بفضل موقفها المتميز من عدد كبير من المسائل التي تتعلق بالشرق الأوسط، ونسبيا بأسلوب تنظيم الشؤون الدولية، نجحت السياسة الفرنسية في أن تغير بالعمق من الصورة السلبية التي كانت تحتلها فرنسا في المخيلة العربية بسبب الحروب الاستعمارية وحرب الجزائر بشكل خاص وأن تستبدلها بصورة مناقضة لها تماما. فبسبب مثابرتها على التمسك بحل عادل للقضية الفلسطينية يضمن للفلسطينيين قيام دولة مستقلة وقابلة للحياة، وفي ما وراء ذلك، مبادراتها الاستراتيجية الخاصة بايجاد حلول سلمية للمشاكل التي تعاني منها المنطقة الشرق أوسطية، وفي مقدمها مشكلة النزاع العربي الاسرائيلي. وقد تأكد هذا الموقف مع المقاربة الفرنسية للمسألة العراقية بعد حرب 1991 التي شاركت فيها مع قوات التحالف الأمريكية البريطانية. فبعكس الولايات المتحدة سعت أظهرت فرنسا تفهما أعمق لمشكلة عراق ما بعد الحرب الكويتية ولم تكن تعارض تخفيف الحصار الذي فرض على البلاد. لكنها وقفت بشكل واضح ضد الحرب التي شنتها القوات الأمريكية البريطانية للقضاء على النظام البعثي في العراق في أبريل 2003 ورفضت المشاركة في إضفاء الشرعية الدولية عليها ولا تزال تبذل جهودا دبلوماسية واضحة من أجل تقصير أجل الاحتلال وتسليم السلطة إلى حكومة عراقية متتخبة. ومما ييساعد على ترسيخ الصورة الجديدة لفرنسا الدور الرائد الذي لعبته الدبلوماسية الفرنسية ولا تزال تلعبه في تكوين استقطاب دولي قادر على عرقلة خطط الولايات المتحدة لتثبيت نظام سيطرتها الأحادية على العالم وسعيها المستمر للتأكيد على ضرورة السير بالنظام العالمي نحو صيغة تضمن التعددية القطبية وتعزيز دور منظمة الأمم المتحدة ومكانتها في حل النزاعات الدولية
ويالرغم من أن الجهود الفرنسية لم تتكلل بالنجاح في ايجاد الحل السياسي الذي تدعو له على أي جبهة من جبهات النزاع الأقليمي والدولي الراهنة إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر اليوم أن باريس قد ساهمت، أكثر من أي قوة كبرى أخرى مثل الصين وروسيا واليابان وألمانيان في إعطاء مصداقية لفكرة و إمكانية نشوء نظام عالمي جديد قائم على التعددية في مكان السياسة الأحادية الامريكية السائدة اليوم. وهذا ما يدفع المحللين السياسيين إلى الاعتقاد بأن هناك عودة ما إلى السياسة الديغولية التي ارتبطت بالتأكيد على روح الاستقلال تجاه الولايات المتحدة والدفاع عن المصالح الفرنسية عبر بلورة سياسة عالمية بديلة أو مقابلة للسياسة الامريكية.
لكن في العالم العربي، كما هو الحال في العالم أجمع، يتنازع الرأي العام تجاه هذه السياسة الفرنسية والدور الذي تلعبه موقفان متناقضين تماما في تقييمهما للجهد الفرنسي في إطار خلق قطب تعددي يواجه إرادة التفرد بالقرار الدولي من قبل الولايات المتحدة. فمقابل قطاعات الرأي العام التي تراهن على أن تنجح فرنسا والقطب الأوروبي الذي تقوده في التعويض عن انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى موازية وموازنة للولايات المتحدة، ويرى في السياسة الفرنسية بارقة الأمل الوحيدة في عالم اليوم الظالم، هناك قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والعالمي التي تعتقد أن الموقف الفرنسي لا يعدو أن يكون سياسة استعراضية تدفع إليها مشاعر العظمة الفرنسية وحب الظهور والخوف من التحول إلى قوة ثانوية لا حساب لها في موازين القوة الدولية. والسبب في ذلك أن فرنسا تفتقر للوسائل التي تسمح لها بتطبيق سياسة عالمية سواء أكانت وسائل عسكرية أو مالية أو حتى تكنولوجية. وبالتالي لا يمكن لهذه السياسة أن تنطوي على آفاق فعلية. وفي هذه لحالة لا تكون سياسة فرنسا المناوئة للانفرادية الأمريكية سوى نوعا من الدون كيشوتية السياسية التي لا تضر ولا تنفع
لكن هناك قطاعات أخرى من الرأي العام العالمي التي تذهب إلى أبعد من ذلك في استنتاجاتها وتعتقد أن السياسة الفرنسية ليست بعيدة عن أن تشكل بديلا للسياسة الأمريكية فحسب ولكنها ليست في العمق سوى سياسة وطنية ضيقة. فكل ما تقوم به الدبلوماسية الفرنسية هو وضع أكثر ما يمكن من الأوراق في يدها كي تحسن من موقعها في المفاوضات التي تجريها مع واشنطن، وأنها لا تملك أي سياسة أو بالأحرى أجندة حقيقية في ما يتعلق بللدول العربية والنامية التي تظهر الدفاع عنها في المحافل الدولية وإنما تستعملها في سبيل زيادة حصتها من الكعكة العالمية التي تسعى إلى اقتسامها مع واشنطن والدول الصناعية الأخرى. وهذا يعني أنها تستخدم هذه الدول النامية كأوراق ضغط، ولا يهمها مصيرها وما يحصل لها في ما بعد عندما تتعرض للهجمات الأمريكية، كما أنها لا تتردد في التخلى عنها عندما تحصل على المنفعة الخاصة بها. ولا يخفي هؤلاء أن مثل هذه السياسة لا يمكن أن تنتهي إلا بتوريط الدول الصغيرة في صراع مصيري مع الولايات المتحدة في الوقت الذي تستطيع فيه فرنسا في أي لحظة، وبسبب علاقاتها الاستراتيجية الوثيقة مع واشنطن بالرغم من تنافسها معها، أن تحمي نفسها وتضمن مصالحها الحقيقية. ويقدم هؤلاء أمثلة عديدة على هذا الانعطاف المفاجيء في سياسة المباديء الفرنسية مثل مشاركة باريس في قوات التحالف الدولي للحرب ضد العراق عام 1991 بعد أن أظهرت تفضيلها لحل سلمي للنزاع وتصويتها في ما بعد، بالرغم من التردد والتمنع الأولي، على القرارات الدولية التي سمحت بفرض الحصار على العراق ثم بتكريس احتلاله بعد عام 2003 من قبل القوات الأمريكية.
وفي ما وراء هذه التحليلات المتباينة لسياسة فرنسا الدولية، لا يكف العرب، مسؤولين ومثقفين ورجال أعمال، عن التساؤل في كل مرة تحصل فيها مواجهة عربية أمريكية أو عربية إسرائيلية تتخذ فيها باريس موقفا متميزا عن التحالف الاسرائيلي الأمريكي في الشرق الأوسط في ما إذا كانت فرنسا تخوض مواجهة حقيقية مع الولايات المتحدة أم أنها تسعى فقط إلى عرقلة مشاريع واشنطن في المنطقة في سبيل فرض نفسها كشريك عليها لا أكثر، وهي بالتالي مستعدة للتراجع عن مواقفها في أي لحظة والاصطفاف، في نهاية المطاف، ورغم العنعنات، على خط واشنطن في كل ما يتعلق بالمسائل الأساسية والحاسمة في الشرق الأوسط والعالم معا. فما هي بالفعل حقيقة السياسة الفرنسية الشرق أوسطية والدولية؟ هل تخوض فرنسا مواجهة مع الولايات المتحدة لتقريب أجل بناء عالم متعدد الأقطاب وقائم على احترام القانون وإيجاد تسويات عادلة للنزاعات العالمية والإقليمية أم أنها تستخدم الصعوبات التي تواجهها أو يمكن أن تواجهها الولايات المتحدة في سبيل فرض نفسها واحترام مصالحها على واشنطن والاحتفاظ بدور وموقع متميزين في السياسة الدولية؟ وهل يكون الباعث على السياسة الفرنسية الجديدة استياء باريس، مثلها مثل عواصم العالم أجمع، من سلوك الولايات المتحدة الانفرادي الذي يستفز جميع شركائها التي تتجاهلهم ولا تسأل عنهم أم هو انبعاث حقيقي للديغولية وبالتالي أكثر عمقا وتجذرا؟ وما هي الأسس التي يستند إليها هذا الانبعاث وهل هو حقيقي أم مظهري لا هدف له سوى التغطية على التسليم العملي العميق بالقيادة الأمريكية العالمية والاستفادة من الصورة الايجابية التي تقدمها المقاربة الفرنسية للشؤون الدولية في سبيل الحفاظ على المصالح والمواقع التي لا تزال باريس تسيطر عليها في مناطق العالم المختلفة؟ ومن الواضح أن الاجابة عن هذه الأسئلة شرط لا غنى عنه لمعرفة إلى أي حد يمكن المراهنة من قبل الدول النامية والعربية بشكل خاص على السياسة الفرنسية الخارجية في سبيل تقليص دائرة النفوذ الأمريكية التوسعية أو على الأقل موازنة الضغوط العنيفة التي تمارسها الولايات المتحدة على هذه الدول في سعيها إلى بسط سيطرتها العالمية الشاملة.
أهداف السياسة الفرنسية في الشرق أوسطية
برهان غليون
قلت في مقال سابق أن فرنسا نجحت، بفضل سياساتها المتوازنة في قضايا النزاعات التي تمزق الشرق الأوسط، سواء ما تعلق منها بالنزاع العربي الاسرائيلي أو بالنزاع العراقي، في أن تنتزع لنفسها موقعا مؤثرا في أوساط الرأي العام العربي المتلهف إلى حليف يشد أزره في حرب المواجهة العلنية والشاملة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع إسرائيل ولصالحها أيضا إلى حد كبير على المنطقة بأسر ها. بيد أن هذا التقدير الكبير للسياسة الفرنسية الخارجية الشرق أوسطية والدولية معا لا يمنع أوساط الرأي العام العربي الرسمية منها والشعبية من التساؤل عن مدى تماسك هذه السياسة وصدقيتها. وقسم لا يستهان به من هذه الأوساط لا يميل إلى التشكيك بأهداف هذه السياسة فحسب ولكنه يعتقد أيضا بأن فرنسا لا تملك وسائل تحقيقها ولا الاستمرار في التمسك بها.
لكن الشعبية التي تحظى بها ليست بالضرورة المعيار الحاسم لصلاح السياسات الخارجية ولا لنجاعتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بدولة كبيرة كفرنسا، ومن وجهة نظر المصالح القومية الفرنسية. كما أن من الصعب محاكمة أي سياسة خارجية انطلاقا من نجاحاتها الوقتية أو على المدى القصير فحسب. ولو تجاوزنا هذين العاملين، أعني الشعبية والنظرة قصيرة المدى، وتأملنا في السياسة الفرنسية الشرق أوسطية على مدى العقود الثلاث أو الأربع الماضية لوجدنا أن ما يميزها هو الخسارة المستمرة و التراجع الدائم في المشرق العربي والشرق الأوسط عموما أمام الزحف الامريكي المتواصل بالرغم من العقبات والصعوبات والمعارضات المحلية والخارجية لهذا الزحف. ونتيجة هذا التراجع تتجلى اليوم في انحسار النفوذ الفرنسي الاستراتيجي والاقتصادي والثقافي لصالح النفوذ الأمريكي وخسارة باريس مواقع أساسية ربما كان العراق هو أهمها على الإطلاق. وبالمثل من الصعب أيضا القول، من وجهة نظر المصالح العربية، أن هذه السياسة التي تبدو اليوم في توافق مع المشاعر العربية قد نجحت في التحول إلى عامل مؤثر فعلا في المنطقة وأن المشاكل الإقليمية العالقة والتي يعاني منها العرب وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني قد وجدت بفضلها بعض التقدم أو التغيير.
ليس هناك شك في أن المسؤول عن هذا التراجع في المواقع الفرنسية الاستراتيجية في المنطقة ليس العهد القائم وربما ليس عهدا بذاته، ولا اليسار أو اليمين الفرنسيين. وهو ليس بالضرورة ثمرة أخطاء متراكمة ارتكبتها الدبلوماسية الفرنسية بقدر ما هو النتيجة الطبيعية لخيارات سياسية أساسية طبعت استراتيجية فرنسا في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية وبعد الخروج من حقبة الاستعمار الطويلة. وقد دفعت باريس في العقدين الماضيين ولا تزال تدفع في نظري ثمن هذه الخيارات التي كانت مسؤولة عن وصول الأوضاع الشرق أوسطية اليوم إلى ما هي عليه أو على الأقل التي ساهمت مساهمة كبيرة في وصولها إلى هذه الأوضاع.
أول هذه الخيارات التي يستحق التذكير به هو تبني السياسة الفرنسية لإسرائيل منذ ولادتها عام 1948 ودعمها، حتى عام 1967، بالسلاح والمال في مواجهة الدول العربية وتقديم العون العلمي والتقني الحاسم لها الذي حولها إلى الدولة الوحيدة التي تملك في المنطقة أسلحة الدمار الشامل الذرية. أما الخيار الثاني فهو وقوفها بشكل واضح، دولة ومثقفين ورأيا عاما، ضد مشاريع التعاون والاندماج العربية التي اتخذت في وقتها صورة الصراع تحت راية الفكرة أو الوحدة القومية العربية، ومشاركتها في إظهار هذه الحركة للرأي العام العالمي على أنها استعادة للفكرة الامبرطورية الاسلامية العتيقة ووصم قيادتها بالعنصرية والفاشية على حد سواء. لكن حتى في ما بعد ذلك، لم تظهر السياسات الفرنسية التي كانت تسير جنبا إلى جنب مع السياسة الأمريكية في المنطقة أي تعاطف مهما كان صغيرا مع حركات التحول الديمقراطي والاجتماعي العربية وبقيت أمينة لتحالفها مع تلك النظم الديكتاتورية نفسها التي تتخذ الولايات المتحدة اليوم من نقد ممارساتها الاستبدادية ذريعة لإضفاء الشرعية على مشروع سيطرتها المادية المباشرة على المشرق العربي واحتكار موارده الاستراتيجية والنفطية.
وهكذا، عندما قررت الإدارة الأمريكية اليمينية تنفيذ خططها في المنطقة وتكنيس المصالح الأوروبية والعالمية الأخرى لم تجد أمامها أي عقبة تذكر. فالعالم العربي الذي بقي ممزقا إلى اثنين وعشرين دولة واحدتها أضعف من الأخرى لم يكن يزن شيئا من الناحية الاستراتيجية وغير قادر على تشكيل جبهة حقيقية للحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية والوحدة الداخلية. أما إسرائيل التي احتفت بها الدول الأوروبية بوصفها معقلا للديمقراطية وواحة لها في الشرق الأوسط فهي التي تمثل اليوم الحليف الرئيسي والمطلق للولايات المتحدة وعونها الأول في بسط النفوذ الأمريكي فيها في الوقت الذي لاتكف سياساتها الاستيطانية فيه عن تقويض أسس التقدم المادي والسياسي معا للمنطقة برمتها.
وبالرغم من المظاهر الخادعة لم يشهد الوقت الحاضر تغيرا كبيرا على المضمون العميق لهذه السياسة. ولا تزال السياسة الفرنسية الشرق أوسطية لم تتحرر بعد من العوائق النظرية والعملية التي منعتها من التعاون الفعلي مع العالم العربي وتكوين تحالف متوسطي قادر على تعزيز استقلال المنطقة ككل وتجنيبها التحول إلى ساحة مواجهة بين القوى الكبرى. وسواء تعلق الأمر بالموقف من الاستيطان الاسرائيلي أو بالتعاون والاندماج العربي لا يبدو أن للدبلوماسية الفرنسية خيارات أخرى متميزة خارج دائرة التعبير عن مشاعر التضامن والتأييد الأدبية والسياسية الدورية.
هناك بالتأكيد عقبات موضوعية عديدة تحول بين فرنسا وبلورة سياسة عربية حقيقية. أولها ارتباط فرنسا بالاتحاد الأوروبي واضطرارها إلى الأخذ بسياسات أوروبية مشتركة ليست هي الوحيدة صاحبة القرار فيها. ولا تتضمن السياسات الأوروبية أي رؤية طويلة المدى أو أي مشروع للتعامل مع البلاد العربية يختلف عما كان قائما في الماضي. فباستثناء الاتفاقيات الانفرادية التي وقعتها أوربة مع معظم البلدان العربية في إطار الشراكة المتوسطية والتي لا تقدم أي حل لأي مشكلة من المشاكل الإقليمية الجوهرية، من النزاع العربي الاسرائيلي إلى مسألة التنمية إلى المسألة الديمقراطية، ليس للسياسات الأوروبية هدف آخر سوى الدفاع عن مصالح أوربة الخاصة المتبقية في مواجهة المدحلة الأمريكية العسكرية والسياسية والثقافية والحفاظ على البقاء في عالم يهرب من تحت سيطرتها. ومن هذه العقبات أيضا ضعف قوى التغيير العربية المحلية التي يمكن المراهنة عليها لنسج علاقات جديدة او بلورة رؤية أخرى لعالم ما بعد الحرب العراقية الأمريكية بسبب تكلس الأنظمة القائمة وعجزها عن التغير والتغيير. ومنها كذلك الخلل الهائل في التوازن الجيوستراتيجي الدولي نتيجة غياب أي قطب فاعل يضم بلدان الجنوب التي تشكل ثلاثة أرباع البشرية وهي ذات المصلحة الرئيسية في أعادة بناء النظام العالمي على أسس جديدة تضمن التعددية واحترام المباديء القانونية. وهو ما يظهر من خلال التفكك الذي تعاني منه حركة عدم الانحياز والكتلة الدولية التي تمثلها.
ومن هنا، وأمام هذا الاختلال العميق في القوة وفي غياب قطب عربي حقيقي قادر على التفاعل مع فرنسا وأوروبا كشريك فعلي لا كتابع ومتسول عليهما، ما كان بإمكان السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط أن ترسم لنفسها أهدافا أخرى سوى التمسك بمواقعها القائمة والدفاع عنها بعيدا عن أي محاولة جريئة لربطها بما يمكن أن يشكل مصالح عربية وما يستدعي دفع المنطقة والنظم السياسية إلى تبني إعادة بناء نفسها على أسس جديدة كما تدعو إلى ذلك الولايات المتحدة في إطار سعيها إلى ربط سيطرتها الإقليمية بمشروع تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية ليبرالية. وفي إطار الحفاظ على مواقعها ونفوذها تحاول باريس أن تدعم الموقف الدبلوماسي العربي وتحد من انهياره أمام التحالف الاستراتيجي الاسرائيلي الأمريكي كما تسعى إلى موازنة الضغوط الأمريكية الاسرائيلية التي تخضع لها الدول العربية والتي تهدف إلى تطويعها وتركيعها، والتمسك، بالرغم من كل الصعوبات والعقبات، بالإبقاء على جذوة عملية التسوية السياسية العربية الاسرائيلية حية.
ويالرغم من أن الجهود الفرنسية لم تتكلل بالنجاح في ايجاد الحل السياسي الذي تدعو له على أي جبهة من جبهات النزاع الأقليمي والدولي الراهنة إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر اليوم أن باريس قد ساهمت، أكثر من أي قوة كبرى أخرى مثل الصين وروسيا واليابان وألمانيان في إعطاء مصداقية لفكرة و إمكانية نشوء نظام عالمي جديد قائم على التعددية في مكان السياسة الأحادية الامريكية السائدة اليوم. وهذا ما يدفع المحللين السياسيين إلى الاعتقاد بأن هناك عودة ما إلى السياسة الديغولية التي ارتبطت بالتأكيد على روح الاستقلال تجاه الولايات المتحدة والدفاع عن المصالح الفرنسية عبر بلورة سياسة عالمية بديلة أو مقابلة للسياسة الامريكية.
لكن في العالم العربي، كما هو الحال في العالم أجمع، يتنازع الرأي العام تجاه هذه السياسة الفرنسية والدور الذي تلعبه موقفان متناقضين تماما في تقييمهما للجهد الفرنسي في إطار خلق قطب تعددي يواجه إرادة التفرد بالقرار الدولي من قبل الولايات المتحدة. فمقابل قطاعات الرأي العام التي تراهن على أن تنجح فرنسا والقطب الأوروبي الذي تقوده في التعويض عن انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى موازية وموازنة للولايات المتحدة، ويرى في السياسة الفرنسية بارقة الأمل الوحيدة في عالم اليوم الظالم، هناك قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والعالمي التي تعتقد أن الموقف الفرنسي لا يعدو أن يكون سياسة استعراضية تدفع إليها مشاعر العظمة الفرنسية وحب الظهور والخوف من التحول إلى قوة ثانوية لا حساب لها في موازين القوة الدولية. والسبب في ذلك أن فرنسا تفتقر للوسائل التي تسمح لها بتطبيق سياسة عالمية سواء أكانت وسائل عسكرية أو مالية أو حتى تكنولوجية. وبالتالي لا يمكن لهذه السياسة أن تنطوي على آفاق فعلية. وفي هذه لحالة لا تكون سياسة فرنسا المناوئة للانفرادية الأمريكية سوى نوعا من الدون كيشوتية السياسية التي لا تضر ولا تنفع
لكن هناك قطاعات أخرى من الرأي العام العالمي التي تذهب إلى أبعد من ذلك في استنتاجاتها وتعتقد أن السياسة الفرنسية ليست بعيدة عن أن تشكل بديلا للسياسة الأمريكية فحسب ولكنها ليست في العمق سوى سياسة وطنية ضيقة. فكل ما تقوم به الدبلوماسية الفرنسية هو وضع أكثر ما يمكن من الأوراق في يدها كي تحسن من موقعها في المفاوضات التي تجريها مع واشنطن، وأنها لا تملك أي سياسة أو بالأحرى أجندة حقيقية في ما يتعلق بللدول العربية والنامية التي تظهر الدفاع عنها في المحافل الدولية وإنما تستعملها في سبيل زيادة حصتها من الكعكة العالمية التي تسعى إلى اقتسامها مع واشنطن والدول الصناعية الأخرى. وهذا يعني أنها تستخدم هذه الدول النامية كأوراق ضغط، ولا يهمها مصيرها وما يحصل لها في ما بعد عندما تتعرض للهجمات الأمريكية، كما أنها لا تتردد في التخلى عنها عندما تحصل على المنفعة الخاصة بها. ولا يخفي هؤلاء أن مثل هذه السياسة لا يمكن أن تنتهي إلا بتوريط الدول الصغيرة في صراع مصيري مع الولايات المتحدة في الوقت الذي تستطيع فيه فرنسا في أي لحظة، وبسبب علاقاتها الاستراتيجية الوثيقة مع واشنطن بالرغم من تنافسها معها، أن تحمي نفسها وتضمن مصالحها الحقيقية. ويقدم هؤلاء أمثلة عديدة على هذا الانعطاف المفاجيء في سياسة المباديء الفرنسية مثل مشاركة باريس في قوات التحالف الدولي للحرب ضد العراق عام 1991 بعد أن أظهرت تفضيلها لحل سلمي للنزاع وتصويتها في ما بعد، بالرغم من التردد والتمنع الأولي، على القرارات الدولية التي سمحت بفرض الحصار على العراق ثم بتكريس احتلاله بعد عام 2003 من قبل القوات الأمريكية.
وفي ما وراء هذه التحليلات المتباينة لسياسة فرنسا الدولية، لا يكف العرب، مسؤولين ومثقفين ورجال أعمال، عن التساؤل في كل مرة تحصل فيها مواجهة عربية أمريكية أو عربية إسرائيلية تتخذ فيها باريس موقفا متميزا عن التحالف الاسرائيلي الأمريكي في الشرق الأوسط في ما إذا كانت فرنسا تخوض مواجهة حقيقية مع الولايات المتحدة أم أنها تسعى فقط إلى عرقلة مشاريع واشنطن في المنطقة في سبيل فرض نفسها كشريك عليها لا أكثر، وهي بالتالي مستعدة للتراجع عن مواقفها في أي لحظة والاصطفاف، في نهاية المطاف، ورغم العنعنات، على خط واشنطن في كل ما يتعلق بالمسائل الأساسية والحاسمة في الشرق الأوسط والعالم معا. فما هي بالفعل حقيقة السياسة الفرنسية الشرق أوسطية والدولية؟ هل تخوض فرنسا مواجهة مع الولايات المتحدة لتقريب أجل بناء عالم متعدد الأقطاب وقائم على احترام القانون وإيجاد تسويات عادلة للنزاعات العالمية والإقليمية أم أنها تستخدم الصعوبات التي تواجهها أو يمكن أن تواجهها الولايات المتحدة في سبيل فرض نفسها واحترام مصالحها على واشنطن والاحتفاظ بدور وموقع متميزين في السياسة الدولية؟ وهل يكون الباعث على السياسة الفرنسية الجديدة استياء باريس، مثلها مثل عواصم العالم أجمع، من سلوك الولايات المتحدة الانفرادي الذي يستفز جميع شركائها التي تتجاهلهم ولا تسأل عنهم أم هو انبعاث حقيقي للديغولية وبالتالي أكثر عمقا وتجذرا؟ وما هي الأسس التي يستند إليها هذا الانبعاث وهل هو حقيقي أم مظهري لا هدف له سوى التغطية على التسليم العملي العميق بالقيادة الأمريكية العالمية والاستفادة من الصورة الايجابية التي تقدمها المقاربة الفرنسية للشؤون الدولية في سبيل الحفاظ على المصالح والمواقع التي لا تزال باريس تسيطر عليها في مناطق العالم المختلفة؟ ومن الواضح أن الاجابة عن هذه الأسئلة شرط لا غنى عنه لمعرفة إلى أي حد يمكن المراهنة من قبل الدول النامية والعربية بشكل خاص على السياسة الفرنسية الخارجية في سبيل تقليص دائرة النفوذ الأمريكية التوسعية أو على الأقل موازنة الضغوط العنيفة التي تمارسها الولايات المتحدة على هذه الدول في سعيها إلى بسط سيطرتها العالمية الشاملة.
أهداف السياسة الفرنسية في الشرق أوسطية
برهان غليون
قلت في مقال سابق أن فرنسا نجحت، بفضل سياساتها المتوازنة في قضايا النزاعات التي تمزق الشرق الأوسط، سواء ما تعلق منها بالنزاع العربي الاسرائيلي أو بالنزاع العراقي، في أن تنتزع لنفسها موقعا مؤثرا في أوساط الرأي العام العربي المتلهف إلى حليف يشد أزره في حرب المواجهة العلنية والشاملة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع إسرائيل ولصالحها أيضا إلى حد كبير على المنطقة بأسر ها. بيد أن هذا التقدير الكبير للسياسة الفرنسية الخارجية الشرق أوسطية والدولية معا لا يمنع أوساط الرأي العام العربي الرسمية منها والشعبية من التساؤل عن مدى تماسك هذه السياسة وصدقيتها. وقسم لا يستهان به من هذه الأوساط لا يميل إلى التشكيك بأهداف هذه السياسة فحسب ولكنه يعتقد أيضا بأن فرنسا لا تملك وسائل تحقيقها ولا الاستمرار في التمسك بها.
لكن الشعبية التي تحظى بها ليست بالضرورة المعيار الحاسم لصلاح السياسات الخارجية ولا لنجاعتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بدولة كبيرة كفرنسا، ومن وجهة نظر المصالح القومية الفرنسية. كما أن من الصعب محاكمة أي سياسة خارجية انطلاقا من نجاحاتها الوقتية أو على المدى القصير فحسب. ولو تجاوزنا هذين العاملين، أعني الشعبية والنظرة قصيرة المدى، وتأملنا في السياسة الفرنسية الشرق أوسطية على مدى العقود الثلاث أو الأربع الماضية لوجدنا أن ما يميزها هو الخسارة المستمرة و التراجع الدائم في المشرق العربي والشرق الأوسط عموما أمام الزحف الامريكي المتواصل بالرغم من العقبات والصعوبات والمعارضات المحلية والخارجية لهذا الزحف. ونتيجة هذا التراجع تتجلى اليوم في انحسار النفوذ الفرنسي الاستراتيجي والاقتصادي والثقافي لصالح النفوذ الأمريكي وخسارة باريس مواقع أساسية ربما كان العراق هو أهمها على الإطلاق. وبالمثل من الصعب أيضا القول، من وجهة نظر المصالح العربية، أن هذه السياسة التي تبدو اليوم في توافق مع المشاعر العربية قد نجحت في التحول إلى عامل مؤثر فعلا في المنطقة وأن المشاكل الإقليمية العالقة والتي يعاني منها العرب وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني قد وجدت بفضلها بعض التقدم أو التغيير.
ليس هناك شك في أن المسؤول عن هذا التراجع في المواقع الفرنسية الاستراتيجية في المنطقة ليس العهد القائم وربما ليس عهدا بذاته، ولا اليسار أو اليمين الفرنسيين. وهو ليس بالضرورة ثمرة أخطاء متراكمة ارتكبتها الدبلوماسية الفرنسية بقدر ما هو النتيجة الطبيعية لخيارات سياسية أساسية طبعت استراتيجية فرنسا في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية وبعد الخروج من حقبة الاستعمار الطويلة. وقد دفعت باريس في العقدين الماضيين ولا تزال تدفع في نظري ثمن هذه الخيارات التي كانت مسؤولة عن وصول الأوضاع الشرق أوسطية اليوم إلى ما هي عليه أو على الأقل التي ساهمت مساهمة كبيرة في وصولها إلى هذه الأوضاع.
أول هذه الخيارات التي يستحق التذكير به هو تبني السياسة الفرنسية لإسرائيل منذ ولادتها عام 1948 ودعمها، حتى عام 1967، بالسلاح والمال في مواجهة الدول العربية وتقديم العون العلمي والتقني الحاسم لها الذي حولها إلى الدولة الوحيدة التي تملك في المنطقة أسلحة الدمار الشامل الذرية. أما الخيار الثاني فهو وقوفها بشكل واضح، دولة ومثقفين ورأيا عاما، ضد مشاريع التعاون والاندماج العربية التي اتخذت في وقتها صورة الصراع تحت راية الفكرة أو الوحدة القومية العربية، ومشاركتها في إظهار هذه الحركة للرأي العام العالمي على أنها استعادة للفكرة الامبرطورية الاسلامية العتيقة ووصم قيادتها بالعنصرية والفاشية على حد سواء. لكن حتى في ما بعد ذلك، لم تظهر السياسات الفرنسية التي كانت تسير جنبا إلى جنب مع السياسة الأمريكية في المنطقة أي تعاطف مهما كان صغيرا مع حركات التحول الديمقراطي والاجتماعي العربية وبقيت أمينة لتحالفها مع تلك النظم الديكتاتورية نفسها التي تتخذ الولايات المتحدة اليوم من نقد ممارساتها الاستبدادية ذريعة لإضفاء الشرعية على مشروع سيطرتها المادية المباشرة على المشرق العربي واحتكار موارده الاستراتيجية والنفطية.
وهكذا، عندما قررت الإدارة الأمريكية اليمينية تنفيذ خططها في المنطقة وتكنيس المصالح الأوروبية والعالمية الأخرى لم تجد أمامها أي عقبة تذكر. فالعالم العربي الذي بقي ممزقا إلى اثنين وعشرين دولة واحدتها أضعف من الأخرى لم يكن يزن شيئا من الناحية الاستراتيجية وغير قادر على تشكيل جبهة حقيقية للحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية والوحدة الداخلية. أما إسرائيل التي احتفت بها الدول الأوروبية بوصفها معقلا للديمقراطية وواحة لها في الشرق الأوسط فهي التي تمثل اليوم الحليف الرئيسي والمطلق للولايات المتحدة وعونها الأول في بسط النفوذ الأمريكي فيها في الوقت الذي لاتكف سياساتها الاستيطانية فيه عن تقويض أسس التقدم المادي والسياسي معا للمنطقة برمتها.
وبالرغم من المظاهر الخادعة لم يشهد الوقت الحاضر تغيرا كبيرا على المضمون العميق لهذه السياسة. ولا تزال السياسة الفرنسية الشرق أوسطية لم تتحرر بعد من العوائق النظرية والعملية التي منعتها من التعاون الفعلي مع العالم العربي وتكوين تحالف متوسطي قادر على تعزيز استقلال المنطقة ككل وتجنيبها التحول إلى ساحة مواجهة بين القوى الكبرى. وسواء تعلق الأمر بالموقف من الاستيطان الاسرائيلي أو بالتعاون والاندماج العربي لا يبدو أن للدبلوماسية الفرنسية خيارات أخرى متميزة خارج دائرة التعبير عن مشاعر التضامن والتأييد الأدبية والسياسية الدورية.
هناك بالتأكيد عقبات موضوعية عديدة تحول بين فرنسا وبلورة سياسة عربية حقيقية. أولها ارتباط فرنسا بالاتحاد الأوروبي واضطرارها إلى الأخذ بسياسات أوروبية مشتركة ليست هي الوحيدة صاحبة القرار فيها. ولا تتضمن السياسات الأوروبية أي رؤية طويلة المدى أو أي مشروع للتعامل مع البلاد العربية يختلف عما كان قائما في الماضي. فباستثناء الاتفاقيات الانفرادية التي وقعتها أوربة مع معظم البلدان العربية في إطار الشراكة المتوسطية والتي لا تقدم أي حل لأي مشكلة من المشاكل الإقليمية الجوهرية، من النزاع العربي الاسرائيلي إلى مسألة التنمية إلى المسألة الديمقراطية، ليس للسياسات الأوروبية هدف آخر سوى الدفاع عن مصالح أوربة الخاصة المتبقية في مواجهة المدحلة الأمريكية العسكرية والسياسية والثقافية والحفاظ على البقاء في عالم يهرب من تحت سيطرتها. ومن هذه العقبات أيضا ضعف قوى التغيير العربية المحلية التي يمكن المراهنة عليها لنسج علاقات جديدة او بلورة رؤية أخرى لعالم ما بعد الحرب العراقية الأمريكية بسبب تكلس الأنظمة القائمة وعجزها عن التغير والتغيير. ومنها كذلك الخلل الهائل في التوازن الجيوستراتيجي الدولي نتيجة غياب أي قطب فاعل يضم بلدان الجنوب التي تشكل ثلاثة أرباع البشرية وهي ذات المصلحة الرئيسية في أعادة بناء النظام العالمي على أسس جديدة تضمن التعددية واحترام المباديء القانونية. وهو ما يظهر من خلال التفكك الذي تعاني منه حركة عدم الانحياز والكتلة الدولية التي تمثلها.
ومن هنا، وأمام هذا الاختلال العميق في القوة وفي غياب قطب عربي حقيقي قادر على التفاعل مع فرنسا وأوروبا كشريك فعلي لا كتابع ومتسول عليهما، ما كان بإمكان السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط أن ترسم لنفسها أهدافا أخرى سوى التمسك بمواقعها القائمة والدفاع عنها بعيدا عن أي محاولة جريئة لربطها بما يمكن أن يشكل مصالح عربية وما يستدعي دفع المنطقة والنظم السياسية إلى تبني إعادة بناء نفسها على أسس جديدة كما تدعو إلى ذلك الولايات المتحدة في إطار سعيها إلى ربط سيطرتها الإقليمية بمشروع تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية ليبرالية. وفي إطار الحفاظ على مواقعها ونفوذها تحاول باريس أن تدعم الموقف الدبلوماسي العربي وتحد من انهياره أمام التحالف الاستراتيجي الاسرائيلي الأمريكي كما تسعى إلى موازنة الضغوط الأمريكية الاسرائيلية التي تخضع لها الدول العربية والتي تهدف إلى تطويعها وتركيعها، والتمسك، بالرغم من كل الصعوبات والعقبات، بالإبقاء على جذوة عملية التسوية السياسية العربية الاسرائيلية حية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire