محاضرة ألقيت في مكناس عام 2006 في ذكرى رحيل محمد باهي
شكراً لحلقة أصدقاء باهي لهذا الجهد المعبر عن المكانة التي تحتلها ذكرى باهي محمد عند جميع من عرفه أو تعرف عليه.
الحديث الذي طلب مني التدخل فيه في هذه المناسبة، وهو مطروح علينا جميعاً بالمثل، هو معنى الحداثة ومفهومها.
ما هي الحداثة؟ هل يمكن أن نعرِّف الحداثة؟ سؤال أعتقد أنه صعب جداً. يكاد من المستحيل اليوم أن نجد تعريفاً للحداثة، حتى ولو ربطناها بالإنسان. إنما سأحاول أن أقدم – خاصة وأن الأستاذ حسن أوريد تحدث عن معطيات كثيرة في هذا الموضوع، وجلسات بعد الظهر ستتناول جوانب متعددة من موضوع الحداثة، - سأحاول أن أقدم بعض الملاحظات التي ستساعد على وضع الإطار العام لإشكالية الحداثة في الفكر العالمي، وبشكل أساسي في الفكر العربي. أقصد بعض الملاحظات التي يمكن أن تتوسع بالنقاش فيما بعد.
الحداثة تظهر لنا، بخاصة نحن العرب والبلدان التي لم تساهم مباشرة في إنتاج الحداثة، باعتبارها ثمرة أخيرة، منتجا جاهزا تتجسد في علوم، تقنيات. وفي أحسن الأحوال نراها كحدث طاغ. حتى المثقفين الرواد الذين ذهبوا في القرن التاسع عشر إلى أوروبا، لم يدركوا عمق هذا الحدث أو القطيعة التاريخية التي تمثلها الحداثة، فخلطوا بين الحداثة وبين الثقافة الغربية، فبدت في نظرهم تعبيرا عن نظام آخر، هو نظام الغرب الفكري والاجتماعي. ولا نزال نحن نعيد هذه الأفكار عندما نربط بين الحداثة والغرب أو ثقافته وخصوصياته، ولا نفرق بينهما. هكذا رأوا في ما هو حداثة نظاماً غربياً وقارنوه مع نظامهم الشرقي. وبسبب ذلك لم يبحثوا في أصل هذا الحدث الكبير الذي اسمه الحداثة، فبقي التاريخ الذي أوصل الغرب إلى ما هو عليه، تاريخ الحداثة، كله مغيباً عنا جميعا.ً ولا يزال مغيباً في فكرنا. لذلك أنا أقول أننا لا نزال في مجتمعاتنا نرى الثمرة ونقتنيها، ولكن لا نرى الشجرة التي أنتجت هذه الثمرة، ونحاول أن نزيد من اقتناء الثمار، والثمار تعني هنا الحداثة الجاهزة وبالتالي الاستهلاكية، أما الشجرة، شجرة الحداثة فهي تختلف كليا عن الثمرة وهي لا تزال غريبة عن أذهاننا. نحن نرى الثمرة على شكل علوم أو تقنيات أو حتى نظم اجتماعية ونظم سياسية ومؤسسات. فكلها تبدو لنا ثمارا جاهزة وناضجة للقطف. وهو ما نفعله بالفعل. من هنا أريد أن أشدد على بعض الأفكار.
الفكرة الأولى التي أود أن أثيرها هي أن الحداثة، بعكس ما تظهر في مرآتنا نحن، ليست شيئا ناجزا وكاملا أو مكتملا، ولد مرة وانتهى. إنها مسار مستمر معقد ومركب، يتضمن عناصر عديدة وكثيرة، متماثلة أو متباينة، من التحولات التاريخية، تنطوي على مراحل تقدم ومراحل تراجع، على خطوات قوية وأخرى ضعيفة، على أخطاء وتراجعات، على كوارث وإبداعات فذة في الوقت نفسه. هي تاريخ مليء بالتناقضات والالتقاءات والنزاعات والتوافقات، والحروب واتفاقيات التفاهم والسلام. فعندما أتحدث عن مسار تاريخي فهذا يعني في الوقت نفسه مسار مستمر لا يتوقف ولا يصل إلى هدف محدد مسبقا أو نهائي، كما يعني أنه مسار حي، متنوع ومتعدد المظاهر والأشكال والصيغ، قابل للتقدم والتراجع، للدخول في مآزق والعبور نحو قارات جديدة غير مكتشفة. فالحداثة بعكس ما نتصورها تماما في أدبياتنا الشائعة، ليست نموذجا ناجزا نشأ في أعقاب حدث طارئ، أو على أثر انفجار كبير وانقطاع تاريخي وحضاري نجم عنهما نظام اجتماعي وعقل واقتصاد ومجتمعات جديدة تماما ومتكاملة. هذه صورة خاطئة كلياً ولا تستطيع أن تقودنا إلى فهم الحداثة. الحداثة عملية تاريخية طويلة ومعقدة ومركبة ومتناقضة وليست دائماً متسقة ولا سعيدة ومسعدة. إنها بالعكس مسيرة مليئة بالأزمات وبالمعارك وبالتشنجات وبالصراعات، أي أيضا بالعذاب. لنتذكر فقط ما كتبه الأوروبيون في القرن التاسع عشر حول البؤس وشروط حياة الطبقة العاملة. ولعل الماركسية وأدبياتها، ومفاهيم الصراع الطبقي والديكتاتورية البروليتارية، تعطينا فكرة واضحة عن هذه الحداثة التي كانت تشكل مشكلة أكثر منها حلا، وعن هذا التحول التاريخي المعقد الذي جعلنا منه نحن نموذجا جاهزا وناجزا ومثاليا أيضا نتأمل فيه ونقيس عليه أمور حياتنا.
هدفي أن أقول أننا بقدر ما حولنا الحداثة إلى نموذج جاهز ومثالي جعلنا منها أسطورة، وحرمنا أنفسنا من القدرة على فهم أولياتها، وبالتالي القدرة على السيطرة عليها. ويبدو لي أننا لن نفهم جوهر الحداثة، أي لا جوهرانيتها في الواقع، ما لم نقتل أسطورتها، أي الأسطورة التي كوناها عنها في ذهننا وفكرنا. فنحن لا نزال نعيش في الحداثة ونتعامل معها كأسطورة، كمثال، وبالتالي نخفي أو نقطع على أنفسنا الطريق لنرى فعلاً حقيقتها، والديناميات القوية والمتناقضة الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي تكمن وراءها.
والفكرة الثانية هي أن للحداثة، بقدر ما هي عملية تاريخية، مستويات متعددة: فكرية، ثقافية، أخلاقية، سياسية، اجتماعية الخ... وهي ترتبط أيضا بأنواع مختلفة من النزاعات والصراعات اللصيقة بها والتي لعبت دورا كبيرا في تحديد اتجاه تطور النظم السياسية والاجتماعية عبر التاريخ الحديث.
لذلك يخطئ المرء عندما يفكر في الحداثة انطلاقا من مشاهدته اليوم لما هو عليه الوضع في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما من الدول الصناعية في القرن العشرين أو الواحد والعشرين. وبالتأكيد ستكون فكرة المراقب عن الحداثة مختلفة تماما لو نظر إلى هذه البلدان نفسها في بدايات القرن التاسع عشر، بل حتى قبل خمسين عاما. فستكون الأمور والمظاهر التي نراها مختلفة، وستكون انطباعاتنا عن الحداثة مختلفة أيضا.
الفكرة الثالثة هي أن الحداثة ليست واحدة، ولا يمكن أن تكون واحدة، ولكنها مسارات متباينة، ترتبط بعوامل البيئة والثقافة والظروف الجيوسياسية والاقتصادية. فهي بالضرورة تعددية. الأمور لا تتطور ولا تتحول ولا تتراكم بالصورة نفسها، وحسب المعطيات نفسها، في كل المواقع، وبصرف النظر عن أنماط التراث المختلفة التي تملكها المجتمعات.
باختصار، ينبغي أن ننزع في نظري عن أذهاننا تلك الفكرة التي تظهر الحداثة كما لو أنها نظام كامل متكامل، ثابت، متسق بين مستوياته العقلية ومستوياته السياسية والاجتماعية ومستوياته الاقتصادية. يجب أن نرى في الحداثة – ويمكن أن تكون هذه هي الرؤية الأساسية، أي ما أفهمه من الحداثة أو أيضا مفهومها عندي، - ورشات تاريخية مفتوحة. وعندما أقول ورشة فأنا أشير إلى عملية بناء لا يكتمل، وتتفاعل فيه عوامل متعددة، البيئة، البشر، التراث، الموارد، الوضع والسياق الجغرافي والسياسي، الفرص التاريخية والمعيقات، الخ... وعندما أقول مفتوحة فأنا أعني أنها تنطوي على عوامل تتحول باستمرار، تتقدم وتتراجع، على مستوى العلم، على المستوى التقني، على مستوى النظم الاجتماعية. نحن لا نصل إلى نتيجة نهائية في أي وقت، ولكننا نعيش في استمرار في إطار مراجعة مستمرة لأفكارنا، لنظمنا. هناك دائماً انتقادات، هناك دائماً إعادة نظر، هناك دائماً تجديدات. وما ينجم عن الحداثة هو ثمرة هذه الصراعات وهذه الورشات. عندما أقول أفتح ورشة يعني أفتح مجالاً للعمل وللجهد وللتأمل، الخ...
خلال هذه التحولات الطويلة، المتراكمة، التعددية، المتناقضة باعتقادي هناك ثلاثة ورشات كبيرة، أو ثلاثة محطات أساسية نستطيع أن نبلور حولها رؤيتنا لهذه الحقبة من التاريخ التي أعقبت القرون الوسطى، والتي سميناها حداثة، وكان يمكن أن نسميها شيئاً آخر. يعني أن الحداثة هو اسم أطلقناه على مجموعة هذه التحولات.
في اعتقادي هناك ثلاثة محاور رئيسية تبلورت من حولها صراعات الحداثة وديناميات الحداثة وثمار الحداثة.
المحور الأول هو مسألة العقل، العقل في مقابل النقل. فالنقل كلمة مرتبطة بكل ما يتعلق بالتراث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي: بشكل خاص الأديان السماوية. لأن هذه الأديان تعتمد بالدرجة الأولى على النص الديني الثابت، وعلى المعرفة المرتبطة بالمعرفة الغيبية، المعرفة الدينية المنزلة أو المستمدة من الوحي. وبالرغم من وجود اختلافات عديدة بين المسيحية والإسلام واليهودية في تصور مكانة النص والعلاقة بهذا النص، لكن المعرفة الدينية تبقى فيها جميعا معرفة مقدسة ومطلقة، تعتمد على وحي صادق أو مصدر مطلق. مقابل ذلك نشأت فكرة العقل هنا أيضاً مرتبطة بما نسميه بمرحلة النهضة والإنسانية humanisme والتي ابتدأت عندما بدأ الناس يفكرون أن المخرج من الاحباطات الدينية والمذهبية ومن التخبط السياسي والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، التي كانت تعيشها أوروبا في القرون الوسطى، ربما كان بالعودة إلى تراث القدماء العقلي اليوناني والروماني. أي العودة إلى الإنسان، إلى العقل وإلى تراث العقل والفلسفة، أو الحكمة العقلية التي عرفها الأوروبيون لفترة طويلة من خلال الترجمات العربية، وبدأوا في لحظة من اللحظات يبحثون عن حلول لمشاكلهم الكبرى وتطلعاتهم في تراث الماضي، ويعكفون على قراءته وعلى تعلم اللغات القديمة التي كتب بها أيضا. مفهوم العقل لم تنتجه الحداثة. تراث العقل يعني الفلسفة اليونانية بالدرجة الأولى، ثم التراث القانوني الروماني وكذلك رمزه أرسطو، لم تنتجه الحداثة، وإنما أعادت اكتشافه واستعادته. كان موجودا حتى قبل فلسفة اليونان. إنما في إطار إعادة إكتشافه راجعت مفهومه جذريا، ثورته، وأعادت البناء عليه. وهذا هو الجهد الرئيسي الذي ميز عملية النهضة، أي إعادة النظر في وسائل المعرفة. استعادة العقل لبعض الترجمات الفلسفية واليونانية أخذ شكلاً آخر مع فلسفة ديكارت وكوجيتو"أنا أفكر إذن أنا موجود" الذي يركز على مفهوم البديهة العقلية. أهمية هذا الكشف أن الإنسان يستطيع بعقله نفسه أن يفتح آفاقاً معرفية جديدة. كان ذلك مصدراً لثورة في المعرفة، وقبل ذلك في النظرة للمعرفة. هكذا أصبح بإمكان الإنسان الذي كان متلقيا فحسب للتعاليم والأحكام والمثل الإلهية، أن يكون هو نفسه مصدر معرفة يقينية، علمية، عقلية، ثابتة ومقبولة. أصبح صانعا للمعرفة، وهذه الكفاءة والملكة الجديدة التي تملكها الإنسان مرتبطة بضبط أدوات التفكير والبحث ومناهجهما، أي ببلورة أدوات تفكير جديدة، بوضع "لوجيسييل" أو برنامج معلوماتي جديد للعقل، غير البرنامج الأول الذي وضعه له اليونان. كل الشعوب كانت تؤمن بالعقل. وكلمة العقل ليست اكتشافاً يونانياً كما قلت. لكن ما كان أضافه اليونان هو "لوجيسييل"، أي برنامج معلوماتي ينظم طريقة عمل هذا العقل ووسائله وغاياته. أي في الواقع ميدان جديد وطريقة جديدة لاستخدام العقل: الفلسفة، مبادئ النظر العقلي الدقيق.
تلقفت حقبة النهضة مفهوم العقل بمفهومه الجديد، ما بعد الأرسطي الصوري. وعلى أساسه أعيد بناء المعرفة وظهرت فعلاً ثورة علمية حقيقة. الثورة العلمية نشأت من هنا. فالانفجار العلمي والاكتشافات العلمية نشأت وتطورت، طبعاً بشكل أساسي، أولاً عندما تم التمييز بين المعرفة والحقيقة. بين العلم والدين. وأصبح هناك اقتناع كامل بأن المعرفة لا يمكن العثور عليها في الطبيعة ولا في النص الديني. المعرفة ينبغي بناؤها، تكوينها، الشغل عليها. والشغل عليها يعني ضبط العقل في عمله وتحديد أسس التفكير العقلي المعتمد على ضوابط واضحة وبديهية كما عبرت عن ذلك فلسفة ديكارت أو منهجه. ثم انتقلنا إلى فكرة أوسع كانت أيضاً خصبة، وهي فكرة فرانسيس بيكون والمتمثلة في كون الخبرة والتجربة هي أيضاً أساس التقدم العلمي. وهذه كانت أساس الثورة العلمية. ما قاله بيكون بشكل سريع وبسيط جداً هو انه يجب أن نبحث عن المعرفة في الكشف عن قوانين الطبيعة، أي في الممارسة العلمية، في البحث والتجريب، وليس في النصوص القديمة. نقد حتى الخطوة الأولى من خطوات النهضة وقال: ليس في النصوص اليونانية والرومانية نستطيع أن نجد الحقيقة. هنا قطعنا مرحلة ثانية إذ لم نميز المعرفة عن الحقيقة فحسب، ولكننا أصبحنا نميز المعرفة الموضوعية المستمدة من التجربة عن المعرفة النظرية التجريدية، التأملية. والعلم الحديث طبعاً تطور ونشأ على أساس هذه الأفكار الجديدة في بناء مناهج البحث العلمي، وتنظيم التجربة، وشيئا فشيئاً حصلت الخطوة الثالثة التي يمكن أن نسميها la sécularisation du savoir، أي بلغة عربية مفهومة: تجريد المعرفة من بعدها السحري والأسطوري. هكذا أصبحت المعرفة العلمية زمنية، صناعية، ليست مستقلة عن المعرفة الدينية ومتميزة عنها في أسس بنائها فحسب ولكن أيضا عن جميع المعارف المنقولة والحكم المقدسة والأساطير الموروثة الماضية. هذه في اعتقادي أول ورشة لا زالت مفتوحة ولم تنته بعد، من ورشات الحداثة العديدة. وهي لا تزال ورشة لأن الورشة تعني أننا لم ننجز العمل بعد، نحن منهمكين فيه، لا نزال نناقش حتى اليوم معنى العلم ومفهوم العلم، ولا تزال العلوم تنتقد نفسها وتراجع طرقها ووسائلها ونتائجها. لا نزال نحن مثلاً في العلوم الاجتماعية نقول: هناك أزمة في العلوم الاجتماعية، ونعترف بأننا لا نعرف شيئاً تماماً عن المجتمع، أو ليس بإمكاننا إدعاء معرفة يقينية وقابلة للنقل والتعميم، بالرغم من قرنين تقريباً (التاسع عشر والعشرين) من البحث في الإنسان، في الأنتروبولوجيا والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ، الخ... وبالمثل، ليس هناك أي اقتصادي يستطيع أن يقول لنا اليوم ما هي السياسات الدقيقة التي إذا اتبعناها نضمن أن نخرج من الأزمة الاقتصادية أو من التخلف، الخ... لا نزال في بحث مستمر رغم كل ما حصلناه من تقدم.
الورشة الثانية التي كانت مهمة جداً، والتي ارتبطت أيضاً في بدايتها بمرحلة النهضة وبحقبة النـزعة الإنسانية، هي عودة اكتشاف الحق: le Droit، وما ينبع منه من رؤية قانونية جديدة، كأساس لبناء عدالة اجتماعية. فالحق لا يعني الشريعة، لأنه لا يرتبط بالانصياع لأحكام منصوص عليها أو مطلوب تطبيقها من قبل سلطة إلهية عليا فكرت في العدالة مرة واحدة وإلى الأبد. إنه جزء من التفكير المستمر في العدالة الإنسانية، تفكير المجتمع نفسه بعدالة أسسه، وصلاحيتها. إنه نابع من المجتمع المسؤول عنه وعن تطويره وتطبيقه، لا من مصدر آخر. فهو ينبثق من الاعتقاد بأن على المجتمع "الجماعة" ككل واجب هو تحقيق العدل، وبالتالي بناء مفهوم الحق والواجب، حق الأفراد وحق الجماعة معا، وتكوين القوة العامة التي تتكفل بتطبيق القانون أو الضابط له، وتأمين احترامه، هي التي تثب وتعاقب، وتتدخل في النـزاعات بين الأفراد، ليس على سبيل تعويض الشخص الذي أسيء إليه أو معاقبة الجاني، ليس على أساس الردع وإعطاء العبرة للآخرين، ولكن على أساس بناء قاعدة النظام العام، وتطوير ما لم تعرفه المجتمعات في الماضي، فكرة الحق الخاص والعام، حق المجتمع الذي يشكل تأكيده واحترامه أساس احترام حقوق الأفراد. الحق في هذا المجال هو جزء من منظومة الدولة والسياسة المدنية الحديثتين معا ولا وجود له خارج دائرتهما.
هكذا حمل المجتمع مسؤوليته في ضبط النظام من داخل صفوفه ولتحقيق غاياته، كمجتمع، لا على سبيل الطاعة أو التوافق مع مطالب الدين، أي الغايات التي ترسم له من خارجه، ولكن تلك التي يرسمها هو نفسه لوجوده. وبذلك تحول إلى مجتمع سياسي أيضا بعد أن كان مجتمعا دينيا أو لاهوتيا في طبيعة السلطة والصلاحية التي تحكم نظامه. وفي هذا المخاض استقل مفهوم الحق، بالمعنى المدني القانوني، وتطبيقه معا عن مفهوم الشريعة، فصار نظاما إجرائيا متكاملا يضبط نفسه من خلال آليات واضحة تعبر عنها درجات المسؤولية ومرتباتها، ولا يعتمد في وجوده على الإيمان والورع الشخصي المتفاوت عند الأفراد بالضرورة، ولا أيضاً على مزاج أو معرفة فقيه بالدين أو عالم دين أو سلطان. كما لا يحتاج لتحصيل الحكم وتطبيقه على التأويل الذاتي بالضرورة لكتب الدين أو الحكمة. فالحق كما يتجسد عبر النصوص القانونية الحديثة هو نص مقدس جديد، لكن مفتوح للتعديل والتغيير من خلال آليات السياسة المدنية. وهو ما سمح بإعادة بناء مفهوم العدل الانساني وتطوره أيضا، بموازاة تطور القيم والتطلعات الإنسانية. لقد أصبح حق مقدس ومفتوح على التاريخ في الوقت نفسه. وقد شكل العمل على فكرة الحق والعدل الإنساني وتعزيز سبل تطبيقه ورشة عمل ثانية أساسية في الحداثة.
ليس هناك شك هنا أيضاً في أن الأوروبيين لم يكتشفوا مفهوم الحق والقانون. لقد أخذوه عن الرومان كما أخذوا العقل وفلسفة العقل ونظام العقل عن اليونان. والرومانيون هم الذين كانوا قد طوروا بالفعل نظرية الحقوق القانونية وجعلوا منها علماً مستقلا قائماً بذاته. حسب مفكري القرن التاسع عشر، يقوم مفهوم القانون/الحق الجديد على أربعة عناصر رئيسية:
العنصر الأول التحكيم، هناك مؤسسة رسمية معروفة تحكم بين الناس، تأخذ على عاتقها أن تحكم في الصراعات.
العنصر الثاني هو أن هذا التحكيم في النـزاعات ليس قضية مزاجية، وليس قضية مرتبطة بإرادة الأفراد المتنازعين. هناك مؤسسة ستتدخل وتضمن الحكم، بصرف النظر عن إرادة الأفراد المتنازعين.
العنصر الثالث هو أنه لا بد أن يكون هناك تحديد أو تعريف مسبق وواضح ومعلوم للجريمة، للجناية، للجنحة، الخ... بحيث لا يمكن أن يختلف الحكم على جرم واحد باختلاف وضع مرتكبيه.
والعنصر الرابع هو أنه لابد أن يكون هناك مقاضاة بمعنى عقوبة وتعويض للتوصل إلى حل مرض للنـزاع.
هذه العناصر الأربعة خلقت نظاماً جديداً للتفكير في مسألة الحق والقانون. وعلى أساسه بنيت الدولة الحديثة. فقد نشأت بالارتباط بمعنى الحق القانوني كمفهوم جديد. القانون كمفهوم وضعي يقوم على فكرة إمكانية تحقيق العدل بصرف النظر عن طبيعة النصوص المقدسة وتاويلها وايمان الناس بها. فهو حق موضوعي، أي يمكن التحقق من شروطه بشكل مادي وعقلاني، من خلال النصوص والإجراءات القانونية الدقيقة، بعكس ما يتسم به العدل الديني من ذاتية بسبب اختلاف تاويل الفقهاء ودرجة استيعابهم للنص وقدرتهم على استخراج الأحكام الصحيحة منها وفهمهم لطبيعة الجرم. ولذلك أنا أقول كانت هناك شريعة في التاريخ الإسلامي، وكانت الشريعة مسيطرة كلياً، وكان هناك فقهاء متعددون يطبقونها، وأحيانا بإخلاص. وهذا هو الذي حفظ للأمة الإسلامية الحد الأدنى من الاتساق الذي سمح لها بتكوين حضارة وبالاستمرار. لكن لم يكن هناك قانون، ولا مؤسسة قانونية بالمعنى الحديث للكلمة. ذلك لأنه لم يوجد مفهوم للحق الإجرائي، الحق الطبيعي المولود مع الإنسان، والذي لا يملك أحد حق التصرف فيه، بما في ذلك الدولة والسلطان. كان الفقيه في كل بلد يحكم كما كان يملي عليه ضميره وعلى قدر تمكنه من فهم المقاصد الشرعية وصدق إيمانه ودرجة تفقهه في الدين. لم يكن هناك حق عام منصوص عليه ودقيق. وعندما حاول أحد الخلفاء أن يأخذ موطئ الإمام مالك ليجعل منه قانوناً، أي نصا معتمدا من قبل السلطة العامة، وبالتالي مطبقا في كل نواحي المملكة، رفض الإمام مالك نفسه العرض، وقال إنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية الحكم باجتهاداته، يوم القيامة وأمام الله، ويدفع ثمن الأخطاء التي يمكن أن يكون ارتكبها في تأويله، أو ثمن الظلم الذي يمكن أن يرتكب باسمه. فكرة الحق القانوني المستقل عن الدين والمرتبط بالسلطة العامة، سواء أكانت سلطة ملكية أو سلطة ديمقراطية، كانت لا تزال بعيدة عن أذهان المسلمين، بقدر ما ارتبطت الحقوق في تقاليدهم بالعبادة لا بالواجبات والمسؤوليات. أو بالأحرى بالواجبات والمسؤوليات تجاه الخالق وليس تجاه المجتمع. ولذلك أيضا ما كان من الممكن لمجتهد أن يقبل بتطبيق فقهه أو الأحكام التي استمدها من النص القرآني على الأفراد، بصرف النظر عن دينهم ودرجة إيمانهم. فهي لا يمكن أن تطبق على غير مسلم من دون أن يكون هناك ظلم، فهي مرتبطة مباشرة بالايمان وجماعة المؤمنين. وهي تكملة للدين لا شرطا لقيام مجتمع مختلف عن الجماعة أو الأمة الدينية أو العقيدية.
فكرة القانون الموحَّد المنظِّم للصراعات والعلاقات، كان هو أساس نشوء الدولة الحديثة. لا يمكن للدولة الحديثة أن تنشأ بدون مثل هذا القانون.
الورشة الثالثة والتي أعتقد أنها لا تزال أيضاً مفتوحة هي البحث في وضعية الفرد-الذات. أي الفرد ليس بمفهوم الفردية والمصلحة الذاتية، ولكن بوصفه ذاتا واعية أي حرة، مريدة، وبالتالي أيضا قابلة للصياغة والتكوين والمساءلة القانونية والأخلاقية. وهي مرتبطة بفكرة الشخص الذي لا يمكن رده إلى نفس حيوانية خاضعة للغريزة، يأتي الدين أو الحكمة المقدسة ليهذبها ويشذبها، ويخفف من وطأة الغرائز على الفرد. الفرد وعي وضمير وليس غريزة. هذا هو المنطلق الجديد لبناء الشخصية وإعادة النظر في مفهوم الكائن المنتمي للنوع الإنساني. وفي ما وراء ذلك وحدة الإنسان، أي إلغاء المرتبيات التقليدية التي تضفي المشروعية على التمييز بين فئات الناس، العامة والخاصة، الذوات والعوام، والأكابر والأرزال. فأنا إنسان، أي ذات عاقلة وقادرة، مثل الآخر الانسان، وأشخاصنا يتساوون في الحقوق والواجبات. هذا يعني اعتراف الجميع ببعضهم كأنداد، لا كأسياد من جهة وأزلام ومحاسيب من جهة ثانية. وهو ما يفترض اعتراف الجميع بحقوق الجميع، وتجريم المس بهذه الحقوق أو القبول بمعاملة فئات من الناس كما لو كانوا أقل أهمية أو قيمة إنسانية. ليس هناك ناس أعلى من ناس أو أبدى منهم. هنا تبدأ الثورة الحقيقية، عندما نصبح جميعاً ذواتاً متساوية، وتصبح مقولة السيد المطبقة على الجميع حقيقة واقعة وممارسة يومية. في المجتمعات الحديثة، كل شخص سيد، حتى الشحاذ، حتى المتسوِّل. فهذا هو مظهر الاعتراف الرسمي، القانوني، بالمساواة المطلقة في الإنسانية.
فالفردية الجديدة تعني أولا تحويل جميع أفراد الجماعة إلى أسياد، أي متساوين. لا أحد يملك سابقة أو أفضلية على آخر. لا بالوراثة ولا بالمعرفة ولا بالعلم ولا بالثروة ولا بالحسب والنسب. فليس بين أعضاء المجتمع الحديث من هو تابع ولا إمَّعة ولا زلمة (نحن في الشرق رجل نقول له زلمي أي الزلمة، التابع أو المحسوب على غيره من الأسياد). هذا كله من تقاليد القرون الوسطى والثقافة التقليدية. وتعني ثانيا أن كل فرد هو موطن ممكن وواجب لوعي مستقل ولفعل حر ومريد، أي لتجربة إنسانية نوعية. وهو بالمقابل مسؤول ليس عن نفسه فقط وعن أبنائه، ولكن عن مصير الجماعة نفسها وعن شروط الحياة فيها. عليه واجبات عامة وليست خاصة فحسب. لكن جعل الوعي والإرادة والمسؤولية مناط الفردية يرتب مهاماً على النظام العام، على المجتمع في تعبيره الكلي، على الدولة التي لا وجود لهذا المجتمع السياسي من دونها. وهذه المهام هي تأهيل الفرد نفسه، فهو لا يولد مؤهلا، يولد حرا، لكنه لا يعرف معنى الحرية، يولد قابلا للتعلم والفهم والمعرفة، لكنه يحتاج إلى معلمين ومربين. الذاتية الفردية أو الفرد كذات فاعلة لا يولد كذلك، إنه يبنى، يصنع. كي ما نستطيع المراهنة على وعيه وحسه بالمسؤولية وأدائه الاجتماعي، كإنسان ثم كمواطن، ينبغي أن نبني وعيه ونعلمه معنى الحرية والمسؤولية، أي ينبغي أن ننمي فيه هذه الإرادة والشعور والوعي والضمير. كل هذه مفاهيم مترابطة تشكل محاور الفرد كذات، بني عليها مفهوم المجتمع الحديث. وليس لهذا المفهوم للفردية أي علاقة بما تتبادله الإيديولوجية الشائعة في بلادنا عن الفردية كموطن للأنانية. بالعكس، الفردية هنا هي خلاف الأنانية ونقيضها. فهي ملتصقة تماما بالمسؤولية والمشاركة في المصائر العمومية. في المجتمعات القديمة الفردية تساوي الأنانية بالفعل، لأن الفرد لا يهتم إلا بنفسه وأهله، وليس لديه أي مسؤولية تجاه الجماعة ككل، ولا مجال للتعبير عن هذه المسؤولية طالما أن السياسة محتكرة من قبل طبقة ارستقراطية ثابتة أو سلطان مطلق السلطة. النافذة الايجابية الوحيدة التي يطل منها الفرد على الآخر الجمعي ويشعر بمسؤوليته في النظام القديم هي نافذة الإحسان والتعاطف الإنساني والديني وما يرتبط بهما من واجب الصدقة والزكاة. لكن التماسا لرضى الله، لا انطلاقا من مفهوم المسؤولية الجماعية أو الاجتماعية.
من هنا لا قيمة لما يقال من أن القيم السائدة في المجتمع الحديث الغربي هي قيم الفردية، بينما ما يسم مجتمعاتنا هو القيم الجمعية. العكس هو الصحيح تماما. أفرادنا لا يرون المجتمع إطلاقا خارج نطاق دائرة الأهل والعشيرة، وفي أحسن الحالات فئات المحرومين الذين تحل لهم الصدقات. فالقيم الجمعية هنا متعلقة بالعصبية والقرابة أو الدين، لا بالمسؤولية الاجتماعية والانهمام بمصير المجتمع ونظامه ككل. وهذا ما يفسر ضعف الحوافز السياسية في مجتمعاتنا إلى اليوم رغم اندراجها منذ قرنين في منطق الحداثة السياسية.
النظر إلى الفردية باعتبارها لبنة البناء الاجتماعي السياسي الحديث هي التي تفسر أيضا الاستثمار الكبير الذي تقوم به السلطة العامة في تكوين الفرد وتأهيله علميا وتربويا واجتماعيا. ومع دخول نظم التربية والتعليم والتأهيل الحديثة تحولت المجتمعات تحولا كبيرا وولد مجتمع جديد بالفعل، مجتمع الرابطة القومية، أو الأمة التي تسمح فيها التضامنات السياسية بتجاوز نمط التضامنات العصبوية التقليدية. مجتمعات القرون الوسطى مجتمعات قائمة على العصبية. العصبية الدينية، من ملة واحدة، العشائرية، الإثنية، أحياناً أيضاً عصبية الأحياء والقرى، الخ... بينما المجتمعات الحديثة مجتمعات سياسية، وترتد إلى الماضي وأساليبه بسرعة عندما تغلق باب الحياة السياسية على الأفراد.
هذه الورشات الثلاثة للحداثة لا تزال قائمة، لم ينته العمل بها بعد، لا تزال هناك صراعات ونزاعات حول العديد من الخيارات التي توجه نشاطها. حتى في البلدان الحديثة جداً، حتى في البلدان الأوروبية التي هي مصدر الحداثة، لا يزال هناك نقاش ومحاولة لتطوير المعرفة الإنسانية العلمية. لا تزال هناك شكوك كبيرة حول صلاحية النظم السياسية التي خرجت منها، بما في ذلك حول محتوى الديمقراطية وحدودها وقدرتها على تجسيد المثال الذي رسمه الفكر الانسانوي والقانوني والسياسي. لا تزال هناك ملاحظات كثيرة أيضاً حول مسألة وجود الفرد الذات، في عالم يخضع أكثر فأكثر لسيطرة الموضوع والأغراض المادية، وتفقد فيه المجتمعات نفسها قسما كبيرا من هامش مبادرتها وسيادتها السياسية لصالح القوى والشركات وشبكات المصالح الخفية التي تعمل على مستوى القارات، بل العالم بأكمله، ويكاد يستحيل على أي دولة أو سلطة عمومية ضبط نشاطاتها أو التحكم بها.
قبل أن أنهي، هناك فكرة تمسنا نحن كعرب. نحن نتساءل دائماً عن وضعنا في الحداثة. في اعتقادي ليست المجتمعات العربية مجتمعات القرون الوسطى على الإطلاق. هي مجتمعات حديثة، أو تخضع لمنطق الحداثة الذي ذكرت، ولو كان ذلك ضمن منطق التناقضات والتشوهات المرتبطة بهذه الحداثة الخاصة بنا. وما نعيش اليوم هو مظهر من مظاهر هذه الحداثة التي سميتها في أحد كتبي "الحداثة الرثة" بمعنى الحداثة التي لا تملك كتاب مفاتيحها في جيبها، وإنما هي مجرد استهلاك متزايد لثمرات الحداثة الناشئة والمتطورة خارجها. لم نستطع أن نزرع شجرة الحداثة، ولا نفتح ورشات لها خاصة بنا وبشروط وجودنا، لا ورشات المعرفة الزمنية، المدنية، الإنسانية، البحث العلمي، التطور الفكري الحر. ولا ورشة الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون. نحن لا زلنا إلى حد كبير في نظري مجتمعات حديثة تخضع لسلطة الأعيان والأتباع. ولم نطور أيضاً بما فيه الكفاية ربما مسألة الفرد كذات، أو الفردية الحرة والمسؤولة. وكما يقول اليوم ناقدي الحداثة عن حق "بدل أن ننمي الذات الفردية، أي الضمير-الوعي-المسؤولية-الإرادة، داخل الفرد، نشأت عندنا الفردية المنفلتة من أي عقال، أي الفرد الأناني بالمطلق، الذي يرفض التفكير بالآخر، سواء أكان فردا أو جماعة، بل يعجز عنه حتى لو حاوله، ولا يفكر إلا بالمصلحة الشخصية. نحن نعيش الحداثة لكن في صورتها المنحطة. وهكذا تحل الفردية الأنانية محل الإنسان الحر المسؤول والمشارك في المصائر العمومية. ودولة الحق والقانون إلى دولة تسلط الفئة البيروقراطية التي تحكم لصالحها. ودولة العقل التي تعمل للصالح العام وتأخذ بيد الأفراد لتجعل منهم أنداداً فاعلين ومتفاعلين، بالتربية والتعليم والتأهيل والبحث العلمي، إلى إيديولوجية عقلانوية تستخدم في تبرير سيطرة النخب الاجتماعية على مجتمع بقي إلى حد كبير معزولاً أو مستبعداً من آلية التطور العقلي والتعليم والتربية الحقيقية.
أنا أعتقد أن ما نعيشه لا يعبر عن كوننا لا نزال خارج الحداثة، كما ينحو عدد متزايد من الباحثين المستشرقين والمستغربين إلى القول، وإنما يجسد بالعكس أزمة هذه الحداثة (العربية)، أو النسخة المشوهة منها. فالمشكلة لا تكمن في التراث الماضي ولا في الدين، وهو نقاش تجاوزناه منذ زمن طويل، حتى لو استعادت الأزمة بعض عباراته ومحاوره، وإنما في نمط الحداثة الرثة الذي اخترناه وأنتجناه. وأقول أننا تجاوزنا النقاش الديني، لأنني أعتقد أنه لا أحد يتصرف اليوم – بما في ذلك الحركات الدينية- بدافع ديني، أي بدافع الغيرة على الدين وفي سبيل نشره، رغم استثماره الدين، وإنما لتحقيق أهداف وقيم وغايات سياسية، هي في قلب الحداثة، ولكن بطريقة مواربة.
لكن أزمة الحداثة ليست مقتصرة علينا فقط. اليوم نحن نتحدث عن أزمة الحداثة حتى في البلدان التي صنعت الحداثة، أو التي تعيش في قلبها وتشكل موطنها الأصلي. وتتجلى أزمة الحداثة –كما نقول نحن اليوم- وهناك من يتحدث كما تعرفون عن ما بعد الحداثة - في أن مجموع الورشات التي افتتحناها باسم الحداثة، المعرفية والسياسية والقانونية، في سبيل تحقيق انعتاق الإنسان، وانعتاقه على مستوى الفرد والجماعة معا، أي تكوينه كسيد حر، وكأمم سيدة أيضا ومتساوية، لم تقدنا إلى الغاية المرجوة منها. بل إن الآثار ا لجانبية لهذا التحرير المفترض للإنسان قد تجر علينا استلابا ودمارا يتجاوز ما كنا نعتقد أننا قادرين عليه. نحن اليوم ضحايا القوة التقنية خاصة عندما تتزاوج مع إرادة الحرب والتوسع الإمبريالية. ونحن اليوم، أقصد الإنسانية بأكملها، ضحية التلوث المهلك للبيئة المادية والمعنوية معا، وهناك ممن يتحدث عن خطر تدهور كبير ولا رجعة عنه للحياة على كوكب الأرض إذا لم نسرع في السنوات العشر القادمة لتفادي آثار الإشعاعات الحرارية. ونحن نعيش خطر إفساد الديمقراطية وتفريغ الحريات الفردية والعامة من محتواها مع نمو قوى عالمية مادية واجتماعية خفية لا تخضع في سلوكها لأي قانون، ومع سيطرة الأنانية القومية. ولا يزال خطر بناء نظم تخضع المجتمعات، بمناهج عقلية، أي بفضل ما أسماه فلاسفة مدرسة فرانكفورت العقل الأداتي، أو الوسائلي الذي يحكم بغايات مختلفة عن الغايات التي حركت الحركة الإنسانية، أو الإنسانوية في البداية، على شاكلة النظم الشمولية الشيوعية والنازية، متربص بنا في أكثر من زاوية ومكان.
كل ذلك يدفع اليوم إلى التساؤل حول مصير الحداثة ومضمونها، وإلى الشك بمستقبلها، ليس عند الحركات الإسلامية كما نظن فحسب، وإنما عند قطاعات عريضة من الرأي العام الديمقراطي الحديث نفسه. هل لا نزال نعيش بالفعل حقبة الحداثة؟ يطرح مفكرون كثيرون غربيون اليوم هذا السؤال، أم أننا تجاوزناها ودخلنا في مجتمع التفكك والفرديات المغلقة والأحلام الشخصية والمشاريع الخاصة، أي كل ما ينفي ما قامت عليه الحداثة الكلاسيكية من أساطير فلسفية وسياسية وقانونية ملهمة؟ لكن ما هو موقعنا نحن العرب من كل ذلك؟ هل نحن أيضاً نواجه الأزمة نفسها أم نواجه مسألة أخرى؟ في اعتقادي أن أزمة الحداثة التي أنجبت ما بعد الحداثة في أوروبا، أنجبت عندنا شيئاً أسميه ما تحت الحداثة: نكوص إلى نظم وأشكال تنظيم وأشكال تفكير سابقة على الحداثة. والسبب كما ذكرت أن حداثتنا بقيت استهلاك ثمار ومنتجات أكثر مما كانت تربية لشجرة وضعت بذرتها وامتدت جذورها عميقا في تربتنا، وانطلقت فروعها وأغصانها نحو السماء. من هنا، من فكرة إعادة غرس الشجرة لا استهلاك الثمرة، ينبغي ويمكن للعرب الإنطلاق من جديد، لا في سبيل تكرار مسار دخل هو نفسه في مآزق لا تنتهي، وإنما في سبيل بناء أفق جديد للحداثة ذاتها. مهمتنا إذن ليست صغيرة، والوصول إليها سيحتاج لا محالة إلى عقود من التعب والاجتهاد والكفاح الفكري والعملي معا.
شكراً لحلقة أصدقاء باهي لهذا الجهد المعبر عن المكانة التي تحتلها ذكرى باهي محمد عند جميع من عرفه أو تعرف عليه.
الحديث الذي طلب مني التدخل فيه في هذه المناسبة، وهو مطروح علينا جميعاً بالمثل، هو معنى الحداثة ومفهومها.
ما هي الحداثة؟ هل يمكن أن نعرِّف الحداثة؟ سؤال أعتقد أنه صعب جداً. يكاد من المستحيل اليوم أن نجد تعريفاً للحداثة، حتى ولو ربطناها بالإنسان. إنما سأحاول أن أقدم – خاصة وأن الأستاذ حسن أوريد تحدث عن معطيات كثيرة في هذا الموضوع، وجلسات بعد الظهر ستتناول جوانب متعددة من موضوع الحداثة، - سأحاول أن أقدم بعض الملاحظات التي ستساعد على وضع الإطار العام لإشكالية الحداثة في الفكر العالمي، وبشكل أساسي في الفكر العربي. أقصد بعض الملاحظات التي يمكن أن تتوسع بالنقاش فيما بعد.
الحداثة تظهر لنا، بخاصة نحن العرب والبلدان التي لم تساهم مباشرة في إنتاج الحداثة، باعتبارها ثمرة أخيرة، منتجا جاهزا تتجسد في علوم، تقنيات. وفي أحسن الأحوال نراها كحدث طاغ. حتى المثقفين الرواد الذين ذهبوا في القرن التاسع عشر إلى أوروبا، لم يدركوا عمق هذا الحدث أو القطيعة التاريخية التي تمثلها الحداثة، فخلطوا بين الحداثة وبين الثقافة الغربية، فبدت في نظرهم تعبيرا عن نظام آخر، هو نظام الغرب الفكري والاجتماعي. ولا نزال نحن نعيد هذه الأفكار عندما نربط بين الحداثة والغرب أو ثقافته وخصوصياته، ولا نفرق بينهما. هكذا رأوا في ما هو حداثة نظاماً غربياً وقارنوه مع نظامهم الشرقي. وبسبب ذلك لم يبحثوا في أصل هذا الحدث الكبير الذي اسمه الحداثة، فبقي التاريخ الذي أوصل الغرب إلى ما هو عليه، تاريخ الحداثة، كله مغيباً عنا جميعا.ً ولا يزال مغيباً في فكرنا. لذلك أنا أقول أننا لا نزال في مجتمعاتنا نرى الثمرة ونقتنيها، ولكن لا نرى الشجرة التي أنتجت هذه الثمرة، ونحاول أن نزيد من اقتناء الثمار، والثمار تعني هنا الحداثة الجاهزة وبالتالي الاستهلاكية، أما الشجرة، شجرة الحداثة فهي تختلف كليا عن الثمرة وهي لا تزال غريبة عن أذهاننا. نحن نرى الثمرة على شكل علوم أو تقنيات أو حتى نظم اجتماعية ونظم سياسية ومؤسسات. فكلها تبدو لنا ثمارا جاهزة وناضجة للقطف. وهو ما نفعله بالفعل. من هنا أريد أن أشدد على بعض الأفكار.
الفكرة الأولى التي أود أن أثيرها هي أن الحداثة، بعكس ما تظهر في مرآتنا نحن، ليست شيئا ناجزا وكاملا أو مكتملا، ولد مرة وانتهى. إنها مسار مستمر معقد ومركب، يتضمن عناصر عديدة وكثيرة، متماثلة أو متباينة، من التحولات التاريخية، تنطوي على مراحل تقدم ومراحل تراجع، على خطوات قوية وأخرى ضعيفة، على أخطاء وتراجعات، على كوارث وإبداعات فذة في الوقت نفسه. هي تاريخ مليء بالتناقضات والالتقاءات والنزاعات والتوافقات، والحروب واتفاقيات التفاهم والسلام. فعندما أتحدث عن مسار تاريخي فهذا يعني في الوقت نفسه مسار مستمر لا يتوقف ولا يصل إلى هدف محدد مسبقا أو نهائي، كما يعني أنه مسار حي، متنوع ومتعدد المظاهر والأشكال والصيغ، قابل للتقدم والتراجع، للدخول في مآزق والعبور نحو قارات جديدة غير مكتشفة. فالحداثة بعكس ما نتصورها تماما في أدبياتنا الشائعة، ليست نموذجا ناجزا نشأ في أعقاب حدث طارئ، أو على أثر انفجار كبير وانقطاع تاريخي وحضاري نجم عنهما نظام اجتماعي وعقل واقتصاد ومجتمعات جديدة تماما ومتكاملة. هذه صورة خاطئة كلياً ولا تستطيع أن تقودنا إلى فهم الحداثة. الحداثة عملية تاريخية طويلة ومعقدة ومركبة ومتناقضة وليست دائماً متسقة ولا سعيدة ومسعدة. إنها بالعكس مسيرة مليئة بالأزمات وبالمعارك وبالتشنجات وبالصراعات، أي أيضا بالعذاب. لنتذكر فقط ما كتبه الأوروبيون في القرن التاسع عشر حول البؤس وشروط حياة الطبقة العاملة. ولعل الماركسية وأدبياتها، ومفاهيم الصراع الطبقي والديكتاتورية البروليتارية، تعطينا فكرة واضحة عن هذه الحداثة التي كانت تشكل مشكلة أكثر منها حلا، وعن هذا التحول التاريخي المعقد الذي جعلنا منه نحن نموذجا جاهزا وناجزا ومثاليا أيضا نتأمل فيه ونقيس عليه أمور حياتنا.
هدفي أن أقول أننا بقدر ما حولنا الحداثة إلى نموذج جاهز ومثالي جعلنا منها أسطورة، وحرمنا أنفسنا من القدرة على فهم أولياتها، وبالتالي القدرة على السيطرة عليها. ويبدو لي أننا لن نفهم جوهر الحداثة، أي لا جوهرانيتها في الواقع، ما لم نقتل أسطورتها، أي الأسطورة التي كوناها عنها في ذهننا وفكرنا. فنحن لا نزال نعيش في الحداثة ونتعامل معها كأسطورة، كمثال، وبالتالي نخفي أو نقطع على أنفسنا الطريق لنرى فعلاً حقيقتها، والديناميات القوية والمتناقضة الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي تكمن وراءها.
والفكرة الثانية هي أن للحداثة، بقدر ما هي عملية تاريخية، مستويات متعددة: فكرية، ثقافية، أخلاقية، سياسية، اجتماعية الخ... وهي ترتبط أيضا بأنواع مختلفة من النزاعات والصراعات اللصيقة بها والتي لعبت دورا كبيرا في تحديد اتجاه تطور النظم السياسية والاجتماعية عبر التاريخ الحديث.
لذلك يخطئ المرء عندما يفكر في الحداثة انطلاقا من مشاهدته اليوم لما هو عليه الوضع في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما من الدول الصناعية في القرن العشرين أو الواحد والعشرين. وبالتأكيد ستكون فكرة المراقب عن الحداثة مختلفة تماما لو نظر إلى هذه البلدان نفسها في بدايات القرن التاسع عشر، بل حتى قبل خمسين عاما. فستكون الأمور والمظاهر التي نراها مختلفة، وستكون انطباعاتنا عن الحداثة مختلفة أيضا.
الفكرة الثالثة هي أن الحداثة ليست واحدة، ولا يمكن أن تكون واحدة، ولكنها مسارات متباينة، ترتبط بعوامل البيئة والثقافة والظروف الجيوسياسية والاقتصادية. فهي بالضرورة تعددية. الأمور لا تتطور ولا تتحول ولا تتراكم بالصورة نفسها، وحسب المعطيات نفسها، في كل المواقع، وبصرف النظر عن أنماط التراث المختلفة التي تملكها المجتمعات.
باختصار، ينبغي أن ننزع في نظري عن أذهاننا تلك الفكرة التي تظهر الحداثة كما لو أنها نظام كامل متكامل، ثابت، متسق بين مستوياته العقلية ومستوياته السياسية والاجتماعية ومستوياته الاقتصادية. يجب أن نرى في الحداثة – ويمكن أن تكون هذه هي الرؤية الأساسية، أي ما أفهمه من الحداثة أو أيضا مفهومها عندي، - ورشات تاريخية مفتوحة. وعندما أقول ورشة فأنا أشير إلى عملية بناء لا يكتمل، وتتفاعل فيه عوامل متعددة، البيئة، البشر، التراث، الموارد، الوضع والسياق الجغرافي والسياسي، الفرص التاريخية والمعيقات، الخ... وعندما أقول مفتوحة فأنا أعني أنها تنطوي على عوامل تتحول باستمرار، تتقدم وتتراجع، على مستوى العلم، على المستوى التقني، على مستوى النظم الاجتماعية. نحن لا نصل إلى نتيجة نهائية في أي وقت، ولكننا نعيش في استمرار في إطار مراجعة مستمرة لأفكارنا، لنظمنا. هناك دائماً انتقادات، هناك دائماً إعادة نظر، هناك دائماً تجديدات. وما ينجم عن الحداثة هو ثمرة هذه الصراعات وهذه الورشات. عندما أقول أفتح ورشة يعني أفتح مجالاً للعمل وللجهد وللتأمل، الخ...
خلال هذه التحولات الطويلة، المتراكمة، التعددية، المتناقضة باعتقادي هناك ثلاثة ورشات كبيرة، أو ثلاثة محطات أساسية نستطيع أن نبلور حولها رؤيتنا لهذه الحقبة من التاريخ التي أعقبت القرون الوسطى، والتي سميناها حداثة، وكان يمكن أن نسميها شيئاً آخر. يعني أن الحداثة هو اسم أطلقناه على مجموعة هذه التحولات.
في اعتقادي هناك ثلاثة محاور رئيسية تبلورت من حولها صراعات الحداثة وديناميات الحداثة وثمار الحداثة.
المحور الأول هو مسألة العقل، العقل في مقابل النقل. فالنقل كلمة مرتبطة بكل ما يتعلق بالتراث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي: بشكل خاص الأديان السماوية. لأن هذه الأديان تعتمد بالدرجة الأولى على النص الديني الثابت، وعلى المعرفة المرتبطة بالمعرفة الغيبية، المعرفة الدينية المنزلة أو المستمدة من الوحي. وبالرغم من وجود اختلافات عديدة بين المسيحية والإسلام واليهودية في تصور مكانة النص والعلاقة بهذا النص، لكن المعرفة الدينية تبقى فيها جميعا معرفة مقدسة ومطلقة، تعتمد على وحي صادق أو مصدر مطلق. مقابل ذلك نشأت فكرة العقل هنا أيضاً مرتبطة بما نسميه بمرحلة النهضة والإنسانية humanisme والتي ابتدأت عندما بدأ الناس يفكرون أن المخرج من الاحباطات الدينية والمذهبية ومن التخبط السياسي والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، التي كانت تعيشها أوروبا في القرون الوسطى، ربما كان بالعودة إلى تراث القدماء العقلي اليوناني والروماني. أي العودة إلى الإنسان، إلى العقل وإلى تراث العقل والفلسفة، أو الحكمة العقلية التي عرفها الأوروبيون لفترة طويلة من خلال الترجمات العربية، وبدأوا في لحظة من اللحظات يبحثون عن حلول لمشاكلهم الكبرى وتطلعاتهم في تراث الماضي، ويعكفون على قراءته وعلى تعلم اللغات القديمة التي كتب بها أيضا. مفهوم العقل لم تنتجه الحداثة. تراث العقل يعني الفلسفة اليونانية بالدرجة الأولى، ثم التراث القانوني الروماني وكذلك رمزه أرسطو، لم تنتجه الحداثة، وإنما أعادت اكتشافه واستعادته. كان موجودا حتى قبل فلسفة اليونان. إنما في إطار إعادة إكتشافه راجعت مفهومه جذريا، ثورته، وأعادت البناء عليه. وهذا هو الجهد الرئيسي الذي ميز عملية النهضة، أي إعادة النظر في وسائل المعرفة. استعادة العقل لبعض الترجمات الفلسفية واليونانية أخذ شكلاً آخر مع فلسفة ديكارت وكوجيتو"أنا أفكر إذن أنا موجود" الذي يركز على مفهوم البديهة العقلية. أهمية هذا الكشف أن الإنسان يستطيع بعقله نفسه أن يفتح آفاقاً معرفية جديدة. كان ذلك مصدراً لثورة في المعرفة، وقبل ذلك في النظرة للمعرفة. هكذا أصبح بإمكان الإنسان الذي كان متلقيا فحسب للتعاليم والأحكام والمثل الإلهية، أن يكون هو نفسه مصدر معرفة يقينية، علمية، عقلية، ثابتة ومقبولة. أصبح صانعا للمعرفة، وهذه الكفاءة والملكة الجديدة التي تملكها الإنسان مرتبطة بضبط أدوات التفكير والبحث ومناهجهما، أي ببلورة أدوات تفكير جديدة، بوضع "لوجيسييل" أو برنامج معلوماتي جديد للعقل، غير البرنامج الأول الذي وضعه له اليونان. كل الشعوب كانت تؤمن بالعقل. وكلمة العقل ليست اكتشافاً يونانياً كما قلت. لكن ما كان أضافه اليونان هو "لوجيسييل"، أي برنامج معلوماتي ينظم طريقة عمل هذا العقل ووسائله وغاياته. أي في الواقع ميدان جديد وطريقة جديدة لاستخدام العقل: الفلسفة، مبادئ النظر العقلي الدقيق.
تلقفت حقبة النهضة مفهوم العقل بمفهومه الجديد، ما بعد الأرسطي الصوري. وعلى أساسه أعيد بناء المعرفة وظهرت فعلاً ثورة علمية حقيقة. الثورة العلمية نشأت من هنا. فالانفجار العلمي والاكتشافات العلمية نشأت وتطورت، طبعاً بشكل أساسي، أولاً عندما تم التمييز بين المعرفة والحقيقة. بين العلم والدين. وأصبح هناك اقتناع كامل بأن المعرفة لا يمكن العثور عليها في الطبيعة ولا في النص الديني. المعرفة ينبغي بناؤها، تكوينها، الشغل عليها. والشغل عليها يعني ضبط العقل في عمله وتحديد أسس التفكير العقلي المعتمد على ضوابط واضحة وبديهية كما عبرت عن ذلك فلسفة ديكارت أو منهجه. ثم انتقلنا إلى فكرة أوسع كانت أيضاً خصبة، وهي فكرة فرانسيس بيكون والمتمثلة في كون الخبرة والتجربة هي أيضاً أساس التقدم العلمي. وهذه كانت أساس الثورة العلمية. ما قاله بيكون بشكل سريع وبسيط جداً هو انه يجب أن نبحث عن المعرفة في الكشف عن قوانين الطبيعة، أي في الممارسة العلمية، في البحث والتجريب، وليس في النصوص القديمة. نقد حتى الخطوة الأولى من خطوات النهضة وقال: ليس في النصوص اليونانية والرومانية نستطيع أن نجد الحقيقة. هنا قطعنا مرحلة ثانية إذ لم نميز المعرفة عن الحقيقة فحسب، ولكننا أصبحنا نميز المعرفة الموضوعية المستمدة من التجربة عن المعرفة النظرية التجريدية، التأملية. والعلم الحديث طبعاً تطور ونشأ على أساس هذه الأفكار الجديدة في بناء مناهج البحث العلمي، وتنظيم التجربة، وشيئا فشيئاً حصلت الخطوة الثالثة التي يمكن أن نسميها la sécularisation du savoir، أي بلغة عربية مفهومة: تجريد المعرفة من بعدها السحري والأسطوري. هكذا أصبحت المعرفة العلمية زمنية، صناعية، ليست مستقلة عن المعرفة الدينية ومتميزة عنها في أسس بنائها فحسب ولكن أيضا عن جميع المعارف المنقولة والحكم المقدسة والأساطير الموروثة الماضية. هذه في اعتقادي أول ورشة لا زالت مفتوحة ولم تنته بعد، من ورشات الحداثة العديدة. وهي لا تزال ورشة لأن الورشة تعني أننا لم ننجز العمل بعد، نحن منهمكين فيه، لا نزال نناقش حتى اليوم معنى العلم ومفهوم العلم، ولا تزال العلوم تنتقد نفسها وتراجع طرقها ووسائلها ونتائجها. لا نزال نحن مثلاً في العلوم الاجتماعية نقول: هناك أزمة في العلوم الاجتماعية، ونعترف بأننا لا نعرف شيئاً تماماً عن المجتمع، أو ليس بإمكاننا إدعاء معرفة يقينية وقابلة للنقل والتعميم، بالرغم من قرنين تقريباً (التاسع عشر والعشرين) من البحث في الإنسان، في الأنتروبولوجيا والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ، الخ... وبالمثل، ليس هناك أي اقتصادي يستطيع أن يقول لنا اليوم ما هي السياسات الدقيقة التي إذا اتبعناها نضمن أن نخرج من الأزمة الاقتصادية أو من التخلف، الخ... لا نزال في بحث مستمر رغم كل ما حصلناه من تقدم.
الورشة الثانية التي كانت مهمة جداً، والتي ارتبطت أيضاً في بدايتها بمرحلة النهضة وبحقبة النـزعة الإنسانية، هي عودة اكتشاف الحق: le Droit، وما ينبع منه من رؤية قانونية جديدة، كأساس لبناء عدالة اجتماعية. فالحق لا يعني الشريعة، لأنه لا يرتبط بالانصياع لأحكام منصوص عليها أو مطلوب تطبيقها من قبل سلطة إلهية عليا فكرت في العدالة مرة واحدة وإلى الأبد. إنه جزء من التفكير المستمر في العدالة الإنسانية، تفكير المجتمع نفسه بعدالة أسسه، وصلاحيتها. إنه نابع من المجتمع المسؤول عنه وعن تطويره وتطبيقه، لا من مصدر آخر. فهو ينبثق من الاعتقاد بأن على المجتمع "الجماعة" ككل واجب هو تحقيق العدل، وبالتالي بناء مفهوم الحق والواجب، حق الأفراد وحق الجماعة معا، وتكوين القوة العامة التي تتكفل بتطبيق القانون أو الضابط له، وتأمين احترامه، هي التي تثب وتعاقب، وتتدخل في النـزاعات بين الأفراد، ليس على سبيل تعويض الشخص الذي أسيء إليه أو معاقبة الجاني، ليس على أساس الردع وإعطاء العبرة للآخرين، ولكن على أساس بناء قاعدة النظام العام، وتطوير ما لم تعرفه المجتمعات في الماضي، فكرة الحق الخاص والعام، حق المجتمع الذي يشكل تأكيده واحترامه أساس احترام حقوق الأفراد. الحق في هذا المجال هو جزء من منظومة الدولة والسياسة المدنية الحديثتين معا ولا وجود له خارج دائرتهما.
هكذا حمل المجتمع مسؤوليته في ضبط النظام من داخل صفوفه ولتحقيق غاياته، كمجتمع، لا على سبيل الطاعة أو التوافق مع مطالب الدين، أي الغايات التي ترسم له من خارجه، ولكن تلك التي يرسمها هو نفسه لوجوده. وبذلك تحول إلى مجتمع سياسي أيضا بعد أن كان مجتمعا دينيا أو لاهوتيا في طبيعة السلطة والصلاحية التي تحكم نظامه. وفي هذا المخاض استقل مفهوم الحق، بالمعنى المدني القانوني، وتطبيقه معا عن مفهوم الشريعة، فصار نظاما إجرائيا متكاملا يضبط نفسه من خلال آليات واضحة تعبر عنها درجات المسؤولية ومرتباتها، ولا يعتمد في وجوده على الإيمان والورع الشخصي المتفاوت عند الأفراد بالضرورة، ولا أيضاً على مزاج أو معرفة فقيه بالدين أو عالم دين أو سلطان. كما لا يحتاج لتحصيل الحكم وتطبيقه على التأويل الذاتي بالضرورة لكتب الدين أو الحكمة. فالحق كما يتجسد عبر النصوص القانونية الحديثة هو نص مقدس جديد، لكن مفتوح للتعديل والتغيير من خلال آليات السياسة المدنية. وهو ما سمح بإعادة بناء مفهوم العدل الانساني وتطوره أيضا، بموازاة تطور القيم والتطلعات الإنسانية. لقد أصبح حق مقدس ومفتوح على التاريخ في الوقت نفسه. وقد شكل العمل على فكرة الحق والعدل الإنساني وتعزيز سبل تطبيقه ورشة عمل ثانية أساسية في الحداثة.
ليس هناك شك هنا أيضاً في أن الأوروبيين لم يكتشفوا مفهوم الحق والقانون. لقد أخذوه عن الرومان كما أخذوا العقل وفلسفة العقل ونظام العقل عن اليونان. والرومانيون هم الذين كانوا قد طوروا بالفعل نظرية الحقوق القانونية وجعلوا منها علماً مستقلا قائماً بذاته. حسب مفكري القرن التاسع عشر، يقوم مفهوم القانون/الحق الجديد على أربعة عناصر رئيسية:
العنصر الأول التحكيم، هناك مؤسسة رسمية معروفة تحكم بين الناس، تأخذ على عاتقها أن تحكم في الصراعات.
العنصر الثاني هو أن هذا التحكيم في النـزاعات ليس قضية مزاجية، وليس قضية مرتبطة بإرادة الأفراد المتنازعين. هناك مؤسسة ستتدخل وتضمن الحكم، بصرف النظر عن إرادة الأفراد المتنازعين.
العنصر الثالث هو أنه لا بد أن يكون هناك تحديد أو تعريف مسبق وواضح ومعلوم للجريمة، للجناية، للجنحة، الخ... بحيث لا يمكن أن يختلف الحكم على جرم واحد باختلاف وضع مرتكبيه.
والعنصر الرابع هو أنه لابد أن يكون هناك مقاضاة بمعنى عقوبة وتعويض للتوصل إلى حل مرض للنـزاع.
هذه العناصر الأربعة خلقت نظاماً جديداً للتفكير في مسألة الحق والقانون. وعلى أساسه بنيت الدولة الحديثة. فقد نشأت بالارتباط بمعنى الحق القانوني كمفهوم جديد. القانون كمفهوم وضعي يقوم على فكرة إمكانية تحقيق العدل بصرف النظر عن طبيعة النصوص المقدسة وتاويلها وايمان الناس بها. فهو حق موضوعي، أي يمكن التحقق من شروطه بشكل مادي وعقلاني، من خلال النصوص والإجراءات القانونية الدقيقة، بعكس ما يتسم به العدل الديني من ذاتية بسبب اختلاف تاويل الفقهاء ودرجة استيعابهم للنص وقدرتهم على استخراج الأحكام الصحيحة منها وفهمهم لطبيعة الجرم. ولذلك أنا أقول كانت هناك شريعة في التاريخ الإسلامي، وكانت الشريعة مسيطرة كلياً، وكان هناك فقهاء متعددون يطبقونها، وأحيانا بإخلاص. وهذا هو الذي حفظ للأمة الإسلامية الحد الأدنى من الاتساق الذي سمح لها بتكوين حضارة وبالاستمرار. لكن لم يكن هناك قانون، ولا مؤسسة قانونية بالمعنى الحديث للكلمة. ذلك لأنه لم يوجد مفهوم للحق الإجرائي، الحق الطبيعي المولود مع الإنسان، والذي لا يملك أحد حق التصرف فيه، بما في ذلك الدولة والسلطان. كان الفقيه في كل بلد يحكم كما كان يملي عليه ضميره وعلى قدر تمكنه من فهم المقاصد الشرعية وصدق إيمانه ودرجة تفقهه في الدين. لم يكن هناك حق عام منصوص عليه ودقيق. وعندما حاول أحد الخلفاء أن يأخذ موطئ الإمام مالك ليجعل منه قانوناً، أي نصا معتمدا من قبل السلطة العامة، وبالتالي مطبقا في كل نواحي المملكة، رفض الإمام مالك نفسه العرض، وقال إنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية الحكم باجتهاداته، يوم القيامة وأمام الله، ويدفع ثمن الأخطاء التي يمكن أن يكون ارتكبها في تأويله، أو ثمن الظلم الذي يمكن أن يرتكب باسمه. فكرة الحق القانوني المستقل عن الدين والمرتبط بالسلطة العامة، سواء أكانت سلطة ملكية أو سلطة ديمقراطية، كانت لا تزال بعيدة عن أذهان المسلمين، بقدر ما ارتبطت الحقوق في تقاليدهم بالعبادة لا بالواجبات والمسؤوليات. أو بالأحرى بالواجبات والمسؤوليات تجاه الخالق وليس تجاه المجتمع. ولذلك أيضا ما كان من الممكن لمجتهد أن يقبل بتطبيق فقهه أو الأحكام التي استمدها من النص القرآني على الأفراد، بصرف النظر عن دينهم ودرجة إيمانهم. فهي لا يمكن أن تطبق على غير مسلم من دون أن يكون هناك ظلم، فهي مرتبطة مباشرة بالايمان وجماعة المؤمنين. وهي تكملة للدين لا شرطا لقيام مجتمع مختلف عن الجماعة أو الأمة الدينية أو العقيدية.
فكرة القانون الموحَّد المنظِّم للصراعات والعلاقات، كان هو أساس نشوء الدولة الحديثة. لا يمكن للدولة الحديثة أن تنشأ بدون مثل هذا القانون.
الورشة الثالثة والتي أعتقد أنها لا تزال أيضاً مفتوحة هي البحث في وضعية الفرد-الذات. أي الفرد ليس بمفهوم الفردية والمصلحة الذاتية، ولكن بوصفه ذاتا واعية أي حرة، مريدة، وبالتالي أيضا قابلة للصياغة والتكوين والمساءلة القانونية والأخلاقية. وهي مرتبطة بفكرة الشخص الذي لا يمكن رده إلى نفس حيوانية خاضعة للغريزة، يأتي الدين أو الحكمة المقدسة ليهذبها ويشذبها، ويخفف من وطأة الغرائز على الفرد. الفرد وعي وضمير وليس غريزة. هذا هو المنطلق الجديد لبناء الشخصية وإعادة النظر في مفهوم الكائن المنتمي للنوع الإنساني. وفي ما وراء ذلك وحدة الإنسان، أي إلغاء المرتبيات التقليدية التي تضفي المشروعية على التمييز بين فئات الناس، العامة والخاصة، الذوات والعوام، والأكابر والأرزال. فأنا إنسان، أي ذات عاقلة وقادرة، مثل الآخر الانسان، وأشخاصنا يتساوون في الحقوق والواجبات. هذا يعني اعتراف الجميع ببعضهم كأنداد، لا كأسياد من جهة وأزلام ومحاسيب من جهة ثانية. وهو ما يفترض اعتراف الجميع بحقوق الجميع، وتجريم المس بهذه الحقوق أو القبول بمعاملة فئات من الناس كما لو كانوا أقل أهمية أو قيمة إنسانية. ليس هناك ناس أعلى من ناس أو أبدى منهم. هنا تبدأ الثورة الحقيقية، عندما نصبح جميعاً ذواتاً متساوية، وتصبح مقولة السيد المطبقة على الجميع حقيقة واقعة وممارسة يومية. في المجتمعات الحديثة، كل شخص سيد، حتى الشحاذ، حتى المتسوِّل. فهذا هو مظهر الاعتراف الرسمي، القانوني، بالمساواة المطلقة في الإنسانية.
فالفردية الجديدة تعني أولا تحويل جميع أفراد الجماعة إلى أسياد، أي متساوين. لا أحد يملك سابقة أو أفضلية على آخر. لا بالوراثة ولا بالمعرفة ولا بالعلم ولا بالثروة ولا بالحسب والنسب. فليس بين أعضاء المجتمع الحديث من هو تابع ولا إمَّعة ولا زلمة (نحن في الشرق رجل نقول له زلمي أي الزلمة، التابع أو المحسوب على غيره من الأسياد). هذا كله من تقاليد القرون الوسطى والثقافة التقليدية. وتعني ثانيا أن كل فرد هو موطن ممكن وواجب لوعي مستقل ولفعل حر ومريد، أي لتجربة إنسانية نوعية. وهو بالمقابل مسؤول ليس عن نفسه فقط وعن أبنائه، ولكن عن مصير الجماعة نفسها وعن شروط الحياة فيها. عليه واجبات عامة وليست خاصة فحسب. لكن جعل الوعي والإرادة والمسؤولية مناط الفردية يرتب مهاماً على النظام العام، على المجتمع في تعبيره الكلي، على الدولة التي لا وجود لهذا المجتمع السياسي من دونها. وهذه المهام هي تأهيل الفرد نفسه، فهو لا يولد مؤهلا، يولد حرا، لكنه لا يعرف معنى الحرية، يولد قابلا للتعلم والفهم والمعرفة، لكنه يحتاج إلى معلمين ومربين. الذاتية الفردية أو الفرد كذات فاعلة لا يولد كذلك، إنه يبنى، يصنع. كي ما نستطيع المراهنة على وعيه وحسه بالمسؤولية وأدائه الاجتماعي، كإنسان ثم كمواطن، ينبغي أن نبني وعيه ونعلمه معنى الحرية والمسؤولية، أي ينبغي أن ننمي فيه هذه الإرادة والشعور والوعي والضمير. كل هذه مفاهيم مترابطة تشكل محاور الفرد كذات، بني عليها مفهوم المجتمع الحديث. وليس لهذا المفهوم للفردية أي علاقة بما تتبادله الإيديولوجية الشائعة في بلادنا عن الفردية كموطن للأنانية. بالعكس، الفردية هنا هي خلاف الأنانية ونقيضها. فهي ملتصقة تماما بالمسؤولية والمشاركة في المصائر العمومية. في المجتمعات القديمة الفردية تساوي الأنانية بالفعل، لأن الفرد لا يهتم إلا بنفسه وأهله، وليس لديه أي مسؤولية تجاه الجماعة ككل، ولا مجال للتعبير عن هذه المسؤولية طالما أن السياسة محتكرة من قبل طبقة ارستقراطية ثابتة أو سلطان مطلق السلطة. النافذة الايجابية الوحيدة التي يطل منها الفرد على الآخر الجمعي ويشعر بمسؤوليته في النظام القديم هي نافذة الإحسان والتعاطف الإنساني والديني وما يرتبط بهما من واجب الصدقة والزكاة. لكن التماسا لرضى الله، لا انطلاقا من مفهوم المسؤولية الجماعية أو الاجتماعية.
من هنا لا قيمة لما يقال من أن القيم السائدة في المجتمع الحديث الغربي هي قيم الفردية، بينما ما يسم مجتمعاتنا هو القيم الجمعية. العكس هو الصحيح تماما. أفرادنا لا يرون المجتمع إطلاقا خارج نطاق دائرة الأهل والعشيرة، وفي أحسن الحالات فئات المحرومين الذين تحل لهم الصدقات. فالقيم الجمعية هنا متعلقة بالعصبية والقرابة أو الدين، لا بالمسؤولية الاجتماعية والانهمام بمصير المجتمع ونظامه ككل. وهذا ما يفسر ضعف الحوافز السياسية في مجتمعاتنا إلى اليوم رغم اندراجها منذ قرنين في منطق الحداثة السياسية.
النظر إلى الفردية باعتبارها لبنة البناء الاجتماعي السياسي الحديث هي التي تفسر أيضا الاستثمار الكبير الذي تقوم به السلطة العامة في تكوين الفرد وتأهيله علميا وتربويا واجتماعيا. ومع دخول نظم التربية والتعليم والتأهيل الحديثة تحولت المجتمعات تحولا كبيرا وولد مجتمع جديد بالفعل، مجتمع الرابطة القومية، أو الأمة التي تسمح فيها التضامنات السياسية بتجاوز نمط التضامنات العصبوية التقليدية. مجتمعات القرون الوسطى مجتمعات قائمة على العصبية. العصبية الدينية، من ملة واحدة، العشائرية، الإثنية، أحياناً أيضاً عصبية الأحياء والقرى، الخ... بينما المجتمعات الحديثة مجتمعات سياسية، وترتد إلى الماضي وأساليبه بسرعة عندما تغلق باب الحياة السياسية على الأفراد.
هذه الورشات الثلاثة للحداثة لا تزال قائمة، لم ينته العمل بها بعد، لا تزال هناك صراعات ونزاعات حول العديد من الخيارات التي توجه نشاطها. حتى في البلدان الحديثة جداً، حتى في البلدان الأوروبية التي هي مصدر الحداثة، لا يزال هناك نقاش ومحاولة لتطوير المعرفة الإنسانية العلمية. لا تزال هناك شكوك كبيرة حول صلاحية النظم السياسية التي خرجت منها، بما في ذلك حول محتوى الديمقراطية وحدودها وقدرتها على تجسيد المثال الذي رسمه الفكر الانسانوي والقانوني والسياسي. لا تزال هناك ملاحظات كثيرة أيضاً حول مسألة وجود الفرد الذات، في عالم يخضع أكثر فأكثر لسيطرة الموضوع والأغراض المادية، وتفقد فيه المجتمعات نفسها قسما كبيرا من هامش مبادرتها وسيادتها السياسية لصالح القوى والشركات وشبكات المصالح الخفية التي تعمل على مستوى القارات، بل العالم بأكمله، ويكاد يستحيل على أي دولة أو سلطة عمومية ضبط نشاطاتها أو التحكم بها.
قبل أن أنهي، هناك فكرة تمسنا نحن كعرب. نحن نتساءل دائماً عن وضعنا في الحداثة. في اعتقادي ليست المجتمعات العربية مجتمعات القرون الوسطى على الإطلاق. هي مجتمعات حديثة، أو تخضع لمنطق الحداثة الذي ذكرت، ولو كان ذلك ضمن منطق التناقضات والتشوهات المرتبطة بهذه الحداثة الخاصة بنا. وما نعيش اليوم هو مظهر من مظاهر هذه الحداثة التي سميتها في أحد كتبي "الحداثة الرثة" بمعنى الحداثة التي لا تملك كتاب مفاتيحها في جيبها، وإنما هي مجرد استهلاك متزايد لثمرات الحداثة الناشئة والمتطورة خارجها. لم نستطع أن نزرع شجرة الحداثة، ولا نفتح ورشات لها خاصة بنا وبشروط وجودنا، لا ورشات المعرفة الزمنية، المدنية، الإنسانية، البحث العلمي، التطور الفكري الحر. ولا ورشة الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون. نحن لا زلنا إلى حد كبير في نظري مجتمعات حديثة تخضع لسلطة الأعيان والأتباع. ولم نطور أيضاً بما فيه الكفاية ربما مسألة الفرد كذات، أو الفردية الحرة والمسؤولة. وكما يقول اليوم ناقدي الحداثة عن حق "بدل أن ننمي الذات الفردية، أي الضمير-الوعي-المسؤولية-الإرادة، داخل الفرد، نشأت عندنا الفردية المنفلتة من أي عقال، أي الفرد الأناني بالمطلق، الذي يرفض التفكير بالآخر، سواء أكان فردا أو جماعة، بل يعجز عنه حتى لو حاوله، ولا يفكر إلا بالمصلحة الشخصية. نحن نعيش الحداثة لكن في صورتها المنحطة. وهكذا تحل الفردية الأنانية محل الإنسان الحر المسؤول والمشارك في المصائر العمومية. ودولة الحق والقانون إلى دولة تسلط الفئة البيروقراطية التي تحكم لصالحها. ودولة العقل التي تعمل للصالح العام وتأخذ بيد الأفراد لتجعل منهم أنداداً فاعلين ومتفاعلين، بالتربية والتعليم والتأهيل والبحث العلمي، إلى إيديولوجية عقلانوية تستخدم في تبرير سيطرة النخب الاجتماعية على مجتمع بقي إلى حد كبير معزولاً أو مستبعداً من آلية التطور العقلي والتعليم والتربية الحقيقية.
أنا أعتقد أن ما نعيشه لا يعبر عن كوننا لا نزال خارج الحداثة، كما ينحو عدد متزايد من الباحثين المستشرقين والمستغربين إلى القول، وإنما يجسد بالعكس أزمة هذه الحداثة (العربية)، أو النسخة المشوهة منها. فالمشكلة لا تكمن في التراث الماضي ولا في الدين، وهو نقاش تجاوزناه منذ زمن طويل، حتى لو استعادت الأزمة بعض عباراته ومحاوره، وإنما في نمط الحداثة الرثة الذي اخترناه وأنتجناه. وأقول أننا تجاوزنا النقاش الديني، لأنني أعتقد أنه لا أحد يتصرف اليوم – بما في ذلك الحركات الدينية- بدافع ديني، أي بدافع الغيرة على الدين وفي سبيل نشره، رغم استثماره الدين، وإنما لتحقيق أهداف وقيم وغايات سياسية، هي في قلب الحداثة، ولكن بطريقة مواربة.
لكن أزمة الحداثة ليست مقتصرة علينا فقط. اليوم نحن نتحدث عن أزمة الحداثة حتى في البلدان التي صنعت الحداثة، أو التي تعيش في قلبها وتشكل موطنها الأصلي. وتتجلى أزمة الحداثة –كما نقول نحن اليوم- وهناك من يتحدث كما تعرفون عن ما بعد الحداثة - في أن مجموع الورشات التي افتتحناها باسم الحداثة، المعرفية والسياسية والقانونية، في سبيل تحقيق انعتاق الإنسان، وانعتاقه على مستوى الفرد والجماعة معا، أي تكوينه كسيد حر، وكأمم سيدة أيضا ومتساوية، لم تقدنا إلى الغاية المرجوة منها. بل إن الآثار ا لجانبية لهذا التحرير المفترض للإنسان قد تجر علينا استلابا ودمارا يتجاوز ما كنا نعتقد أننا قادرين عليه. نحن اليوم ضحايا القوة التقنية خاصة عندما تتزاوج مع إرادة الحرب والتوسع الإمبريالية. ونحن اليوم، أقصد الإنسانية بأكملها، ضحية التلوث المهلك للبيئة المادية والمعنوية معا، وهناك ممن يتحدث عن خطر تدهور كبير ولا رجعة عنه للحياة على كوكب الأرض إذا لم نسرع في السنوات العشر القادمة لتفادي آثار الإشعاعات الحرارية. ونحن نعيش خطر إفساد الديمقراطية وتفريغ الحريات الفردية والعامة من محتواها مع نمو قوى عالمية مادية واجتماعية خفية لا تخضع في سلوكها لأي قانون، ومع سيطرة الأنانية القومية. ولا يزال خطر بناء نظم تخضع المجتمعات، بمناهج عقلية، أي بفضل ما أسماه فلاسفة مدرسة فرانكفورت العقل الأداتي، أو الوسائلي الذي يحكم بغايات مختلفة عن الغايات التي حركت الحركة الإنسانية، أو الإنسانوية في البداية، على شاكلة النظم الشمولية الشيوعية والنازية، متربص بنا في أكثر من زاوية ومكان.
كل ذلك يدفع اليوم إلى التساؤل حول مصير الحداثة ومضمونها، وإلى الشك بمستقبلها، ليس عند الحركات الإسلامية كما نظن فحسب، وإنما عند قطاعات عريضة من الرأي العام الديمقراطي الحديث نفسه. هل لا نزال نعيش بالفعل حقبة الحداثة؟ يطرح مفكرون كثيرون غربيون اليوم هذا السؤال، أم أننا تجاوزناها ودخلنا في مجتمع التفكك والفرديات المغلقة والأحلام الشخصية والمشاريع الخاصة، أي كل ما ينفي ما قامت عليه الحداثة الكلاسيكية من أساطير فلسفية وسياسية وقانونية ملهمة؟ لكن ما هو موقعنا نحن العرب من كل ذلك؟ هل نحن أيضاً نواجه الأزمة نفسها أم نواجه مسألة أخرى؟ في اعتقادي أن أزمة الحداثة التي أنجبت ما بعد الحداثة في أوروبا، أنجبت عندنا شيئاً أسميه ما تحت الحداثة: نكوص إلى نظم وأشكال تنظيم وأشكال تفكير سابقة على الحداثة. والسبب كما ذكرت أن حداثتنا بقيت استهلاك ثمار ومنتجات أكثر مما كانت تربية لشجرة وضعت بذرتها وامتدت جذورها عميقا في تربتنا، وانطلقت فروعها وأغصانها نحو السماء. من هنا، من فكرة إعادة غرس الشجرة لا استهلاك الثمرة، ينبغي ويمكن للعرب الإنطلاق من جديد، لا في سبيل تكرار مسار دخل هو نفسه في مآزق لا تنتهي، وإنما في سبيل بناء أفق جديد للحداثة ذاتها. مهمتنا إذن ليست صغيرة، والوصول إليها سيحتاج لا محالة إلى عقود من التعب والاجتهاد والكفاح الفكري والعملي معا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire