الوطن 4 مايس 06
شهدت معظم الدول العربية منذ بدايات النهضة في القرن التاسع عشر تطورا كبيرا للفكر السياسي والاجتماعي الحديث، انعكس في ما يمكن تسميته بالثورة الدستورية التي شارك فيها العرب مع المنظمات التركية الحديثة في إطار السلطنة العثمانية. وقد استمر هذا التطور بعد الانفصال عن السلطنة وخلال فترة الهيمنة الاستعمارية، وعبر عن نفسه من خلال تمسك الحركات الاستقلالية بالدستور وبالسيادة الوطنية ورفض التبعية ومقاومة السيطرة الأجنبية والحصول على الاستقلال الكامل والناجز. وورثت العديد من البلدان العربية، في المغرب ومصر وسورية والعراق ولبنان والسودان وغيرها، بعد الاستقلال نظما تعددية ديمقراطية الطابع، بالرغم مما كان يشوبها من نواقص وتشوهات لم يكن من المستحيل التغلب عليها وتجاوزها مع الزمن.
لكن السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية شهدت، في البلدان العربية كما هو الحال في معظم بلاد العالم، صعودا عاصفا لأفكار الثورة الاجتماعية والتقنية على أمل اللحاق السريع، كما حصل في روسيا الشيوعية وصين ما وتسي تونغ، بالدول الصناعية الغربية. وقد أنشات هذه الأفكار التي انتشرت في العالم أجمع مناخا جديدا بدت فيه النظم الليبرالية او شبه الليبرالية القائمة ضعيفة وبالية، لا تفي بالمطالب الشعبية ولا تستجيب لآمال تحقيق القوة والسيادة والأمجاد القومية. وخلال سنوات محدودة تلت حقبة الاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اكتسحت الثورات والانقلابات التي ارتبطت بها القسم الأعظم من الدول الصغيرة التي ولدت من حركات تصفية الاستعمار وانحسار الهيمنة الأوروبية في القارات الثلاث.
بيد أن الأزمات العديدة التي مرت بها النظم الثورية، بمساعدة الحرب الباردة أحيانا، والزوال السريع للأوهام التي ارتبطت بها، وإخفاقها في تلبية المطالب الاجتماعية والرد على التوقعات التي ولدتها في مرحلة صعودها، كل ذلك وضع حدا للمد الثوري، وفتح باب العودة من جديد إلى الحالة الطبيعية، أي إلى نظام التعددية والتنافس على السلطة، بوصفه النظام الوحيد الذي يسمح في وقتنا الحاضر بإقامة سلطة سياسية شرعية، ويجنب المجتمعات التغريز الطويل في الحرب والنزاعات الاهلية. كانت بلدان أمريكا اللاتينية، التي شكل مقتل شي غيغارا صدمة كبيرة لشعوبها، هي السباقة للدخول في هذا الطريق عبر مفاوضات صعبة للتسوية السياسية بين حركات المقاومة المسلحة والنخب اليمينية الحاكمة. لكن ستعقبها بسرعة الكثير من الدول الأفريقية قبل أن تلتحق بها، منذ نهاية الثمانينات، الكتلة السوفييتية برمتها، أعني الاتحاد الروسي ودول أوربة الشرقية وآسيا الوسطى جميعا.
لم يختلف وضع الدول العربية التي دخلت في التجربة ذاتها عن ذلك. فقد كانت مصر سباقة لاكتشاف مأزق نموذج النظام السوفييتي، أولا بسبب هشاشة الأسس النظرية والسياسية التي قام عليها هذا النموذج عندنا. وثانيا بسبب الضربة المعنوية القاسية التي أصابت السلطة العربية الثورية نتيجة الهزيمة المؤلمة التي تكبدتها في مواجهة قوات التحالف الإسرائيلي الأمريكي عام 1967. وهكذا بينما بدأت القاهرة في التحلل من أوهامها الثورية منذ موت الرئيس جمال عبد الناصر والعودة إلى طربق الليبرالية الاقتصادية، بل والتحالف مع الغرب، كانت السلطة الثورية في سورية والعراق لا تزال تتخبط من دون أن تصل إلى قرار. أما في الجزائر فقد عوضت الموارد النفطية الكبيرة عن إفلاس النموذج نفسه وسمحت باستمراره من دون هزات كبيرة حتى التسعينات.
لم يكن هناك من حيث المبدأ ما يمنع البلاد العربية التي اختبرت النموذج السوفييتي من الخروج السلمي والتدريجي من حكم الحزب الثوري الواحد إلى الوضع الطبيعي، كما حصل في كل بقاع العالم باستثناء كوبا وكوريا الشمالية. لكن ما حصل كان معاكسا تماما لما جرى في العالم أجمع. فبدل الخروج من أزمة النظم الثورية من باب العودة إلى التعددية والديمقراطية فضلت البلاد العربية الخروج من باب الفاشية وإعادة بناء النظم المطلقة على أسس جديدة، سواء ما تعلق بالقاعدة الاجتماعية التي تقوم عليها، أو بالايديولوجية التي تبني شرعيتها، أو بالأجهزة والمؤسسات التي تستند إليها في فرض سلطتها وإرادة أصحابها. وهكذا احتلت البيرقراطية أو التضامنات العشائرية والطائفية أو كلاهما معا محل طبقة العمال والفلاحين كقاعدة فعلية للنظم المتحولة. وصارت عقيدة الحفاظ على الأمن والاستقرار، أو مقاومة الصهيونية والوقوف في وجه الاستعمار أو كليهما، المصدر الرئيسي للشرعية المبتغاة، بدل الثورة الاجتماعية والصناعية والزراعية والتعليمية. واخذت الأجهزة الأمنية المتقاطعة والمتنامية تحتل المكانة التي كانت من اختصاص الجيوش الشعبية والوطنية العقائدية في تأمين شبكات الدفاع والحماية عن النخب الحاكمة، بل في ضمان اتساق النظام بأكمله وضبط حركته وتوحيد مؤسساته وتسييرها، بما في ذلك تجديد النخب نفسها والعناية بتأمين العناصر القيادية السياسية والإدارية اللازمة لتشغييل النظام. وشيئا فشيئا أصبح النظام رهينة مباشرة لهذه المؤسسة الأمنية التي لا هدف ولا برنامج لها سوى الحفاظ على نفسها، وتخليد الوضع القائم، وتأبيد زعاماته وأعوانه في مواقعهم وأدوارهم، والقضاء في المهد إذا أمكن على احتمال ظهور أي عامل أو عنصر يمكن أن يشكل في المستقبل تهديدا للنظام، فكريا كان ام سياسيا أم إقتصاديا أم تقنيا.
وهكذا وجدتا أنفسنا أمام نظم مغلقة كليا تسير بقوة دفعها الذاتية وحسب منطقها الداخلي، لا تدين للمجتمع بشيء ولا تتأثر به أو تلتفت إلى ما يقول، وتقتصر علاقتها به على تحييده ومنعه من المبادرة أو الحركة أو الاحتجاج. نحن في الواقع أمام آلات لا يمكن النفاذ إليها، ومن باب أولى فتح حوار معها او التفاوض، بأي صورة كانت، حول السياسات التي تتبعها. ذلك أنها لا تخضع هي نفسها في سلوكها او سيرها إلى أي مفهوم سياسي، وليس لها علاقة بالسياسة أو بالمجتمع. إنها قمرات قائمة بذاتها، تعيش في فلك خاص بها وتتبنى مفاهيم وتعتمد معايير من صنع يديها لا علاقة لها بالمعايير القائمة في العالم الخارجي المحيط بها. وبعد أن استملكت موارد البلاد التي تسيطر عليها، لم تعد بحاجة كي تضمن بقاءها إلى التعامل أو التفاعل مع أحد من خارجها. ولا تتصل بالمجتمع أو تتعامل معه إلا عبر المؤسسات التي خلقتها هي نفسها، والتي تشكل جزءا من جهاز امنها، بما فيه المؤسسات غير الأمنية. والمكان المفضل لديها للتواصل مع أفراد مجتمعها والاتصل بهم هو مكاتب فروع الأمن المنتشرة في كل قرية وحي ودوار، حتى لم يعد من الممكن إحصاؤها. هذه هي الوضعية الوحيدة التي يجد فيها أعضاؤها الأمان والثقة الضروريين لبناء علاقة مع الآخر أو الاستماع له والتعرف على كلامه والاعتراف بحقه فيه.
هكذا، تجد بعض الشعوب العربية نفسها في مأزق دقيق وعميق يصعب الخروج منه. فهي في وضعية استثنائية لا تفيد فيها الثقافة ولا السياسة ولا يمكن أن ينمو فيها أي أمل بالحوار، ولا ينفع معها لا الضغط ولا الاحتجاج ولا الاعتصام. إنها أمام غول نشأ في احشائها ونما في رحمها وهو يمتلكها من الداخل ويستبد بكل مواردها وإمكاناتها العقلية والمادية معا، ويتحكم بها حتى يكاد يحصي عليها أنفاسها وتنهداتها.
كيف حصل ذلك؟ وما هي الظروف والعوامل التي ساعدت عليه؟ وهل لا يزال لدى المجتمعات العربية المبتلاة القدرة على التحرر من قبضة هذه الآلة الجهنمية وتحطيمها أم لا تزال الشروط الإقليمية والدولية التي ساهمت في نشوئها غير ملائمة لذلك ؟ هذه أسئلة تستحق التفكير، حتى لو أن الإجابات المطلوبة عنها ليست بالضرورة جاهزة.
لكن السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية شهدت، في البلدان العربية كما هو الحال في معظم بلاد العالم، صعودا عاصفا لأفكار الثورة الاجتماعية والتقنية على أمل اللحاق السريع، كما حصل في روسيا الشيوعية وصين ما وتسي تونغ، بالدول الصناعية الغربية. وقد أنشات هذه الأفكار التي انتشرت في العالم أجمع مناخا جديدا بدت فيه النظم الليبرالية او شبه الليبرالية القائمة ضعيفة وبالية، لا تفي بالمطالب الشعبية ولا تستجيب لآمال تحقيق القوة والسيادة والأمجاد القومية. وخلال سنوات محدودة تلت حقبة الاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اكتسحت الثورات والانقلابات التي ارتبطت بها القسم الأعظم من الدول الصغيرة التي ولدت من حركات تصفية الاستعمار وانحسار الهيمنة الأوروبية في القارات الثلاث.
بيد أن الأزمات العديدة التي مرت بها النظم الثورية، بمساعدة الحرب الباردة أحيانا، والزوال السريع للأوهام التي ارتبطت بها، وإخفاقها في تلبية المطالب الاجتماعية والرد على التوقعات التي ولدتها في مرحلة صعودها، كل ذلك وضع حدا للمد الثوري، وفتح باب العودة من جديد إلى الحالة الطبيعية، أي إلى نظام التعددية والتنافس على السلطة، بوصفه النظام الوحيد الذي يسمح في وقتنا الحاضر بإقامة سلطة سياسية شرعية، ويجنب المجتمعات التغريز الطويل في الحرب والنزاعات الاهلية. كانت بلدان أمريكا اللاتينية، التي شكل مقتل شي غيغارا صدمة كبيرة لشعوبها، هي السباقة للدخول في هذا الطريق عبر مفاوضات صعبة للتسوية السياسية بين حركات المقاومة المسلحة والنخب اليمينية الحاكمة. لكن ستعقبها بسرعة الكثير من الدول الأفريقية قبل أن تلتحق بها، منذ نهاية الثمانينات، الكتلة السوفييتية برمتها، أعني الاتحاد الروسي ودول أوربة الشرقية وآسيا الوسطى جميعا.
لم يختلف وضع الدول العربية التي دخلت في التجربة ذاتها عن ذلك. فقد كانت مصر سباقة لاكتشاف مأزق نموذج النظام السوفييتي، أولا بسبب هشاشة الأسس النظرية والسياسية التي قام عليها هذا النموذج عندنا. وثانيا بسبب الضربة المعنوية القاسية التي أصابت السلطة العربية الثورية نتيجة الهزيمة المؤلمة التي تكبدتها في مواجهة قوات التحالف الإسرائيلي الأمريكي عام 1967. وهكذا بينما بدأت القاهرة في التحلل من أوهامها الثورية منذ موت الرئيس جمال عبد الناصر والعودة إلى طربق الليبرالية الاقتصادية، بل والتحالف مع الغرب، كانت السلطة الثورية في سورية والعراق لا تزال تتخبط من دون أن تصل إلى قرار. أما في الجزائر فقد عوضت الموارد النفطية الكبيرة عن إفلاس النموذج نفسه وسمحت باستمراره من دون هزات كبيرة حتى التسعينات.
لم يكن هناك من حيث المبدأ ما يمنع البلاد العربية التي اختبرت النموذج السوفييتي من الخروج السلمي والتدريجي من حكم الحزب الثوري الواحد إلى الوضع الطبيعي، كما حصل في كل بقاع العالم باستثناء كوبا وكوريا الشمالية. لكن ما حصل كان معاكسا تماما لما جرى في العالم أجمع. فبدل الخروج من أزمة النظم الثورية من باب العودة إلى التعددية والديمقراطية فضلت البلاد العربية الخروج من باب الفاشية وإعادة بناء النظم المطلقة على أسس جديدة، سواء ما تعلق بالقاعدة الاجتماعية التي تقوم عليها، أو بالايديولوجية التي تبني شرعيتها، أو بالأجهزة والمؤسسات التي تستند إليها في فرض سلطتها وإرادة أصحابها. وهكذا احتلت البيرقراطية أو التضامنات العشائرية والطائفية أو كلاهما معا محل طبقة العمال والفلاحين كقاعدة فعلية للنظم المتحولة. وصارت عقيدة الحفاظ على الأمن والاستقرار، أو مقاومة الصهيونية والوقوف في وجه الاستعمار أو كليهما، المصدر الرئيسي للشرعية المبتغاة، بدل الثورة الاجتماعية والصناعية والزراعية والتعليمية. واخذت الأجهزة الأمنية المتقاطعة والمتنامية تحتل المكانة التي كانت من اختصاص الجيوش الشعبية والوطنية العقائدية في تأمين شبكات الدفاع والحماية عن النخب الحاكمة، بل في ضمان اتساق النظام بأكمله وضبط حركته وتوحيد مؤسساته وتسييرها، بما في ذلك تجديد النخب نفسها والعناية بتأمين العناصر القيادية السياسية والإدارية اللازمة لتشغييل النظام. وشيئا فشيئا أصبح النظام رهينة مباشرة لهذه المؤسسة الأمنية التي لا هدف ولا برنامج لها سوى الحفاظ على نفسها، وتخليد الوضع القائم، وتأبيد زعاماته وأعوانه في مواقعهم وأدوارهم، والقضاء في المهد إذا أمكن على احتمال ظهور أي عامل أو عنصر يمكن أن يشكل في المستقبل تهديدا للنظام، فكريا كان ام سياسيا أم إقتصاديا أم تقنيا.
وهكذا وجدتا أنفسنا أمام نظم مغلقة كليا تسير بقوة دفعها الذاتية وحسب منطقها الداخلي، لا تدين للمجتمع بشيء ولا تتأثر به أو تلتفت إلى ما يقول، وتقتصر علاقتها به على تحييده ومنعه من المبادرة أو الحركة أو الاحتجاج. نحن في الواقع أمام آلات لا يمكن النفاذ إليها، ومن باب أولى فتح حوار معها او التفاوض، بأي صورة كانت، حول السياسات التي تتبعها. ذلك أنها لا تخضع هي نفسها في سلوكها او سيرها إلى أي مفهوم سياسي، وليس لها علاقة بالسياسة أو بالمجتمع. إنها قمرات قائمة بذاتها، تعيش في فلك خاص بها وتتبنى مفاهيم وتعتمد معايير من صنع يديها لا علاقة لها بالمعايير القائمة في العالم الخارجي المحيط بها. وبعد أن استملكت موارد البلاد التي تسيطر عليها، لم تعد بحاجة كي تضمن بقاءها إلى التعامل أو التفاعل مع أحد من خارجها. ولا تتصل بالمجتمع أو تتعامل معه إلا عبر المؤسسات التي خلقتها هي نفسها، والتي تشكل جزءا من جهاز امنها، بما فيه المؤسسات غير الأمنية. والمكان المفضل لديها للتواصل مع أفراد مجتمعها والاتصل بهم هو مكاتب فروع الأمن المنتشرة في كل قرية وحي ودوار، حتى لم يعد من الممكن إحصاؤها. هذه هي الوضعية الوحيدة التي يجد فيها أعضاؤها الأمان والثقة الضروريين لبناء علاقة مع الآخر أو الاستماع له والتعرف على كلامه والاعتراف بحقه فيه.
هكذا، تجد بعض الشعوب العربية نفسها في مأزق دقيق وعميق يصعب الخروج منه. فهي في وضعية استثنائية لا تفيد فيها الثقافة ولا السياسة ولا يمكن أن ينمو فيها أي أمل بالحوار، ولا ينفع معها لا الضغط ولا الاحتجاج ولا الاعتصام. إنها أمام غول نشأ في احشائها ونما في رحمها وهو يمتلكها من الداخل ويستبد بكل مواردها وإمكاناتها العقلية والمادية معا، ويتحكم بها حتى يكاد يحصي عليها أنفاسها وتنهداتها.
كيف حصل ذلك؟ وما هي الظروف والعوامل التي ساعدت عليه؟ وهل لا يزال لدى المجتمعات العربية المبتلاة القدرة على التحرر من قبضة هذه الآلة الجهنمية وتحطيمها أم لا تزال الشروط الإقليمية والدولية التي ساهمت في نشوئها غير ملائمة لذلك ؟ هذه أسئلة تستحق التفكير، حتى لو أن الإجابات المطلوبة عنها ليست بالضرورة جاهزة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire