الجزيرة نت 14 نوفمبر 05
بتصويت مجلس الأمن في 31 اكتوبر 2005 على القرار رقم 1636 الذي يفرض على سورية التعاون الشامل ومن دون قيد أو شرط مع لجنة التحقيق الدولي انتهت مرحلة المواجهة السورية الغربية العصيبة التي دامت ما يقارب السنتين، حاول الحكم السوري خلالها الدفاع عن هامش مناورة إقليمية اعتقد أنه يملكه عن جدارة ويحق له بموجبه فتح مفاوضات مع التحالف الغربي لا تتعلق بمصالح البلاد العليا بقدر ما تتعلق بوجوده نفسه. فقرار مجلس الأمن لا يترك للنظام البعثي خيارا آخر إذا أراد المحافظة على بقائه سوى الإذعان لمطالب الدول الغربية والعمل في السياق الاستراتيجي والجيوستراتيجي الذي تفرضه عليه أو تطلبه منه. باختصار لقد وضع القرار مصير النظام السوري في قبضة اللجنة الدولية ومن ورائها الدول الغربية التي صنعتها. وهي وحدها التي تستطيع أن تحتوي نتائج تقرير القاضي الدولي وأن تنقذ النظام إذا تأكدت من أن عملية التطويع التي قامت بها قد وصلت إلى نتائجها المنشودة وأن النظام السوري أصبح جاهزا للرد بايجابية على كل ما يتطلبه منه التوافق مع الاستراتيجية الأمريكية الأوروبية في الشرق الأوسط.
وكما أنه لا ينبغي أن يكون لدينا أوهام عن ملابسات تكوين لجنة التحقيق الدولية، وطابعها السياسي، بصرف النظر عن تقديرنا لمهنية القاضي ميليس، فهي لجنة سياسية بامتياز، تماما كما أن اغتيال الحريري عمل سياسي، ومقاومة لجنة التحقيق الدولية وعرقلة عملها سياسيان أيضا، لا ينبغي أن يكون لدينا أوهام عن قدرة النظام على التملص من قبضة التحالف الغربي بعد التصويت على قرار مجلس الامن الأخير. فليس لدى هذا النظام أي حظ في الافلات من المصيدة التي وقع فيها. ولا تعمل الاوهام التي يخلقها بعض المحللين السياسيين الدوليين في سياق نقدهم الصحيح والأخلاقي للسياسات الأمريكية على إجلاء الصورة للقادة وللرأي العام العربي والسوري. فلن تغير المدخرات السورية ولا الاستقلال الغذائي ولا الحمية الوطنية كثيرا من واقع النكسة الخطيرة التي تعرضت لها السياسة السورية بالتصويت على قرار مجلس الامن الذي يكرس نزع السيادة الوطنية لصالح قاض أجنبي ومن ورائه، أو على الأٌقل تعطيلها. ولن يغير نشر مثل هذه الأوهام من توجه النظام السوري، رغما عنه، نحو التسليم والإذعان للإرادة الغربية. ولن يغير وجود تيار يطالب بالمقاومة داخل النظام من اندفاع أصحاب المصالح الرئيسية فيه للتوافق مع المطالب الغربية. فهم يعرفون أن بديل التعاون الكامل هو الانتحار. وبين الانتحار والتفاوض على جزء من المصالح، حتى الرئيسية منها، سيختار هؤلاء بالتأكيد التعاون والتسليم بجميع المطالب الغربية. بل إن الكثيرين من الذين آمنوا بالطابع الوطني لبرنامج النظام سوف يذهلون لرؤية الحماس الذي سيواجه به هؤلاء، بعد أن يتم توقيع صك الاستسلام، مصيرهم الجديد كأدوات للتبشير بفائدة هذا التعاون وأهميته بالنسبة للمصالح الوطنية السورية، تماما كما كانوا يربطون بين الثوابت الوطنية وسياسات المواجهة الطفولية والشعاراتية ضد القوى الغربية.
لكن السؤال المطروح هو في ما إذا كان التحالف الغربي نفسه لا يزال معنيا بإنقاذ النظام ؟
ليس للأمريكيين والاوروبيين أيضا في نظري خيار آخر سوى إعادة تأهيل النظام ودفعه إلى الاشتغال لصالحهم وحسب خططهم الاستراتيجية الإقليمية. ومن يتابع نقاشات المسؤوليين وتصريحاتهم يدرك تماما إلى أي حد يرفض هؤلاء الحديث عن تغيير النظام ويكادون لا يتحدثون إطلاقا، عندما يثيرون مشكلته، عن أجندة التحولات الديمقراطية. إن ما يهمهم هو ثنيه عن اللعب بمصالحهم الإقليمية في سبيل الحفاظ على مصالحه الذاتية. وهم يعتقدون أن نظاما بعثيا ضعيفا وخاضعا تماما لهم يشكل في المرحلة الراهنة على الأقل خيارا أفضل بكثير من خيار التغيير الذي يفتح الوضع السوري على احتمالات مجهولة عديدة. وليست الفوضى أو الحرب الأهلية أو الطائفية، كما تقول أجهزة دعايتهم وأجهزة دعاية النظام التي تلتقي جميعا في هذه النقطة بقدر ما ترفض سوية فكرة التغيير، هي المقصودة بالحديث عن الاحتمالات المجهولة، ولكن فقدان السيطرة الأمريكية الأوروبية، وبشكل خاص الاسرائيلية، على الوضع في حال انتقال سورية بالفعل نحو نظام تعددي ديمقراطي يعيد إدخال الشعب إلى الحياة السياسية كما يعيد السيادة إلى برلمان يمثل الشعب ويصبح عقبة أمام تمرير مشاريع الهيمنة والقرارات التي تضمن المصالح الأجنبية كما يجبر إسرائيل على فتح المفاوضات من جديد حول الجولان المحتل. ومن هنا لا يخفي المسؤولون الغربيون والاسرائيليون، بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي يوجهونها إلى النظام القائم، تفضيلهم لخيار تعديل سلوك النظام في مقابل خيار تغييره. وهو ما يتجلى بشكل واضح أيضا في طبيعة الانتقادات التي يوجهونها له من جهة ورفضهم الاعتراف بالمعارضة الديمقراطية الوطنية من جهة ثانية. وليس هناك شك في أن من مصلحة التحالف الغربي أن يتمسك بواجهة النظام، بعد أن أخضعه لإرادته وأصبح بإمكانه أن يستخدمه كجزء من عدته السياسية والاستراتيجية لتحقيق أهدافه الإقليمية. وبذلك يكون هذا التحالف قد قضى على حركة التمرد الأهوج الذي راود النظام لفترة بسبب تمتعه ببعض النفوذ الإقليمي الذي أوحى له بإمكانية وضع أجندة خاصة بأصحابه ومصالحهم، بعد أن توسعت دائرة تحالفاتهم الإقليمية واستقر لهم الوضع لعقود طويلة متواصلة، مستقلة عن أجندة السياسات الغربية الإقليمية. فكان لا بد أن تصطدم هذه الأجندة الخاصة بأجندة التحالف الغربي ومصالحه من دون أن يكون لها، كما يدعي أصحاب النظام، أي علاقة بالأجندة الوطنية السورية أو العربية التي يشكل حذفها أساس التفاهم الاستراتيجي بين الطرفين منذ عقود طويلة. فلم يكن قبول التحالف الغربي بنظام الرشوى والفساد واحتكار السلطة وتعميم القمع والحد من الحريات في الداخل السوري سوى الثمن الضروري للحفاظ على نظام الهيمنة الاستعمارية أو شبه الاستعمارية في الخارج الإقليمي. وليس سبب النزاع الذي نشب بين هذا التحالف وبعض الأنظمة العربية ومنها النظام السوري تمسك هذه الأخيرة بأجندة مصالح وطنية أو اكتشافها المفاجيء لوجود مثل هذه المصالح، ولكن تجاوز النخب الحاكمة، في السعي المحموم إلى تعظيم مصالحها السياسية والمالية، حدود ما هو مسموح به للحفاظ على النظام شبه الاستعماري ككل، وبالتالي تهديدها استقرار هذا النظام. إنه بالأحرى شرهها وطمعها الزائد الذي تجلى من خلال إباحتها لنفسها نسف كل ما يتعلق بأسس الحياة المدنية والسياسية في المنطقة برمتها وفي بلدانها أيضا في سبيل مراكمة الثروات بالطرق المشروعة وغير المشروعة ودفع المنطقة كلها نحو الخراب والفقر والبطالة والعنف والفوضى. وأمام خطر الانفجار ما كان لحماة النظام الأصليين مهرب من التدخل لإعادة الأمور إلى نصابها وتقليم أظافر الوحش نفسه الذي رعوه واعتمدوا عليه في إرهاب المجتمعات التي يريدون السيطرة عليها وإخضاعها.
والوحش ليس هنا سوى الأنظمة التسلطية نفسها. ومن هنا ليس مشروع الدول الغربية التخلص من هذه الأنظمة على الإطلاق وإنما تشذيبها وإعادة تأهيلها بعد أن خرجت عن حدود العقل والسياسة والسيطرة معا وصارت تطمح بأن تكون سيدة أمرها، تجاه الخارج بعد أن تخلت عن أي التزام أمام الداخل الوطني.
تنطوي عملية التأهيل بالتأكيد على إعادة بناء هذه الأنظمة من ناحيتين: التوافق مع الحد الأدنى من معايير العمل والسلوك السياسية الراهنة بما يعنيه ذلك من السعي إلى الاقتصاد في العنف للتخفيف من نمو العنف المضاد الذي بدأ يسبب مشاكل كبيرة لاستقرار النظام العام. وإجراء عملية فرز داخل النخب الحاكمة تقضي بتقليم أظافرها وكسر أنيابها لتخفيف الضغط عن المجتمعات وإعادة بعض الثقة إليها. وهو ما يتطلب تخليصها من الفئة الأكثر توحشا وأنانية فيها. وربما كانت ترجمة ذلك إتاحة حد أدنى من الحريات الفكرية والسياسية وفرض نظام التعددية الحزبية بما يعنيه من منافسة ظاهرية على مناصب المسؤولية مع الاحتفاظ بجوهر السلطة في يد الأجهزة الأمنية بعد إصلاحها وتطوير أدائها وربطها بالأجهزة الغربية.
لكن إذا لم يكن أمام النظام خيار آخر سوى التخلي عن هامش الاستقلالية الذي ميز سلوك شبكة المصالح السورية الحاكمة والالتحاق من مستوى التبعية الكاملة بالجوقة الأمريكية الأوروبية على شاكلة الأنظمة العربية الأخرى التي سبقته، وفي الظروف نفسها وللأسباب ذاتها، ومن ثم المساهمة في إعادة بناء النظام الاستعماري الإقليمي الجديد، فالأمر يختلف تماما بالنسبة لسورية والشعب السوري. فلديهما بالعكس خيار آخر يقطع تماما مع نظام سيادة الأجهزة الأمنية ولو على أسس أقل وحشية، هو التحول الديمقراطي الوطني الذي يقوم على السيادة الشعبية وبناء نظام قائم على المواطنية والمشاركة السياسية المتساوية والمحاسبة والمراقبة والشفافية وتداول السلطة والانتخابات النزيهة التنافسية والذي يضمن وحده الحريات الفردية والجماعية ويحقق المساواة الكاملة بين المواطنين والفصل بين السلطات كما يضمن استعادة الحقوق الوطنية وفي مقدمها الحق في السيادة والاستقلال.
ولا ينبغي انتظار استعادة نظام السيطرة شبه الاستعمارية لتوازنه وحله تناقضاته الداخلية التي يشكل النزاع السوري الأمريكي الأوروبي أحدها حتى نبدأ في التفكير بمثل هذا الخيار. فمن المطلوب بالعكس أن تشكل أزمة هذا النظام الإقليمي الاستعماري التي فجرها شره النخب المافيوية الحاكمة وسعيها الخروج عن الطوق فرصة لا تفوت في سبيل الخروج من نظام الهيمنة الدولية وتقاسم مناطق النفوذ بين أوروبة والولايات المتحدة وفرض سيادة الشعب السوري وأجندته الخاصة. وهذه هي المناسبة الوحيدة لقطع الطريق على عودة الاستبداد والديكتاتورية ولو بوجه جديد أو باسم آخر والتعلق بأذيال الاصلاحات الأمريكية في سبيل تكريس الخيار الجديد.
يتوقف الدفع في اتجاه تحقيق هذا الخيار النجاح في تعبئة النخب الاجتماعية وقطاعات الشعب والتوصل إلى تفاهم وطني واسع على أسس المرحلة القادمة يخفف من احتمالات الانقسام في الرأي ويقطع الطريق على تلاعب قوى النظام الاستعماري الجديد بالأطراف الوطنية. ويتطلب الوصول إلى هذه الأهداف انخراطا قويا للمعارضة الديمقراطية في مشروع التغيير وفي مقدمة ذلك توحيد قواها وتقديم المثال والنموذج لهذا التفاهم الوطني المنشود للشعب السوري نفسه. كما يتوقف أيضا على اتباع استراتيجيات مختلفة كليا عما هو سائد اليوم في صفوف المعارضة التي لا تزال منقسمة بين أنصار دعم النظام والمراهنة على التحول من داخله وأنصار التعاون مع أولياء أمره في واشنطن وباريس والمراهنة على ضغوطهم القوية. وهو ما يستدعي العمل على بلورة مشروع تحويل ديمقراطي مستقل ومعتمد على تحريك القوى الوطنية وتعزيز تحالفاتها مع القوى الديمقراطية العربية والعالمية.
ربما شكل إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي خطوة مهمة على هذا الطريق. لكن لن يكون له قيمة إذا قررت المعارضة أن تقف عنده وتجمد نشاطها فيه. فمصير سورية السياسي للحقبة القادمة يتقرر في هذه الأشهر القريبة. وسوف يتم تقريره حسب موازين القوى القائمة اليوم. فإذا بقي ينظر إلى المعارضة الديمقراطية على أنها قوة لا وزن كبيرا لها أو أنه لا فائدة من أخذها بالحسبان سيكون مصير التغيير مرتبطا بشكل رئيسي بتفاهم التكتل الغربي مع النخب التي تبدو أكثر سيطرة على الأرض وأكثر قدرة على الحفاظ على الاستمرارية والاستقرار، أي قوى الأجهزة البعثية السياسية والامنية والإدارية الراهنة. ولن تكون نتيجة العملية شيئا آخر سوى إعادة هيكلة نظام البعث القائم، تحت أسماء ومسميات وشعارات جديدة، كما حصل مع الحزب الوطني في مصر ومع حزب الدستور الجديد في تونس وغير ذلك من البلدان، للإبقاء على المعادلة السياسية القائمة نفسها، أي المراهنة على النخب المتماهية مع الدولة والأجهزة الامنية لضمان اشتغال الدولة والمؤسسات على حساب القوى الديمقراطية ولقاء التحييد المنظم للشعب وإبقائه خارج الحياة السياسية.
وما لم تتحول المعارضة الديمقراطية بسرعة إلى قوة مستقلة قادرة على التأثير والفعل فلن يكون أمام سورية خيار آخر سوى التمديد لنظام السلطة الأمنية مهما كانت الأسماء الجديدة المستخدمة، وهو في الوقت نفسه نظام الأزمة السياسية المستمرة ونظام الهيمنة الخارجية الدائمة وتجاهل الحقوق والمصالح الوطنية. ليس هناك أي ضمانة في أن تغير وحدة القوى الديمقراطية ونشاطها من مجرى الأحداث. لكن وجودها القوي سيشكل، مهما كان الحال، عاملا رئيسيا في تقرير هامش الحريات التي سيتمتع بها المواطن السوري ويقبل بها النظام القادم. وإذا لم تنجح القوى الديمقراطية في فرض نظام ديمقراطي حقيقي على التحالف الغربي فبإمكانها على الأقل أن تفرض عليه أخذ مطالبها بالاعتبار وتجنب سورية مخاطر إعادة تجربة مصر مبارك التي لا يزال فيها الحزب الوطني يحكم مصر من خلال تعددية كاذبة تخضع لإرادة الأجهزة، كما تريد ذلك واشنطن ولندن وباريس، منذ عقود، أو تجربة ليبيا التي أعيد فيها تأهيل النظام سياسيا من دون أدنى ذكر لمشاركة الشعب أو اعتراف بوجود المعارضة أو حتى احترام للحريات السياسية الأساسية.
لا ينبغي على الشعب السوري انتظار ما ستسفر عنه تحقيقات اللجنة الدولية ولا أن يراهن على انهيار النظام وحسن نوايا الدول الغربية في تغيير الأوضاع للأحسن. فما ستقوم به هذه القوى هو ما يخدم مصالحها وليس إطلاق الحريات السياسية ولا استرجاع الجولان ولا تحقيق الديمقراطية والازدهار مما يدخل فيها. إن على الشعب السوري أن يأخذ مصيره بيده وعلى الحركة الديمقراطية السورية التي تقوده أن تخطو اليوم خطوة أبعد بكثير من الإعلان عن وجودها وتبيان رؤيتها فتطرح على الجمهور مشروعا للحكم يضع حدا للتردد والتشويش السياسي ويؤكد خيار التغيير الديمقراطي بوصفه الشرط الأول لتحقيق الاصلاح. ومن دون ذلك لن يحدث شيء آخر سوى تعديل سلوك النظام، أي نظام قادم، ليتماشى مع مصالح الغربيين مع بقاء سلوكه تجاه شعبه من دون تغيير يذكر.
في هذا المجال يشكل اقتراح رياض الترك، الداعي إلى استقالة حكومة بشار الأسد وتسلم رئيس البرلمان السلطة مؤقتا حسب الدستور، وفي سبيل تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل جميع الأطراف، بما فيها حزب البعث الحاكم، وتحضر لانتخابات جمعية تأسيسية تعيد صوغ دستور ديمقراطي للبلاد، مع وقف تدخل أجهزة الأمن في الحياة السياسية ووضعها تحت السيطرة السياسية، وإلقاء مسؤولية ضمان الأمن والاستقرار وحماية السيادة والوحدة الوطنية على الجيش كمؤسسة رسمية تحظى بالولاء العام، مساهمة ايجابية ومبدعة معا. فهي تقدم رؤية واضحة وعملية للتغير تستبعد العنف والنزاع وتجنب البلاد مخاطر الانقسام والفوضى وتحترم السبل الدستورية وتضمن استمرار عمل مؤسسات الدولة بشكل طبيعي في الوقت نفسه. ومن الخطأ أن لا تأخذ المعارضة هذا الاقتراح بجدية وأن تظل تراهن على ما تسميه مؤتمرا وطنيا يدعم حركة الإصلاح تحت إشراف نظام لم يعد يملك هو نفسه أمره بين يديه.
لقد دفن النظام السوري الذي تأسس باستلام حزب البعث السلطة في 8 آذار 1963 مع قرار مجلس الأمن الأخير رقم 1636. وما سيخرج من مضاعفات تقرير لجنة ميليس الثاني، سواء تم اتهام مسؤولين كبار في النظام أم لا، هو نظام جديد يستلهم ما حصل ويحصل في البلدان العربية الأخرى، أي نظام هجين قائم على الدمج بين الخضوع الأعمى للاستراتيجيات الغربية والتفاهم مع إسرائيل، والاستمرار في دعم الحكم بوسائل أمنية وتسلطية ترد على مخاوف الدول الغربية من احتمال فتح الديمقراطية الأبواب واسعة أمام انتعاش الحركات المعادية للغرب، سواء أكانت حركات تستلهم الايديولوجيات الدينية أم الايديولوجيات القومية. ولن يكون بديل التحول الديمقراطي الناجز في سورية كما هو الحال في البلدان العربية الأخرى سوى إعادة بناء النظام الإقليمي شبه الاستعماري نفسه الذي أحبط حتى الآن كل إرادة عربية في التحرر والانعتاق.
بتصويت مجلس الأمن في 31 اكتوبر 2005 على القرار رقم 1636 الذي يفرض على سورية التعاون الشامل ومن دون قيد أو شرط مع لجنة التحقيق الدولي انتهت مرحلة المواجهة السورية الغربية العصيبة التي دامت ما يقارب السنتين، حاول الحكم السوري خلالها الدفاع عن هامش مناورة إقليمية اعتقد أنه يملكه عن جدارة ويحق له بموجبه فتح مفاوضات مع التحالف الغربي لا تتعلق بمصالح البلاد العليا بقدر ما تتعلق بوجوده نفسه. فقرار مجلس الأمن لا يترك للنظام البعثي خيارا آخر إذا أراد المحافظة على بقائه سوى الإذعان لمطالب الدول الغربية والعمل في السياق الاستراتيجي والجيوستراتيجي الذي تفرضه عليه أو تطلبه منه. باختصار لقد وضع القرار مصير النظام السوري في قبضة اللجنة الدولية ومن ورائها الدول الغربية التي صنعتها. وهي وحدها التي تستطيع أن تحتوي نتائج تقرير القاضي الدولي وأن تنقذ النظام إذا تأكدت من أن عملية التطويع التي قامت بها قد وصلت إلى نتائجها المنشودة وأن النظام السوري أصبح جاهزا للرد بايجابية على كل ما يتطلبه منه التوافق مع الاستراتيجية الأمريكية الأوروبية في الشرق الأوسط.
وكما أنه لا ينبغي أن يكون لدينا أوهام عن ملابسات تكوين لجنة التحقيق الدولية، وطابعها السياسي، بصرف النظر عن تقديرنا لمهنية القاضي ميليس، فهي لجنة سياسية بامتياز، تماما كما أن اغتيال الحريري عمل سياسي، ومقاومة لجنة التحقيق الدولية وعرقلة عملها سياسيان أيضا، لا ينبغي أن يكون لدينا أوهام عن قدرة النظام على التملص من قبضة التحالف الغربي بعد التصويت على قرار مجلس الامن الأخير. فليس لدى هذا النظام أي حظ في الافلات من المصيدة التي وقع فيها. ولا تعمل الاوهام التي يخلقها بعض المحللين السياسيين الدوليين في سياق نقدهم الصحيح والأخلاقي للسياسات الأمريكية على إجلاء الصورة للقادة وللرأي العام العربي والسوري. فلن تغير المدخرات السورية ولا الاستقلال الغذائي ولا الحمية الوطنية كثيرا من واقع النكسة الخطيرة التي تعرضت لها السياسة السورية بالتصويت على قرار مجلس الامن الذي يكرس نزع السيادة الوطنية لصالح قاض أجنبي ومن ورائه، أو على الأٌقل تعطيلها. ولن يغير نشر مثل هذه الأوهام من توجه النظام السوري، رغما عنه، نحو التسليم والإذعان للإرادة الغربية. ولن يغير وجود تيار يطالب بالمقاومة داخل النظام من اندفاع أصحاب المصالح الرئيسية فيه للتوافق مع المطالب الغربية. فهم يعرفون أن بديل التعاون الكامل هو الانتحار. وبين الانتحار والتفاوض على جزء من المصالح، حتى الرئيسية منها، سيختار هؤلاء بالتأكيد التعاون والتسليم بجميع المطالب الغربية. بل إن الكثيرين من الذين آمنوا بالطابع الوطني لبرنامج النظام سوف يذهلون لرؤية الحماس الذي سيواجه به هؤلاء، بعد أن يتم توقيع صك الاستسلام، مصيرهم الجديد كأدوات للتبشير بفائدة هذا التعاون وأهميته بالنسبة للمصالح الوطنية السورية، تماما كما كانوا يربطون بين الثوابت الوطنية وسياسات المواجهة الطفولية والشعاراتية ضد القوى الغربية.
لكن السؤال المطروح هو في ما إذا كان التحالف الغربي نفسه لا يزال معنيا بإنقاذ النظام ؟
ليس للأمريكيين والاوروبيين أيضا في نظري خيار آخر سوى إعادة تأهيل النظام ودفعه إلى الاشتغال لصالحهم وحسب خططهم الاستراتيجية الإقليمية. ومن يتابع نقاشات المسؤوليين وتصريحاتهم يدرك تماما إلى أي حد يرفض هؤلاء الحديث عن تغيير النظام ويكادون لا يتحدثون إطلاقا، عندما يثيرون مشكلته، عن أجندة التحولات الديمقراطية. إن ما يهمهم هو ثنيه عن اللعب بمصالحهم الإقليمية في سبيل الحفاظ على مصالحه الذاتية. وهم يعتقدون أن نظاما بعثيا ضعيفا وخاضعا تماما لهم يشكل في المرحلة الراهنة على الأقل خيارا أفضل بكثير من خيار التغيير الذي يفتح الوضع السوري على احتمالات مجهولة عديدة. وليست الفوضى أو الحرب الأهلية أو الطائفية، كما تقول أجهزة دعايتهم وأجهزة دعاية النظام التي تلتقي جميعا في هذه النقطة بقدر ما ترفض سوية فكرة التغيير، هي المقصودة بالحديث عن الاحتمالات المجهولة، ولكن فقدان السيطرة الأمريكية الأوروبية، وبشكل خاص الاسرائيلية، على الوضع في حال انتقال سورية بالفعل نحو نظام تعددي ديمقراطي يعيد إدخال الشعب إلى الحياة السياسية كما يعيد السيادة إلى برلمان يمثل الشعب ويصبح عقبة أمام تمرير مشاريع الهيمنة والقرارات التي تضمن المصالح الأجنبية كما يجبر إسرائيل على فتح المفاوضات من جديد حول الجولان المحتل. ومن هنا لا يخفي المسؤولون الغربيون والاسرائيليون، بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي يوجهونها إلى النظام القائم، تفضيلهم لخيار تعديل سلوك النظام في مقابل خيار تغييره. وهو ما يتجلى بشكل واضح أيضا في طبيعة الانتقادات التي يوجهونها له من جهة ورفضهم الاعتراف بالمعارضة الديمقراطية الوطنية من جهة ثانية. وليس هناك شك في أن من مصلحة التحالف الغربي أن يتمسك بواجهة النظام، بعد أن أخضعه لإرادته وأصبح بإمكانه أن يستخدمه كجزء من عدته السياسية والاستراتيجية لتحقيق أهدافه الإقليمية. وبذلك يكون هذا التحالف قد قضى على حركة التمرد الأهوج الذي راود النظام لفترة بسبب تمتعه ببعض النفوذ الإقليمي الذي أوحى له بإمكانية وضع أجندة خاصة بأصحابه ومصالحهم، بعد أن توسعت دائرة تحالفاتهم الإقليمية واستقر لهم الوضع لعقود طويلة متواصلة، مستقلة عن أجندة السياسات الغربية الإقليمية. فكان لا بد أن تصطدم هذه الأجندة الخاصة بأجندة التحالف الغربي ومصالحه من دون أن يكون لها، كما يدعي أصحاب النظام، أي علاقة بالأجندة الوطنية السورية أو العربية التي يشكل حذفها أساس التفاهم الاستراتيجي بين الطرفين منذ عقود طويلة. فلم يكن قبول التحالف الغربي بنظام الرشوى والفساد واحتكار السلطة وتعميم القمع والحد من الحريات في الداخل السوري سوى الثمن الضروري للحفاظ على نظام الهيمنة الاستعمارية أو شبه الاستعمارية في الخارج الإقليمي. وليس سبب النزاع الذي نشب بين هذا التحالف وبعض الأنظمة العربية ومنها النظام السوري تمسك هذه الأخيرة بأجندة مصالح وطنية أو اكتشافها المفاجيء لوجود مثل هذه المصالح، ولكن تجاوز النخب الحاكمة، في السعي المحموم إلى تعظيم مصالحها السياسية والمالية، حدود ما هو مسموح به للحفاظ على النظام شبه الاستعماري ككل، وبالتالي تهديدها استقرار هذا النظام. إنه بالأحرى شرهها وطمعها الزائد الذي تجلى من خلال إباحتها لنفسها نسف كل ما يتعلق بأسس الحياة المدنية والسياسية في المنطقة برمتها وفي بلدانها أيضا في سبيل مراكمة الثروات بالطرق المشروعة وغير المشروعة ودفع المنطقة كلها نحو الخراب والفقر والبطالة والعنف والفوضى. وأمام خطر الانفجار ما كان لحماة النظام الأصليين مهرب من التدخل لإعادة الأمور إلى نصابها وتقليم أظافر الوحش نفسه الذي رعوه واعتمدوا عليه في إرهاب المجتمعات التي يريدون السيطرة عليها وإخضاعها.
والوحش ليس هنا سوى الأنظمة التسلطية نفسها. ومن هنا ليس مشروع الدول الغربية التخلص من هذه الأنظمة على الإطلاق وإنما تشذيبها وإعادة تأهيلها بعد أن خرجت عن حدود العقل والسياسة والسيطرة معا وصارت تطمح بأن تكون سيدة أمرها، تجاه الخارج بعد أن تخلت عن أي التزام أمام الداخل الوطني.
تنطوي عملية التأهيل بالتأكيد على إعادة بناء هذه الأنظمة من ناحيتين: التوافق مع الحد الأدنى من معايير العمل والسلوك السياسية الراهنة بما يعنيه ذلك من السعي إلى الاقتصاد في العنف للتخفيف من نمو العنف المضاد الذي بدأ يسبب مشاكل كبيرة لاستقرار النظام العام. وإجراء عملية فرز داخل النخب الحاكمة تقضي بتقليم أظافرها وكسر أنيابها لتخفيف الضغط عن المجتمعات وإعادة بعض الثقة إليها. وهو ما يتطلب تخليصها من الفئة الأكثر توحشا وأنانية فيها. وربما كانت ترجمة ذلك إتاحة حد أدنى من الحريات الفكرية والسياسية وفرض نظام التعددية الحزبية بما يعنيه من منافسة ظاهرية على مناصب المسؤولية مع الاحتفاظ بجوهر السلطة في يد الأجهزة الأمنية بعد إصلاحها وتطوير أدائها وربطها بالأجهزة الغربية.
لكن إذا لم يكن أمام النظام خيار آخر سوى التخلي عن هامش الاستقلالية الذي ميز سلوك شبكة المصالح السورية الحاكمة والالتحاق من مستوى التبعية الكاملة بالجوقة الأمريكية الأوروبية على شاكلة الأنظمة العربية الأخرى التي سبقته، وفي الظروف نفسها وللأسباب ذاتها، ومن ثم المساهمة في إعادة بناء النظام الاستعماري الإقليمي الجديد، فالأمر يختلف تماما بالنسبة لسورية والشعب السوري. فلديهما بالعكس خيار آخر يقطع تماما مع نظام سيادة الأجهزة الأمنية ولو على أسس أقل وحشية، هو التحول الديمقراطي الوطني الذي يقوم على السيادة الشعبية وبناء نظام قائم على المواطنية والمشاركة السياسية المتساوية والمحاسبة والمراقبة والشفافية وتداول السلطة والانتخابات النزيهة التنافسية والذي يضمن وحده الحريات الفردية والجماعية ويحقق المساواة الكاملة بين المواطنين والفصل بين السلطات كما يضمن استعادة الحقوق الوطنية وفي مقدمها الحق في السيادة والاستقلال.
ولا ينبغي انتظار استعادة نظام السيطرة شبه الاستعمارية لتوازنه وحله تناقضاته الداخلية التي يشكل النزاع السوري الأمريكي الأوروبي أحدها حتى نبدأ في التفكير بمثل هذا الخيار. فمن المطلوب بالعكس أن تشكل أزمة هذا النظام الإقليمي الاستعماري التي فجرها شره النخب المافيوية الحاكمة وسعيها الخروج عن الطوق فرصة لا تفوت في سبيل الخروج من نظام الهيمنة الدولية وتقاسم مناطق النفوذ بين أوروبة والولايات المتحدة وفرض سيادة الشعب السوري وأجندته الخاصة. وهذه هي المناسبة الوحيدة لقطع الطريق على عودة الاستبداد والديكتاتورية ولو بوجه جديد أو باسم آخر والتعلق بأذيال الاصلاحات الأمريكية في سبيل تكريس الخيار الجديد.
يتوقف الدفع في اتجاه تحقيق هذا الخيار النجاح في تعبئة النخب الاجتماعية وقطاعات الشعب والتوصل إلى تفاهم وطني واسع على أسس المرحلة القادمة يخفف من احتمالات الانقسام في الرأي ويقطع الطريق على تلاعب قوى النظام الاستعماري الجديد بالأطراف الوطنية. ويتطلب الوصول إلى هذه الأهداف انخراطا قويا للمعارضة الديمقراطية في مشروع التغيير وفي مقدمة ذلك توحيد قواها وتقديم المثال والنموذج لهذا التفاهم الوطني المنشود للشعب السوري نفسه. كما يتوقف أيضا على اتباع استراتيجيات مختلفة كليا عما هو سائد اليوم في صفوف المعارضة التي لا تزال منقسمة بين أنصار دعم النظام والمراهنة على التحول من داخله وأنصار التعاون مع أولياء أمره في واشنطن وباريس والمراهنة على ضغوطهم القوية. وهو ما يستدعي العمل على بلورة مشروع تحويل ديمقراطي مستقل ومعتمد على تحريك القوى الوطنية وتعزيز تحالفاتها مع القوى الديمقراطية العربية والعالمية.
ربما شكل إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي خطوة مهمة على هذا الطريق. لكن لن يكون له قيمة إذا قررت المعارضة أن تقف عنده وتجمد نشاطها فيه. فمصير سورية السياسي للحقبة القادمة يتقرر في هذه الأشهر القريبة. وسوف يتم تقريره حسب موازين القوى القائمة اليوم. فإذا بقي ينظر إلى المعارضة الديمقراطية على أنها قوة لا وزن كبيرا لها أو أنه لا فائدة من أخذها بالحسبان سيكون مصير التغيير مرتبطا بشكل رئيسي بتفاهم التكتل الغربي مع النخب التي تبدو أكثر سيطرة على الأرض وأكثر قدرة على الحفاظ على الاستمرارية والاستقرار، أي قوى الأجهزة البعثية السياسية والامنية والإدارية الراهنة. ولن تكون نتيجة العملية شيئا آخر سوى إعادة هيكلة نظام البعث القائم، تحت أسماء ومسميات وشعارات جديدة، كما حصل مع الحزب الوطني في مصر ومع حزب الدستور الجديد في تونس وغير ذلك من البلدان، للإبقاء على المعادلة السياسية القائمة نفسها، أي المراهنة على النخب المتماهية مع الدولة والأجهزة الامنية لضمان اشتغال الدولة والمؤسسات على حساب القوى الديمقراطية ولقاء التحييد المنظم للشعب وإبقائه خارج الحياة السياسية.
وما لم تتحول المعارضة الديمقراطية بسرعة إلى قوة مستقلة قادرة على التأثير والفعل فلن يكون أمام سورية خيار آخر سوى التمديد لنظام السلطة الأمنية مهما كانت الأسماء الجديدة المستخدمة، وهو في الوقت نفسه نظام الأزمة السياسية المستمرة ونظام الهيمنة الخارجية الدائمة وتجاهل الحقوق والمصالح الوطنية. ليس هناك أي ضمانة في أن تغير وحدة القوى الديمقراطية ونشاطها من مجرى الأحداث. لكن وجودها القوي سيشكل، مهما كان الحال، عاملا رئيسيا في تقرير هامش الحريات التي سيتمتع بها المواطن السوري ويقبل بها النظام القادم. وإذا لم تنجح القوى الديمقراطية في فرض نظام ديمقراطي حقيقي على التحالف الغربي فبإمكانها على الأقل أن تفرض عليه أخذ مطالبها بالاعتبار وتجنب سورية مخاطر إعادة تجربة مصر مبارك التي لا يزال فيها الحزب الوطني يحكم مصر من خلال تعددية كاذبة تخضع لإرادة الأجهزة، كما تريد ذلك واشنطن ولندن وباريس، منذ عقود، أو تجربة ليبيا التي أعيد فيها تأهيل النظام سياسيا من دون أدنى ذكر لمشاركة الشعب أو اعتراف بوجود المعارضة أو حتى احترام للحريات السياسية الأساسية.
لا ينبغي على الشعب السوري انتظار ما ستسفر عنه تحقيقات اللجنة الدولية ولا أن يراهن على انهيار النظام وحسن نوايا الدول الغربية في تغيير الأوضاع للأحسن. فما ستقوم به هذه القوى هو ما يخدم مصالحها وليس إطلاق الحريات السياسية ولا استرجاع الجولان ولا تحقيق الديمقراطية والازدهار مما يدخل فيها. إن على الشعب السوري أن يأخذ مصيره بيده وعلى الحركة الديمقراطية السورية التي تقوده أن تخطو اليوم خطوة أبعد بكثير من الإعلان عن وجودها وتبيان رؤيتها فتطرح على الجمهور مشروعا للحكم يضع حدا للتردد والتشويش السياسي ويؤكد خيار التغيير الديمقراطي بوصفه الشرط الأول لتحقيق الاصلاح. ومن دون ذلك لن يحدث شيء آخر سوى تعديل سلوك النظام، أي نظام قادم، ليتماشى مع مصالح الغربيين مع بقاء سلوكه تجاه شعبه من دون تغيير يذكر.
في هذا المجال يشكل اقتراح رياض الترك، الداعي إلى استقالة حكومة بشار الأسد وتسلم رئيس البرلمان السلطة مؤقتا حسب الدستور، وفي سبيل تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل جميع الأطراف، بما فيها حزب البعث الحاكم، وتحضر لانتخابات جمعية تأسيسية تعيد صوغ دستور ديمقراطي للبلاد، مع وقف تدخل أجهزة الأمن في الحياة السياسية ووضعها تحت السيطرة السياسية، وإلقاء مسؤولية ضمان الأمن والاستقرار وحماية السيادة والوحدة الوطنية على الجيش كمؤسسة رسمية تحظى بالولاء العام، مساهمة ايجابية ومبدعة معا. فهي تقدم رؤية واضحة وعملية للتغير تستبعد العنف والنزاع وتجنب البلاد مخاطر الانقسام والفوضى وتحترم السبل الدستورية وتضمن استمرار عمل مؤسسات الدولة بشكل طبيعي في الوقت نفسه. ومن الخطأ أن لا تأخذ المعارضة هذا الاقتراح بجدية وأن تظل تراهن على ما تسميه مؤتمرا وطنيا يدعم حركة الإصلاح تحت إشراف نظام لم يعد يملك هو نفسه أمره بين يديه.
لقد دفن النظام السوري الذي تأسس باستلام حزب البعث السلطة في 8 آذار 1963 مع قرار مجلس الأمن الأخير رقم 1636. وما سيخرج من مضاعفات تقرير لجنة ميليس الثاني، سواء تم اتهام مسؤولين كبار في النظام أم لا، هو نظام جديد يستلهم ما حصل ويحصل في البلدان العربية الأخرى، أي نظام هجين قائم على الدمج بين الخضوع الأعمى للاستراتيجيات الغربية والتفاهم مع إسرائيل، والاستمرار في دعم الحكم بوسائل أمنية وتسلطية ترد على مخاوف الدول الغربية من احتمال فتح الديمقراطية الأبواب واسعة أمام انتعاش الحركات المعادية للغرب، سواء أكانت حركات تستلهم الايديولوجيات الدينية أم الايديولوجيات القومية. ولن يكون بديل التحول الديمقراطي الناجز في سورية كما هو الحال في البلدان العربية الأخرى سوى إعادة بناء النظام الإقليمي شبه الاستعماري نفسه الذي أحبط حتى الآن كل إرادة عربية في التحرر والانعتاق.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire