الاتحاد 14 شباط 07
المجتمع ليس كتلة أفراد مجتمعين بفعل الجغرافية، هو أكثر من ذلك بكثير. إنه نظام يوحد هؤلاء قبل أن تجمعهم الجغرافية.
ويعني النظام استناد العلاقات بين الأفراد والمجموعات على أسس وقواعد معروفة وثابتة ومقبولة وشرعية تقوم على أساسها مؤسسات ثابتة، تتجاوز النوايا والأمزجة الشخصية، وتضمن اتساق أفعال أفراده وتماسكهم وعملهم المشترك. وهو ما يضع للنظام الاجتماعي قيما مرجعية ومعايير للعمل واهدافا توجه الأفراد والفاعلين ورموزا توحد مشاعرهم وتوقعاتهم، يشكل تمثلها واستبطانها جميعا والمشاركة فيها اندماجا في المجتمع وحياة فيه.
ويبدو لي أن ما تعاني منه مجتمعاتنا اليوم، وفي المشرق على وجه الخصوص، غياب هذا المشروع المجتمعي الناظم. فهي تعيش في حالة من الفوضى الشاملة، أي اللانظام. وأصل هذا اللانظام، أو الفوضى في القيم والقوانين وقواعد العمل، هو انفراط عقد نموذج الدولة الحديثة التنظيمي. فالنظام الذي عرفناه في القرنين الماضيين قام على تبني مشروع الدولة الحديثة، بما يضمره من مؤسسات وقواعد عمل وقيم ومعايير وغايات خاصةن ومن مهام اجتماعية لم تكن تعرفها الدول القديمة. وهو نموذج مشروط بقيام السلطة على أسس قانونية، وفي مرحلة أبعد، على أسس المشاركة الفردية لجميع الأعضاء في هيئة واحدة سياسية.
لم نعرف نحن الدولة بالمعنى الحديث. للأسف نخلطها بمعنى السلطة المركزية التي تمد نفوذها فوق رقعة جغرافية موحدة لا يجمع بين سكانها بالضرورة جامع. وهو ما كانت تمثله دولة السلطنة والامبرطورية التي تشير إلى قيام سلطة مركزية، تتحكم من خلال أجهزتها بالمجتمع من فوق وتعمل على إخضاعه لحاجات بناء السلطة الارستقراطية وخدمة أهدافها الخاصة. السلطنة لا تهتم بالناس. وليس لها مشروع خاص بتحضيرهم وترقية شروط حياتهم. هذا نتاج الدولة الحديثة والفلسفة السياسية التي استندت إليها، والفكرة التي كونتها عن نفسها بوصفها دولة انعتاق الفرد، وتحرير الجماعة، وتكوين المواطنية كنموذج للشخصية الحرة السياسية المنطبقة على كل فرد تابع للدولة.
لكن الدولة الحديثة نشأت في سياق التفاعل مع الغرب، سواء عبر اكتساب القيم السياسية والفلسفة الحديثة، كما حصل في عصر النهضة أو بالتأثر عبر الفترة الاحتلالية والاستعمارية بهذا النموذج الخاص بدولة القانون والمؤسسات التي تعرفتا عليها من خلال الإدارة الاستعمارية.
ليس هذا بالأمر المستهجن ولا الغريب، ولكنه سنة التطور في جميع مراحل التاريخ. المكتسبات الحضارية تنتقل بالاقتداء والتأثر والتفاعل السلبي والايجابي بين الشعوب والمجتمعات. وهو ما حصل عند جميع الشعوب الأخرى بما فيها الأوروبية. لأن شعوب أوروبة لم تصل إلى الابداعات السياسية في الوقت نفسه وبشروطها الخاصة أيضا. بل هو أمر لا يزال سائرا حتى اليوم. أوروبة تنقل عن أمريكا والعكس.
ولم يكن هناك ما يمنع تطور مفهوم الدولة الحديثة وترسخه في تربتنا المحلية ونجاحه، لا في ثقافتنا الماضية ولا في ديننا.
حصل تقويض مشروع الدولة الحديثة في المنطقة وتركنا في العراء لسببين:
السيطرة العميقة والممتدة والكلية للغرب على المنطقة، وحرمان الدولة المستديم من عنصر السيادة الذي هو روحها المحرك، وقاعدة تطورها بوصفها مؤسسة مستقلة ذات فكرة عن نفسها. أي قتلت روح الدولة. وسبب ذلك الوضعية الجيوستراتيجية الحساسة للشرق الاوسط من نواح عديدة: جيوغرافية وسياسية واقتصادية ونقطية وأخلاقية مرتبطة بالالتزام الغربي بحل المسألة اليهودية التاريخية ومأساة اللاسامية في المنطقة العربية
والثاني، وهو ليس مستقلا تماما عن الاول، خيانة النخب الوطنية وقبولها العمل في خدمة الدول الصناعية الكبرى واستمرائها التسلط والاستبداد بعد ذلك. وهو ما حرم الدولة من مكوناتها الحقيقة وقوض فكرتها.
فلا هي دولة سيدة قادرة على أن تكون إطارا للتعبير عن إرادة جماعية حرة، ولا على تطبيق برنامج إصلاح إنساني عميق يرتقي بشروط حياة الكائنات البشرية المادية والمعنوية والأخلاقية. لقد بقيت كما ذكرت في مكان آخر وكالة سياسية أجنبية.
أما النظام القائم الذي هو شبه دولة أو الوكالة الأجنبية، فهو يعيش على قواعد ثلاث: التحالف العميق بين النخب المحلية والدول الصناعية الكبرى، على حساب تهميش الشعوب واستبعادها من السياسة. التعسف بدل حكم القانون. وروابط الولاء والتبعية بدل معايير الكفاءة والفاعلية المؤسسية.
لذلك عاد بنا تقويض الدولة إلى نموذج السلطنة أو السلطة المركزية التي تقوم على القوة والشوكة وتجير المجتمع لخدمة نخبها الخاصة. فالشعب خاضع لهم وعامل في خدمتهم، عبيدهم. وفي هذا السياق كان من الطبيعي أن يعود المجتمع إلى نماذج تنظيمه الذاتي التقليدية: الدينية والعشائرية والعائلية والقروية. مع فارق أن الدول الراهنة، حتى الرثة منها، ذات موارد وأدوات وإمكانيات استثنائية لا يمكن مقارنتها بما كانت تملكه الدولة التقليدية. وهي تستخدم كل ذلك في سبيل احتواء التنظيم الاجتماعي الأهلي، واختراق المجتمع وتحطيمه إذا شعرت بأنه يمكن أن يشكل بؤرة مقاومة أو ممانعة لسيطرتها التي تسعى إلى أن تكون شاملة، اقتصادية وسياسية وثقافية معا.
هكذا أضعنا مفهوم الدولة الحديثة، أي باختصار دولة المواطنين، دولة مواطنيها، لا دولة أصحاب السلطة فيها، ولم تعد لدينا القدرة على إنتاج التنظيمات الأهلية التقليدية من فرق العيارين والطرق الصوفية والهيئات الدينية المستقلة، التي كانت تساعد المجتمعات على تنظيم شؤونها الخاصة في ظل الدولة السلطانية. لم تعد لدينا دولة مؤسسات قانونية، ولا دولة ولاءات أهلية تقليدية. أصبحنا من دون نموذج تنظيمي فاعل، من دون نظام.
ولا يمكن الخروج من أي أزمة، ولا مواجهة أي ملف من الملفات التي نعرفها، في التنمية والاستقلال والأمن والاصلاح ومكافحة الفساد والتربية والتعليم والبحث والانتاج والتحرير، من دون الخروج من محنة الانفراط الاجتماعي أو الفوضى المدنية.
لا يمكن لنموذج الافتاء أن يقدم مخرجا لأزمة الدولة، لان الفتوى، بعكس القانون، خاضعة باستمرار لاجتهاد الأفراد والمجتمعات والجماعات، وتأويلهم حسب مستوى ثقافتهم وبيئتهم. هو ليس قانونا ولا يمكن أن يكون بديل القانون. والبرهان قائم في الفوضى التي تنجم عن سيطرة الميليشيات الاسلامية حيثما حصل ذلك في دائرة الحياة الاجتماعية، بل تعميم الصراع بين الفرق والقتل والاقتتال حتى داخل الفرقة المذهبية نفسها. وليس هناك دولة ايديولوجية يمكن أن تكون في الوقت نفسه قانونية، حتى لو كانت هذه الايديولوجية علمانية، كما بينت ذلك التجربة الشيوعية. الدولة إما أن تكون قانونية تحترم جميع أفرادها وتعاملهم بالتساوي وتضمن حقوقهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والدينية، أو تكون سلطنة تخدم القائمين على السلطة فيها، سواء أكانوا عصابات مافيوية، كما هو الحال اليوم في أغلب الدول العربية، أو ميليشيات إسلامية أو غير إسلامية.
الذين يغذون وهم الدولة القائمة على الفتوى الدينية والاجتهاد الشخصي، في مواجهة الدولة الحديثة القائمة على القانون، الذي هو بالتعريف تواضع اجتماعي، أي وضعي، يغشون الناس ويحرمونهم فرصة التفكير في المستقبل، وفي بناء النظم والمؤسسات الاجتماعية الوحيدة القادرة على إعادة النظام والأمن والسلام والتعاون وحكم القانون إلى المجتمعات. فالفتوى الصادرة عن الشريعة ضرورية ولا غنى عنها لقيام أي مجتمع، لكنها موجهة بالأساس للأفراد الذين تخاطب ضميرهم وايمانهم وتعتمد عليه لتدفعهم في طريق الخير والصلاح في سلوكهم الديني والاجتماعي. فهي توجههم لطريق الصلاح. أما القانون فهو أساس لقيام الدولة كمؤسسة مجردة لا تملك مشاعر ولا ضمير ولكن تعتمد على مؤسسات تضبط بناءها وتحدد نشاطها قواعد إجرائية. باختصار الشريعة بحاجة كي تعمل إلى ضمير يتلقاها ويتفاعل معها. وقوتها نابعة من هذا الضمير. أما المؤسسة فلا ضمير لها ولا يمكن ضمان فعاليتها وصلاحها سوى بقوانين إجرائية موضوعية ودقيقة لا خلاف فيها. وهو أساس ضمان المصالح العامة.
وبالمثل، لا يمكن أن تشكل القومية مرجعية تنظيمية، لأنها هي نفسها بحاجة للدولة الحديثة حتى توجد. فهي لا تأتي إلا في عربة هذه الدولة وبموازاتها.
المخرج الوحيد هو في دولة القانون، والقانون ليس نقيض الشريعة ولا مخالف لها. إن ما يميزه بالضبط هو أنه مستمد من إرادة أفراد المجتمع ولا يمكن أن يختار الأفراد أو أغلبيتهم ما يتناقض مع القيم التي يؤمنوا بها. إن ما يختلف هو الصيغ الإجرائية التي يتم من خلالها تبني هذه الاختيارات أو وضعها موضع التنفيذ في الواقع، أي نظام اتخاذ القرار وتوزيع المهام والمسؤوليات وتحديد مناهج التنفيذ ووسائله. لذلك يرتبط القانون بالسياسة بينما ترتبط الشريعة بالهداية والتهذيب والتصفية والنية، أي بالتربية الأخلاقية والدينية. فالشريعة أساسية لضمان بناء المجتمع كإرادات ونوايا وذاتيات وضمائر، لكن القانون وحده يضمن إعادة بناء الدولة والمؤسسسات الأخرى التي لا تقوم إلا على قواعد عمل إجرائية ومعايير سلوك ثابتة وموضوعية لا ترتبط بمزاج الأفراد واجتهاداتهم الخاصة.
وما لم يحصل ذلك، وفي انتظار ذلك، سيزداد التفكك والعنف والاقتتال الداخلي والتراجع الاستراتيجي والتدخل الأجنبي والانهيار والفقر والموت. فالشعوب التي لا تعرف كيف تنظم صفوفها على أسس ثابتة وواضحة ومقبولة أو مشروعة، لا تنجح في جمع جهودها، ولا في توحيد إرادة أبنائها، ولا تستطيع أن تحقق أي إنجاز.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire