الاتحاد 7 نوفمبر 05
قلت في مقال سابق إن التفاهم الأمريكي الفرنسي ضد النظام السوري وما تبعه من عمل مشترك على قرار مجلس الأمن رقم 1959 القاضي بخروج الجيش السوري والاجهزة الامنية من لبنان بعد تصويت الكونغرس الامريكي على قانون معاقبة سورية قد وضع النظام السوري في منطقة رمال متحركة. وأن أي حركة يقوم بها النظام منذ ذلك الوقت للخروج من دوامة الرمال هذه لن تزيده إلا غرقا فيها. وهذا ما حصل بالفعل بعد التمديد للرئيس إميل لحود الذي جاء ردا مسبقا على تبني قرار انسحاب الجيش السوري من قبل مجلس الامن، وما سيحصل أيضا بعد اغتيال الحريري الذي بدا للجميع وفي مقدمهم مئات ألوف اللبنانيين الذين خرجوا إلى الساحات منددين بأحهزة الأمن السورية واللبنانية وكأن النظام السوري هو المتهم الوحيد والطبيعي فيه. لكن مع تصويت مجلس الأمن على القرار رقم 1636 كرد على عدم التعاون السوري الكامل كما جاء على لسان القاضي الدولي، أصبح مصير النظام معلقا بشكل كامل ولا مهرب منه بقرار التكتل الغربي وإرادته. ولن يكون للنظام مخرجا من الفخ الذي وقع فيه إلا بالقبول بالاستسلام للتحالف الأوروبي الأمريكي من دون قيد أو شرط.
ليس مهما بعد الآن أن يكون النظام قد شارك أم لا في الجريمة النكراء. وليس من المؤكد أن معاقبة مرتكبي هذه الجريمة هو الهدف الحقيقي أو الرئيسي من عملية اصطياد النظام السوري التي لا يشكل موضوع اغتيال الحريري إلا جانبا منها. المهم أن ما أرادته الولايات المتحدة وفرنسا قد تحقق فأصبح موت النظام أو بقاؤه في يد التحالف نفسه الذي قابله النظام السوري بالتحدي عندما قرر، لأسباب مختلفة، تبني سياسة عرقلة التغيير الأمريكي في العراق والتغيير الفرنسي في لبنان. وكان هدف النظام في كليهما السعي بجميع الوسائل إلى المحافظة على هامش حركة إقليمي يمكنه من تحسين موقعه التفاوضي مع الدول الكبرى من جهة ومع شعبه المستبعد تماما من القرار من جهة أخرى. ويشبه وضع النظام السوري في هذا المجال الوضع الذي عرفه نظام صدام حسين كثيرا. فالنظام العراقي الذي اعتقد أنه يستطيع التصرف بحرية نسبية كبيرة أو باستقلالية عن الدول الغربية، لما يملكه من موارد نفطية ومالية من جهة، وما راكمه من وسائل القوة العسكرية في حربه الطويلة ضد إيران من جهة ثانية، نسي، في فترة من جنون العظمة، أن سر قوته وانتصاره على ايران لا يكمن في ما يملكه من قوى أصيلة، ولكنه مستمد من التفويض الضمني الذي منحته اياه الدول الغربية والذي حصل بفضله على التطور التقني العسكري الكبير الذي شهده. وقد أراد هو أيضا، كما سيحاول النظام السوري بعده، أن يستفيد من هامش الاستقلاليه الذي يتيحه تراكم القوة الإقليمية، في سبيل الدفاع عن أجندة خاصة بالنظام نفسه ومستقلة تماما عن أجندة الدول الغربية التي رتبت الحرب ضد ايران. وكانت النتيجة تصفية القوة العسكرية العراقية التي كان يراهن عليها الرئيس العراقي لتحقيق أهداف خاصة به، لا بل الذهاب في ما وراء ذلك، والقضاء على الدولة العراقية المحدثة ذاتها لما يمكن أن تمثله من مخاطر محتملة على المصالح الغربية في الخليج والمشرق بشكل عام.
لم يكن تراكم القوة العسكرية والتحكم ببعض تقنياتها على مثال ما حصل في العراق هو الذي دفع المسؤولين السوريين إلى الخطأ في الحسابات التي قادتهم إلى ما هم فيه ولكن تراكم ما أطلقوا عليه اسم الأوراق الإقليمية. والمقصود بها بالدرجة الأولى تحكمهم بمواقع استراتيجية أو بمنظمات وهيئات ومؤسسات وحركات إقليمية تجعلهم قادرين على التأثير على سياسات بعض الدول المجاورة، ومن ورائها عقد صفقات مربحة مع القوى الغربية التي بقيت متمسكة لفترة طويلة بسياسة دعم الاستقرار في المنطقة الشرق أوسطية بأي ثمن، ومحاصرة أي حركة تغيير، بما فيها الحركات الاصلاحية البسيطة. وكما حصل في العراق نسي القادة البعثيون في سورية أن مراكمة النفوذ الإقليمي أو الرصيد الذي ارتبط به لم ينشأ ضد إرادة الدول الغربية الفاعلة في المنطقة ولكن بموافقتها. وهي حريصة على أن تحافظ عليه طالما بقي يستخدم لتحقيق أهداف لا تختلف عليها أو طالما كان ينسجم مع استراتيجيتها. وبالرغم من أن التحالف الغربي قد تساهل في بعض الأحيان، في إطار المحافظة على التعاون الاستراتيجي العام، مع استغلال النفوذ السوري الإقليمي من قبل شبكات المصالح المرتبطة بالنظام لتحقيق أهداف خاصة اقتصادية او مالية، إلا أن الأمر اختلف كثيرا عندما بدا وكان أعضاء هذه الشبكات اعتقدوا أنهم يتمتعون بما يكفي من الاستقلال أو القوة المؤهلة للاستقلال حتى يطالبوا بنصيبهم الخاص ويتصرفوا كما لو كانوا شركاء لتلك الدول الكبرى المؤتمنة عليهم والحامية لهم في تقرير مصير المنطقة أو في تقاسم الغنائم المتاحة. عندئذ ما كان من أمر التحالف الغربي الذي شعر بما يشبه التمرد عليه ممن ينظر إليهم كصنائعه إلا أن أشهر عصاه ليظهر لهم أن قوة نفوذهم التي يعتدون بها ليست سوى قوة مستعارة. وتعني كلمة مستعارة أنها ليس لها منابع محلية في أي قوة استراتيجية خاصة لا سياسية ولا اقتصادية ولا تقنية، وأنها ثمرة تفاهم استراتيجي مع القوى الغربية النافذة. إن نفوذهم هو نفوذ تفويض لا تعبيرا عن قوة أصيلة خاصة.
من هنا لم يكن المستهدف في المواجهة السورية الغربية الراهنة القوة العسكرية السورية أو أي مصلحة سورية أخرى ولكن الدور السوري الإقليمي الذي يشكل الحضور العسكري والأمني السوري في لبنان مركز قوته ورمزه معا. ولا يهدف القضاء على النفوذ السوري الإقليمي القضاء على النظام القائم ولكن تجريد هذا النظام من القوة والاستقلالية المرتبطة بها التي تشجعه على التفكير بصوغ أجندة خاصة منفصلة أو متميزة عن اجندة الدول التي تعتقد أن وجوده نفسه معلق بها ومعتمد عليها. ومما سهل على الدول الغربية تصفية هذه القوة المولدة للاستقلالية هو أنها لم ترتبط بالدفاع عن مصالح وطنية عامة ولكنها استخدمت للحفاظ على مصالح خاصة وفي مقدمها بقاء النظام ومجموعة المصالح الضيقة المرتبطة به واستمرارهما. من هنا لم يظهر النفوذ الإقليمي السوري في لبنان، كما هو الحال في فلسطين والأردن والعراق وغيرها من البلدان، في نظر السوريين، كتجسيد لمصالح وطنية بقدر ما بدا باستمرار كتعويض عن غياب سياسة وطنية حقيقية سواء ما تعلق منها بالدفاع عن الأرض أو باحترام حقوق وحريات المواطنين. ولذلك لم يقد زوال هذا النفوذ إلى تعزيز الالتفاف الشعبي من حول النظام في مواجهة المخاطر الخارجية بقدر ما أدى إلى تجريد الديكتاتورية المفروضة في الداخل من مبررات وجودها وإظهار النظام على حقيقته العارية بوصفه نظام المصالح الخاصة بامتياز، أي نظام حفاظ كل صاحب موقع أو منصب، على أي مستوى كان من مستويات العمل في الدولة والإدارة، بأي ثمن وبأي وسيلة، على منصبه وامتيازاته الخاصة.
لكن إذا كان سبب الأزمة المتفجرة في العلاقات السورية الغربية لا يختلف عما عرفه عراق صدام حسين قبل الغزو الأمريكي، فلا يعني هذا أن الاختيارات المتاحة للتحالف الغربي وللنظام السوري أيضا واحدة ولا المطالب متماثلة. فبعكس ما حصل مع عراق صدام ليس هناك مخرج من ازمة العلاقات الغربية البعثية حتى الآن سوى بإعادة تأهيل النظام لإعداده للعمل في سياق السياسات الجديدة. وليس هناك ما يمنع التحالف الغربي، لقاء بعض التضحيات، من الوصول إلى تفاهم جديد مع النظام السوري أو بعض ممثليه متى ما أقر هذا النظام بحقيقة قوته المستعارة وتخلى عن طموحاته الذاتية وقبل من جديد بالانخراط في الاستراتيجية الغربية كما كان يفعل في السابق. كما أنه لا شيء يمنع النظام السوري، لقاء إخضاع شبكات مصالحه التي نسيت، تحت تأثير إغراءات مراكمة الثروة الاستثنائية، معايير التعامل الدولي ومنطق السياسة، من العودة إلى الطريق "القويم" والاعتراف بقانون السيادة. ومن هنا ليس الخطر في سورية هو زوال النظام ولكن بالعكس بقاؤه. فهو يعني تكريس الوضع القائم ولو بشروط محسنة كما يعني دخول سورية الحقبة القادمة بنظام معطوب فاقد للشرعية والصدقية الداخلية والخارجية ومنشغل بحل تناقضاته الداخلية. وهذا هو الطريق المستقيم نحو مرحلة طويلة من الفوضى والاقتتال. وبالعكس إن التحول الديمقراطي هو وحده الذي يضمن القطع مع الماضي وبناء نظام جديد قادر على تعبئة طاقات المجتمع السوري وأطلاق مواهبه الابداعية ودفعه نحو حياة جديدة. فهل تستطيع المعارضة الرد على التحدي وتعبيد الطريق نحو الخيار الوحيد الذي يضمن مصالح سورية وشعبها ويقطع الطريق على احتمال إعادة فرض نظام القمع الراهن تحت شعارات جديدة وبلباس آخر؟ هذا هو سؤال السوريين الرئيسي اليوم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire