطلسية في تركيا واليسارية في سورية. وفي هذا الإطار دخل البلدان أكثر من مرة في حالة نزاع كادت تفضي لحرب مدمرة. وليس هناك شك في أن الخوف من اجتياح عسكري تركي لسورية عام 1957 قد لعب دورا كبيرا في دفع الضباط السوريين المتنافسين على السلطة في دمشق إلى الذهاب إلى مصر وتوقيع اتفاقية الوحدة السورية المصرية عام 1958. وقد اتهمت مصر في ذلك الوقت أنقرة بالعمل لصالح الولايات المتحدة وبريطانيا لقلب الحكومة السورية القائمة، وهي حكومة ليبرالية، في إطار سعيهما المشترك لفرض حلف بغداد على العرب في إطار الحرب الباردة. وقد نظر الغرب بالفعل إلى حكومات سورية، منذ حرب السويس وتدمير أنابيب نفط العراق المارة عبر الأراضي السورية على أنها حكومات خاضعة لضغط اليساريين وسائرة بتوجيههم، خاصة بعد أن عقدت دمشق صفقة شراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا عام 1955 وتقربت من الاتحاد السوفييتي في عهد رئس الوزراء خالد العظم.
وقد تجدد النزاع السوري التركي في التسعينات من القرن الماضي. واتهمت دمشق أنقرة بحجزها مياه الفرات عنها، وإرسالها المياه الملوثة عبر النهر، وتجفيف نهر الخابور، وطالبت بتوقيع اتفاقية لتقاسم المياه على أسس دولية رفضتها أنقرة حتى الآن. وتصاعدت حدة النزاع السوري التركي بسبب التعاون العسكري المتنامي بين تركيا وإسرائيل، واعتبرت دمشق، مثلها مثل الدول العربية جميعا، أنقرة أحد العواصم المعادية للقومية العربية والمتحالفة مع خصومها. وقد وصل النزاع إلى ذروته عام 1998 عندما هددت تركيا باجتياح الأراضي السورية لوضع حد لهجمات حزب العمال الكردستاني الذي كان يتلقى الدعم من سورية. وقد أسفرت الأزمة عن توقيع اتفاقية أضنة قبلت دمشق بموجبها وقف التعاون مع الحزب الكردي كما تراجعت عن المطالبة التاريخية باسترجاع لواء اسكندرون الذي كان نقطة خلاف دائمة وأبدية بين حكومات دمشق وأنقرة جميعا. لكن عهد التقارب الجدي الذي سيقلب الاتجاه شيئا فشيئا، محولا حالة العداء التاريخي إلى حالة من اللقاء الاستثنائي، إن لم نقل إلى ما يشبه الوحدة بين البلدين، بدأ عام 2004 عندما دفعت العزلة التي فرضتها الدول العربية وفي طليعتها مصر على النظام السوري، بل القبول بتقديم نظام الأسد كبش فداء للإدارة الأمريكية التي كانت عازمة على التخلص من أنظمة البعث السورية والعراقية في إطار إعادة ترتيب أوراق السيطرة على المنطقة. فلم تجد سورية خلال سنوات العزلة والحصار الطويلة، خاصة بعد اغتيال الحريري، سوى أنقرة للعب دور الوسيط بينها وبين الغرب، ومساعدتها على عبور المرحلة الصعبة.
هكذا، خلال أقل من خمس سنوات، كسرت العلاقات التركية السورية كل المحظورات وبوتيرة ملفتة. فتجاوز الحكام البعثيون في دمشق حواجز الثقافة والعقيدة السياسية، الرسمية والشعبية، وضغط الذاكرة التاريخية الحافلة بالمآخذ على أنقرة، بل وبالأحكام المسبقة عن الأتراك، فأقاموا مع هؤلاء، بصرف النظر عن استمرار تعاون أنقرة مع إسرائيل وعضويتها في الحلف الاطلسي، علاقات ثقة تتنامى كل يوم بشكل اكبر، حتى أصبحت أنقرة راعية المفاوضات السورية الاسرائيلية الرئيسية، والمدافع الأكثر حماسا عن النظام السوري في وجه الاتجاهات الغربية، الأمريكية والأوروبية، العدائية. ولم يتوقف التعاون على الميدان السياسي ولكنه سرعان ما انتقل إلى الميادين الاقتصادية والاستراتيجية. فبعد التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة ، والبدء بتطبيقها عام 2007 ، أعلن البلدين، أثناء حفل إفطار أقامه رئيس الوزراء التركي للرئيس السوري في منتصف الشهر الماضي، عن فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول. كما أعلنا عن تكوين مجلس للتعاون الاستراتيجي يجتمع بشكل منتظم، ويضم كبار مسؤولي الدولتين، بالإضافة إلى عشرات الاتفاقيات الأخرى. وما يلفت النظر في كل ذلك هو أن الاتفاقات الموقعة تنفذ بحذافيرها وفي موعدها المحدد إن لم تستبقه، ولا ينتهي مفعولها، كما هو الحال بالنسبة لمعظم الاتفاقيات الموقعة بين أعضاء الجامعة العربية، مثل اتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى بانفضاض حفل التوقيع. ويستطيع المرء معاينة ذلك من خلال التبادل المستمر للوفود من رجال الأعمال السوريين والأتراك، والإعلان عن استثمارات وشركات مشتركة بينهم، وبشكل خاص من خلال حضور البضائع التركية الكثيف في الأسواق السورية. وليس هناك شك في أن حجم التجارة السورية التركية الذي وصل خلال سنوات معدودة إلى ما يقارب الملياري دولار، والذي يتوقع أن يصل إلى خمس مليارات دولار خلال الأعوام القليلة القادمة يجعل من تركيا الشريك التجاري الأول لسورية.
ليس هناك سر في التقارب السوري التركي. فدوافعه واضحة ومعروفة بالنسبة للطرفين، والمصالح المتبادلة كبيرة أيضا لا يمكن لأحد أن يشك فيها، في الميادين السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية معا. السؤال:
لماذا نجحت تركيا في ما أخفقت فيه الدول العربية، وفي طليعتها القاهرة والرياض اللتين شكلتا مع دمشق المثلث الذي استند إليه استقرار المشرق العربي لعقود طويلة ماضية؟ بل لماذا أخفقت طهران أيضا في تقديم مرفأ آمن لسفينة دمشق الحائرة؟
السبب لأن تركيا بعكس العرب دولة مستقلة وناجحة، وبعكس ايران أيضا ذات علاقة قوية بالغرب. وإذا كانت طهران مفيدة لدمشق في أي مسعى للتمرد والاحتجاج، فأنقرة هي الجسر الوحيد نحو هذا الغرب الذي لا يزال يملك وحده مفاتيح الحل والربط في المنطقة. والأفراد يسيرون في النهاية وراء أصحاب الملاءة والفاعلية أملا في الاستفادة منهم، ولا يهتمون بمن هو أضعف منهم أو من يحتاج هو نفسه إلى من يساعده.
لكن إذا كانت تركيا دولة فاعلة اليوم تشد إليها سورية وغيرها فلأنها حلت مشاكلها الداخلية، ونجحت في سياستها الاقتصادية، واتبعت طريقا صحيحا في التعاون الدولي. فتركت منطق المجابهة لصالح العمل الايجابي الصعب والصبور والطويل المدى، فاكتسبت رصيدا كبيرا وثقة ثابتة، بينما لا تزال حكوماتنا العربية منقسمة بين أصحاب خط المزاودة القومية الفارغة من المضمون والمعنى، أو خط المناقصة وتقديم التنازلات المجانية على حساب استقلاليتها باسم الواقعية والفائدة. وسبب المزاودة والمناقصة في سياساتنا الخارجية واحد: افتقار نظمنا للشرعية الشعبية، وتوزعها بين من يبحث عن التعويض عن ذلك في الالتحاق بشكل أكبر بالدول الكبرى والدخول تحت حمايتها وقبول استراتيجياتها ومن يسعى إلى تعزيز سيطرتها الداخلية من خلا من خلال التلويح بورقة توت الوطنية الكاذبة وتضخيمها.
عندما تحل مسألة السلطة بشكل صحيح في بلادنا العربية، سيكون من الممكن الأمل بولادة سياسات خارجية عربية سليمة، عقلانية بالفعل وفاعلة، أي قادرة على تحصيل مكاسب وانتصارات، وبالتالي على جذب الآخرين واستقطابهم كما تفعل اليوم السياسة التركية.
لذلك لا ينبغي ان نشك في صدق اردوغان عندما يقول لزواره العرب إن أساس تقدم تركيا الاقتصادي والاجتماعي وتوسع نفوذها الخارجي هو الديمقراطية. فهي الكفيلة، وحدها فعلا، بتغيير قدر البلاد العربية وتخفيف البؤس المادي والسياسي الذي تعيش فيه جماهيرها الواسعة .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire