قلت في مقال سابق أن فرنسا نجحت، بفضل سياساتها المتوازنة في قضايا النزاعات التي تمزق الشرق الأوسط، سواء ما تعلق منها بالنزاع العربي الاسرائيلي أو بالنزاع العراقي، في أن تنتزع لنفسها موقعا مؤثرا في أوساط الرأي العام العربي المتلهف إلى حليف يشد أزره في حرب المواجهة العلنية والشاملة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع إسرائيل ولصالحها أيضا إلى حد كبير على المنطقة بأسر ها. بيد أن هذا التقدير الكبير للسياسة الفرنسية الخارجية الشرق أوسطية والدولية معا لا يمنع أوساط الرأي العام العربي الرسمية منها والشعبية من التساؤل عن مدى تماسك هذه السياسة وصدقيتها. وقسم لا يستهان به من هذه الأوساط لا يميل إلى التشكيك بأهداف هذه السياسة فحسب ولكنه يعتقد أيضا بأن فرنسا لا تملك وسائل تحقيقها ولا الاستمرار في التمسك بها.
لكن الشعبية التي تحظى بها ليست بالضرورة المعيار الحاسم لصلاح السياسات الخارجية ولا لنجاعتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بدولة كبيرة كفرنسا، ومن وجهة نظر المصالح القومية الفرنسية. كما أن من الصعب محاكمة أي سياسة خارجية انطلاقا من نجاحاتها الوقتية أو على المدى القصير فحسب. ولو تجاوزنا هذين العاملين، أعني الشعبية والنظرة قصيرة المدى، وتأملنا في السياسة الفرنسية الشرق أوسطية على مدى العقود الثلاث أو الأربع الماضية لوجدنا أن ما يميزها هو الخسارة المستمرة و التراجع الدائم في المشرق العربي والشرق الأوسط عموما أمام الزحف الامريكي المتواصل بالرغم من العقبات والصعوبات والمعارضات المحلية والخارجية لهذا الزحف. ونتيجة هذا التراجع تتجلى اليوم في انحسار النفوذ الفرنسي الاستراتيجي والاقتصادي والثقافي لصالح النفوذ الأمريكي وخسارة باريس مواقع أساسية ربما كان العراق هو أهمها على الإطلاق. وبالمثل من الصعب أيضا القول، من وجهة نظر المصالح العربية، أن هذه السياسة التي تبدو اليوم في توافق مع المشاعر العربية قد نجحت في التحول إلى عامل مؤثر فعلا في المنطقة وأن المشاكل الإقليمية العالقة والتي يعاني منها العرب وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني قد وجدت بفضلها بعض التقدم أو التغيير.
ليس هناك شك في أن المسؤول عن هذا التراجع في المواقع الفرنسية الاستراتيجية في المنطقة ليس العهد القائم وربما ليس عهدا بذاته، ولا اليسار أو اليمين الفرنسيين. وهو ليس بالضرورة ثمرة أخطاء متراكمة ارتكبتها الدبلوماسية الفرنسية بقدر ما هو النتيجة الطبيعية لخيارات سياسية أساسية طبعت استراتيجية فرنسا في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية وبعد الخروج من حقبة الاستعمار الطويلة. وقد دفعت باريس في العقدين الماضيين ولا تزال تدفع في نظري ثمن هذه الخيارات التي كانت مسؤولة عن وصول الأوضاع الشرق أوسطية اليوم إلى ما هي عليه أو على الأقل التي ساهمت مساهمة كبيرة في وصولها إلى هذه الأوضاع.
أول هذه الخيارات التي يستحق التذكير به هو تبني السياسة الفرنسية لإسرائيل منذ ولادتها عام 1948 ودعمها، حتى عام 1967، بالسلاح والمال في مواجهة الدول العربية وتقديم العون العلمي والتقني الحاسم لها الذي حولها إلى الدولة الوحيدة التي تملك في المنطقة أسلحة الدمار الشامل الذرية. أما الخيار الثاني فهو وقوفها بشكل واضح، دولة ومثقفين ورأيا عاما، ضد مشاريع التعاون والاندماج العربية التي اتخذت في وقتها صورة الصراع تحت راية الفكرة أو الوحدة القومية العربية، ومشاركتها في إظهار هذه الحركة للرأي العام العالمي على أنها استعادة للفكرة الامبرطورية الاسلامية العتيقة ووصم قيادتها بالعنصرية والفاشية على حد سواء. لكن حتى في ما بعد ذلك، لم تظهر السياسات الفرنسية التي كانت تسير جنبا إلى جنب مع السياسة الأمريكية في المنطقة أي تعاطف مهما كان صغيرا مع حركات التحول الديمقراطي والاجتماعي العربية وبقيت أمينة لتحالفها مع تلك النظم الديكتاتورية نفسها التي تتخذ الولايات المتحدة اليوم من نقد ممارساتها الاستبدادية ذريعة لإضفاء الشرعية على مشروع سيطرتها المادية المباشرة على المشرق العربي واحتكار موارده الاستراتيجية والنفطية.
وهكذا، عندما قررت الإدارة الأمريكية اليمينية تنفيذ خططها في المنطقة وتكنيس المصالح الأوروبية والعالمية الأخرى لم تجد أمامها أي عقبة تذكر. فالعالم العربي الذي بقي ممزقا إلى اثنين وعشرين دولة واحدتها أضعف من الأخرى لم يكن يزن شيئا من الناحية الاستراتيجية وغير قادر على تشكيل جبهة حقيقية للحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية والوحدة الداخلية. أما إسرائيل التي احتفت بها الدول الأوروبية بوصفها معقلا للديمقراطية وواحة لها في الشرق الأوسط فهي التي تمثل اليوم الحليف الرئيسي والمطلق للولايات المتحدة وعونها الأول في بسط النفوذ الأمريكي فيها في الوقت الذي لاتكف سياساتها الاستيطانية فيه عن تقويض أسس التقدم المادي والسياسي معا للمنطقة برمتها.
وبالرغم من المظاهر الخادعة لم يشهد الوقت الحاضر تغيرا كبيرا على المضمون العميق لهذه السياسة. ولا تزال السياسة الفرنسية الشرق أوسطية لم تتحرر بعد من العوائق النظرية والعملية التي منعتها من التعاون الفعلي مع العالم العربي وتكوين تحالف متوسطي قادر على تعزيز استقلال المنطقة ككل وتجنيبها التحول إلى ساحة مواجهة بين القوى الكبرى. وسواء تعلق الأمر بالموقف من الاستيطان الاسرائيلي أو بالتعاون والاندماج العربي لا يبدو أن للدبلوماسية الفرنسية خيارات أخرى متميزة خارج دائرة التعبير عن مشاعر التضامن والتأييد الأدبية والسياسية الدورية.
هناك بالتأكيد عقبات موضوعية عديدة تحول بين فرنسا وبلورة سياسة عربية حقيقية. أولها ارتباط فرنسا بالاتحاد الأوروبي واضطرارها إلى الأخذ بسياسات أوروبية مشتركة ليست هي الوحيدة صاحبة القرار فيها. ولا تتضمن السياسات الأوروبية أي رؤية طويلة المدى أو أي مشروع للتعامل مع البلاد العربية يختلف عما كان قائما في الماضي. فباستثناء الاتفاقيات الانفرادية التي وقعتها أوربة مع معظم البلدان العربية في إطار الشراكة المتوسطية والتي لا تقدم أي حل لأي مشكلة من المشاكل الإقليمية الجوهرية، من النزاع العربي الاسرائيلي إلى مسألة التنمية إلى المسألة الديمقراطية، ليس للسياسات الأوروبية هدف آخر سوى الدفاع عن مصالح أوربة الخاصة المتبقية في مواجهة المدحلة الأمريكية العسكرية والسياسية والثقافية والحفاظ على البقاء في عالم يهرب من تحت سيطرتها. ومن هذه العقبات أيضا ضعف قوى التغيير العربية المحلية التي يمكن المراهنة عليها لنسج علاقات جديدة او بلورة رؤية أخرى لعالم ما بعد الحرب العراقية الأمريكية بسبب تكلس الأنظمة القائمة وعجزها عن التغير والتغيير. ومنها كذلك الخلل الهائل في التوازن الجيوستراتيجي الدولي نتيجة غياب أي قطب فاعل يضم بلدان الجنوب التي تشكل ثلاثة أرباع البشرية وهي ذات المصلحة الرئيسية في أعادة بناء النظام العالمي على أسس جديدة تضمن التعددية واحترام المباديء القانونية. وهو ما يظهر من خلال التفكك الذي تعاني منه حركة عدم الانحياز والكتلة الدولية التي تمثلها.
ومن هنا، وأمام هذا الاختلال العميق في القوة وفي غياب قطب عربي حقيقي قادر على التفاعل مع فرنسا وأوروبا كشريك فعلي لا كتابع ومتسول عليهما، ما كان بإمكان السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط أن ترسم لنفسها أهدافا أخرى سوى التمسك بمواقعها القائمة والدفاع عنها بعيدا عن أي محاولة جريئة لربطها بما يمكن أن يشكل مصالح عربية وما يستدعي دفع المنطقة والنظم السياسية إلى تبني إعادة بناء نفسها على أسس جديدة كما تدعو إلى ذلك الولايات المتحدة في إطار سعيها إلى ربط سيطرتها الإقليمية بمشروع تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية ليبرالية. وفي إطار الحفاظ على مواقعها ونفوذها تحاول باريس أن تدعم الموقف الدبلوماسي العربي وتحد من انهياره أمام التحالف الاستراتيجي الاسرائيلي الأمريكي كما تسعى إلى موازنة الضغوط الأمريكية الاسرائيلية التي تخضع لها الدول العربية والتي تهدف إلى تطويعها وتركيعها، والتمسك، بالرغم من كل الصعوبات والعقبات، بالإبقاء على جذوة عملية التسوية السياسية العربية الاسرائيلية حية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire