لجزيرة نت 19 نوفمبر 2003
جعل تقرير التنمية الانسانية الثاني للمنطقة العربية الذي صدر في الشهر الماضي عن الأمم المتحدة من مسألة المعرفة محور اهتمامه في سعيه لفهم أسباب تعثر التنمية في البلاد العربية. وقد أشار التقرير في معرض تحليله للأوضاع المعرفية إلى عوامل عديدة ربما كان أهمها طبيعة النظم السياسية التي تشكل اليوم في نظري نقطة الضعف الرئيسية في حياة المجتمعات العربية على جميع الأصعدة. وبالرغم من أن هذه النظم ليست مستقلة تماما عن البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في هذه المجتمعات إلا أنها هي المدخل الوحيد لفهمها ومفتاح معالجتها معا.
وكما يشير التقرير بحق إليه، يشكل عدم الاستقرار واحتدام الصراع والتنافس على المناصب النابع من الافتقار لقاعدة ثابتة ومقبولة للتداول السلمي على السلطة بين النخب المتنازعة، أي غياب الديمقراطية، عائقا أساسيا أمام نمو المعرفة وتوطنها النهائي وترسخها في التربة العربية. فمن النتائج الرئيسية لهذا الوضع السياسي، غير المستقر والذي يعيش فيه الحاكم والمحكوم في هوس الانشقاقات والتقلبات والتحولات بل والانقلابات المفاجئة وغير المتوقعة، تحويل مسألة الأمن إلى البند الرئيسي وأحيانا الوحيد في جدول أعمال النخب الحاكمة. وهذا ما يقود بشكل حتمي إلى اضطرار السلطات القائمة على غير أساس شرعي وثابت إلى تكريس القسم الاكبر من الاستثمارات في قطاعات ضمان أمن النظام. وغالبا ما تكون الضحية الرئيسية لتقليص الإنفاق الحكومي في الميادين الأخرى لصالح تنمية وسائل الأمن هي ميادين النشاطات التي لا تعطي فائدة ومردودا مباشرين وسريعين. فلا شك أن رشوة الزبائن والمقربين تبدو ذات نجاعة أكبر في منظور هذا الوضع السياسي القائم على مبدأ التنازع على البقاء لا على مبدأ تنمية المنافع المتبادلة لجميع السكان، من أي استثمارات علمية أو ثقافية.
ومن الطبيعي أن تكون قطاعات الثقافة والمعرفة والبحث العلمي هي القطاعات التي تتعرض قبل غيرها إلى الإهمال سواء من حيث الاهتمام السياسي أو من حيث تخصيص الاستثمارات المادية. وهذا ما يفسر، أكثر من العوامل الاقتصادية نفسها، ضعف الاستثمار في البحث وتخبط السياسات التعليمية وضآلة الاستثمارات الثقافية وأحيانا انعدامها. ويكفي لإدراك نتائج هذا الوضع مقارنة حصة المخصصات للبحث العلمي في البلاد العربية مع مثيلاتها في العالم الصناعي - بل حتى في البلدان النامية نفسها من الناتج المحلي. إذ لا يتجاوز نصيب البحث العلمي والتقني في البلاد العربية سوى 2 بالألف من الناتج المحلي مقابل ما يزيد عن 2 بالمئة بالنسبة لمعظم الدول الصناعية ( تتراوح النسبة بين 2.5%- 5.00%). وبالإضافة إلى ذلك، يأتي 89% من الإنفاق على البحث والتطوير في البلدان العربية من مصادر حكومية، ولا تخصص القطاعات الإنتاجية والخدمية سوى 3% فقط من هذه المصادر، بينما تزيد هذه النسبة في الدول المتقدمة عن 50%. التقرير الثاني للأمم المتحدة عن التنمية الانسانية في المنطقة العربية 2002.
لكن أثر الوضع السياسي القائم على الإكراه ورفض الاحتكام للإرادة الشعبية، والخائف بالتالي من أي مبادرة مجتمعية أو ثقافية أو فكرية مستقلة، لا يتوقف عند تقليص ميزانية البحث العلمي والتقني في العالم العربي ولكنه يتجاوز ذلك إلى الإدارة العلمية والتربوية نفسها. فمما لا شك فيه أن الضعف الشديد الذي يميز مؤسسات التعليم والبحث العلمي العربي القائمة ويقلل عوائدها هو سيطرة الاستراتيجيات السياسية على هذه المؤسسات وحرمانها من الأطر الصالحة الكفؤة والمناسبة من جهة، ومن الاستقلالية التي لا غنى عنها لأي رجل علم وبحث ومعرفة ولأي تجديد وإبداع معرفي من جهة ثانية. فمن دون ذلك تتحول المؤسسات المعرفية إلى أجهزة وأدوات إضافية لتعزيز سيطرة النخب الحاكمة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية التي تستند إليها ولا يبقى لها، كما هو الحال في العديد من البلاد العربية، أي علاقة بميدان المعرفة، سواء أكان تعليما أو بحثا أو تجديدا تقنيا.
ومن هنا يشكل إخضاع مؤسسات البحث العلمي للاستراتيجيات السياسية وللصراع على السلطة وتقديم مقاييس الولاء والزبائنية في إدارة هذه المؤسسات على مقاييس الكفاءة والمعرفة، وتقييد الحريات الفكرية والسياسية للباحثين، وفي وسط الرأي العام معا، وما يقود إليه من تكبيل للعقول الحية وإخماد لجذوة المعرفة وقتل لحوافز الإبداع، يشكل كل ذلك عاملا رئيسيا في تفسير تخلف المنظومة العلمية التقنية وضعفها الإداري والمعرفي وعجزها عن الانتاج والابداع.
ولا يمكن لهذا الوضع أن لا ينعكس على الوضعية القانونية التي تؤثر بدورها على الممارسة المعرفية. فرفض الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بالإضافة إلى ضعف استقلال القضاء، يحرم العالم العربي من بناء نظام مقبول وضروري من الضمانات القانونية التي تحمي الفرد وتشجعه على المبادرة وتضمن له الأمن الشخصي وحرية التصرف بملكيته، سواء أكانت فكرية أو مادية. ولا يمكن لهذا المزيج المدمر من تأبيد قوانين الطواريء وقبول مبدأ التعسف السياسي وفي الكثير من الأحيان فساد القضاء وغياب نصوص قانونية لحماية الملكية الفكرية، إلا أن يدفع الأفراد إلى البحث عن مستقبلهم خارج أوطانهم ويثبط همم المبدعين ويقتل اندفاعهم إلى العمل وبذل الجهد في سبيل تطوير مواهبهم واستغلال الفرص المتاحة لهم وهي أصلا قليلة في المجتمعات النامية الفقيرة.
كما لا يمكن لهذا الوضع السياسي الذي يتسم بتكريس النخب القائمة وترسيخ أقدامها في السلطة وسيطرتها على الموارد العامة من دون رقيب ولا حسيب أن لا يؤثر بشكل عميق على توزيع الثروة وتركيزها لصالح فئة قليلة وحرمان الأغلبية الاجتماعية منها. إن التوزيع غير العادل للدخول والتمييز الذي تمارسه النظم السياسية الإكراهية بين فئات السكان بحسب الانتماء أو الولاء أو الموقع الاجتماعي يحولان بشكل واضح بين أغلبية السكان وشروط اكتساب المعرفة وتنميتها.
وفي البلاد العربية بشكل خاص يؤدي التلاقي بين نظام سياسي تسلطي من جهة ونظام اجتماعي قائم على التمييز العلني وشبه الرسمي بين المواطنين على أساس الولاء السياسي أو الجنس أو الدين أو المنطقة أو العشيرة إلى تركيز الثروة في أيدي فئات طفيلية بيرقراطية أو مافيوية منفصلة عن صيرورات الانتاج والاستثمار والتجديد التقني الرئيسية وبعيدة كليا عن التفكير في المصالح العامة والانشغال بهموم التنمية الانسانية. فلا يحرم الفقر الغالبية العظمى من الجمهور من القدرة على النفاذ إلى المعرفة والثقافة فحسب ولكن التدهور المستمر في قيمة مرتبات وأجور العاملين في حقول المعرفة من تعليم وعلم وبحث وتجديد يدفع قسما كبيرا من المعلمين والأساتذة إلى التخلي عن مسؤولياتهم وعدم الوفاء بالتزاماتهم مفضلين استخدام المؤسسات العلمية والتعليمية في سبيل تكوين زبائن لهم وإجبار طلبة العلم على دفع دروس خصوصية كشرط لنجاحهم في الامتحان. مما يشكل بداية فوضوية لعملية تخصيص التعليم والدراسة. بل إن ضعف المرتبات قد جعل بعض المدرسين في بعض الجامعات العربية يقايضون نجاح الطلبة في مادتهم الخاصة بمبالغ معلومة من المال. كما أدى ضعف المرتبات التي يتقاضاها رجال العلم والتعليم إلى تنمية استعدادات عميقة لدى الأطر المكونة العلمية والتقنية إلى الهجرة والبحث في بلاد أخرى عن وسيلة للعيش الكريم. ويكاد العالم العربي يشكل اليوم الخزان الأكبر لأصحاب الكفاءات والمهارات المرشحين للهجرة الدولية بالمقارنة مع جميع المجتمعات الاخرى الكبيرة.
ولا ينجم عن ذلك فقر في الأطر العلمية والتقنية مستمر بالرغم من النفقات المتزايدة في التعليم فحسب، ولا قصور في إنتاج المعارف الضرورية للتسيير الاقتصادي والإداري ولكن، أكثر من ذلك، تراجع إن لم نقل انعدام الطلب الاجتماعي نفسه على المعرفة. فالمعلمون والأساتذة والمدرسون والباحثون والمبدعون على اختلاف أنواعهم لا يملكون بمرتباتهم الضئيلة القدرة على اقتناء منتجات المعرفة ووسائل اكتسابها أو الاستقاء منها، سواء أكان ذلك على شكل شراء السلع المعرفية كالكتب والموسوعات والمؤلفات العلمية، أو على شكل مشاركة في الندوات والمؤتمرات العلمية، أو على شكل اشتراكات في دوريات علمية ومعرفية مختلفة. بل إن معظم العاملين في الحقول المعرفية يضطرون في البلاد العربية إلى القيام بأعمال لا تتعلق باختصاصاتهم الأصلية في سبيل تأمين الحد الأدنى من متطلبات حياتهم اليومية.
وتعمل الإدارة البيرقراطية المرتبطة بالحكم المطلق وانعدام المساءلة والمحاسبة السياسيين والتي سيطرت على الإدارة الاقتصادية العربية لعقود طويلة ولا تزال، في البلدان التي كانت تتبع اقتصاد التخطيط وتلك التي كانت تنتمي للاقتصاد الحر، على إضعاف الطلب الاقتصادي على المعرفة والتجديد العلمي والتقني بقدر ما تدعم اقتصاد المضاربة الذي يستفيد من الصلات الخاصة التي تقوم بين الإدارة ورجال الأعمال لفرض منطق الاحتكار. وحتى عندما توجد قوانين تسمح ببعض المنافسة، كما هو الحال اليوم بعد تطبيق مشاريع التعديل الهيكلي والاصلاح الاقتصادي والانفتاح، فإن فساد النظم المجتمعية والسياسية الذي يتجلى في التفاهم العميق بين النخب السياسية ونخب رجال المال والأعمال يقود إلى تكوين شبكات مصالح قوية تتقاسم المنافع والمصالح في ما بينها على الطريقة المافيوزية. وفي غياب المنافسة النزيهة بين الشركات المنتجة لا يبقى هناك سبب لتنمية الطلب على الخبرة والتقانة، إذ تبقى العلاقات العامة والزبائنية بين رجال الأعمال ورجال السلطة أكثر فائدة من تحقيق أي تقدم في الانتاجية أو في الإدارة الاقتصادية.
ومما يضاعف من أثر هذه الإدارة البيرقراطية على التنمية المعرفية وفرة الموارد الريعية وارتفاع نصيبها في الناتج القومي وفي تغذية ميزانيات الدول معا نتيجة الاعتماد المتزايد على تصدير المواد الأولية واستغلال الثروات الطبيعية. فهي تشجع على استسهال استيراد الخبرة والتقنيات الجاهزة بدل العمل على إنتاجها. كما تشجع على تفضيل الخبرة والتقنيات الأجنبية الجاهزة على التقنيات المحلية التي تحتاج إلى الرعاية والاستثمار الأولى.
هذا هو الثمن الكبير الذي تدفعه المجتمعات العربية نتيجة التمسك بنظم إكراهية وبيرقراطية معا. وإلى هذه النظم يرجع نشوء ما يسميه التقرير بالفجوة المعرفية المتوسعة التي يعرفها العالم العربي بالمقارنة مع التقدم العلمي والتقني في العالم أجمع. وهي فجوة تتجلى في نقص الانتاج العلمي والتقني وتخلف بنيات الانتاج الصناعي والاقتصادي عموما وتدهور إنتاجية العمل وتراجع العائد العام من الاستثمارات. وإليها يرجع أيضا غياب البحث العلمي الناجع وفساد نظم التكوين والتأهيل العلمي والتقني، وفي موازاة ذلك ضياع مفهوم الاتقان نفسه والعمل حسب أصول واضحة أو تغييبه داخل المؤسسات والدوائر الاقتصادية والإدارية، والقبول بمفهوم غير مهني وغير احترافي قائم على مبدأ: مشيها اليوم وغدا نرى، في تسيير الأمور والحفاظ على الأوضاع القائمة. ولا يعني ذلك كله في الواقع سوى قتل روح المبادرة والتجديد والإبداع والتحسيين عند جميع العاملين وداخل المجتمع بأسره.
ويبين نصيب الصادرات عالية التقنية من مجمل الصادرات العربية الموقع الأدنى الذي تحتله منطقة " الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، بين مناطق العالم، بما في ذلك مجمل البلدان منخفضة الدخل، في كلا نسبة الصادرات المصنعة (مؤشر على مدى غلبة المواد الأولية في الناتج الاقتصادي) ونسبة صادرات التقانة العالية (مؤشر على مدى كثافة المعرفة في الناتج الاقتصادي).
كما تؤكد المؤشرات الخاصة بعدد براءات الاختراع المسجلة من قبل البلدان العربية ونسبة إنتاج الكتب في العالم العربي درجة التخلف العلمي والتقني للعالم العربي بالمقارنة مع بقية بلاد العالم وموقعه الهامشي في الثورة العلمية والتقنية الراهنة سواء من حيث الانتاج والمشاركة في السوق الواسعة التي تخلقها والتي تشكل أهم سوق متطورة ونشيطة اليوم في الاقتصاد العالمي أو من حيث المشاركة العلمية والفكرية والابداعية. فلا تزيد البراءات المسجلة في أهم وأكبر دولة عربية، مصر، عن 77 براءة خلال الفترة 1980 – 2000 في حين تبلغ في كورية 16328للفترة ذاتها. ولا يتجاوز إنتاج الكتب في البلاد العربية 1,1 من الانتاج العالمي في حين يعد العالم العربي 5 بالمئة من سكان العالم. مع العلم أن نسبة كبيرة من هذا الانتاج مكرسة للكتب الدينية والتراثية.
بيد أن الأثر السلبي الأكبر لفجوة المعرفة لا يظهر للأسف في ضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فحسب وإنما يظهر بشكل أكبر وأخطر في عحز البلاد العربية عن إنتاج وسائل دفاعاتها وحمايتها في وجه الاعتداءات والضغوط الخارجية ويحول دون إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة في أخطر مواجهة يتقرر فيها مصير المنطقة، أعني المواجهة العربية الاسرائيلية.
جعل تقرير التنمية الانسانية الثاني للمنطقة العربية الذي صدر في الشهر الماضي عن الأمم المتحدة من مسألة المعرفة محور اهتمامه في سعيه لفهم أسباب تعثر التنمية في البلاد العربية. وقد أشار التقرير في معرض تحليله للأوضاع المعرفية إلى عوامل عديدة ربما كان أهمها طبيعة النظم السياسية التي تشكل اليوم في نظري نقطة الضعف الرئيسية في حياة المجتمعات العربية على جميع الأصعدة. وبالرغم من أن هذه النظم ليست مستقلة تماما عن البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في هذه المجتمعات إلا أنها هي المدخل الوحيد لفهمها ومفتاح معالجتها معا.
وكما يشير التقرير بحق إليه، يشكل عدم الاستقرار واحتدام الصراع والتنافس على المناصب النابع من الافتقار لقاعدة ثابتة ومقبولة للتداول السلمي على السلطة بين النخب المتنازعة، أي غياب الديمقراطية، عائقا أساسيا أمام نمو المعرفة وتوطنها النهائي وترسخها في التربة العربية. فمن النتائج الرئيسية لهذا الوضع السياسي، غير المستقر والذي يعيش فيه الحاكم والمحكوم في هوس الانشقاقات والتقلبات والتحولات بل والانقلابات المفاجئة وغير المتوقعة، تحويل مسألة الأمن إلى البند الرئيسي وأحيانا الوحيد في جدول أعمال النخب الحاكمة. وهذا ما يقود بشكل حتمي إلى اضطرار السلطات القائمة على غير أساس شرعي وثابت إلى تكريس القسم الاكبر من الاستثمارات في قطاعات ضمان أمن النظام. وغالبا ما تكون الضحية الرئيسية لتقليص الإنفاق الحكومي في الميادين الأخرى لصالح تنمية وسائل الأمن هي ميادين النشاطات التي لا تعطي فائدة ومردودا مباشرين وسريعين. فلا شك أن رشوة الزبائن والمقربين تبدو ذات نجاعة أكبر في منظور هذا الوضع السياسي القائم على مبدأ التنازع على البقاء لا على مبدأ تنمية المنافع المتبادلة لجميع السكان، من أي استثمارات علمية أو ثقافية.
ومن الطبيعي أن تكون قطاعات الثقافة والمعرفة والبحث العلمي هي القطاعات التي تتعرض قبل غيرها إلى الإهمال سواء من حيث الاهتمام السياسي أو من حيث تخصيص الاستثمارات المادية. وهذا ما يفسر، أكثر من العوامل الاقتصادية نفسها، ضعف الاستثمار في البحث وتخبط السياسات التعليمية وضآلة الاستثمارات الثقافية وأحيانا انعدامها. ويكفي لإدراك نتائج هذا الوضع مقارنة حصة المخصصات للبحث العلمي في البلاد العربية مع مثيلاتها في العالم الصناعي - بل حتى في البلدان النامية نفسها من الناتج المحلي. إذ لا يتجاوز نصيب البحث العلمي والتقني في البلاد العربية سوى 2 بالألف من الناتج المحلي مقابل ما يزيد عن 2 بالمئة بالنسبة لمعظم الدول الصناعية ( تتراوح النسبة بين 2.5%- 5.00%). وبالإضافة إلى ذلك، يأتي 89% من الإنفاق على البحث والتطوير في البلدان العربية من مصادر حكومية، ولا تخصص القطاعات الإنتاجية والخدمية سوى 3% فقط من هذه المصادر، بينما تزيد هذه النسبة في الدول المتقدمة عن 50%. التقرير الثاني للأمم المتحدة عن التنمية الانسانية في المنطقة العربية 2002.
لكن أثر الوضع السياسي القائم على الإكراه ورفض الاحتكام للإرادة الشعبية، والخائف بالتالي من أي مبادرة مجتمعية أو ثقافية أو فكرية مستقلة، لا يتوقف عند تقليص ميزانية البحث العلمي والتقني في العالم العربي ولكنه يتجاوز ذلك إلى الإدارة العلمية والتربوية نفسها. فمما لا شك فيه أن الضعف الشديد الذي يميز مؤسسات التعليم والبحث العلمي العربي القائمة ويقلل عوائدها هو سيطرة الاستراتيجيات السياسية على هذه المؤسسات وحرمانها من الأطر الصالحة الكفؤة والمناسبة من جهة، ومن الاستقلالية التي لا غنى عنها لأي رجل علم وبحث ومعرفة ولأي تجديد وإبداع معرفي من جهة ثانية. فمن دون ذلك تتحول المؤسسات المعرفية إلى أجهزة وأدوات إضافية لتعزيز سيطرة النخب الحاكمة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية التي تستند إليها ولا يبقى لها، كما هو الحال في العديد من البلاد العربية، أي علاقة بميدان المعرفة، سواء أكان تعليما أو بحثا أو تجديدا تقنيا.
ومن هنا يشكل إخضاع مؤسسات البحث العلمي للاستراتيجيات السياسية وللصراع على السلطة وتقديم مقاييس الولاء والزبائنية في إدارة هذه المؤسسات على مقاييس الكفاءة والمعرفة، وتقييد الحريات الفكرية والسياسية للباحثين، وفي وسط الرأي العام معا، وما يقود إليه من تكبيل للعقول الحية وإخماد لجذوة المعرفة وقتل لحوافز الإبداع، يشكل كل ذلك عاملا رئيسيا في تفسير تخلف المنظومة العلمية التقنية وضعفها الإداري والمعرفي وعجزها عن الانتاج والابداع.
ولا يمكن لهذا الوضع أن لا ينعكس على الوضعية القانونية التي تؤثر بدورها على الممارسة المعرفية. فرفض الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بالإضافة إلى ضعف استقلال القضاء، يحرم العالم العربي من بناء نظام مقبول وضروري من الضمانات القانونية التي تحمي الفرد وتشجعه على المبادرة وتضمن له الأمن الشخصي وحرية التصرف بملكيته، سواء أكانت فكرية أو مادية. ولا يمكن لهذا المزيج المدمر من تأبيد قوانين الطواريء وقبول مبدأ التعسف السياسي وفي الكثير من الأحيان فساد القضاء وغياب نصوص قانونية لحماية الملكية الفكرية، إلا أن يدفع الأفراد إلى البحث عن مستقبلهم خارج أوطانهم ويثبط همم المبدعين ويقتل اندفاعهم إلى العمل وبذل الجهد في سبيل تطوير مواهبهم واستغلال الفرص المتاحة لهم وهي أصلا قليلة في المجتمعات النامية الفقيرة.
كما لا يمكن لهذا الوضع السياسي الذي يتسم بتكريس النخب القائمة وترسيخ أقدامها في السلطة وسيطرتها على الموارد العامة من دون رقيب ولا حسيب أن لا يؤثر بشكل عميق على توزيع الثروة وتركيزها لصالح فئة قليلة وحرمان الأغلبية الاجتماعية منها. إن التوزيع غير العادل للدخول والتمييز الذي تمارسه النظم السياسية الإكراهية بين فئات السكان بحسب الانتماء أو الولاء أو الموقع الاجتماعي يحولان بشكل واضح بين أغلبية السكان وشروط اكتساب المعرفة وتنميتها.
وفي البلاد العربية بشكل خاص يؤدي التلاقي بين نظام سياسي تسلطي من جهة ونظام اجتماعي قائم على التمييز العلني وشبه الرسمي بين المواطنين على أساس الولاء السياسي أو الجنس أو الدين أو المنطقة أو العشيرة إلى تركيز الثروة في أيدي فئات طفيلية بيرقراطية أو مافيوية منفصلة عن صيرورات الانتاج والاستثمار والتجديد التقني الرئيسية وبعيدة كليا عن التفكير في المصالح العامة والانشغال بهموم التنمية الانسانية. فلا يحرم الفقر الغالبية العظمى من الجمهور من القدرة على النفاذ إلى المعرفة والثقافة فحسب ولكن التدهور المستمر في قيمة مرتبات وأجور العاملين في حقول المعرفة من تعليم وعلم وبحث وتجديد يدفع قسما كبيرا من المعلمين والأساتذة إلى التخلي عن مسؤولياتهم وعدم الوفاء بالتزاماتهم مفضلين استخدام المؤسسات العلمية والتعليمية في سبيل تكوين زبائن لهم وإجبار طلبة العلم على دفع دروس خصوصية كشرط لنجاحهم في الامتحان. مما يشكل بداية فوضوية لعملية تخصيص التعليم والدراسة. بل إن ضعف المرتبات قد جعل بعض المدرسين في بعض الجامعات العربية يقايضون نجاح الطلبة في مادتهم الخاصة بمبالغ معلومة من المال. كما أدى ضعف المرتبات التي يتقاضاها رجال العلم والتعليم إلى تنمية استعدادات عميقة لدى الأطر المكونة العلمية والتقنية إلى الهجرة والبحث في بلاد أخرى عن وسيلة للعيش الكريم. ويكاد العالم العربي يشكل اليوم الخزان الأكبر لأصحاب الكفاءات والمهارات المرشحين للهجرة الدولية بالمقارنة مع جميع المجتمعات الاخرى الكبيرة.
ولا ينجم عن ذلك فقر في الأطر العلمية والتقنية مستمر بالرغم من النفقات المتزايدة في التعليم فحسب، ولا قصور في إنتاج المعارف الضرورية للتسيير الاقتصادي والإداري ولكن، أكثر من ذلك، تراجع إن لم نقل انعدام الطلب الاجتماعي نفسه على المعرفة. فالمعلمون والأساتذة والمدرسون والباحثون والمبدعون على اختلاف أنواعهم لا يملكون بمرتباتهم الضئيلة القدرة على اقتناء منتجات المعرفة ووسائل اكتسابها أو الاستقاء منها، سواء أكان ذلك على شكل شراء السلع المعرفية كالكتب والموسوعات والمؤلفات العلمية، أو على شكل مشاركة في الندوات والمؤتمرات العلمية، أو على شكل اشتراكات في دوريات علمية ومعرفية مختلفة. بل إن معظم العاملين في الحقول المعرفية يضطرون في البلاد العربية إلى القيام بأعمال لا تتعلق باختصاصاتهم الأصلية في سبيل تأمين الحد الأدنى من متطلبات حياتهم اليومية.
وتعمل الإدارة البيرقراطية المرتبطة بالحكم المطلق وانعدام المساءلة والمحاسبة السياسيين والتي سيطرت على الإدارة الاقتصادية العربية لعقود طويلة ولا تزال، في البلدان التي كانت تتبع اقتصاد التخطيط وتلك التي كانت تنتمي للاقتصاد الحر، على إضعاف الطلب الاقتصادي على المعرفة والتجديد العلمي والتقني بقدر ما تدعم اقتصاد المضاربة الذي يستفيد من الصلات الخاصة التي تقوم بين الإدارة ورجال الأعمال لفرض منطق الاحتكار. وحتى عندما توجد قوانين تسمح ببعض المنافسة، كما هو الحال اليوم بعد تطبيق مشاريع التعديل الهيكلي والاصلاح الاقتصادي والانفتاح، فإن فساد النظم المجتمعية والسياسية الذي يتجلى في التفاهم العميق بين النخب السياسية ونخب رجال المال والأعمال يقود إلى تكوين شبكات مصالح قوية تتقاسم المنافع والمصالح في ما بينها على الطريقة المافيوزية. وفي غياب المنافسة النزيهة بين الشركات المنتجة لا يبقى هناك سبب لتنمية الطلب على الخبرة والتقانة، إذ تبقى العلاقات العامة والزبائنية بين رجال الأعمال ورجال السلطة أكثر فائدة من تحقيق أي تقدم في الانتاجية أو في الإدارة الاقتصادية.
ومما يضاعف من أثر هذه الإدارة البيرقراطية على التنمية المعرفية وفرة الموارد الريعية وارتفاع نصيبها في الناتج القومي وفي تغذية ميزانيات الدول معا نتيجة الاعتماد المتزايد على تصدير المواد الأولية واستغلال الثروات الطبيعية. فهي تشجع على استسهال استيراد الخبرة والتقنيات الجاهزة بدل العمل على إنتاجها. كما تشجع على تفضيل الخبرة والتقنيات الأجنبية الجاهزة على التقنيات المحلية التي تحتاج إلى الرعاية والاستثمار الأولى.
هذا هو الثمن الكبير الذي تدفعه المجتمعات العربية نتيجة التمسك بنظم إكراهية وبيرقراطية معا. وإلى هذه النظم يرجع نشوء ما يسميه التقرير بالفجوة المعرفية المتوسعة التي يعرفها العالم العربي بالمقارنة مع التقدم العلمي والتقني في العالم أجمع. وهي فجوة تتجلى في نقص الانتاج العلمي والتقني وتخلف بنيات الانتاج الصناعي والاقتصادي عموما وتدهور إنتاجية العمل وتراجع العائد العام من الاستثمارات. وإليها يرجع أيضا غياب البحث العلمي الناجع وفساد نظم التكوين والتأهيل العلمي والتقني، وفي موازاة ذلك ضياع مفهوم الاتقان نفسه والعمل حسب أصول واضحة أو تغييبه داخل المؤسسات والدوائر الاقتصادية والإدارية، والقبول بمفهوم غير مهني وغير احترافي قائم على مبدأ: مشيها اليوم وغدا نرى، في تسيير الأمور والحفاظ على الأوضاع القائمة. ولا يعني ذلك كله في الواقع سوى قتل روح المبادرة والتجديد والإبداع والتحسيين عند جميع العاملين وداخل المجتمع بأسره.
ويبين نصيب الصادرات عالية التقنية من مجمل الصادرات العربية الموقع الأدنى الذي تحتله منطقة " الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، بين مناطق العالم، بما في ذلك مجمل البلدان منخفضة الدخل، في كلا نسبة الصادرات المصنعة (مؤشر على مدى غلبة المواد الأولية في الناتج الاقتصادي) ونسبة صادرات التقانة العالية (مؤشر على مدى كثافة المعرفة في الناتج الاقتصادي).
كما تؤكد المؤشرات الخاصة بعدد براءات الاختراع المسجلة من قبل البلدان العربية ونسبة إنتاج الكتب في العالم العربي درجة التخلف العلمي والتقني للعالم العربي بالمقارنة مع بقية بلاد العالم وموقعه الهامشي في الثورة العلمية والتقنية الراهنة سواء من حيث الانتاج والمشاركة في السوق الواسعة التي تخلقها والتي تشكل أهم سوق متطورة ونشيطة اليوم في الاقتصاد العالمي أو من حيث المشاركة العلمية والفكرية والابداعية. فلا تزيد البراءات المسجلة في أهم وأكبر دولة عربية، مصر، عن 77 براءة خلال الفترة 1980 – 2000 في حين تبلغ في كورية 16328للفترة ذاتها. ولا يتجاوز إنتاج الكتب في البلاد العربية 1,1 من الانتاج العالمي في حين يعد العالم العربي 5 بالمئة من سكان العالم. مع العلم أن نسبة كبيرة من هذا الانتاج مكرسة للكتب الدينية والتراثية.
بيد أن الأثر السلبي الأكبر لفجوة المعرفة لا يظهر للأسف في ضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فحسب وإنما يظهر بشكل أكبر وأخطر في عحز البلاد العربية عن إنتاج وسائل دفاعاتها وحمايتها في وجه الاعتداءات والضغوط الخارجية ويحول دون إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة في أخطر مواجهة يتقرر فيها مصير المنطقة، أعني المواجهة العربية الاسرائيلية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire