mercredi, juillet 15, 2009

نهاية الحقبة الاسلامية

الاتحاد 15 يوليو 09

كما كانت الثورة الاسلامية في ايران إعلانا عن افتتاح حقبة جديدة سيطرت فيها العقيدة الدينية على الحياة السياسية، حتى في تلك البلدان التي لم تخضع لحكم إسلامي، تشكل الهزة العنيفة التي شهدتها الجمهورية الاسلامية إرهاصا بنهايتها أو بالخروج منها.
من هذا المنظور تمثل الأوضاع الايرانية الراهنة لحظة تاريخية وتنطوي على ديناميكية، وتعبر عن خيارات، هي نفسها التي تعيشها المجتمعات العربية، لكن في ظروف الكبت والعجز والحرمان من التعبير عنها أو التفكير في مضمونها وأفق الخروج منها. فكما كان العرب سباقين في التعبير عن المرحلة القومية التي عاشتها شعوب كثيرة في العالم الثالث في الخمسينات والستينات، وأخفقت طهران في الولوج إليها بسبب السيطرة الغربية الطاغية، وهو ما عبر عنه إحباط الحركة المصدقية عام 1953، كانت ايران سباقة في الثمانينات في قيادة الحقبة ما بعد القومية. ومصدر سبقها أنها لم تكن تستطيع تحقيق الاستقلال وتأكيد الهوية الثقافية، من دون أن تبتدع نموذجا سياسيا وفكريا يقطع مع الغرب ويحقق أهداف التقدم التقني والاجتماعي في الوقت نفسه. وهذا ما جعلها تبدو وكأنها تفتح أفقا جديدا للبلدان النامية، والاسلامية منها بشكل خاص، يحمل فرص إخراج ملايين البشر من الهامشية وانعدام الثقة بالنفس ويمكنهم من استعادة إنسانيتهم والمصالحة مع تاريخهم. وهو ما جعل أيضا من ايران منارة قوى الاحتجاج الإقليمية، ودفع قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي إلى الاحتفاء بثورتها الاسلامية بوصفها لحظة من لحظات تاريخ تحرر البشرية.
وكما هو معروف، جاءت الثورة الاسلامية ردا على حداثة قاهرة وسالبة معا، لا تعمل على تحقير الذات والتحلل من الهوية فحسب، ولكنها تحكم على الأغلبية الساحقة من الناس بالفقر والعطالة والذل الأبدي. وهذا ما عبر عنه وجسده حكم الذي عمل حارسا للمصالح الغربية وكان من أقسى النظم وأكثرها فسادا وتمييزا ضد عامة الناس. وفي ردها الاعتبار لهؤلاء، وهو مكسب تجاوز في أهميته بكثير المكاسب المادية الاخرى، ردت الاعتبار في الوقت نفسه للعقيدة التي يحملونها والتي تمثل هويتهم وشخصيتهم في مقابل العقيدة القومية المتعصبة والايديولوجية الآرية التي ارتبطت بها. وهذا هو جوهر الترابط الذي حصل بين الاسلام والسياسة الايرانية.
فلم يكن تحقيق المطالب الدينية، ولا توفير فرص أكبر لممارسة الطقوس والعبادات، ولا صبغ معالم الحياة والعمل والتفكير جميعا بالصبغة الدينية أو الإلهية، هو مصدر ولاء الجمهور للجمهورية الجديدة، وأقل من ذلك التسليم بسلطان الولاية الدينية المطلق وفرض وصايتها على الحياة السياسية.
لكن ليس هناك شك في أن هذا الترابط الذي حصل بين الثورة التحررية والاسلام قد حجب عن عيون الناس، ايرانيين وأجانب، مقاصد الثورة الرئيسية ومصدر شرعيتها الحقيقية. وغطت الايديولوجية الدينية على عملية المصادرة التدريجية التي تعرضت الحركة الشعبية لحقبة طويلة سابقة. وعزز ذلك الدور المركزي الذي قامت به الهيئة الدينية الايرانية بما قدمته من قوة تنظيمية وتوجيهية جاهزة لإعادة بناء قوة التغيير. وكان لشخصية الخميني نصيبها أيضا في دفع الأفراد إلى التسليم بريادة الفقية الولي واعتباره الأمين على السلطة والقيم على حسن ممارستها بما يتميز به من بصيرة وشجاعة ونزاهة وابتعاد عن المصالح الشخصية. وجاءت الحرب العراقية الايرانية، التي جاءت تتويجا لحروب تدخل خارجية طويلة، مناسبة للتكريس النهائي لولاية الفقيه ووصاية السلطة الدينية، وبالتالي حرمان الناس بشكل أكبر من سيادتهم الشخصية.
لكن الثورة الاسلامية، كجميع الثورات التي سبقتها، لن تحقق مكاسب فحسب ولكنها ستنتج إحباطات كثيرة وعميقة أيضا، وذلك على مقدار ما ستبرز، في التطبيق العملي، التباين الواسع بين الطوبى الملهمة والممارسة الفعلية، وما ستعيد بناءه من أوضاع السيطرة والإخضاع، والمشاركة والاستبعاد لشرائح اجتماعية مختلفة. وكما حرمها الحصار الذي فرض عليها، كباقي الثورات التاريخية، من توفير شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للرد على حاجات السكان، ساهم التفاوت المتزايد في ممارسة الحقوق والحريات الموعودة الذي ارتبط بطابعها الديني والمذهبي في تنامي التوترات والتناقضات والاحتقانات الحاملة لمخاطر عديدة.
عوامل عديدة ساهمت في سقوط الاوهام، وإدراك مسار الانحسار والتراجع في شعارات الجمهورية الاسلامية، وربما، أكثر من ذلك، خاصة بعد الانتخابات الإشكالية الأخيرة، تنامي الشعور بمصادرة الثورة من قبل فئات المصالح وأصحاب النفوذ، وسعيهم إلى تجميد الأوضاع في مكانها، وحرمان الآخرين، إلا ما كان على سبيل الدعاية والرشوة الجماعية، من ثمرات تضحياتهم. وهو ما شجع جمهورا كبيرا على القطع مع أسطورة الثورة التحررية، والنزول إلى الشوارع للتعبير عن رفضه التمديد للأوضاع القائمة. من هذه العوامل رئاسة أحمدي نجاد وما اتسمت به من تشدد ديني وسياسي داخلي، ومن تكريس سيطرة النخبة الدينية وتعزيز مواقعها ودورها في توجيه دفة السياسة الوطنية الداخلية والخارجية. والتراجع التدريجي عن الحريات المكتسبة، والعمل بصمت على إعادة إنتاج النظام القمعي التقليدي المستند على أجهزة الأمن والميليشيات الخاصة التابعة للنخبة الحاكمة. وهذا ما أثار تململا داخل العديد من الأوساط الاجتماعية الميالة إلى التسامح والتعامل الطبيعي مع العصر وقيمه ومراكز الحضارة العالمية، بما في ذلك بعض أطراف النخبة الدينية التي تخشى مركزة السلطة جميعا في يد الولي الفقيه وذراعه الرئاسية. ومنها أيضا التبدل الايجابي الذي حصل على صعيد السياسة الإقليمية نتيجة الإخفاق الذريع لاستراتيجية جورج بوش العدوانية، وتبني الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية التهدئة، ومدها يد المصالحة إلى العالمين العربي والاسلامي، وإعلانها عن رغبتها في الانفتاح على طهران والحوار الجدي معها في سبيل التوصل إلى تسوية في مسألة التقنية النووية.
لكن بداية انحسار عصر الثورة الاسلامية لا يعني أبدا نهاية النظام وأقل من ذلك زوال نفوذ الدولة الايرانية أو تهديد وجودها. فالنظام مجموعة قوى ومصالح متآلفة مستقلة عن المباديء الثورية والشعارات والقيم الملهمة، وهي لا تزال تملك هنا وسائل لا حد لها للدفاع عن نفسها والاحتفاظ بالسيطرة السياسية. إنها تعني تآكل الرصيد المعنوي والأخلاقي والفكري للنظام، وهو ما سيضطر أصحابه للحفاظ على توازن السلطة وإعادة إنتاجها إلى توسيع دائرة استخدام العنف والقمع والحد من الحرية على حساب المراهنة على الولاء الطوعي وروح الانتماء والتماهي مع السلطة ايمانا بثوريتها، أي بنزاهة أهدافها وإنسانيتها. وهو ما يزود الثورات عموما بقوة دفع استثنائية في حقبتها الأولى. وفي موازاة اللجوء المتزايد للعنف للحفاظ على الوضع القائم، ستجد السلطة الاسلاموية نفسها مكرهة أكثر فأكثر على الإنكفاء على العصبية وتغذية مشاعر التضامن البدائية ضد الغريب والمختلف والأجنبي، على حساب قيم الحرية والمساواة والأخوة الانسانية، حتى تضمن استمرارها وتعوض عن انحسار صدقية مشروعها وشرعيتها معا.
لا تختلف ما تعيشه الثورة الاسلامية في ايران اليوم عما عرفته جميع الحركات والثورات الشعبية، الاشتراكية والقومية، في منطقتنا، وفي البلاد الأخرى، على حد سواء. فقد احتاجت النخب العربية القومية والثورية بالذات إلى نصف قرن من العنف الأعمى وعمليات الإغتيال وحروب التطهير السياسي، وحملات الانتقام والتأديب لإخماد الانتفاضات الشعبية، وتأبيد نظام الاحكام العرفية وحالة الطواريء، حتى تتمكن من القضاء على أوهام الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي فجرتها الحركة الشعبية، وتعيد الجماهير التي كانت تتغنى بنضالها إلى "أوكارها"، وتنسيها معنى الحقوق المدنية والسياسية. ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى اليوم، إذ ماذا يعني نظام الديكتاتورية، التي تكاد تصبح ماهية السياسة في بلادنا، غير تنظيم حالة الحرب هذه ومأسستها لضمان إنتاجية أكبر للعنف وبقاء أطول للنظام؟
ستظل إيران لفترة طويلة ضحية شعارات ثورتها وجمهوريتها الاسلاميتين قبل أن تنجح في شق طريق جديد للمستقبل، تماما كما بقيت مجتمعاتنا العربية ولا تزال تتخبط منذ عقود في رواسب ثورتنا "القومية" وتدفع غاليا ثمن إجهاضها.

lundi, juillet 13, 2009

عودة إلى مسألة الإصلاح والتغيير

الاتحاد 13 يوليو09

لم يكن المواطن العربي بحاجة إلى تقرير التنمية البشرية الجديد حتى يدرك أن العالم العربي يعيش مشكلة داخلية حقيقية تتعلق بأسلوب عمله وتطوره، لا تقل أهمية عن المشكلة الخارجية المتمثلة في استمرار الاحتلال وضغط القوى الدولية.
وأصل هذه المشكلة هو إخفاق ما كنا نسميه في الأدبيات الدولية حركة التحرر الوطني
بما كانت تعنيه من تبلور قوة محلية سياسية وأجندة للعمل الجمعي وغايات واضحة توجه القادة والرأي العام معا وتبين مدى نجاحهم أو فسلهم في تحقيق البرنامج الوطني المجمع عليه. ويعني هذا الإخفاق فراغا فكريا وسياسيا وقياديا أيضا يجعل من الصعب تحديد المهام التاريخية المجمع عليها فما بالك بمواجهتها والتوافق على قيم وأهداف وغايات جماعية.
هكذا أصبح التغيير، أي سد الفراغ الفكري والسياسي والرمزي الذي تركه إخفاق نموذج حركة التحرر الوطني النظري والعملي، هدفا في ذاته بعد أن كان وسيلة لتحقيق أهداف واضحة ومنشودة، وأصبح استبدال النظم السابقة بنظم جديدة تعيد بناء العلاقة بين النخب والقيادات وتحيي معنى الشرعية والمشاركة السياسية، مقدمة لإطلاق ديناميكية العمل والنشاط الاجتماعيين وإخراج المجتمعات من الطريق المسدودة التي دخلت فيها، أي لعودة الايمان بإمكانية التقدم، على محدوديتها، ونجاعة الاستثمار في جميع مستوياته الاقتصادية والفكرية والمدنية.

وعندما نفكر اليوم بمصير الكتل القارية العديدة، نجد أنفسنا مدفوعين تلقائيا إلى أن نتحدث عن ديناميكيات التغيير الخاصة التي نقلت الشعوب والمجتمعات من حقبة نموذج التحرر الوطني إلى الحقبة الجديدة التي تلعب المشاركة الشعبية الفاعلة دورا أساسيا في بناء مشروعيتها وبناء الثقة العامة اللازمة لاستقرارها واستمرارها. وفي هذا السياق تقفز إلى ذهننا تجارب ناجحة عديدة. أولها تجربة دول أمريكا اللاتينية التي قبلت النخب المعارضة فيها، وكان لمعظمها ميليشيات ومواقع عسكرية قوية في البلاد، من خلال الحوار والتنازلات المتبادلة، بالاندماج في النظم القائمة والتخلي عن تمردها مقابل تخلي النظم الأوليغارشية عن احتراف القهر والقمع والاستبداد. وثانيها تجربة الدول الأفريقية التي كانت تتميز بتبعيتها والتي انتقلت إلى مواقع ديمقراطية تعددية. ولا شك أنه كان للضغوط الخارجية وضمان الدول الحامية التقليدية دور كبير في هذا التحول. وربما سيبقى لفترة طويلة شرط استمراره.
ويختلف عن ذلك نموذج تجربة شرق أوروبة الذي جمع بين التدخل الخارجي والديناميكية السياسية الداخلية. فلا يشك أحد في أثر زوال الاتحاد السوفييتي وإغراء الاندماج بالغرب الرأسمالي في دفع حركة المعارضة الثقافية وإطلاق حركة التغيير الشعبية التي أدت إلى إسقاط النظم الشمولية وإقامة نظم ديمقراطية مكانها.
وبالمقابل جمع النموذج العربي بين غائبين. أولهما انعدام أي تعاطف خارجي حقيقي مع الشعوب، وبالتالي صعوبة نشوء سياق يسمح بتكوين حركات انشقاق قوية وبناء ثقة عميقة بإمكانية التغيير عند الرأي العام الواسع، وثانيهما تمتع النظم السياسية والاجتماعية القائمة بهامش كبير من الاستقلالية تجاه الشعوب، إما بسبب التحالف الوثيق الذي يربطها بالدول الكبرى أو بسبب وجود موارد ريعية مادية ومعنوية غزيرة خلفتها الحركة القومية أو أخيرا بسبب نجاح هذه النظم في تدمير المجتمع المدني وفرض العزلة الثقافية والنفسية على الشعوب. والنتيجة استعصاء مديد في هذه المنطقة على أي تغيير في اتجاه التحولات العالمية وإنجاز المهمات التاريخية، كان من عواقبه انحسار الشرعية، وعلى هامشها استمرار التدخل الخارجي شبه الاستعماري الذي شكلت الحرب الأمريكية على العراق وجهه الكارثي الأبرز، وفرعنة نظم سياسة لا تجد مبررا لفتح أي حوار مع حركات الاحتجاج ومع الرأي العام ككل. وهي لا تزال مستمرة في تعبئة شعوبها بالطرق الكلاسيكية الشمولية نفسها، باستعداء الخارج وتهييج المشاعر القومية وتأليب الرأي العام على قوى المعارضة الجنينية. وهو ما يجعل العالم العربي يبدو وكأنه يعيش في حقبة ماضية، ويخرج من التاريخ الحي الذي تعيشه الشعوب الأخرى، ببرامجه الجديدة وقيمه وغايات إنسانه. كما يجعل الإنسان يشعر في هذا العالم بالضياع وانعدام الوجهة وضياع الأمل معا، ويغذي التوقعات الأكثر سلبية وسوداوية في مستقبل المجتمعات..

يشجع الجمود الذي يسم الأوضاع العربية منذ عقود طويلة، والتعثر الذي لا تزال تشهده
المسيرة الاصلاحية على تزايد دور الدول الاجنبية في تكوين التوازنات الإقليمية والداخلية، ونزوع النظام والمعارضات بشكل أكبر إلى الشك في مقدرتهم على البقاء والاستمرار من دون تعزيز التحالف مع الخارج. من هنا ولد الصراع الدائر اليوم حول التغيير في العالم العربي أوضاعا جديدة ذات سمات خصوصية، وأنتج إشكاليات نظرية سياسية لم تكن موجودة من قبل. وأصبحت العلاقة مع الخارج، والغرب منه بشكل خاص، إشكالية مركزية في أي نقاش حول التغيير. وما كان لمثل هذه الإشكالية أن ترى النور لو نجحت قوى المعارضة الداخلية أو القوى الشعبية المدنية كما حصل في العديد من البلدان الأخرى التي عانت من نظم شمولية في أن تنتزع المبادرة من القوى الحاكمة أو أن تجبرها على القيام بالتنازلات الضرورية لشق طريق الاصلاح والعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية. وأكثر فأكثر تثبت الأيام أن مثل هذه الاحتمالات التي مكنت المجتمعات التي عاشت ظروفا مشابهة لظروف المجتمعات العربية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوروبة الشرقية والكتلة السوفييتية السابقة غير واردة أو صعبة التحقيق في البلاد العربية.

تنبع المشكلة بالفعل من انسداد النظم وانغلاقها وعدم عكسها لحركة المجتمعات وتجميدها للمصالح وتحولها إلى قنوات لتأكيد سيطرة مستمرة وكاملة وأبدية لجماعة مصالح واحدة. ولا يزال السؤال الذي نظرحه منذ عقود دون جواب، أعني كيف يمكن فتح هذه الأنظمة لإطلاق ديناميكية الحراك الاجتماعي وتشجيع الناس على العمل والمبادرة والمشاركة وبذل الجهد. والقضاء بالمناسبة على الطبقة الطفيلية التي تكونت في العقود الماضية وأصبح وجودها منبع الفساد الكبير والصغير، وذلك بمقدار ما تفرض إعادة إنتاجها الرشوة المعممة وأحيانا وفي بلدان كثيرة تأبيد الأحكام العرفية والاستثنائية وانتشار المعاملات المهينة والمذلة للأفراد، وإحلال العصبيات والولاءات الزبائنية والمحسوبيات محل الهوية السياسية والولاءات الوطنية.
ليس هناك خيارات كثيرة في الواقع، فإما أن تتقوى قوى الاصلاح الداخلية كي ما تفرض التغيير بالحوار على الطريقة الأمريكية اللاتينية وما تعنيه من تنازلات متبادلة، أو أن تنجح الضغوط الخارجية في ضمان تحول تدريجي للنظم لقاء مساعداتها السياسية والاستراتيجية
أو أن يتفاقم الفساد ويشمل الانهيار والتفسخ جميع مؤسسات النظم، مع ما يعني ذلك من تدهور شروط معيشة الأفراد المادية والمعنوية، وتزايد احتمال الانفجارات على الطريقة التقليدية/ وما يمكن أن تجره من المزيد من التدخلات الأجنبية.
باختصار، أصبح التغيير بصرف النظر عن مضمونه ومعانيه السمة الرئيسية للحقبة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم في كل مكان. وعلى قدر النجاح في هذا التغيير تقاس جدارة النظم وشرعية بقائها، لدى الرأي العام الداخلي والخارجي معا.

mercredi, juillet 01, 2009

احتجاجات ايران

الاتحاد 1 ثوفثو 09
شكلت أحداث ايران الدامية في الأسبوعين الاخيرين فرصة جديدة لتأكيد الانقسام داخل ا لرأي العربي بين معسكرين، جرت العادة على تسمية أحدهما معسكر الاعتدال والثاني معسكر الممانعة. نظر أصحاب المعسكر الاول، وهم في غالبيتهم من النخب الحاكمة أو والسائدة، إلى ما يجري هناك على أنه ثورة ديمقراطية، أو بداية ثورة، قاعدتها الشباب والطبقات الوسطى المتعلمة، وسكان المدن الراغبين في دخول العصر، وهدفها تحرير ايران من نظام الملالي الديني والمذهبي، الفاسد والفاشل معا، والعودة بها إلى حكم مدني يتماشى مع قيم العصر الزمنية. وفي ظنهم، وهذا أصل ترحيبهم بالمعارضة الايرانية الصاعدة، أن مثل هذا التحول يعني أمورا ثلاثة تدفع جميعها إلى تخلي ايران عن سياسة الهيمنة الإقليمية وتمكنها من الاندماج من جديد في محيطها، والتعاون مع الحكومات المجاورة لايجاد حلول على قاعدة الحفاظ على الوضع القائم في المنطقة. الأول هو وضع حد للمواجهة بين طهران والغرب وما نجم عنها من ضغوط غربية متزايدة على الدول العربية الحليفة للغرب والمناوئة له معا، والثاني تراجع جذوة الحماسة الدينية وما نجم عنها من توترات طائفية ومذهبية فاقمها الحديث المتكرر عن تقدم حركة التشيع، وتعبئة طائفية مقصودة أو تلقائية، هنا وهناك. والثالثة ايجاد حل سياسي لمشكلة التقنية النووية الايرانية وما تثيره من تحد استراتيجي للدول العربية.
وبالمقابل، عاش فريق الممانعة العربي فترة شك عصيبة لم يحسمها إلا يقين مصادقة مرشد الجمهورية الاسلامية، علي خامنيء، على فوز الرئيس السابق أحمدي نجاد، ورفضه أي تشكيك في نزاهة الانتخابات الرئاسية. ونظر مؤيدو أحمدي نجاد العرب، او أغلبيتهم الساحقة، إلى ما يجري في ايران على أنه محاولة فاشلة قام بها الغرب لزعزعة استقرار الجمهورية الاسلامية والتشكيك في إمكانية بقائها، بل هي ثمرة مباشرة للتدخلات الخارجية. وبينما لزمت العواصم العربية الصمت، هنأت دمشق الرئيس الجديد على الفوز واعتبرته ردا على هذه التدخلات عينها. وهذا هو أيضا محتوى موقف حركة المقاومة الاسلامية الفلسطينية حماس التي اعتبرت فوز أحمدي نجاد رسالة من الشعب الإيراني موجّـهة إلى الغرب والولايات المتحدة، قِـوامها رفض الضغوط والتمسّـك بمُـقاومتها. أما حزب الله اللبناني فقد رأى في فوز نجاد وهزيمة المعارضة تأكيدا للقيادة الحكيمة والإرشادات الأبوية للمُـرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وتطمينا للمستضعفين والمجاهدين في كل مكان. أما بغداد التي تريد سلتها كما يقول المثل الشعبي من دون عنب، فقد اكتفت بتصريح وزير خارجيتها هوشيار زيباري الذي أكد، أثناء زيارته إلى طوكيو منذ أسبوع، على أن "العراقيين يحترِمون إرادة الشعب الإيراني ويحترِمون النِّـظام السياسي، وليْـسوا في موقِـف لإصْـدار حُـكم على خياراتهم".
ما هو المضمون العميق لهذه الحركة التي دفعت إلى شوارع المدن الايرانية ملايين المتظاهرين، وأكرهت مرشد الجمهورية على إعلان ما يشبه الأحكام العرفية، بما تعنيه من تحريم التظاهرات والاحتجاجات ومواجهتها بالقوى الأمنية المسلحة، وتشديد الرقابة على الصحافة واعتقال عشرات بل مئات الصحفيين والمثقفين وتهديدهم؟ هل نحن أمام ثورة تحررية تهدف إلى نزع الوصاية الدينية وإقامة نظام ديمقراطي يحترم إرادة الشعب الايراني ويعيد تركيز الجهد السياسي على تحسين شروط معيشة الأفراد وإصلاح الإدارة والسلطة، بدل البحث عن تأكيد القوة والعظمة الخارجية، أم نحن أمام محاولة أجنبية لزعزعة الجمهورية الاسلامية التي أصبحت تمثل قطبا من أقطاب الممانعة الإقليمية والدولية ضد السيطرة الغربية، وتهدد بإصرارها على الاستمرار في مشروعها النووي، التفوق الاستراتيجي الاسرائيلي وتدمر صدقية تل أبيب الردعية؟ هل نحن أمام نزاع داخل الجمهورية الاسلامية بين مشروع إصلاحي لا يهدف إلى نزع الطابع الديني عن السلطة ولا يعترض على ولاية الفقيه، ولكن يسعى إلى وضع حد للفساد وسوء الإدارة والمبالغة في استعداء الدول الغربية من دون أي فائدة أو سبب، أم نحن أمام صراع طبقي يضع في المواجهة قوى المستضعفين من فقراء الريف والاحياء الشعبية وقوى الأغنياء والميسورين والطامحين إلى مسايرة أنماط الاستهلاك الغربية؟
هي في اعتقادي مزيج من ذلك كله. فهي حركة سياسية واجتماعية وفكرية معا. ومن هذه الناحية نراها تعيد، لكن في الاتجاه المعاكس، نموذج الثورة الاسلامية نفسها التي ولدت عام 1979 في سياق ثورة شاملة ضد النظام الشاهنشاهي الذي جمع بين سلطة قمعية كان السافاك، أو المخابرات، أهم رموزها وأدواتها، وتراتبية طبقية غليظة وفجة أفضل من جسدها الارستقراطية الفاسدة الملتفة حول القصر والجامعة بين نمط الحياة الاستهلاكي الغربي والخنوع للسلطة المطلقة الفردية، وأخيرا التبعية للغرب والعمل في سياق استراتيجية سيطرته الإقليمية، بما في ذلك التحالف مع إسرائيل والتعاون معها لكسر إرادة الشعوب العربية. هكذا جاءت الاسلاموية كايديولجية بديل، تحمل مشروع هوية شعبية وطنية في مواجهة أسطورة الأمبرطورية الساسانية التي أطلقها الشاه والهوية الآرية التي أراد فرضها على الشعب لتحقيق التماهي الكامل بين الارستقراطية السائدة والغرب، وتكريس نظام الإقصاء والاستبعاد والإخضاع الشامل للأغلبية الاجتماعية. وجمعها بين هذه الأبعاد الثلاثة، هو ما شكل مصدر قوتها الاستثنائية وما اتسمت به من إجماع شعبي ودفع وتوقد وطاقة جعلها تبدو وكأنها أحد اأهم لثورات في تاريخ الانسانية الحديث.
تجمع حركة الاحتجاج الواسعة التي تشهدها ايران اليوم بين آمال التحرر السياسي الذي يتجسد في نزع نير الوصاية الدينية التي تعيق المشاركة الطبيعية والمتساوية لجميع الأفراد في تقرير مصيرهم، ومقاومة الفساد الشامل النامي على هامش صعود الارستقراطية الجديدة النامية في حجر هذه الوصاية الدينية وفي حمايتها، وأخيرا كسر جدار العزلة التي يسعى النظام إلى فرضها على المجتمع والشعب، باسم الاسلام والعقة والوطنية معا، لقطعه عن مسار التحولات العالمية وإحكام القبضة عليه، والحد من مقدرته على تمييز وجوده المستقل، وتلمس حقيقة أوضاعه بمقارنتها مع ما يحصل في العالم، وإضعاف ملكة التفكير النقدي والاحتجاجي لديه.
ليس هناك بعد يطغى على آخر، ولا يمكن الفصل في ما بينها من دون تحطيم ديناميكية الحركة بعمومها وإضعافها أو تحويلها إلى حركات متباينة ومتنافسة ومتصارعة. فالتحرر السياسي لا يتحقق هنا من دون التحرر الفكري كما لا يمكن كسر إرادة الارستقراطية الجديدة وإخضاعها أو إعادة تشغيل مبدأ تكافؤ الفرص بين الأفراد من دون نزع الوصاية الدينية. وبالمثل، لا يمكن كسر العزلة الفكرية والأخلاقية والنفسية المفروضة على المجتمع من دون التواصل مع العالم، ومركزه الغرب، واستلهام القيم الإنسانية الكونية أو شبه الكونية السائدة، ومسايرة العصر في قيمه الزمنية والاستهلاكية والمادية معا.
وليس هناك أيضا ميثاق جامع يوحد القوى المشاركة في حركة الاحتجاج ويصهرها في قوة واحدة. فمنها من يتحرك أساسا بدافع عدم القبول بالنظام الشمولي الراهن المرتبط بإرادة الولي الفقيه، والطامح بالتالي إلى نظام تعددي مفتوح وديمقراطية دستورية لا وصاية عليها، ومنها من يحركه رفض الفساد الذي يميز سيرورة تكوين ارستقراطية جديدة محمية بميليشيات النظام وزبانيته من حرس ثوري وقوى متطوعة لخدمة الثورة رهن إشارة السلطة وذخيرتها الحية في قمع أي حركة مقاومة أو احتجاج. ومنها أيضا من تشده أنماط الحياة الاستهلاكية الغربية ويشعر بأن النظام الراهن، السياسي والقانوني والفكري، هو مجموعة من القيود التي تحرمه من الحياة وتخضعه لموت بطيء. وهناك أخيرا، من بين عناصر النخبة الموجهة والقائدة، من يدرك أهمية الصعود على موجة الاحتجاج هذه لإعادة موقعة نفسه على خريطة القوة لتحسين شروط صراعه على السلطة أو الثروة.

وهذا ما يبقى حركة الاحتجاج هشة وضعيفة الهيكلة مفتقرة لقيادة واحدة. في مثل هذه الحالات، وفي غياب شخصية ملهمة قوية، وحده الإمساك بالسلطة يؤمن لحم القوى غير المتجانسة. فهو يشكل حافزا للجميع وأرضية لتوزيع المصالح وتقاسم النفوذ. ولا يختلف وضع التحالف الحاكم في ذلك عن حركة الاحتجاج. فهو أيضا يستمر بفضل إمساكه بالسلطة وما تقدمه له من إمكانية وموارد استثنائية لتأليف القلوب وصوغ تسويات وحلول عملية لتناقضات لا حل سياسيا لها. ولأن الإمساك بالسلطة بشكل رهانا رئيسيا، بل الرهان الوحيد القادر على تأمين تحالفات لا يمكن المعارضة ولا الحكم من دونها، فمن الطبيعي أن يكون الصراع عليها، سواء للاحتفاظ بها أو لانتزاعها من أصحابها حادا ووحشيا، لا يوفر عند الضرورة أي سلاح. فإذا نجحت حركة الاحتجاج في في الخروج من امتحان القوة الراهن من دون أن ينفرط عقدها ومع الاحتفاظ بقدر ما من التماسك والحيوية، سنكون في بداية حقبة تغيير حقيقية، مما يعني أ]ضا أننا سنسير على طريق صراع طويل ودام سيشغل ايران لستوات طويلة قادمة بل لعقود. وهذا موضوع مقال مستقل.

samedi, juin 20, 2009

أوباما: لا أعور دجال ولا مهدي منتظر

الجزيرة نت 20 يونيو 09

تراوحت ردود فعل الساسة والمثقفين العرب على زيارة أوباما وخطابه الذي وجهه للعالمين العربي والاسلامي من جامعة القاهرة بين من نظر إليه كمنقذ ومخلص أو مهدي منتظر، ومن لم يجد في زيارته ومضمون خطابه شيئا آخر سوى تأكيد أهداف السياسة الأمريكية والدفاع عنها، حتى لو جاء ذلك بلسان معسول ودغدغة للعواطف العربية والاسلامية.
من الواضح أن رسالة أوباما الرئيسية في رحلته للمنطقة وخطابه معا هي المصالحة ورأب الصدع بين عالم العرب والمسلمين من جهة وعالم الغرب والأمريكيين بشكل خاص من جهة ثانية. ليس هناك عداء بين الطرفين قال أوباما، ولا ينبغي أن يكون. بالعكس، يقترح الرئيس الأمريكي على العرب والمسلمين شراكة فعلية، عربونها تجميد الاستيطان الاسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية ووقف الحملات الإعلامية المعادية للاسلام والمسلمين، والمساهمة في التنمية الاقتصادية. وهذه لغة لم يعتد عليها العرب ولا خبروها على لسان أي رئيس أمريكي سابق، بالرغم من الوعود الكثيرة السابقة التي لم تر النور أبدا.

لا ندري إذا كانت هذه السياسة التصالحية الجديدة مبادرة شخصية من قبل الرئيس لا تزال تحتاج إلى التفاوض عليها بين الاطراف ومراكز القوى المختلفة في الإدارة الأمريكية، أم أنها موضع إجماع. كما لا ندري إذا ما كان هذا الإجماع نتيجة استنتاجات نهائية بخطأ السياسة التقليدية تجعل منها مبادرة استراتيجية أم أنها انعطافة تكتيكية تهدف إلى امتصاص النقمة العربية والاسلامية ضد واشنطن وسياساتها المنحازة. لكن إذا كانت تعبر بالفعل عن اقتناع عميق لدى النخبة الحاكمة الأمريكية بخطأ السياسات المعتمدة على القوة وسلبية نتائج تطبيقها في الشرق الأوسط، فهي تشكل خطوة أولى لكن خطوة مهمة على طريق التغيير ووقف الانحدار وبداية عملية انتشال الشرق الاوسط من الهوة الخطيرة، السياسية والاقتصادية والأخلاقية، التي سقط فيها نتيجة تحويله إلى مسرح للنزاعات والحروب والمواجهات الدولية وتهميشه في دورة الحضارة والتنمية والتقدم العلمي والتقني العالمية.
فمهما كانت قوة إسرائيل العسكرية والمعنوية، وبالرغم من جميع المظاهر السطحية الخادعة في الاستقلالية، ليس من الممكن تفسير إقامة دولة إسرائيل، وأكثر من ذلك رعايتها الدولية وتعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية والتقنية، والتغطية على سياساتها الاستيطانية التي لو طبقت في أي منطقة أخرى في العالم ومن قبل أي شعب لأثارت ردود فعل قوية أقلها فرض العقوبات وضرب الحصار على الدولة العنصرية، أقول ليس من الممكن تفسير كل ذلك وتبرير كل ما قامت به تل أبيب وما تزال تقوم به، في فلسطين ولبنان والمناطق السورية المحتلة، لو لم تحظ بالدعم الغربي الكامل لها وغير المشروط. ومن الصعب الاعتقاد بأن السبب الرئيسي وراء هذا الدعم، بل التبني العملي، هو ما بقي من الشعور بالذنب في ضمير الشعوب الغربية لاضطهادهم السابق لليهود، أو التضامن مع ضحايا المحرقة. وليس من المؤكد أن دفع إسرائيل، عن طريق تشجيعها الدائم، بالتسليح وتقديم الغطاء الدبلوماسي، على التوسع والعداون على جيرانها، كان بالفعل خدمة لليهود المعذبين وتعزيزا لأمنهم.
أعتقد، بالعكس، أن مثل هذا الدعم، الذي تحول إلى تجنيد حقيقي لاسرائيل في الحرب على العرب، لا يمكن فهمه ولا تفسيره من خارج إطار الصراع والتنافس الذين ميزا علاقات الغرب الأطلسي بالعرب والمسلمين عموما، وإرادة الدول الاوروبية التي فتكت بالسلطنة العثمانية، ثم الأوروبية الامريكية التي كرست السيادة الغربية العالمية، في إبقاء العالم العربي تحت السيطرة الشاملة وتحت المراقبة، وحرمانه من فرص التكتل والتعاون التي يمكن أن تحوله إلى لاعب مستقل في المتوسط. وقد زاد من حدة هذا الصراع الإرث الاستعماري الحديث ثم حيازة المنطقة على أهم احتياطيات الطاقة الدفينة القابلة للتصدير في العالم.
إسرائيل ليست صنيعة الغرب فحسب، وإنما أداته الرئيسية أيضا في إخضاع العرب وضبط مسارهم التاريخي وتحجيمهم وقطع الطريق على ما يعتقد الغرب أنه حلم إعادة بناء الامبرطورية العربية أو الاسلامية الزائلة والتي تحمل تهديدات استراتيجية لهم. فهي ثمرة هذا النزاع لا سببه. ومستقبلها وسياستها رهينة بمصيره أيضا. إن حل المشكلة الإسرائيلية التي هي أصل مشاكل عديدة في المنطقة، وفي مقدمها المشكلة الفلسطينية والاحتلال وعدم الاستقرار والتخلف وانتشار العنف، يتوقف على الاتجاه الذي سيأخذه هذا الصراع العربي الغربي المضمر، ويسير بشكل مواز لحله أو حلحلته وتحول طبيعة الرهانات التي لا تزال تغذيه إلى اليوم. ولا نعني بحل المشكلة الاسرائيلية بالضرورة زوال إسرائيل، فهذه مسألة أخرى تتعلق بعوامل متعددة إضافية، إنما تحويلها من اداة استراتيجية وقاعدة عسكرية كبرى في خدمة السيطرة الغربية، وبالتالي قوة ضاربة جاهزة للتدخل والحرب، بل في حرب دائمة توسعية، إلى دولة عادية، تهتم بشأن مواطنيها وتقدمهم، وتتخلى عن طموح التفوق الدائم والتوسع الجغرافي والتحكم بمصير الشعوب المحيطة.

بالرغم من الإشارات العديدة والواضحة التي جاءت في خطاب الرئيس الامريكي التي توحي بآفاق جديدة للعلاقات العربية الغربية، على الأقل من طرف الإدارة الامريكية، إلا أنني لا أعتقد أننا في صدد وضع حد لهذه الحرب غير المعلنة التي يشنها الغرب على العرب على يد إسرائيل. نحن في أحسن الأحوال على طريق هدنة يدفع إليها الوضع الاستراتيجي المتدهور للغرب الامريكي. لكن ليس هناك أي سبب للاعتقاد بأن السيطرة على الشرق الأوسط وحرمانه من التحكم بمصيره وانتزاع استقلاله وسيادته، لم تعد هدفا حيويا للاستراتيجية الغربية. بل ربما كانت الدوافع لهذه السيطرة أقوى اليوم في الغرب من أي حقبة سابقة، نتيجة ما يقدمه بموقعه الجيوستراتيجي وموارد الطاقة المستحاثية الكامنة فيه من أوراق قوية في معركة السيطرة العالمية، وكذلك بسبب الخوف من إفرازات أزمة المجتمعات العربية الشاملة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، والسعي إلى درء مخاطر العنف المتعلق بها والناجم عن تفاقم ظواهر الإفقار والتهميش والإقصاء والإحباط .
أما أوروبة الغربية فهي اكثر مناطق الغرب خوفا من تحرر العالم العربي من قبضة السيطرة الأجنبية، وتشكيكا بمقدرته على التحكم بمصيره وقيادة نفسه، بل على الخروج من أزمته التاريخية، والأشد توجسا من صعود قوى الاحتجاج والمعارضة والتمرد المحلية. من هنا اللغة المزدوجة التي تميز دبلوماسيتها. فهي في الوقت الذي تظهر فيه مراعاتها الجزئية للمصالح العربية والفلسطينية، لا تكف عن دعم إسرائيل وترفض القيام بأي إجراءات قد تضعف من سيطرتها وتفوقها، حتى لو تعلق الأمر بإجراءات رمزية. وقد نشر في الأسابيع الأخيرة فقط تقرير أكاديمي لمجموعة الأبحاث والمعلومات عن السلام والأمن، وهي مركز دراسات إستراتيجية مستقل في العاصمة البلجيكية بروكسل، أظهر الدور الكبير الذي لعبه الاتحاد الأوروبي، حتى خلال السنوات القليلة الماضية التي كان ينتقد فيها سياسة إسرائيل لفظيا، في تسليح تل أبيب بمعدات ضخمة لاستخدامها في حروبها بالشرق الأوسط. وقد استمر تصدير الأسلحة الفتاكة لاسرائيل، كما جاء في التقرير "رغم اتفاق دول الاتحاد الـ27 فيما بينها على ما يسمى بالميثاق الأخلاقي لبيع الأسلحة الذي يحرم تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاع التي يحتمل أن تستخدم فيها ضد المدنيين أو ضد حقوق الإنسان، غير أنه (الاتحاد الأوروبي) يستثني إسرائيل من هذا الميثاق". وقد بلغت "قيمة مشتريات إسرائيل من مبيعات الأسلحة الأوروبية عام 2006 وحده 11 مليار دولار، ساهمت فرنسا بالنصيب الأكبر منها بعد ألمانيا وبريطانيا وبلجيكا.
ليس هناك أمل كبير بعد، بصرف النظر عن نوايا الرئيس الأمريكي نفسه، في تفكيك نظام الشرق الاوسط الاستعماري أو شبه الاستعماري أو التخلي عن سياسة إخضاع العرب للأجندة الغربيه بعد. إن المطروح اليوم كما كان عليه الحال في عهد الإدارة الجمهورية السابقة هو إعادة بناء هذا النظام الذي قوضته الاحداث ولم يعد يستطيع العمل ولا ضمان مصالح أحد، لا في دول الغرب ولا عند حلفائهم في الدول الشرق أوسطية. وحدها إسرائيل هي المستفيدة.
لكن ثمن الاستيطان وحرب التظهير العرقية الفلسطينية أصبح مكلفا جدا وعائقا أمام إعادة تشغيل هذا النظام. وقد حاولت إدارة جورج بوش أن تفرض إعادة بنائه بالقوة وعلى قاعدة انتصار إسرائيل وتكوين تحالف بينها وبين الدول العربية المخضعة بالقوة وتحت الضغط. وكانت النتيجة إخفاقا مدويا، ليس بسبب المقاومات التي أثارها هذا المخطط فحسب وإنما بسبب رفض الدول الغربية نفسها، وفي مقدمها أوربة الحليف الرئيسي لواشنطن، وكذلك الدول العربية، الانخراط وراء الحلم الجنوني للمحافظين الجدد.
هكذا لم يعد هناك بديل آخر لإعادة ترميم نظام الشرق الأوسط شبه الاستعماري وضمان مصالح الدول والنظم المنخرطة فيه إلا على حساب إسرائيل، أي بإكراهها على التخلي عن أطماعها التوسعية ووضع حد لتوكيلها غير المشروط بعملية إخضاع الشعوب العربية وتدجينها. وهذا يعني من الناحية العملية أن باراك أوباما بعكس سلفه لا يراهن من أجل إعادة بناء جيوستراتيجية الشرق الاوسط على تعزيز إسرائيل والتحالف غير المشروط معها، بوصفها الذراع الضاربة لصالح الغرب، وإنما بتعزيز العلاقة مع الدول الأوروبية والعربية والتفاهم معها. فهي وحدها القادرة على ضمان الاستقرار والنظام في الشرق الأوسط.
بالحسابات الأخلاقية التي ميزت معظم التعليقات العربية على خطاب القاهرة، أوباما لم يقدم شيئا يستحق الذكر. بل كاد يساوي بين الضحية والجلاد. هذا صحيح. لكن بالحسابات السياسية والاستراتيجية، يشكل التراجع عن تكريس إسرائيل وحاجاتها التوسعية قاعدة لإعادة بناء نظام الشرق الأوسط المنهار خطوة كبيرة جدا في مسار تأهيل العرب والاعتراف لهم بدور ووجود سياسي إقليمي. وهي لم تتحقق بسبب صحوة أخلاقية مفاجئة عند الرئيس الأمريكي الجديد أو القيادات الامريكية وإنما نتيجة تضحيات العرب الكبيرة والمتواصلة ومقاومتهم العنيدة للسياسات العدوانية الاسرائيلية والأمريكية في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها من البلاد العربية، والتي قادت إلى تقويض رؤية جورج بوش للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، على حساب العرب والفلسطينيين.
ولا أعتقد أن من الحكمة التفريط بهذا الكسب الحقيقي ولا الاستهتار بمغزاه السياسي والتاريخي. إن من واجب العرب، معتدلين وغير معتدلين، استغلال هذا التراجع عن توكيل إسرائيل مشروع السيطرة على العرب بأقسى الأساليب وحشية، لتعميق الشرخ بين الغرب وإسرائيل، والعمل معا من أجل تعزيز هذا المكسب وعدم السماح بالارتداد عنه أو ترك إسرائيل تستعيد الدور الذي كانت مكلفة فيه حتى الآن.
ويحتاج تحقيق هذا الهدف أولا إلى أن يسترجع العالم العربي ثقته بنفسه ويوفر الإطار المشترك الذي يسمح بملء الفراغ الذي سيتركه تحييد إسرائيل أمريكيا او سحب الوكالة الشاملة عنها لإحلال الاستقرار في الشرق الأوسط. وثانيا فحص العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص، والسعي إلى إعادة بنائها على أسس أكثر شفافية وعقلانية. وربما كان من المفيد في هذا المجال السعي إلى فتح مفاوضات عربية أمريكية جماعية تؤسس لعلاقات جديدة، وتطرح على بساط البحث جميع القضايا العالقة من الأمن الإقليمي إلى التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحل النزاعات القائمة. فلا يستطيع العرب أن يطرحوا أنفسهم شركاء في إدارة النظام الإقليمي القائم من دون أن يظهروا حدا أدنى من التفاهم والتعاون والقدرة على التنسيق في ما بينهم. فإذا لم ينجح العرب، وأعني هنا النظم القائمة، في توحيد سياستهم والتنسيق فيما بينهم والعمل كشريك حقيقي، بما تعنيه الشراكة من التزام ومقدرة على المبادرة وحمل المسؤولية، ليس هناك أي ضمانة في أن لا تنجح إسرائيل في استعادة موقعها السابق كحصان رهان غربي وحيد لضمان ما يسمونه الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها.
بالتأكيد ليس العمل كوكلاء للغرب في حفظ النظام الإقليمي هو ما يطمح له العرب، ولا هو ما يستحقونه. لكن هذا بالتأكيد أفضل من توكيل أمرهم لاسرائيل. وعليهم وحدهم يتوقف استكمال عملية تفكيك النظام الإقليمي شبه الاستعماري وإقامة نظام إقليمي جديد من صنع أبناء المنطقة وشعوبها. فلا تحرر ولا انعتاق من أسر السيطرة الخارجية من دون نجاح مسبق في إعادة بناء الذات وتحقيق التحرر الداخلي.
باختصار شديد، ليس اوباما مهديا منتظرا، لكنه ليس مسيخا أيضا. إنه لا عب/فاعل سياسي. والجواب على الخطاب الذي وجهه للعرب والمسلمين من جامعة القاهرة ليس التهليل والتكبير ولا التقزيم والتشهير وإنما الارتفاع إلى مستوى الفعل السياسي والتصرف بمنطق اللاعب الاستراتيجي.

mercredi, juin 17, 2009

سياسة أوباما العربية

الاتحاد 17 يونيو 09
بالرغم من بعض الشكوك التي أثيرت حوله، أثار خطاب أوباما الموجه إلى العالمين العربي والاسلامي تفاؤلا كبيرا لدى الرأي العام العربي عموما. فهو لم يظهر تعاطفا واضحا مع القضايا العربية والاسلامية ويعترف بمعاناة الشعب الفلسطيني التي لا يمكن أن تتجاهل فحسب، ولكنه عرض، أكثر من ذلك، نهجا جديدا للتعامل مع قضايا المنطقة المشرقية من ضمن القضايا العالمية الأخرى. والنتيجة المتوقعة لهذا النهج أن تحل واشنطن لغة الحوار والتفاوض ومفهوم الشراكة في المصالح والتمسك بالالتزامات الدولية في فلسطين وغيرها، محل لغة الإملاء والضغط والتهديد وتوتير الأجواء مع الدول والأطراف العربية.
وإذا كان من الصحيح أن خطاب أوباما لا يتضمن جديدا بالحسابات الأخلاقية لأنه وضع المعتدي والمعتدى عليه على نفس المستوى من الرعاية، وساوي بين الضحية والجلاد، إلا أنه شكل، بالحسابات السياسية، نقلة مهمة في الاستراتيجية الأمريكية والغربية في المنطقة. وتتجسد هذه النقلة في التراجع عن تكريس إسرائيل وحاجاتها التوسعية مرجعية لإعادة بناء نظام الشرق الأوسط المنهار أولا، وفي إعادة تأهيل العرب دوليا والاعتراف لهم بدور ووجود سياسي إقليمي ثانيا. ولا يقدم البيت الأبيض هذا التنازل للعالم العربي من قبيل الصدقة أو التعاطف أو الصحوة الأخلاقية المفاجئة، وإنما نتيجة مقاومة العرب وما بذلوه من تضحيات خلال العقود الثلاث الأخيرة في مواجهة المخططات الاسرائيلية وإحباط مساعي الإدارة الجمهورية السابقة، في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها من البلاد العربية، وما قاد إليه ذلك من تقويض رؤية جورج بوش للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، على حساب العرب والفلسطينيين.
لقد أدرك الرئيس أوباما، كما أدرك الجمهور الأمريكي الذي انتخبه من قبل، أن سياسة التدخل العسكري والدعم غير المشروط لإسرائيل في سياستها الاستيطانية، لم تعد ناجعة ولا قادرة على أعادة بناء النظام وضمان الأمن والمصالح الأمريكية الحيوية في الشرق الأوسط. هكذا لم يعد هناك بديل آخر لضمان هذه المصالح في المنطقة غير التفاهم مع العواصم العربية، وفي موازاة ذلك إكراه إسرائيل التي تنامت أطماعها في إطار استراتيجية استخدام القوة الأمريكية تجاه العرب، على التخلي عن أطماعها التوسعية والقبول بإقامة دولة فلسطينية، حال دونها منذ أكثر من عقدين الرهان المباشر والواسع على إسرائيل وتفوقها الاستراتيجي لضمان الأمن والاستقرار بالمفهوم الغربي في المنطقة. لا يعني هذا بالتأكيد تخلي الولايات المتحدة عن مصالحها القومية، ولكن بالعكس تنامي الاعتقاد في الإدارة الامريكية بأن هناك حظا أكبر لضمان هذه المصالح بالمراهنة على تعزيز العلاقة مع الدول العربية والتفاهم معها، بدل المراهنة على إسرائيل واستخدامها كآلة حرب وتهديد ضد البلدان العربية.

من هنا، لا أعتقد أن من الحكمة التقليل من قيمة ما جاء في خطاب الرئيس الأمريكي للعالم العربي، ولا التفريط في ما يمثله من كسب سياسي لصالح العرب، ولا الاستهتار بفرص تحول السياسة الأمريكية عن الدعم غير المشروط لتل أبيب في المستقبل. وإذا صدقت النوايا سوف تفقد تل أبيب بالتأكيد من حظوتها الخاصة في واشنطن، على الأقل في الحقبة الراهنة، وحتى تتبين نتائج المبادرة التصالحية الأمريكية. يرتب هذا الوضع على العرب مسؤوليات جديدة، وفي مقدمها تعزيز هذا المكسب وعدم السماح بالارتداد عنه أو ترك إسرائيل تستعيد الدور الذي كانت مكلفة فيه حتى الآن.
ويحتاج تحقيق هذا الهدف أولا إلى أن يسترجع العالم العربي ثقته بنفسه ويوفر إطارا فعالا للعمل الاستراتيجي الجماعي، يسمح ببناء قطب عربي قادر على ملء الفراغ الذي سيتركه تحييد إسرائيل أمريكيا او سحب الوكالة الشاملة عنها لإحلال "الاستقرار في الشرق الأوسط". ولا تشكل الجامعة العربية بديلا لهذا الإطار، ولا تستطيع في ظروفها الراهنة أن تفوم بهذا الدور. وربما كان من الضروري أن يفكر العرب، في إطار الجامعة، بإنشاء مجلس للأمن القومي يشارك فيه قادة وزعماء وخبراء من بلدان متعددة، ويمثل إطارا لبلورة رؤية استراتيجية عربية للحقبة القادمة، ويؤمن لها وسائل تحقيقها.
ويحتاج ثانيا إلى مجهود جديد لإعادة فحص العلاقة مع الولايات المتحدة وأوربة المعنيتين بشكل كبير بشؤون المنطقة، والراعيتين لعملية التسوية السياسية الإقليمية، ومحاولة إعادة بنائها على أسس أكثر شفافية وايجابية معا. وربما كان من المفيد في هذا المجال أيضا السعي إلى فتح مفاوضات عربية أمريكية جماعية تؤسس لعلاقات جديدة، وتطرح على بساط البحث جميع القضايا العالقة: من الأمن الإقليمي إلى التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحل النزاعات القائمة. فلا يستطيع العرب أن يطرحوا أنفسهم شركاء في إدارة النظام الإقليمي القائم من دون أن يظهروا حدا أدنى من التفاهم والتعاون والقدرة على التنسيق في ما بينهم. وإذا سلمنا منذ البداية بأن العرب، بسبب انقساماتهم، وسيطرة التفكير الآني على سياساتهم، بدل النظر نحو المستقبل، وخوفهم على رموز سيادة دولهم الشكلية، غير قادرين على بلورة سياسة جماعية والتنسيق فيما بينهم كي يتحولوا إلى شريك إقليمي، بما تعنيه الشراكة من التزام ومقدرة على المبادرة وحمل المسؤولية، فلن تكون هناك أي ضمانة في أن لا تنجح إسرائيل في استعادة موقعها السابق كحصان رهان غربي وحيد لضمان ما يسمونه الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها.
وعلى الأغلب أن إدارة الرئيس أوباما سوف تنحو، في حال استمرار الضعف الاستراتيجي العربي، وبالمقابل تزايد ضغوط مراكز القوى الأخرى، نحو العواصم الاوروبية التي اعتادت منذ سنوات طويلة استخدام لغة مزدوجة تحافظ فيها على علاقات طيبة وعادية مع الطرفين العربي والاسرائيلي من دون أن تغامر بتغيير سياستها العملية. فقد درجت هذه العواصم، في الوقت الذي تظهر فيه مراعاتها الجزئية للمصالح العربية والفلسطينية، على الاستمرار في دعم إسرائيل بصورة طبيعية، ورفض أي إجراء عملي، حتى لو كان رمزيا يضعف نقوذها أو تفوقها. وقد جاء التقرير الذي نشر مؤخرا، من إعداد مجموعة الأبحاث والمعلومات عن السلام والأمن، وهي مركز دراسات إستراتيجية مستقل في العاصمة البلجيكية بروكسل، ليفضح هذه الازدواجية. فبالرغم من الانتقادات المتكررة التي كان يوجهها لإسرائيل في السنوات الخمس الأخيرة، حتى بدا وكانه غير متفق مع مشاريعها الاستيطانية،، لم يتوقف الاتحاد الأوروبي عن تزويدها بأسلحة ومعدات ضخمة ومتطورة لاستخدامها في حروبها ضد العرب. حتا بلغت "قيمة مشتريات إسرائيل من مبيعات الأسلحة الأوروبية عام 2006 وحده 11 مليار دولار، ساهمت فرنسا بالنصيب الأكبر منها. ولم يوقف تصدير الأسلحة الفتاكة لاسرائيل، كما جاء في التقرير، تعاهد دول الاتحاد الـ27 فيما بينها على ما سمي بالميثاق الأخلاقي لبيع الأسلحة، الذي يحرم تصدير السلام إلى مناطق النزاع التي يحتمل أن تستخدم فيها ضد المدنيين أو في انتهاك لحقوق الإنسان. وليس من المستغرب أن تكون إسرائيل هي وحدها التي استثناها الاتحاد الأوروبي من تطبيق هذا الميثاق.

jeudi, juin 04, 2009

اوباما وامتحان القضية الفلسطينية

الاتحاد 4 يونيو 09

تركز اهتمام الساسة والمثقفين الذين تناولوا بالتعليق زيارة باراك أوباما للمنطقة ومضمون الخطاب الذي ألقاه في القاهرة الأسبوع الماضي على مسألتين. الأولى افتقار خطاب الرئيس الأمريكي لخطة عملية لحل القضية الفلسطينية واقتصار كلامه كما ذكر العديد من المعلقين على المباديء والوعود والبراعة الكلامية، والثانية مقدرة أوباما، لو كان لديه مثل هذه الخطة، على فرضها على إسرائيل وأكراه تل أبيب على القبول في النهاية بوقف الاستيطان وتطبيق القرارات الدولية.
وفي اعتقادي أن زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة وتوجهه بخطاب شامل للرأي العام العربي والاسلامي من جامعة القاهرة يتتجاوزان في أهدافهما بكثير الرد على قلق العرب من توسع حركة الاستيطان الاسرائيلي ومن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني، ويشكلان جزءا من مجموعة مبادرات سياسية ودبلوماسية يطمح من خلالها زغيم البيت الأبيض إلى تصحيح الخطأ الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية الجمهورية السابقة، بسياساتها العدوانية، وإعادة بناء العلاقات العربية الأمريكية خصوصا والاسلامية الغربية عموما على أسس جديدة. وليست مواجهة المسألة الفلسطينية إلا مفتاحا لما يمكن أن نسميه المصالحة بين عالمين لم يتقاربا يوما إلا كي يتباعدا في اليوم التالي. وهي مصالحة تعكس اعتراف واشنطن بإخفاق سياستها في المنطقة وتنامي مشاعر العداء لها في وسط الرأي العام العربي والإسلامي. وربما طمح الرئيس الأمريكي من وراء ذلك إلى تغيير الصورة السلبية التي أفرزتها السياسة الامريكية الخارجية لواشنطن في العالم، وإعادة الاعتبار لعلاقاتها الدولية.
ومن الواضح أن تحقيق مثل هذه المصالحة يستدعي بداية، كما أدرك ذلك العرب والاسرائيليون معا، التوقف عن الدعم غير المشروط الذي كانت واشنطن تقدمه لإسرائيل حتى الآن، بل الضغط على هذه الأخيرة كي تقلص من طموحاتها الاستراتيجية بل أطماعها الإقليمية وتقبل بتجميد الاستيطان والسماح بقيام دولة فلسطينية إلى جوارها. بمعنى آخر، إن للمصالحة العربية الأمريكية ثمن، وليس هناك عليها أن تدفعه تماما كما كان للدعم المطلق لإسرائيل ثمنا كبيرا دفعته الولايات المتحدة من رصيدها الإقليمي والعالمي أيضا. والسؤال هو ما إذا كانت واشنطن تملك الإرادة والقوة والتصميم على إرجاع البعبع الاسرائيلي الذي أطلقته في السابق لتخويف العرب وتركيعهم وإجبارهم على قبول السير حسب أجندتها الإقليمية والعالمية، إلى القمقم الذي أخرجته منه. ولا تزال هناك شكوك كبيرة حول هذا الأمر، بالرغم من أحدا لا يجهل أنه ما كان لاسرائيل أن تستمر في الوجود وتبلغ ما وصلت إليه من تفوق استراتيجي، ولا أن تستهتر بالحقوق الفلسطينية والعربية، وتمعن في تطبيق خطط الاستعمار الاستيطاني العنصري، لولا الدعم الكامل والمتواصل، الايديولوجي والسياسي والمالي والعسكري والاستراتيجي الذي حظيت عليه من قبل واشنطن وأوربة الغربية. كما أن أحدا لا يجهل أن هذا الدعم والتأييد غير المشروط يمكن فصله عن الدور الذي أنيط بها في المنطقة، كأداة للضرب والحرب المستمرة المعلنة والمستترة، وحارس للمصالح الغربية، الامريكية والاوروبية
لكن ليس هناك شك في أن تغيير السياسة الأمريكية، والغربية عموما، تجاه العالم العربي، والقبول بهذا العالم طرفا أو شريكا في بناء نظام الشرق الأوسط، والالتزام الفعلي، كما أعلن أوباما في خطاب القاهرة، باحترام المصالح العربية الاستراتيجية والسياسية، هو المدخل الحقيقي لحلحلة الأزمة الإقليمية. وفيه يكمن مفتاح تصحيح العلاقة المختلة تماما بين إسرائيل والعرب، أي دفع إسرائيل إلى التوقف عن تحدي القوانين الدولية وانتهاك الحقوق العربية بتوسيع دائرة الاستيطان وضم الأراضي وتأبيد الاحتلال وحرمان السكان في فلسطين وغيرها من المناطق المحتلة وفي المشرق العربي بأكمله من الأمن والسلام والحياة الطبيعية المستقرة. والواقع أن ما هو مطلوب من الامريكيين لتحقيق هدفهم الجديد، أي استعادة الحد الادنى من الثقة بسياستهم الإقليمية لا يستهدف مصالح إسرائيل نفسها وإنما أحلام غلاتها والمتطرفين فيها الذين يتصرفون كما لو كانت المنطقة العربية حقل صيد، ينتزعون فيه ما يشاؤون متى أرادوا ويضمونه إلى مكتسباتهم ويسجلوه مليكة خاصة بهم. إن ما هو مطلوب لايتعدى إرجاع إسرائيل إلى منطق العقل والحد من أطماعها ومساعدتها، كما يعتقد الكثير من الصهيويين المعتدلين اليوم، على نزع الطابع الاستعماري والتوسعي والعدواني عنها وتحويلها إلى بلد طبيعي يعيش بسلام مع جيرانه ولا يعتبر الاعتداء عليهم وإلحاق أراضيهم رسالة وطنية.

من هذه الزاوية تكتسب زيارة أوباما للمنطقة في الأسبوع الماضي وتوجيهه خطابا فيها يدعو إلى طي صفحة الماضي والبدء بتجربة جديدة في العلاقات الأمريكية العربية قائمة على الاحترام المتبادل والحوار والسعي المشترك لمعالجة المشاكل الكبيرة التي تعاني منها المنطقة وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي، أقول تكتسب هذه الزيارة معنى يختلف كثيرا عما كانت تتضمنه زيارة الرؤساء الأمريكيين والغربيين السابقين وخطاباتهم فيها.

والسؤال هل يمكن لباراك أوباما أن يأمل بالنجاح في تحقيق اختراق تاريخي على جبهة المصالحة الاسلامية الغربية من دون إظهار جدية واشنطن في احترام القانون وتطبيق القرارات الدولية في أكثر القضايا إثارة للعواطف والأهواء منذ أكثر من نصف قرن؟ ثم أبعد من ذلك، هل يكفي الوعد بتحقيق تسوية فلسطينية أو حتى عربية إسرائيلية حتى تستعيد الولايات المتحدة صدقيتها في المنطقة العربية ؟ وكيف يمكن لمصالحة عربية أمريكية أن تتحقق في ظروف غياب الشعوب العربية عن نفسها وتغييبها عن واقعها ومصيرها ومستقبلها؟ في الإجابة على هذه الأسئلة يكمن ربما الجواب على سؤال استعداد الجبهة الفلسطينية للدخول في مفاوضات سلام جدية.


في نظري سيحتاج أوباما إلى إرادة حديدية حتى ينجح في لوي ذراع القوى المؤيدة لإسرائيل في الإدارة الامريكية نفسها، ومن ثم إعادة إسرائيل إلى مكانها وحجمها الطبيعيين. لكنه سيحتاج أيضا وبصورة أكبر إلى بروز إرادة عربية قوية موحدة، وفي مقدمها الإرادة الفلسطينية. فإجبار إسرائيل على الإنطواء على مصالحها والكف عن لعب دور الحارس الغربي الأمين للمنطقة لا يمكن ضمانه بالخطب والالتزامات المعنوية. إن ضمانته الوحيدة تكمن في نشوء قوة عربية تملء الفراغ الاستراتيجي الذي سينشأ نتيجة تراجع إسرائيل، وهذا ما يجعل من التفاهم بل الاتحاد العربي مهمة عاجلة وجزءا لايتجزأ من مشروع التسوية الأقليمية وشرطا لها.

mardi, mai 19, 2009

العروبة والهوية العربية في القرن الواحد والعشرين

محاضرة في ندوة العروبة مارس بيروت

1- بين العرب والعروبة
تشكل العروبة موضوع نقاش متجدد في عالم اليوم. وإذا كان من الصعب لأحد أن يشكك في صينية الصيني أو فرنسية الفرنسي أو أمريكية الامريكي، بالرغم من أن الصين تضم عددا لا يحصى من القوميات الصغيرة، وأن فرنسا تشكلت من مجموعات كبيرة من القوميات التي لم تنصهر بعد تماما في الكتلة الغالية، وأن أمريكا بالرغم من سيطرة المزيج الأوروبي الأبيض عليها، تؤلف مزيجا من القوميات التي هجرت إليها، بل هي امة المهاجرين بامتياز، اوروبيين كانوا في أصلهم أم غير أوروبيين. لكن الامر ليس كذلك مع العروبة. ولا يقتصر التشكيك في معناها، بل في وجودها، على الآخرين، والأوروبيين أو الغربيين بشكل عام، وإنما يتعدى ذلك غالبا إلى عدد كبير من العرب أنفسهم. فإذا كان الأولون يعترضون على وجود شعب عربي يقطن أقطارا متعددة لكن توحده مصالح ومشاعر وتطلعات واحدة، ويركزون بالعكس على الأصول غير العربية للشعوب القاطنة في أقطار العالم العربي، فيؤكدون على وجود شعوب مختلفة أخفاها الدين الواحد واللغة الواحدة التي ارتبطت به، لكنها في طريقها لأن تستعيد وعيها بذاتها وهويتها الخاصة، فإن قطاعات واسعة من العرب تنزع إلى نكران عروبتها او تجاهلها أو عدم إعطائها قيمة ومعنى، أحيانا لأسباب ايديولوجية، أو لأسباب سياسية. فلا شك أن الاسلامويين، أو قسما كبيرا منهم، ينفر من العروبة لأنه يخشى أن تكون بديلا للانتماء الديني الأوسع، ويرى بعضهم فيها عصبية جاهلية، ومثل ذلك كان يفعل الكثير من الشيوعيين والقوميين السوريين وأصحاب الايديولوجيات القطرية المتمحورة حول الدولة عموما في الماضي القريب، والحداثيين أو العلمانيين المتطرفين اليوم الذين ينظرون إلى العروبة على أنها ايديولوجية قومية، وهي بالإضافة إلى ذلك ايديولوجية عنصرية ورديفة للفكرة الاستبدادية. والنتيجة، لا تبدو العروبة أبدا أمرا بديهيا.
تستدعي الإجابة على هذه المسألة التمييز بين العروبة من حيث هي واقع ثقافي (اتني) موضوعي والعروبة من حيث هي عقيدة أو فكرة أو ايديولوجية تشير إلى ما يطمح إليه العرب ليحققوا أنفسهم، أو ما يريد الآخرون للعرب أن يكونوا، أي إلى هوية سياسية وحضارية تتجاوز النسب الثقافي والاتني. فنحن نولد ضمن جماعة اتنية وثقافية، وننسب إليها، سواء قبلنا ذلك ام لا، ولا نستطيع اختيارها. فهي واقعة موضوعية خارجة عن إرادتنا ومرتبطة بأصلنا وماضينا، تحدد وجودنا قبل أن نبدأ التفكير والاختيار والتأمل في مستقبل المجتمع والدولة والأمة. وعندما أقول هناك عرب وأفارقة وأوروبيين وهنود وصينيين فأنا أميز بين أجناس، نسبة للصفات الموروثة، والوقائع المادية وغير المادية التي تتجاوز الاختيارات الفردية. أما عندما أقول إن العروبة تعني صفات محددة، أخلاقية وسياسية، كالمروءة والشهامة والكرم وحب الحرية مثلا أو التضامن والتعاون في إطار دولة واحدة أو جماعة موحدة، أو العداء للامبريالية والوقوف ضد الاستبداد، فأنا أتجاوز تقرير الواقع إلى توظيفه في خدمة رؤية فكرية أو ايديلوجية لتحقيق شيء آخر، أو لصوغ هذا الواقع في هيئة عقائدية (دينية) او سياسية.
وإذا كان الواقع المادي لا يتغير كثيرا، او بالأحرى إذا كانت زمانية تغيره هي من النوع الطويل بحيث لا يشعر به الفرد نفسه، كما حصل للغة العربية التي نتحدثها اليوم بالمقارنة مع اللغة العربية الكلاسيكية، فإن المضمون الاخلاقي والايديولوجي والسياسي الذي نعطيه للعروبة يتغير بسرعة أكبر بكثير، لأنه ينتمي لزمنية التغير السريعة. وقد ارتبطت كلمة عروبي في العقود القليلة الماضية التي أعقبت الاستقلالات العربية باختيارات ثقافية وسياسية مرتبطة إلى حد كبير بالفلسفة القومية التي انتشرت في القرن التاسع عشر في أوروبة والعالم. لكن هذه العروبة التي ينبغي أن نطلق عليها العروبية، نسبة لكونها ايديولوجية تنطلق من العروبة كواقعة موضوعية لتبني مشروعا عربيا ايديولوجيا أو سياسيا يتطابق مع معايير العصر السياسية في بناء الدول الامم أو الدول القومية، أقول لكن هذه العروبة ليست لاصقة بالجماعة العربية، وإنما هي إضافة عليها. فهي تشير إلى محتوى معياري بالدرجة الأولى. والسياسة العروبية تهدف إلى تجسيد هذا المحتوى، من أجل الوصول إلى الأهداف التي تتطلبها العروبة من منظور الدولة القومية.
فالعروبة الاتنية واقع ملموس، لكن معطى خام، غير ناطق، لا دلالة كبيرة له سوى وصف بسيط للعرب لتمييزهم عن غيرهم من الشعوب. ومن هذه الناحية هي عبارة عن إرث، ثقافي وربما نسبيا جسماني، أي تأكيد الانتماء لأصل، واستمرار للماضي.
في المقابل، العروبة كاختيار ايديولوجي، هي توجه نحو المستقبل، مشروع للمستقبل، اقتراح للعمل وإعادة تشكيل الذات. مشروع لبناء العروبة الوصفية من أفق آخر وفي شكل آخر. وهي من هذه الناحية خروج من الواقع إلى الرمز، ومن المجسم إلى المجرد، ومن المادة إلى الروح. بث الروح في الجسد.
ولذلك كانت العروبة منذ نشأتها على أنقاض الاجتماع العثماني المللي وايديولوجيته الدينية، مشروع تغيير. وربما كانت، كما ظهرت في بداياتها، موضوع ثورة على الماضي، على العروبة الإتنية نفسها بوصفها التصاق بالدم والعرق والقرابة المادية والتقاليد البدوية أو القرسطوية الجامدة والمستهلكة[1].
باختصار، لا يعني تكلم أناس لغة واحدة، وامتلاكهم تقاليد واحدة، بل وإنتسابهم الفعلي أو الوهمي إلى جد واحد، تلقائيا، أنهم يشكلون جماعة سياسية واحدة، ومن باب أولى أمة واحدة، أو أنهم يتصرفون كجماعة أو أمة. فالعروبة كهوية للعرب لم تولد تلقائيا من اتصافهم بسمات مادية وثقافية مشتركة، وإنما هي عملية صنعية مركبة. ولا تحصل إلا بوجود فكرة وراءها تعطي للصفات المشتركة مضمونا ومعنى. فقد كان العرب يتحدثون لغة واحدة ولديهم إرث بيولوجي وثقافي مشترك في ما يسمى عصر الجاهلية، لكنهم لم يكونوا شعبا أو امة، ولكن كانت هويتهم الحقيقية، أي أسلوبهم في التعريف بأنفسهم وإدراك ذاتهم، ما أسميه الوعي بالذات، قبلية. وكان النزاع بين القبائل العربية يفوق النزاع بين العرب والشعوب الأخرى، لدرجة اعتبر المؤرخون العرب أن اجتماع كلمة العرب في معركة ذي قار ضد الفرس كان إيذانا بولادة هوية عربية مشتركة، أو شعبا عربيا. وبعد ظهور الاسلام اختفت العروبة أيضا كاستراتيجية هوية وتسمية ذاتيه وحل محلها الإسلام، وتقلص الشعور بالعروبة إلى تكوين إتني لا قيمة له ولا أهمية بالمقارنة مع الانتماء للجماعة الدينية التي تتجاوز العنصر الاتني والقبلي معا وتقدم وحدها مرجعا أخلاقيا وسياسيا لأنها هي التي تنطوي على معاني فكرية.
ثم إن الهوية ليست صنعية فحسب ولكنها تاريخية أيضا، أي ليست ثابتة ولا باقية على طول الزمن. وهذا ما يشير إليه تغير محتوى العروبة ودلالاتها الثقافية والسياسية على مر العصور. فقد ورثت العروبة القومية في العصر الحديث العروبة الدينية المنصهرة بالاسلام والمتماهية مع حضارته وثقافته في الحقبة الوسيطة، التي كانت قد حلت في مرحلة سابقة محل العروبة القبلية. واليوم تحن ننزع إلى تخليص العروبة من لباسها القومي الحديث، او القومجي، لنعيد بناءها على أسس أكثر انفتاحا وإنسانية أو كونية.
2- تحولات العروبة:
وبشكل عام، شكل مفهوم العروبة، أي توظيف الخصائص الإتنية الموضوعية في مشروع ثقافي أو سياسي يتطلع إلى المستقبل، بما في ذلك ربط العروبة بالانتماء إلى حضارة وثقافة محددة، والعمل على إحياء تراثها والاستثمار فيها، القاطرة التي سعى المثقفون والمفكرون والساسة، أو كثير منهم، إلى استغلالها لنقل حياة العرب من نموذج المجتمعات التقليدية السلطانية والقرسطوية إلى النموذج الحديث، وإعادة تشكيل حياتهم بحسب القيم والمعايير الحديثة، الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. ولم تتقمص العروبة جسدا واحدا كما يبدو لنا اليوم، هو الفكرة القومية العربية التي سادت في الخمسينات والستينات، ولكنها ظهرت في أشكال مختلفة، وكانت ميدانا لاستثمارات متنوعة أيضا، وغيرت من جلدها مرات ومرات. وبالرغم من أنها تظهر اليوم بمثابة حائط مبكى ومشجب يعلق عليه جميع العرب، بصرف النظر عن أوضاعهم ومواقعهم، إخفاقاتهم ومثالبهم ونقائصهم الفكرية والأخلاقية والسياسية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولا في النصف الأول من القرن العشرين.
فقد ولدت العروبة الأولى في القرن التاسع عشر في ثياب نزعة إنسانية كونية قوية. وارتبط نشوؤها بمفهوم ايجابي لا نزال نردده إلى اليوم هو عصر النهضة، تيمنا بعصر النهضة او الانبعاث الأوروبي في القرن السادس عشر، وما رافقه من ازدهار في الآداب والفنون والعلوم وجميع أشكال التغير الايجابي والتقدم والابداع. فقد مثلت في ذلك العهد بداية اكتشاف العرب أو مثقفيهم للعالم الحديث الصاعد من حولهم، وما يعنيه من تطور للعلوم والتقنيات والنزعات العقلية والأخلاقية. وكان جوهر العروبة هذه هو الانفصال بالعرب أو الابتعاد بهم عن عصر الثقافة القرسطوية وتقاليدها وتراثها، وإدراجهم في عصر الثقافة الحديثة، والعمل على استيعاب مفاهيمها وقيمها وتطلعاتها العقلية والإنسانوية. وفي هذا العهد سيرتبط مفهوم العروبة الناشيء بالمفاهيم الجديدة الصاعدة مثل الحرية والوطنية والدستور والمواطنة، ويتطابق مع عملية البحث عن تأصيل الثقافة الزمنية وتنمية العلوم العصرية المتميزة عن العلوم الدينية. لم تكن العروبة في هذه الفترة بنت الحداثة فحسب، وإنما كانت أداتها وجوهر مفهومها في المجتمعات العربية التي كانت بالكاد قد بدات تعي وجودها المتميز على هامش تفكك الدولة الامبرطورية العثمانية وانحلالها. وقد استثمرت العروبة هنا لتحقيق النهضة بالمعنى الحديث للكلمة، وتوجيه العرب نحو الفكرة الكونية والإنسانية بما تشتمل عليه من قيم ومعايير اجتماعية. فكانت أداة لتجديد التراث وإحياء القيم الزمنية المدفونة والعودة إلى العلوم العقلية وتجديد التراث العربي القديم نفسه عن طريق الاجتهاد العقلي والإصلاح الديني.
لكن لن يبقى هذا المفهوم الكوني للعروبة جامدا وثابتا لفترة طويلة. وسوف يخضع لتحولات عميقة على هامش معركة الدستور وإصلاح الامبرطورية السياسي، وبشكل خاص بعد إخفاق مشروع تحديث الامبرطورية وتولي نخبة قومية طورانية السلطة في اسطنبول. فبعد أن بقي مفهوم العروبة مرتبطا ببناء ثقافة عربية حديثة مستقلة عن الثقافة الدينية التقليدية ومرتبطة بالعصر، سوف تدفع الصراعات السياسية لنهاية عصر الامبرطورية وفشل الثورة الدستورية العثمانية واغتيالها على يد السلطان عبد الحميد، والقمع الذي أعقب ذلك في المناطق العربية، إلى انزياح العروبة الجديدة بشكل متزايد نحو الحقل السياسي. وبعد حقبة تحكم فيها المثقفون ورجال الدين المصلحون بمفهوم العروبة وجيروه لخدمة اهدافهم الإنسانوية والتحديثية، دخل المفهوم على أيدى رجال السياسة في سجل تاريخي جديد.
وإلى جانب ما أصبح يعرف في الأدبيات التاريخية بالجمعيات العربية التي تبنت مفهوم العروبة، وربما كانت جمعية العهد هي النموذج الأوضح لها، سوف تكتسب فكرة استقلال العرب عن الأتراك وتكوين دولة عربية مستقلة ومتميزة مواقع كبيرة وسريعة في اوساط الرأي العام والطبقة الوسطى[2]. وهذا ما سوف تكرسه فكرة الثورة العربية الكبرى ومشروعها، في العشرينات من القرن العشرين، وذلك بصرف النظر عن مصير هذه الثورة ومستقبل مشروعها. فنحن هنا امام مفهوم للعروبة يتطابق بشكل واضح مع الفكرة الوطنية الاستقلالية والدستورية الليبرالية التي شغلت العرب، ساسة ومثقفين، وحركت نشاطهم، في النصف الأول من القرن العشرين.
ولا أعتقد أن لعروبة الثورة العربية الكبرى، التي قادها الشريف حسين، علاقة كبيرة بفكرة العروبة كما سيعاد بناؤها بتردد وبطء في البداية منذ الأربعينات، لكن بقوة واضحة وتصميم في الخمسينات والستينات، أعني بالحركة القومية العربية الشعبوية، ثم الثورية والانقلابية التي ستملآ عقل العرب وقلبهم بعد الاستقلال. وربما لم تكن هذه الحركة إلا رد فعل مزدوج على إخفاقين شهدتهما العروبة منذ نشوئها، مشروع الاستقلال عن الدولة العثمانية وتكوين دولة مستقلة او كيانا عربيا متميزا ومستقلا، ومشروع بناء دولة وطنية قطرية فاعلة بعد انهيار حلم المملكة العربية الواحدة أو اغتياله من قبل البريطانيين والفرنسيين بتطبيق اتفاق سايكس بيكو سيء السمعة[3].
كان منطلق العروبة الجديدة مفاهيم مختلفة تماما عن المفاهيم الكونية للثقافة الحديثة في القرن التاسع عشر، وعن مفاهيم الثورة الاستقلالية والدستورية التي سيطرت على الحركة العربية داخل الأقطار المكافحة من اجل الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي. ولهذا لم تبق، كما كانت في الحقبة الاستعمارية، أساسا أو مبدأ لرابطة سياسية، تكرس حلم الدولة العربية في الاستقلال وتكوين دول سيدة ومستقلة، يمكن أن تتوحد في المستقبل لتعوض عن انهيار حلم المملكة العربية، وإنما تحولت إلى حركة شعبوية تجمع بين العداء للاستعمار الأوروبي والكفاح ضد النخب والطبقات الاجتماعية الارستقراطية التي ستظهر وكانها الحليفة الرئيسية للغرب الاستعماري. ولذلك ستنسلخ العروبة من جديد عن جلد الوطنية الدستورية الليبرالية الذي لبسته في حقبة ما بين الحربين، في الصراع ضد الاستعمار الغربي ومن أجل الاستقلال وتكريس سيادة الدول، لتتخذ شكل الثورة والانقلاب الاجتماعي والسياسي الذي يشكل مدخلا لاستكمال العمل من أجل الاستقلال غير الناجز والسيادة الناقصة. وهكذا ستنبثق الحركة القومية العربية منذ البداية كحركة انقلابية وثورية، وتراهن على التعبئة الشعبية بدل تفاهم أصحاب المصالح والنفوذ والحظوة من أبناء النخب المدينية والريفية الذين كانوا يسيطرون على الدولة ويشكلون أداة التواصل بين الغالبية الشعبية الفقيرة والمهمشة والسلطة الاستعمارية صاحبة القرار الحقيقي في السياسة والاقتصاد.
في هذه الحقبة التي سنطلق عليها في أدبياتنا اسم الحقبة القومية أيضا، سوف تكون العروبة مرادفة لقيم التقدم الفكري والاجتماعي والتاريخي. وبالرغم من أن الوحدة كانت محور ايديولوجية الحركة القومية، إلا أن نشاط الحركة سيتركز في النهاية في المسألة الاجتماعية والسياسية، أي في تغيير توازنات السلطة واعادة توزيع الثروة. بل إن هذا التغيير السياسي لصالح فئات وطبقات جديدة، هو الجانب الوحيد من التغيير الذي سيستمر ويبقى بعد انحلال الحركة وانحسارها. اما الوحدة أو الوحدات التي طمحت إلى تحقيقها أو همت بتحقيقها فلم ير أي منها النور. والوحدة اليتيمة التي تحققت بين مصر وسورية في أواخر الخمسينات بالكاد دامت ثلاث سنوات. وحتى في ما يتعلق بالنزاع مع الغرب، لم يعد موضوع السيادة والاستقلال هو جوهر المشكلة، وإنما الدفاع ضد الغرب عن سياسات الإصلاح الاجتماعي التي اطلق عليها اسم الاشتراكية، والتي أثارت بالفعل حساسية الدول الغربية وعدائها بسبب ما كانت تنطوي عليه من حتمية التحالف بين الأقطار العربية المنضوية تحت لواء الحركة القومية التقدمية الاشتراكية والمعسكر السوفييتي السابق المنافس للغرب.
العداء للغرب، أو للامبريالية بما تعنيه من سياسات الهيمنة الدولية عبر التكتل السياسي الغربي الليبرالي (لا للاستعمار) ، العدالة الاجتماعية، الثورة على الماضي والتقاليد، وتصفية مرتكزات الطبقة الارستقراطية، التوجهات التقدمية واليسارية، والتحرر الديني، هذه هي قيم القومية الثورية لحقبة ما بعد الاستعمار. ولأنها ارتبطت بفكرة الطليعية السياسية، أصبح من الطبيعي أن لا ترى أي قيمة للقيم الديمقراطية والتمثيلية القانونية والدستورية، وأن تركز بشكل اكبر على النخبة الثورية المخلصة والمنظمة في تكوينات حزبية قوية. وبالمثل، لم يعد للوحدة في منظور هذه العروبة التقدمية والثورية قيمة مركزية طالما أصبحت تعتمد بشكل أكبر في ضمان تقدمها واستقرارها على قوى الثورة العالمية والمعسكر الاشتراكي. ومن الممكن القول إن هذه الطبعة الجديدة من العروبة قد طلقت تماما قيم العروبة السابقة في الاستقلال والوحدة والسيادة. المهم هنا التقدم والتغيير الاجتماعي. وبهذا المعنى تشكل عروبة الخمسينات والستينات نموذجا لما اطلقت عليه الادبيات الماركسية اسم حركة التحرر الوطني كجزء من حركة التحرر العالمي من السيطرة الغربية والرأسمالية.
3- أزمة العروبة وأزمة الهوية
هكذا، لم تكن العروبة أمرا بديهيا في الماضي، وليست أمرا بديهيا اليوم. فمن الواقع الوصفي الواحد، وهو هنا وجود شعب يتحدث لغة واحدة وينسب نفسه لأصول واحدة، يمكن بناء مشاريع اجتماعية وسياسية متعددة، تبعا للقيم التي تحرك النخب السائدة او تنتشر في أوساط واسعة من الرأي العام. وفي كل مرة يشكل التحول من مشروع إلى آخر محور أزمة هوية عميقة، لأنه يضع وجها لوجه الشعور الأولي بالعروبة في مواجهة الاختيارات الفكرية والسياسية التي ارتبطت بها في هذه الحقبة أو تلك. وليس من الممكن تحرير العروبة كمفهوم وصفي من العروبة كما يجسدها هذا المشروع أو ذاك في حقبة من حقب التاريخ ما لم يتبلور مشروع جديد، أي طالما لم ينجح المجتمع في بلورة رؤية واضحة للمستقبل، ويضفي محتوى جديدا على صفة هي من حكم الواقع والتاريخ. ومما يزيد الأوضاع تعقيدا أن بلورة هذه الرؤية ليست مستقلة عن البيئة العالمية وما تقدمه من خيارات استراتيجية وسياسية وفكرية.
ونحن نعيش اليوم أزمة العروبة القومية التي مسحت كل ما قبلها من النسخ، وارتبطت بحقبة تميزت بصعود الحركة الشعبية الواسع والآمال والتطلعات الكبيرة التي رافقتها في التغيير السياسي والاجتماعي والحضاري. حتى أصبح من الصعب فك مفهوم العروبة الأول عن استخدامه العروبي القومي اللاحق. ومن هذا المنظور تشكل العروبة الجديدة التي عمت فكرتها جميع أرجاء العالم العربي لأول مرة، وأصبحت هوية جامعة للشعوب العربية بالرغم من انعدام التواصل السياسي، ثمرة الحركة القومية الشعبية وضحيتها في الوقت نفسه. فمن دونها ما كان من الممكن للعروبة أن تتغلب على الأفكار القطرية أو القومية المنافسة لها، التي انتشرت في العديد من الأقطار، ولا أن تحل محلها. لكن إخفاق الحركة القومية الشعبية يضع العروبة في مأزق صعب نتيجة مطابقة العروبة في الوعي الداخلي والخارجي مع قيم القومية واختياراتها. وهذا ما يفسر الصراع الذي احتدم من جديد حول العروبة وخياراتها والمصير البائس الذي وصلت إليه الفكرة القومية العربية والحركة او الحركات المرتبطة بها، سواء من حيث تراجع مواقعها السياسية والفكرية في وسط الرأي العام، او بسبب تحولها إلى تراث داشر، قابل للاستهلاك والاستخدام والمتاجرة من قبل أطراف عديدة تحاول أن تغطي بالعروبة، حتى في أضعف أحوالها، على افتقارها لأي مصدر مشروعية[4].
ومن الأسباب التي تفاقم من أزمة الهوية المتعلقة بالعروبة، وتعيق إمكانية حلها السريع أن الجماعة العربية، أو التي نطلق عليها اسم عربية، مثلها مثل الجماعات القومية الأخرى، ليست ماهية جامدة وثابتة يمكن تمييزها بسهولة وفصلها عن استخداماتها التاريخية وتقمصاتها الايديولوجية. فهي واقع تاريخي حي ومتحرك، وثمرة التوسع والاختلاط والتزاوج والتصاهر والاندماج المادي والثقافي معا. مما يعني أنها في تغير مستمر. ويمكن القول إن ما حصل للعرب في القرن الماضي هو انقلاب قوي في محور الهوية والانتماء القومي. فقد جاءت إعادة اكتشاف العروبة أو استعادة الوعي بالذات من منطلق ثقافي وقومي بعد قرون طويلة من سيطرة الهوية الدينية الاسلامية. ولم يكن هذا التحول في الشعور بالهوية العربية، أو بالأحرى في استراتيجية الهوية، على مستوى واحد عند جميع قطاعات الرأي العام والفئات الاجتماعية. ولا يزال مصبوغا، إلى اليوم، في أوساط كثيرة، بذاكرة الهوية الملية أو الطائفية التي ميزت تاريخ السلطنة الاسلامية الطويل وتقاليدها. ولم ينجح القوميون، أعني أصحاب الفكرة القومية وفلاسفتها في تحرير الشعور بالانتماء العربي كليا من الانتماء الاسلامي، بالرغم من الجهد الكبير الذي بذلوه في سبيل ذلك. وربما كان أكبر مؤشر على ذلك شعور بعض قادة الفكرة القومية العربية من المسيحيين بالحاجة إلى اعتناق الاسلام، أو التقرب من فلسفته ومبادئه، من أجل إظهار انتمائهم العربي أو تأكيده، كما حصل مع أحد منظري الفكرة الكبار وممثلها ميشيل عفلق.
يضاف إلى ذلك أن التاريخ لم يشهد في أي حقبة من الحقب تطابقا فعليا بين حدود الجماعة الثقافية العربية وحدود الدولة السياسية التي تنتظم فيها. فقد انقسم العرب في الجاهلية بين قبائل وعشائر وممالك أو شبه ممالك متنافسة، اشتهرت من بينها المملكة المنذرية والمملكة الغسانية. وقد تفاقم الأمر مع حركة التوسع والفتوح التي واكبت انتشار الاسلام وأدت إلى بناء دولة امبرطورية تجمع إلى جانب العرب شعوب شرق وجنوب المتوسط جميعا، وتصهرهم تحت راية اسلامية واحدة. وإذا كان العهد الراشدي ثم الاموي قد احتفظ للعرب بموقع متميز في الدولة الجديدة إلا أن تقدم المشروع الامبرطوري قد فتح المجال امام صعود شعوب وأقوام أخرى إلى مقدمة المسرح السياسي للدولة، وإضفائهم خصائصهم الفكرية والثقافية، واحيانا لغاتهم عليها. وخلال قرنين أو ثلاثة أصبحت السيطرة العربية على الدولة الجديدة من ذكريات الماضي. وجاء العثمانيون منذ القرن الرابع عشر الميلادي ليعيدوا صهر المنطقة نفسها وشعوبها في مصهر الهوية الامبرطورية التي تجمع بين ملل دينية.
وقد استمرت الصيغة نفسها في القرن العشرين، بعد انحلال السلطنة وظهور نموذج الدولة القومية. فبسبب غياب قوة سياسية عربية مركزية، لم يسفر تفكك الامبرطورية العثمانية عن نشوء جماعة عربية موحدة ودولة عربية تتطابق فيها حدود الثقافة القومية مع حدود الدولة السياسية، وإنما أسفر عن سيطرة القوى الأوروبية التي أعادت تشكيل المنطقة من وجهة نظر مصالحها الخاصة، أي من منظور تقاسم مناطق النفوذ، وبالتالي تقسيمها بما يضمن تحقيق هذا النفوذ وتوزيع دوائره بين الدول الكبرى الأوروبية. وكان هذا التقسيم فاتحة لأزمة قومية عربية لم تنته إلى اليوم نجمت عن تصادم الوعي القومي العربي الصاعد، تمثلا للقيم القومية الحديثة نفسها، بواقع السيطرة الاستعمارية وتقسيمها للمنطقة العربية.
من هذه الأزمة، وجوابا عليها، نشأت أصلا حركة القومية العربية الشعبية التي وضعت نصب عينيها توحيد العرب من جهة وتحريرهم من النفوذ الغربي والسيطرة الأجنبية، بهدف الوصول إلى الصيغة القومية الحديثة المنشودة، أي مطابقة حدود الجماعة الثقافية، الناطقة بالعربية، مع حدود الجماعة السياسية، أو تكوين دولة عربية قومية بالمعنى الحديث للكلمة، تضع العرب على المستوى ذاته من التطور السياسي والدولي الذي بلغته الشعوب الأخرى.
لكن العامل الأهم في تعميق أزمة الهوية العربية لحقبة ما بعد الثورة القومية هو إخفاق الحركة القومية العربية في تحقيق حلم الدولة القومية او الدولة الامة التي تتطابق حدودها الثقافية (الأمة) مع حدودها السياسية (الدولة). فقد أدى هذا الإخفاق، لأسباب ليس هنا مجال البحث فيها، إلى وضع الهوية العربية في طريق مسدود، بمقدار ما كرس انتصار الخيار النقيض، أي بمقدار ما ثبت خضوع المنطقة لمنطق تقاسم النفوذ الذي يعني هنا ترسيخ التحالف، كما لم يحصل في أي وقت سابق، بين النخب المحلية الحاكمة والقوى الغربية، الامريكية والاوروبية، وزاد من حدة التناقض بين منطق الجماعة الثقافية ومنطق الجماعة السياسية. فالشعور بالوحدة والانتماء الثقافي المتنامي، بفضل تقدم عملية التحديث والانفتاح على العالم، يصطدم أكثر فأكثر بواقع الانقسام الفعلي والسيطرة الأجنبية أو التبعية للأجنبي، ويعمق الشعور الموازي بخيبة الأمل والخديعة والإحباط التاريخي. وهذا هو المصدر الرئيسي لشقاء الوعي العربي والعروبي اليوم.
تتخذ الردة على ايديولوجية القومية العربية التي كانت في أصل الإخفاق، أو التي يحملها أكثر الرأي العام مسؤولية الإخفاق، ويحملها قسم أقل مسؤولية قيادة العرب في طريق مسدودة، جريا وراء الأوهام، شكل الارتداد أيضا عن الهوية العربية نفسها، أو التشكيك في قيمة هذه الهوية وفائدتها بل في وجودها[5]. وأكثر فأكثر يستفيد معارضي الفكرة العربية من فائض في المعنى، يؤمنه لهم تنصلهم من فكرة أصبحت تبدو عبئا على المجتمعات بعد أن كانت تبدو حافزا لتحريرها. فيظهر هؤلاء كما لو كانوا من المجددين او المبشرين بآفاق جديدة، تسمح بتجاوز الإخفاق الماضي. هكذا يشكل اليوم انتقاد العرب وتشويه صورتهم وتسويد صفحتهم التاريخية، بل وأحيانا الانسلاخ عن الهوية، جزءا من الانتقام من الذات، وإرضاء مشاعر الإحباط العميقة التي تعذب العربي وتضغط عليه بعنف. كما يشكل جلد الذات التمرين اليومي للعرب، مثقفين وسياسيين ومواطنين عاديين. فالكل يشكو من العرب ومن سلوكهم وضعفهم ونفاقهم وتخلفهم وانقسامهم، ويتصرف كما لو لم يكن جزءا منهم، ولا يترتب عليه أي مسؤولية في ما حصل ويحصل لهم. مما يعني في العمق أن هناك منطقا داخليا يسود اليوم تكون المسؤولية بحسبه في ما وصل إليه العرب من إخفاقات وتقصير في جميع ميادين التقدم الحضاري، المادي والمعنوي، هي العروبة نفسها، وليس العرب من حيث هم أفراد وجماعات ونخب وطبقات سياسية وحكومات ونظم ودول. فلا احد من هؤلاء يطرح على نفسه أي سؤال يتعلق بنصيبه في المسؤولية عما حصل ويحصل في الحاضر، ولا نرى أي شكل من أشكال النقد الذاتي او المراجعة، منذ أربع عقود من الحديث عن الإخفاق والفشل، عند أي طرف من الاطراف، لا الأحزاب ولا النخب ولا الحكومات.
ما حصل هو أن إفلاس الحركة القومية العربية، أي الايديولوجية العروبية، قد نزع الصدقية عن العروبة أيضا كاختيارات ايديولوجية، ثقافية وسياسية، وكتوجهات حضارية. وهذا ما أدى إلى انفصال الواقع العيني عن الرمز، وضياع الدلالة التي كانت له. فإذا لم تعد خياراتنا العروبية ناجعة فعلى أي أساس أو مبدأ نتوجه؟ من نحن، وماذا نساوي وبماذا نستطيع أن نحلم؟ إذا انحسرت العروبة كدلالات معنوية معروفة ومقبولة ومنشودة، ما قيمة صفة العربية، وكيف نوظفها، وما معنى أن نكون عربا، وما قيمة ذلك وما فائدة الانتماء للعروبة إذا كانت عاجزة عن أن تفتح لنا أي أفق؟ لا شيء.
هكذا يبقي انحسار المرجعية العروبية، ممثلة بآخر تجسداتها في الحركة القومية، العرب من دون مشروع ومن دون توجه وبالتالي من دون مستقبل، لأنه يحرمها من مرجعية فكرية وسياسية واضحة ومعروفة. وهذا ما تسفر عنه أزمة الهوية التي تتجسد في الانفصال بين الواقع المادي الخام ورمزه، أي في فقدان الانتماء الطبيعي والموضوعي للعروبة دلالاته الأخلاقية والايديويولجية والسياسية، أي الإنسانية. وهو من نوع فقدان المبنى (العروبة) للمعنى ( مشروع المستقبل: التحديث أو الاستقلال او الاتحاد أو الثورة الاجتماعية والعدالة)، وبالتالي البحث عن المعنى في مبنى آخر، أو إعادة إضفاء دلالات جديدة وملهمة على المبنى نفسه.
فالواقع أن الهويات كالعملة، توجد منها اختيارات عدة لكن محدودة. تستثمر الجماعات في ما نعتقد أنه الأبقى والاكثر وعدا. العروبة كانت مرجعية واعدة،: بالانبعاث الفكري والروحي، أي الانساني والأخلاقي، بالنهضة، بالاستقلال، ببناء أمة كبيرة وقادرة، بتمكين الشعوب من المشاركة في حضارة العصر، بالحداثة، أو بدمج العرب في الحداثة، بالمواطنية، بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. هكذا ارتفع رصيد العروبة كاستراتيجية هوية او مماهاة أو وعي بالذات، بشكل مستمر منذ النهضة حتى السبعينات. أصبح الجميع، بصرف النظر عن أصلهم الاتني، ينتمون إلى العروبة. أصبحت هوية وايديولوجية أيضا. من ليس عربيا يصيره بالايديولوجية. الاكراد والبربر والارمن والشركس صاروا، في الخمسينات والستينات، كل على طريقته الخاصة، بهذا المعنى، أي بانخراطهم في مشروع العروبة الإنساني ثم الدستوري ثم الاستقلالي ثم التحرري والاجتماعي، عربا.
بعد إخفاقها، فقدت العروبة القومية رصيدها. وزاد في موازاة ذلك النزوع إلى التخلي عنها والتنكر لها واستبدالها، بوعي أو من دون وعي، باختيارات ايديولوجية ومرجعيات أخرى. وتتنافس المحاولات اليوم وتتضارب للبحث عن تربة تكون قادرة أكثر على أن تنتج ما أخفقت في إنتاجه تربة الفكرة العروبية.
ما هي الاختيارات الجديدة التي يراهن الرأي العام او قطاعاته المختلفة عليها لتحل كعملة مرجعية محل عملة القومية العربية المفلسة، وأين يبحث عن المعنى أو الفكرة الملهمة؟
أول مواقع الاستثمار الجديد وأهمها، كما لا يخفى على أحد، هو الدين، والاسلام بشكل خاص. وليست الاسلاموية، وهي غير الاسلام، إلا الايديولوجية او الخيارات الثقافية والسياسية التي تجعل من الاسلام مرجعية جديدة للعروبة الوصفية: روحها ومضمونها ومعناها. فهي تطرح نفسها بديلا عن العروبة القومية في كل النواحي: كمشروع تأهيل أو إعادة تأهيل أخلاقي ومعنوي، ومشروع توحيد جيوسياسي، ومشروع بناء لعلاقة اجتماعية وتضامن اجتماعي معا، أي كهوية ثقافية مميزة للعرب عن غيرهم من الامم والشعوب، وكهوية سياسية مؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي. من هنا تحمل الاسلاموية في طياتها مشروع صراع وتنافس مع الفكرة القومية وتظهر كما لو كانت فكرة قومية بديلة، أي اعادة تأويل العروبة الموضوعية إسلاميا، وبناء الدولة العربية التي حلم بها القوميون، بوسائل أخرى، برمزية دينية[6].
ومن المشاريع المطروحة أيضا على أنقاض الفكرة العروبية: الوطنية القطرية، التي تعني العودة إلى الاستثمار في القطر ودولته، اكتشاف الهوية السورية واللبنانية والعراقية والمصرية إلخ، والعمل على تزويدها بمعنى ودلالة إنسانية. ويشكل هذا تطلعا جديد إلى المستقبل يهدف إلى بناء الامة بمفهوم المواطنية[7]. وفي هذا السياق ينبغي ان نفهم معنى إعادة تثمين الوطنية المحلية الدستورية والليبرالية لحقبة ما قبل الاستقلال، واكتشاف مرجعية حقوق الانسان، والديمقراطية. وفيه أيضا ينبغي أن نفهم عداء كثير من القوميين للتيارات الديمقراطية التي تبدو وكانها تساهم في إبعاد الفكرة العروبية أكثر عن الساحة أو الحلول محلها، وطرح مشروع يحيدها أو يثمن الدولة القطرية ويلغي أفق العروبة الوحدوية، أو يضعفه. يبدو الخيار الديمقراطي في نظرها، بل في نظر الكثير من أنصار الديمقراطية أيضا، تعويضا وربما بديلا للخيار العربي. ويثير نتيجة ذلك رد فعل قوي لدى أؤلئك الذين يخشون أن يكون المشروع الديمقراطي في النهاية حصان طروادة لترسيخ القطرية ونظام السيطرة الأجنبية المرتبط بها، وإبعاد الخيار العروبي الوحدوي إلى عالم النسيان.
ومن الأفكار التي تسعى إلى ملء الفراغ الذي تركه انحسار القومية العربية وزوال الايمان بوعودها، الشعوبية، أو الإتنوية التي تتجلى في نزعة التاكيد على الانفصال عن العرب والتميز عنهم. وفي هذا السياق ينبغي أن ندرج اكتشاف الأقليات، على مختلف أصنافها هويتها التاريخية او ما قبل التاريخية، وحماسها لإعادة بناء ثقافتها الخاصة، وتكوين مرجعيتها المستقلة. وفيه أيضا ينبغي أن ندرج تنامي الوعي عند الأقليات القومية بذاتها، وكذلك تنامي الوعي عند الأكثرية بوجود الأقليات وأحيانا بحقوقها. ويفسر ذلك كله عودة مشكلة الأقليات التي كادت تغيب تماما عن الذهن في العقود التي سيطرت عليها الفكرة القومية، إلى مقدمة المسرح الثقافي والقانوني والسياسي.
ومن الأفكار الجديدة القديمة الناشئة في حضن أزمة الهوية العربية والطامحة إلى التعويض عنها، الطائفية: سواء تمثلت في صعود الانقسامات المذهبية داخل الدين الواحد أو تنامي العصبيات الجماعية على أساس ديني بين أصحاب العقائد المختلفة. وهي تبدأ على شكل حزازات وانقسامات ونزاعات جزئية، ولا تلبث حتى تكتسب معاني ثقافية وسياسية، وتصبح مرجعية وهوية قائمة بذاتها يعرف الفرد نفسه من خلالها وبها. هكذا يعاد اكتشاف قيمة الاختلاف المذهبي والديني وتحويله إلى قاعدة تضامن مستقل بين الأفراد، إي إلى أساس رابطة مجتمعية، جمعية سياسية أو شبه سياسية[8]. تسعى الطائفية بذلك إلى التعويض الجزئي أو الكلي عن غياب التضامن والترابط الاجتماعي العموميين. وهي تعبر عن إخفاق السياسة القومية في بناء إطار تضامنات فعلية وطنية ما فوق طائفية.
وهذا أيضا ما يعكسه انبعاث العشائرية: أي الاستثمار في القرابات المادية، الحقيقية أو الموهومة. والعشائرية هي عودة إلى العصبية الطبيعية، الدرجة الأبسط والأغشم من الترابط الاجتماعي.
ومن الأفكار أو الايديولوجيات الجديدة التي تسعى إلى وراثة الفكرة القومية العربية، ما أسمييه العدمية القومية. وهي غالبا ما تعرض نفسها على أنها نزعة كونية وإنسانية وتنويرية ترفض الانتماء الجزئي وتنادي بالاندماج في عالم الحداثة، التي تنظر إليها كحداثة قياسية، واحدة وتوحيدية. وتركز من خلالها على العلمانية بوصفها جوهر الحداثة وعقيدة أو خيارا يتجاوز أو يرتفع على الهوية القومية والدينية، على العروبية والاسلاموية والطائفية والعشائرية في الوقت نفسه[9].
أما ما تبقى من القوميين أو أصحاب الفكرة القومية، فقد تحولوا بعد انحسار سلطتهم الايديولوجية إلى عالة على الفكرة الاسلامية. وهذا ما يفسر التقارب بين حركتين ونزعتين بقيا لعقود طويلة خصمين لدودين، وتعميق التحالف بينهما، كما يعبر عن ذلك نجاح المؤتمر القومي الاسلامي واستمراره منذ عام 1994 إلى اليوم.
4- مستقبل العروبة
كيف ستتطور الهوية في البلاد العربية وما هي المخارج المحتملة لأزمة الهوية فيها، أي ما هي احتمالات التاريخ؟
لا اعتقد أن العروبة سوف تفقد قيمتها، سواء أتحقق اتحاد عربي أم لم يتحقق. ولن يؤدي انحسار الطبعة العروبية القومية منها او انحلالها إلى ضياع العروبة كانتماء ومركز استثمار للمستقبل أيضا في القرن الواحد والعشرين. بل ربما كان العكس هو الصحيح. فبمقدار ما تنحسر ذكريات الفترة القومية التي ارتبطت بالإخفاق والإحباط والانحطاط السياسي والأخلاقي في طورها الأخير، من المخيلة العربية، سوف يعود مفهوم العروبة من جديد ليشكل مرتكزا لإعادة بناء الثقافة والهوية وربما الخريطة الجيوسياسية للمنطقة.
وفي اعتقادي، سوف تبقى الاسلاموية التي احتلت جزءا كبيرا من الفضاء الذي كانت تشغله العروبة القومية، ولا تزال تسعى إلى الحلول محلها، من دون آفاق ولا مرتكزات سياسية وثقافية عميقة، إذا انفصلت كليا عن العروبة. وبالعكس، كلما انخرط الاسلامويون في الكفاح من أجل الاندراج في العصر، أي التفاعل بنجاعة وفعالية معه، وتحقيق السيادة والاستقلال السياسي والثقافي والفكري، والانخراط في إدارة الدولة وتسيير الاقتصاد، سيجدون انفسهم مضطرين إلى التراجع إلى موقع العروبة وخندقها. وإعادة بناء عقيدتهم أو مرجعيتهم الاسلامية بالترابط معها. فهي وحدها التي تستطيع أن تستوعب عصرنة المجتمعات الاسلامية أو تحديثها، من دون أن تخاطر بالانفصال عن الاسلام أو الوقوف في مواجهته.
وبهذا المعنى، تشكل العروبة في نظري نقطة التراجع الأخيرة والحتمية للاسلاموية، عندما تصمم على الانخراط الفعلي في معركة عصرها، والحفاظ على نفوذها وسلطتها. ومن خلال العروبة وحدها يمكن لها إعادة تجديد ايديولوجيتها وبث روح العصر فيها، بما في ذلك تمثل منطق احترام حقوق الإنسان والحريات الشخصية والاعتقادية. من دون قاع العروبة، ستبقى استثمارات الاسلامويين وتصحياتهم من دون قرار، وستكون جهودهم كمن يزرع في الفراغ. إذ حتى الفكرة الدينية بحاجة إلى وعاء قومي يحملها. وأحد نقاط ضعف الحركات الاسلاموية العربية هي بالضبط في العدمية القومية التي دفعهم إليها صدامهم التاريخي والطويل مع الحركة القومية العربية كما تجسدت في النظم الناصرية والبعثية بشكل خاص.
أما الايديولوجية القطرية، فليس لها أمل كبير في النمو لأنها لا ترتبط بأي ثقافة كونية وأخلاقية سياسية. فقد قطعت الامبريالية، في المرحلة الأولى، ثم العولمة، في مرحلة ثانية، الطريق على تكوين ثقافات وطنية حية ونشيطة مستقلة عن الثقافة العربية الاسلامية التاريخية في الدول التي نالت الاستقلال. وهذا ما يميز مسارها عن مسار تكون الثقافات والأمم في أوروبة اللاتينية. وبالرغم من مرور عقود طويلة عليها، لم تنشأ في أي قطر ثقافة وطنية متميزة ومستقلة، او بسماكة كافية حتى تحقق القطيعة مع الثقافة العربية التاريخية والشاملة، وتفتح سجلا جديدا للثقافة من منطلقات وحسب معطيات قطرية او وطنية ثابتة. وهذا ما يفسر أن الثقافة العربية الحديثة لا تزال ثقافة واحدة، ولا يزال التواصل في ما بينها عبر الأقطار أقوى تأثيرا في حركتها من التواصل داخل كل قطر من أقطارها. وليس أمام الدول سوى الاختيار بين مرجعية العدمية القومية التي تعني اليوم خيار التغريب الذي يعزز تبعيتها وتخارج بنياتها وتطلع أبناءها الدائم إلى الهجرة والاندراج في الغرب، أو العودة إلى الاستثمار في مفهوم العروبة التي تشكل وحدها منطلق لحداثة أصيلة عالمية ومرتبطة في الوقت نفسه بثقافة محلية عميقة وفاعلة. فبالنسبة للوطنية القطرية أيضا، تشكل العروبة، بوصفها رمزا لثقافة إنسانية كبرى، الجسر الذي لا بديل عنه للوصل بين الخصوصية والعمومية، بين الهوية الثقافية الخاصة والحداثة الكونية. وهي الممر الإجباري للدولة الوطنية في أي مسعى إلى التقدم والاندراج في العالمية.
أما التغريب، فلا يشكل خيارا وطنيا بأي حال. ولن يكون وسيلة للاندراج في الحداثة مهما كان نمطه وحماس دعاته. وسيبقى دائما استراتيجية شرائح قليلة من السكان في بناء تصورها لذاتها أو ضمان مصالحها. وهو يهدد بأن يفصل هؤلاء بشكل متزايد عن أغلبية المجتمع وأن يضعهم في مواجهتها. وفي اعتقادي، أول ما سيصطدم أصحاب هذا الخيار برفض الغرب الاعتراف بهم، وإصراره على معاملتهم كعرب أو كغرباء، سوف يكتشفون العروبة أو يعيدون اكشافها كمنطلق أساسي للخروج من حالة العطالة والهامشية والتبعة والاستنقاع.
من هنا لا أعتقد ان العروبة كانتماء رئيسي وغالب قد قالت كلمتها الأخيرة في المجتمعات العربية. وهذا ما يفسر العنف المتزايد الموجه إليها من قبل خصومها، وبالمقابل حرص قطاعات واسعة من الرأي العام على عدم المساس بها، حتى بين أولئك الذين اختاروا أن يتجاهلوها أو يبنوا رصيدهم السياسي والثقافي والأخلاقي بعيدا عنها. وليس هناك ما يمنع عملة فقدت قيمتها أن تعود لتصبح مركز استثمار واستقطاب وتكوين أرصدة جديدة. الاسلاموية هي التي تبني الآن بالتأكيد الأرصدة الأكبر والأسرع. لكن لن يبقى هذا الوضع لفترة طويلة. إن قوة الاسلاموية نابعة من انسداد أفق الحداثة العربية، لأسباب أكثرها دولية وإقليمية، وتقدم مهام المقاومة والممانعة على مهام البناء والتقدم والتمدن. ويكفي أن تتبدل موازين القوى الجيوستراتيجية، ويتجاوز العرب عنق الزجاجة الذي وضعتهم فيه ظروف الفشل والهزيمة امام التحالف الاسرائيلي الغربي ،حتى تتغير الاتجاهات وتستعيد العروبة موقعها كعملة قوية جاذبة للاستثمارات وقادرة على تكوين الأرصدة الكبيرة والسريعة.
لكن، حتى تنجح العروبة في استعادة مكانتها، ينبغي أن تغير أيضا من جلدها الذي أصبح ضيقا جدا عليها، وهو جلد الخمسينات والستينات الذي ارتبط في مفهومه وأسلوب تجليه وقيمه وغاياته بالقضية القومية، لتلبس جلد الفكرة الوطنية الانسانية، أي أن تكون في نمط تفكيرها ووسائل عملها وغاياتها حاملا لقضية الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة الأخلاقية والقانونية. عندئذ ستكون عروبة للمستقبل، وسيرتبط بها لا محالة الانبعاث الفكري والاجتماعي والسياسي العربي القادم، فتكون ايديويولجية المستقبل لا ايديولوجية الماضي، سواء كان الماض القريب القومي أو الماضي البعيد التاريخي أو الديني.
أما اليوم، فلا تكاد كلمة عربي تستخدم، ليس عند الآخرين فقط، لكن عند العرب أكثر منهم، في سياق آخر غير التعبير عن ما هو سلبي وعاطل.
فهي مرادفة على المستوى الأخلاقي للفشل والجبن والأنانية والتعصب والفوضى والعنف والإرهاب وانعدام الإنسانية عموما. بل تكاد تتحول إلى تهمة أو شتيمة[10]. ويرى الكثيرون في العربي مثالا لانعدام الصدق والشفافية وحس المسؤولية الجماعية وفساد الأخلاق، وتجسيدا لسلوك الغش والخداع والنفاق والغيبة والنميمة والفراغ وانعدام العاطفة الصادقة والمباديء والمثل والالتزامات والواجبات العمومية.
وهي اليوم مساوية على المستوى السياسي لنظم الاستبداد والديكتاتورية والتبعية والاعتماد على العنف، وسيطرة منطق الميليشيات وحب السلطة وتقديم الولاءات الشخصية والقرابات الدموية والطائفية على المباديء والمؤسسات والعلاقات القانونية وقواعد المساءلة والمحاسبة. فعروبة اليوم لا تعرف معنى الحريات الفردية أو الحقوق الانسانية، وتكاد تتطابق مع العصبية وخدمة المصالح الشخصية[11].
وعلى المستوى الانتاجي تتطابق العروبة مع غياب قيم العمل المنتج، ومع السعي للكسب غير المشروع والسريع من دون جهد إذا امكن، ومع الفساد، والمضاربة والاستهلاك والارتهان للمعونات والإعانات. فهي نقيض العمل المنتج والابداع وبذل الجهد وإتقان العمل.
وعلى المستوى الإنساني، تتماهى العروبة في الحاضر مع التمركز حول النفس، والتركيز على الخصوصية المفرطة، وانعدام روح التبادل والتواصل المتفاعل مع الآخرين، وسيطرة العلاقات السلبية ذات الاتجاه الواحد.
كيف يمكن لصورة كهذه أن تبني أمة أو تلهم شعبا أو فردا؟
لا يمكن للعرب بمثل هذه الصورة إلا أن يتجهوا نحو تدمير ذاتهم. لأنهم لا بد وأنهم يحتقرون في العمق أنفسهم، ويشككون بثقافتهم وحضارتهم ومجتمعاتهم. وهذا ما يفسر رغبتهم العميقة في الهجرة من بلادهم والهرب من أنفسهم، كما يفسر موجة الانخراط العام والشامل في موجة السلفية الدنية، او العودة إلى الطبعة الأقدم والأبعد عن العصر من الاسلام. فهم يبحثون عن كل ما يساعدهم على الهرب من واقعهم غير المرضي وغير المحفز وغير الملهم، ونسيانه.
إذا لم نغير هذه الصورة بالعمل والقول، لن تكون هناك عروبة، في المستقبل، وما تبقى من آثارها في الوعي والشعور لن يقاوم لزمن طويل.
إذا أردنا للعروبة أن تعيش، وتستمر عبر القرن الواحد والعشرين، ينبغي أن نعيد صوغها على عكس هذه الصورة تماما. وفي كل ما نفعله، أفرادا وجماعة، ينبغي أن نضع نصب أعيننا قلب هذه الصورة رأسا على عقب. وإلا ليس لنا خلاص. سنبقى في أزمة هوية مدمرة، وتبقى العروبة هوية ضائعة، بدل ضائع، أو ذكرى من الماضي البعيد.
يتطلب هذا تحرير العروبة، كمرتكز لهوية متجددة وجامعة للعرب، من فلسفة وإرث انحطاط العروبة القومية، الذي أدى إلى ما نسميه القومجية التي تخفي وراء شعارات العروبة قيما مناقضة للحداثة من محورة على الذات وضيق أفق قومي ورفض أفق الإنسانوية، كما ينبغي محو الذاكرة السلبية للعروبة الإتنوية المتعالية أو التعالوية. وهو ما يستدعي إعادة بناء العروبة وترميزها خارج الفلسفة القومية للقرن التاسع عشر، وربطها بالقيم الإنسانية. أي جعلها وعاءا لنمو القيم الأخلاقية، وبالتالي لإدماج العرب واندراجهم في تاريخ الحضارة الكونية. العروبة المنشودة هي تلك التي تعنى بتحرير الإنسان كفرد، لا بالبحث عن القوة وإعادة بناء الامبرطورية الاسلامية، الصريحة او المقنعة. والوحدة من دون قيم إنسانية وحقوق ديمقراطية هي بالضرورة عودة إلى صيغة السلطنة الامبرطورية.
لن تبقى العروبة فكرة حية إلا إذا نجحت في أن تتجدد بما يتفق مع معايير العصر، وتصبح أداة ناجعة للاندماج فيه والتعامل الايجابي والتفاعلي معه. وبمقدار ما تصبح العروبة إنسانية، وتتمثل قيم الحرية والعصرانية والديمقراطية، أي بمقدار ما تساهم في بناء الإنسان يمكن أن تساهم في توحيد الشعوب العربية وإعادة بناء نظمها الاجتماعية والسياسية.
في هذه الحالة يمكن أن تستمر العروبة بالفعل فكرة حية وملهمة، تساعد العرب جماعة وأفرادا على تجاوز حالة الانحطاط الأخلاقي والسياسي والفكري التي يعيشونها اليوم. وتبدع صورة للعربي ايجابية تتناقض مع الصورة السلبية السائدة عنده وعند الآخرين عنه وعن تاريخه وثقافته وهويته اليوم، وتمحو هذه الصورة السوداء من الذهن والذاكرة، لتبعث روح الثقة والعمل والانجاز وتبني نمطا جديدا من الاخلاق الايجابية.
بذلك تعود العروبة فكرة محفزة وملهمة ومطلقة لآمال واحلام قابلة للتحقيق أو تستحق بذل الجهد من أجلها، أي تصبح عروبة مستقبلية، تفتح الباب نحو المستقبل وتشير إليه، تكون بانية لمستقبل.
وعروبة المستقبل هذه هي نقيض عروبة الماضي. ليست عروبة التراث والأبوية والتقليد، ولا عروبة كره الذات والبرم بالواقع والشكوى من القدر والإغراق في ذهنية الضحية، ضحية القدر أو ضحية العالم والآخرين. العروبة التي تستطيع أن تعيش، وتعيد بناء ايديولوجية العرب وأخلاقياتهم من حولها، هي تلك التي تشعرهم بذاتهم واستقلالهم الفكري ونديتهم مع الآخرين، ومقدرتهم على المشاركة في حضارة عصرهم، والتصرف حسب معايير أخلاقية ومباديء ومثل إنسانية.
أما العروبة التي تتناقض مع القيم الإنسانية ومع العصر، والتي تدفع العرب إلى الماضي وتشدهم إلى الأسفل، وتمنعهم من التقدم والتحول ومواكبة العصر، فستكون حتما عروبة حزينة، محبطة، يائسة، كئيبة، عازلة ومعزولة عن العالم والحضارة.

[1] وجهت التنظيمات العثمانية التي بدأت السلطنة تطبقها منذ 1835 تحت ضغط الدول الغربية ضربة قوية لهذه الايديولوجية المللية السائدة. لكن إخفاقها وتعثر حركة التحديث العثماني هو الذي سيفتح المجال لنشوء الفكرة العربية الثقافية وتطورها.
[2] منذ نهاية القرن التاسع عشر بدأت تظهر في العاصمة استنبول وفي عواصم المشرق لغداد ودمشق وبيروت والقاهرة أحزاب وجمعيات سياسية عربية مثل جمعية الإصلاح وجمعية العربية الفتاة بالإضافة إلى جمعية العهد. وكان روادها من العسكريين والسياسيين والطلاب. وكانت مطالب هذه الأحزاب والجمعيات تتراوح في مطالبها بين مساواة العرب بالأتراك واعتبار اللغة العربية لغة رسمية، والاستقلال عن الدولة العثمانية وإقامة دولة عربية مستقلة.
[3] بينما كانت بريطانيا تعد العرب بالاستقلال التام لقاء وقوفهم إلى جانبها في الحرب ضد الأتراك، توصل كل ممثل بريطانيا مارك سايكس وممثل فرنسا جورج بيكو إلى اتفاق بينهما في 16 أيار 1916، سمي اتفاقية سايكس بيكو. وقد نص على تقسيم المشرق العربي (الذي كان خاضعاً للسيطرة التركية) إلى 5 مناطق نفوذ: السواحل اللبنانية والسورية وهي منطقة النفوذ الفرنسية، العراق وهو منطقة النفوذ البريطانية، وفلسطين التي اتفق على وضعها تحت إدارة دولية، والمنطقة الداخلية السورية بعترف بها دولة مستقلة عربية على أن تنفرد فيها فرنسا بحق الأولوية في تقديم المشاريع والقروض والمستشارين، وينطبق الأمر ذاته على بريطانيا في المنطقة الداخلية العراقية. بقيت المعاهدة سراً إلى أن نشرتها الحكومة البلشفية في موسكو، وادعت بريطانيا حينها أن الاتفاقية ألغيت بعد دخول العرب الحرب إلى جانب الحلفاء. إلا أن اتفاقية سايكس بيكو دخلت حيز التنفيذ فعلاً بعد نهاية الحرب، عبر صيغة مفصلة ومعدلة اتفق عليها في مؤتمر سان ريمو عام 1920.
وتشكل معاهدة سايكس – بيكو الجزء التنفيذى الخاص لمعاهدة بطرسبرح التى عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في مارس سنة 1916 وقسمت فيها أملاك الامبراطورية العثمانية التركية وكانت أهم مبادئ هذه المعاهدة هى:
- تمنح روسيا الولايات التركية الشمالية والشرقية. - تمنح بريطانيا وفرنسا الولايات العربية في الامبراطورية التركية (موضوع معاهدة حسين - مكماهون). - دويل الاماكن المقدسة فى فلسطين وتأمين حرية الحج اليها وتسهيل سائر السبل اللازمة للوصول إليها وحماية الحجاح من كل اعتداء.
[4] من هنا نجد أنفسنا اليوم أمام نماذج مختلفة من العروبة، ثقافية، دينية، استراتيجية، عروبة الممانعة وعروبة المصالحة والتسوية. وربما كان أهمها تلك التي يصفها حسين احمد أمين قائلا: بعد أن تبددت الآن الأوهام الرومانسية التي كانت لصيقة بأفكار حزب البعث، كما تبخرت المطامح والنزعات البروسية للزعامة المصرية، اتخذ مفهوم القومية العربية شكلاً من أشكال التضامن على أساس من المصلحة المشتركة··· وحيث أن أغنى الدول العربية الممولة لهذا الشكل الجديد كانت من الناحيتين السياسية والاجتماعية أشد دول المنطقة محافظة وتمسكاً بالتقاليد، فإن الاشتراكية لم تعد الطابع المميز للقومية العربية، وإنما أصبح طابعها الغالب ربط العروبة بالإسلام ربطاً دعامته المال والنفط. أنظر مجلة شؤون عربية، الجامعة العربية، شتاء 2005 في ملف بعنوان معبر: هل سقطت العروبة من حسابات السياسة العربية؟
[5] يقول وزير إعلام الكويت محمد السنعوسي في حوار مع هاني نور الدين ( جريدة الخليج 2006.05.15) أن العروبة أكذوبة كبرى، وأنه لم يعد مقبولاً الحلم بوجود وحدة تضم بين جنباتها مختلف الدول العربية، إذ إنه لا يوجد ما يربط بين دولنا سوى اللغة، بينما تبدو ثقافتنا متباينة ومختلفة،
[6] "لماذا لم ينجح التيار القومي العربي في إرساء قواعد العدل السياسي أو الاقتصادي في المجتمعات التي حكمها مع أنه استدعى الديموقراطية والاشتراكية من أجل تحقيق ذلك؟ لماذا لم ينجح التيار القومي العربي في إرساء أية تقاليد ديموقراطية أو اشتراكية كما حدث مع شعوب أخرى في شرق آسيا وأميركا اللاتينية عند تطبيقها للديموقراطية أو الاشتراكية؟ السبب في ذلك هو أن الفكرة القومية العربية التي يستند إليها التيار القومي العربي فكرة لا تملك الحد الأدنى من المعقولية، ولا تقوم على أي أساس واقعي، فالتيار القومي العربي يزعم أنه الأمة الموجودة بين المحيط والخليج أمة عربية، تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، والحقيقة أنه ليست هناك أمة عربية تقوم على هذين العنصرين، بل هناك أمة تقوم على الدين الإسلامي، وهذا ما أدى إلى أن تكون القومية العربية فقيرة ثقافياً، بسبب استبعادها لعنصر الدين من تكوين الأمة الموجودة من المحيط إلى الخليج، والذي لا مبرر له إلا المماثلة بين القومية العربية والقومية الغربية التي تقوم على معاداة الدين". غازي التوبة، "عن التيار القومي العربي والعودة إلى الديمقراطية" الحياة اللندنية، 25/9/2005
[7] لا تخلو مثل هذه المواقف من تطرف حتى في أوساط المثقفين. ففي حوار مع إيلاف يؤكد سيد القمنى، وهو مثقف مصرى معروف على مصرية مصر وضرورة التحرر من العروبة التي يصفها على أنها "عبودية لاحتلال طال أمده أكثر مما ينبغى"، ويتساءل كيف يقبل المصريون هوية المحتل ويجعلونها هويتهم القومية.
ايلاف، السبت 14 فبراير 2004
http://www.elaph.com/ElaphWeb/Archive/1076744262081018000.htm
[8] بالمقابل شهدت الحقبة الماضية سعيا متواصلا لتجاوز الانقسامات الدينية، والتقريب بين المذاهب الاسلامية كما يدل على ذلك مؤتمر توحيد المذاهب الاسلامية الذي عقد في القاهرة عام 1935 وكرس الاعتراف بالمذهب الجعفري كمذهب فقهي خامس إضافة للمذاهب السنية الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.
[9] يسأل أحمد الجار الله: ماذا قدمت »العروبة« للكويت عندما غزاها صدام حسين, وأثبت فعلا انها عروبة متوحشة, واستنسابية وليس عليها اجماع. وكذلك الحال بالنسبة للوضع اللبناني الذي يكابد من هذه العروبة المتوحشة منذ اكثر من ثلاثين عاما؟ ثم يضيف معبرا عن موقف رافضي العروبة من الأساس، كهوية وكايديولوجية سياسية معا: في عالم اليوم هناك مصالح وشبكات مصالح, وهناك »انترنت« جعلت من العالمين سكان قرية كونية صغيرة اسمها كوكب الارض, مطلوب منا فقط ان نتعلم احرف الهجاء الالكترونية وقد اصبحت لغة العالم, كي ندخل اليها ونستفيد منها.. شبكة الانترنت اعلنت بالفعل قيام الامة العالمية الواحدة, التي تتبادل المصالح بالفعل, واجراء التعاملات والمعاملات, وتشترك في التخاطب الفوري بالصوت والصورة, ولا تشعر ان بين اطرافها مسافات فاصلة, بعد ان اختصرت المسافة بكبسة زر, واصبحت لا تأخذ من الوقت اقل من ثانية واحدة.
"عروبة متوحشة وقومية عنصرية" السياسة الكويتية، الإثنين 29 أغسطس 2005
[10] هذا هو عنوان مقال لفيصل القاسم د.فيصل القاسم: "لماذا أصبحت العروبة شتيمة" ؟
الشرق القطرية الأحد 21 أغسطس 2005.

[11] بل يكاد وصف العروبة القومية بالفاشية أن يتحول إلى فكرة شائعة، بعد أن أطلقها المستعرب الفرنسي أولفييه كارية في كتابه : القومية العربية، باريس، بايو، 2004.

samedi, avril 25, 2009

في استحالة قيام شراكة عربية

الاتحاد 25 مارس 09
في الإعداد لمؤتمر القمة العربية القادم أواخر هذا الشهر (آذار 09) في الدوحة، تتسارع خطى المصالحات العربية بين ما كان يسمى محور الاعتدال ومحور الممانعة، وآخرها كانت زيارة الرئيس السوري إلى عمان بعد قليل من انعقاد مؤتمر الرياض المصغر الذي جمع رؤساء مصر والعربية السعودية وسورية والكويت. وبالرغم مما تثيره هذه المصالحات من آمال عند قطاعات واسعة من الرأي العام العربي القلق على مصير بلدانه في مواجهة تحديات استراتيجية واقتصادية متزايدة، إلا أن قليل من العرب من يعتقد بوجود إمكانية لتحقيق تفاهم جدي يصدر عنه موقف عربي جديد مشترك. وبالمقابل تسيطر على الجميع فكرة أن المصالحة تتعلق بالاتفاق على طريقة أقل عنفا في حل الخلافات القائمة والتي ستظل قائمة، أكثر مما تتعلق بتجاوز الخلافات العميقة التي تشتت جهود الدول العربية.
والسؤال الذي يستحق الطرح في هذه المناسبة ليس من النوع الذي يبحث عن الأسباب التي حفزت الزعماء العرب على التقارب في هذه اللحظة بالذات أو إظهار التقارب فيما بينهم. فهو تقارب يبقى دون حدود ما هو مطلوب لإطلاق سياسة عربية مشتركة أصبحت أكثر من ضرورية وملحة لمواجهة مسائل التنمية والحفاظ على الاستقلال وقبل ذلك لوضع حد لمشروع الاستيطان والاحتلال الاسرائيلي، المستمر رغم مفاوضات السلام وبموازاتها، منذ عقود. فلماذا لا يمكن أن يكون هناك تفاهم عربي حقيقي، وما الذي منع جامعة الدول العربية التي طرحت نفسها بديلاً واقعياً، معتدلاً لمشروع الوحدة الشعبية والثورية، من أن تتحول، كما حصل في الكثير من بقاع الأرض، إلى منظمة إقليمية فاعلة في التنسيق بين جهود الشعوب الأعضاء فيها، وتوحيد قواها وإطلاق طاقاتها، من دون أن يهدد ذلك بأي شكل شخصيتها، على منوال المنظمات الإقليمية التي تكوّنت من دول لا تربط شعوبها بعضها ببعض، لا صلة قرابة، ولا لغة، ولا دين؟
نحن لسنا هنا أمام سؤال الوحدة العربية بالمعنى الذي طرحته الفلسفة القومية التي افترضت وجود أمة عربية واحدة ذات إرادة ورسالة خالدتين، تدفعانها لا محالة إلى تكوين دولة مركزية أو قومية موحدة. وأصل الاختلاف بين مشروع الوحدة القومية ومشروع الاتحاد بين دول مستقلة هو أن المشروع الأول يفترض وجود أمة قائمة في الوعي وفي المجتمع المدني معا، أي موحدة في الواقع حتى لو أنها لا تملك بنية دولة سياسية واحدة، وهي تنزع بالتالي إلى تجسيد وحدتها الفكرية والثقافية والاجتماعية في بناء دولة مركزية واحدة، كما حصل مع الألمان بعد انهيار جدار برلين عام 1989، أما المشروع الثاني فهو لا يفترض وجود أي تقارب ثقافي أو إتني أو اجتماعي بين البلدان. فهو اتحاد بين دول وشعوب مستقلة تملك كل منها ثقافتها وهويتها الخاصتين، ولكنها تعمل للتكتل والتقارب في ما بينها من أجل زيادة منافعها الاقتصادية والاستراتيجية، وتحسين شروط منافستها على الساحة الدولية، وتأمين مناخ أفضل لازدهار شعوبها جميعا. وقد كان تكوين منظمات تكامل أقتصادي اتجاها رئيسيا في العقود الماضية، نجم عنه ولادة تكتلات ثابتة ومنتجة في جميع القارات، من أوروبة المتقدمة إلى أفريقيا المتأخرة، مرورا بأمريكا اللاتينية وآسيا التي قطعت بعض بلدانها شوطا كبيرا في النمو فصار يطلق عليها سم البلدان الصاعدة.
في إطار ندوة عن الوحدة العربية عقدها في الشهر الماضي مركز دراسات الوحدة العربية، وطلب مني فيها الجواب على هذا السؤال دافعت عن أطروحة تفيد بأن التقدم نحو مشروع اتحادي أو تكتل إقليمي من هذا النمط يستدعي وجود دولة تتمثل فيها إلى حد أو آخر مصالح المجتمع الأساسية، وأن النخب التي تسيطر عليها وتقودها، تأمل في أن تضفي الشرعية على سلطتها وتمدد أو تجدد لنفسها في الحكم، من خلال تأمين تأييد شعبي أكبر، مما لا يمكن تحقيقه من دون تقديم آفاق وشروط أفضل لتحسين شروط حياة المجتمعات وتقديم إنجازات مادية وسياسية واستراتيجية وطنية لها. وهو ما يدفع بعض نخبها الأكثر نشاطا وحيوية إلى الاندفاع نحو التكتل والتفاهم وتجاوز الاختلافات والنزاعات التاريخية، كما كان عليه الامر بين الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، أملا في أن يساهم هذا التكتل في تعزيز نموها الاقتصادي، وضمان استقرارها السياسي، وتوسيع هامش مبادرتها الاستراتيجية والأمنية.
لكن الأمر لا يطرح بالطريقة ذاتها في ما يتعلق بدول لم تكتسب بعد هويتها الحقيقية ولم تعرف حقيقة الاستقلال والسيادة الوطنية، كما أن النخب الحاكمة فيها لا تعتمد في وجودها ولا في إعادة إنتاج سيطرتها على تأييد الشعوب ودعمها، ولا تعتبر أن هذا التأييد هو الذي يضمن بقاءها في السلطة ويعزز نفوذها في إقليمها. بل بالعكس، إنها تنظر إلى مثل هذا التأييد والالتفاف حول النظام على أنه قيد لها يحرمها من هامش المبادرة الواسع الذي تحتاج إليه تجاه مجتمعاتها من أجل أن تتكيف مع السياسات الدولية التي تضمن لها وحدها الموارد المادية والاستراتيجية والسياسية التي تضفي على وجودها القوة بل الشرعية، التي هي هنا بالضرورة شرعية الموافقة الدولية لا القبول الشعبي. فهي دول مستقلة لكن شعوبها منزوعة السيادة، تخضع لنظم وسيطرة نخب اجتماعية تخشى شعوبها بقدر ما تخشى إقامة هيمنتها على دعمها وتأييدها.
ففي مثل هذه الدول التي تعيش في حجر نظم إقليمية شبه استعمارية، تعتمد اعتمادا واضحا في ضمان أمنها واستقرارها وإعادة إنتاج وسائل بقائها على غيرها، لا يمكن أن تنشأ سياسة وطنية تقدم مصلحة الدولة على مصلحة الفئة الحاكمة، وتضع المصالح العامة فوق المصالح الخاصة، وتنظر إلى تحسين شروط حياة السكان وتأهيل المجتمع للمستقبل باعتبارهما أولوية تسبق مهام السيطرة أو الحفاظ على النظام والمصالح السائدة فيه. بالعكس يشكل احتكار موارد البلاد شرطا ضروريا لبناء طبقة زبائنية تؤمن قاعدة اجتماعية يعتمد عليها النظام، كما يشكل عزل الشعوب عن محيطها وإبقائها في ما يشبه السجن الكبير شرطا آخر لتكريس سيطرة هذه الطبقة الزبائنية التي لا تملك لا فكرة إنسانية محركة ولا معارف استثنائية تعتد بها.
والواقع نحن هنا أمام نظم يرتبط مصيرها بمصير النخب والطبقات التي تحكمها، لا بالتفاهم مع شعوبها، ويقوم استقرارها على التفاهم مع الدول الكبرى التي تتحكم بغايات النظام الإقليمي الذي يحتويها لا على ما تقدمه لمجتمعاتها. وبالرغم من بعض المظاهر الخادعة، تشكل النظم هنا نوعا من المحميات السياسية التي تتغذى من مفهوم "الشرعية" الدولية وتعيش عليه أكثر بكثير مما تطمح إلى بناء شرعية وطنية داخلية، وتخاف من ابتعاد الدول الكبرى عنها أو مجافاتها لها أكثر مما تخشى أي ثورة أو انتفاضات داخلية. ولأنها لا تستطيع أن تتصرف في مثل هذه الوضعية الجيوسياسية من خارج قوانين التبعية ومنطقها، فهي لا يمكن أن تبتعد في سياساتها مهما حصل عن نطاق استراتيجية القوى العالمية المهيمنة. فهي أشبه بوكالة محلية للمركز، تستمد القوة والشرعية منه، وتقدّم له الخدمات، وتساهم في الاستقرار العام الذي يحتاج إليه ازدهاره واستمرار تسيّده. وهذا ما يفرغها من مضمونها القومي، بالمعنى الوطني والشعبي، ويحوّلها إلى دولة أصحاب السلطة والحكم فيها، فيضمر بعدها السياسي حتى لا يكاد يرى، وتنحطّ إلى دولة أجهزة لا دولة شعوب، ودولة سخرة وإكراه وفروض، لا دولة حقوق وحريات ومواطنية. لذلك ليس من المفارقة القول إن الوصول إلى صيغة اتحادية بين الوكالات العربية المتنافسة على المواقع الإقليمية ليست أكثر احتمالا من الصيغة الاندماجية التي توهمناها في الماضي، إن لم تكن أكثر إشكالية منها.

mercredi, avril 08, 2009

القمة العربية بين السياسة والدعاية

الاتحاد 10 أبريل 09
بالرغم من الأهمية الكبرى التي ينبغي أن تولى لمؤتمر العشرين الذي عقد في لندن في مطلع هذا الشهر، وصدرت عنه قرارات أساسية اعتبرها أعلب المراقبين والمحللين بداية إعادة تعريف وصياغة للنظام العالمي، إلا أنني أشعر أن من الضروري والواجب أن أتحدث عن مؤتمر القمة العربي الأخير الذي عقد في الدوحة ونال عن حق اسم مؤتمر المصالحة العربية. من جهة لأنني أعتقد أنه من دون تقدم حقيقي في العمل العربي المشترك، صيغه وقواعد عمله وآليات اتخاذ قراراته وتنفيذها، لن يكون لأي مجتمع من المجتمعات العربية أمل في مواجهة تحديات الحاضر ولا الوصول إلى أي هدف من أهدافه الأساسية الوطنية، ومن جهة ثانية لأنني أعتقد أيضا، أنه حتى إشعار آخر، لا يبدو أن هناك أملا في نشوء إطار بديل للجامعة العربية التي كرستها العقود الماضية، شئنا أم أبينا، إطارا لهذا العمل وميدانا للاستثمار فيه، بعد انحسار نظرية الثورة العربية القومية الشعبية.
وقد تضاربت الآراء في تقييم نتائج مؤتمر الدوحة. فبينما ظهر الزعماء العرب راضين عما حققوه، غلب على تعليقات المحللين السياسيين والصحفيين الشك، إن لم نقل خيبة الأمل الكاملة. وليس من الصعب فهم أسباب هذا التباين الكبير في المواقف. فرضى الزعماء عما أنجزوا نابع من شعورهم بأنهم حققوا بالفعل جزءا مهم من الأهداف التي تبدو ذات أولوية في نظرهم، وهي وضع حد لحالة النزاع العنيف والانقسام الدائم التي تكاد تقضي على صدقيتهم كقيادات سياسية صالحة وتحرمهم من أي أمل في التنسيق في ما بينهم في مرحلة معقدة ومحفوفة بمخاطر كبيرة لتأمين الحد الادنى من مصالحهم المشتركة، الأمنية والسياسية والاستراتيجية، في مواجهة خصومهم ونقادهم في الداخل الوطني والخارج الإقليمي والدولي معا. وفي المقابل، تعكس خيبة أمل المحللين والمراقبين السياسيين حقيقة أنه في ما يتجاوز موضوع المصالحة الذي يعني الحكومات والنظم العربية وحدها، وربما يعبر عن تضامنها في وجه مطالب شعوبها المؤجلة أو المنتظرة، لم يخرج عن مؤتمر القمة أي قرار مؤثر في كل ما يتعلق بالمسائل الحارقة التي تهم الشعوب والمجتمعات: فلا قرار واضح في شأن التنمية ومواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية للأزمة المالية، من بطالة وفقر وركود اقتصادي، ولا في شأن القضية الاستراتيجية الرئيسية التي تعنى بالأمن الوطني والإقليمي، أعني مواجهة تحدي الغطرسة الاسرائيلية واستمرار الاحتلال وحركة الاستيطان التي تعمق شك المجتمعات العربية بنفسها وقدراتها وتدمر ثقتها بمستقبلها، ولا في شأن الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري الذي وعدت به الشعوب العربية، وأصبح الموضوع الرئيسي لوسائل الإعلام المحلية والدولية تحت ضغط إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في بداية القرن.
لا ينبغي التقليل من أهمية المصالحة العرببة، تلك التي حدثت في مؤتمر الدوحة والتي ستحدث بعده، ولا يقلل الرأي العام العربي من أهيمتها، فهي تحمل بالنسبة له الأمل في احتمال أن ينجح العرب في وقف مسار التدهور القائم. بيد أن المصالحة ليست غاية في ذاتها، وإنما هي بالنسبة للرأي العام وسيلة لتحقيق غايات أخرى. وهو يحاكمها أو يحكم عليها، سلبا أو ايجابا، انطلاقا مما حققته أو يمكن أن تحققه من أهداف. فليست نتائج القمة واحدة إذا عنت المصالحة مثلا تفاهم الحكومات والنظم لدفن الإصلاح وتنظيم عملية التهميش والتحييد الكامل للشعوب وتكريس القطيعة معها، أو إذا كانت بالعكس من ذلك تعبيرا عن تفاهم الحكومات من أجل وضع خطة مشتركة وواضحة لمواجهة آثار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على البلاد العربية. وليست واحدة أيضا إذا جاءت المصالحة لتكريس السياسات الفاشلة أو لبلورة سياسات جديدة أكثر فعالية في مواجهة إسرائيل وسياسة الاستبطان.
والحال يكفي لمعرفة قيمة ما حصل في مؤتمر القمة العربية الأخير التمعن في البيان الذي صدر عنها ومقارنته بما يصدر عن المؤتمرات الدولية الأخرى، وفي مقدمها مؤتمر الدول العشرين الذي عقد بعد يومين منه. فهو يكاد يخلو من أي لغة قرار ويتلخص في بنود متتالية لا هدف لها سوى الإعلان عن الرأي أو التذكير بالحيثيات والمباديء الكبيرة والتأكيد على الانتماءات القومية والدينية. وهذه أمثلة من العبارات التي تبدأ بها كل القرارات المتخذة: الإعلان عن: - " التزامنا بالتضامن العربي"، "نشدد على تسوية الخلافات بالحوار"، "ندعو إلى مواصلة الجهود لتطوير منظومة العمل المشترك"، "نتوجه يتحية إكبار للشعب الفلسطيني"، "نعرب عن دعمنا الكامل للجهود العربية لإنهاء الانقسام الفلسطيني"، "نؤكد على عدم قبول التعطيل والمماطلة من قبل إسرائيل في تنفيذ استحقاقات السلام"، "نؤكد على ضرورة التوصل إلى حل عادل للصراع في إطار الشرعية الدولية"،% نؤكد على تضامننا مع السودان، ورفضنا لقرار الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بشأن فخامة الرئيس عمر حسن أحمد البشير"، "ـنجدد التزامنا باحترام وحدة العراق وسيادته واستقلاله، وهويته العربية والإسلامية"، "نعرب عن ترحيبنا بالاتفاق الذي تم بين الأخوة في الصومال"، "نعرب عن الأمل في أن تتجاوب الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع مبادرة دولة الإمارات العربية المتحدة والمساعي العربية لإيجاد حل لقضية الجزر الإماراتية الثلاث"، "نؤكد مجدداً على إدانتنا للإرهاب بجميع أشكاله"، "نطالب المجتمع الدولي العمل على إخلاء منطقة الشرق الأوسط من جميع أسلحة الدمار الشامل، وخاصة الأسلحة النووية"، "نؤكد على الحق المشروع للدول العربية في السعي للحصول على التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية"، "نشيد بالجهود المتواصلة التي تبذلها الدول العربية من أجل تعميق ممارسات الإدارة الرشيدة، وتطبيق مبدأ الشفافية والمسؤولية، والمساءلة والمشاركة الشعبية"، "ندعو الى تكثيف الحوار بين الثقافات والشعوب وإرساء ثقافة الانفتاح وقبول الآخر ودعم مبادئ التآخي والتسامح واحترام القيم الإنسانية"، "نرحب بنتائج قرارات القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية التي عقدت في الكويت خلال الفترة من 19 ـ 20 يناير 2009م، ونؤكد عزمنا على متابعة وتنفيذ نتائجها بما يخدم العمل العربي الاقتصادي المشترك، ويسهم في تنمية المجتمعات العربية"،%.نؤكد سعينا المتواصل لإنجاز منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى"، "نطالب المجتمع الدولي العمل على تضافر الجهود وتعزيز التعاون الوثيق بين دوله والمشاركة الفاعلة في الجهود العالمية الرامية الى تنفيذ الأهداف التنموية للألفية واستئصال الجوع والفقر"، "نؤكد على أهمية التنشئة الاجتماعية القويمة للطفل العربي"، "ندعو الى اتاحة الفرص امام الشباب لتمكينهم من المشاركة الفاعلة في حياة المجتمع"، "نشدد على إيلاء اللغة العربية اهتماما خاصا باعتبارها وعاء الفكر والثقافة العربيين ولكونها الحاضنة للتراث والثقافة والهوية".
واضح أن بيان القمة العربية ينطوي على خطاب هو أقرب إلى خطاب مثقفين مهمومين بقضايا شعوبهم، ويقتصر واجبهم، في إطار مهمتهم الفكرية والعلمية، على التعبير عن آرائهم ومناشدة الرأي العام للضغط على السلطة وحث المسؤولين السياسيين على العمل في هذا الاتجاه او ذاك، أي حسب المباديء التي يتمسكون بها ويدافعون عنها. فهم يفتقرون للسلطة السياسية وللموارد المادية وللوسائل التي يحتاج إليه العمل الجمعي والسياسي. لكن. لا يمكن لمثل هذا الخطاب أن يكون خطاب قادة سياسيين تقع في ديهم كل الصلاحيات والموارد والوسائل اللازمة لاتخاذ قرارات عملية وتحديد آليات تنفيذها ومتابعتها. فلا يدعو رجل السلطة، على سبيل المثال، إلى الحد من الفقر أو البطالة، وإنما عليه أن يقدم مشروعا عمليا في دائرة صلاحيته وسلطته، وهنا العالم العربي، للحد من الفقر، ويؤمن المبالغ الضرورية لذلك، ويحدد المؤسسات المسؤولية عن صرفها ومعايير هذا الصرف. وفي هذا المجال كان القرار يفترض أن يخصص مؤتمر القمة مبلغا من المال لمواجهة مشكلة تفاقم الفقر وإفلاس الشركات الصغيرة وتعاظم البطالة في البلدان العربية، كما فعلت الدول الكبرى. وبالمثل لا يدعو رجل ا لسلطة إلى متابعة الإصلاح ولكنه يطبق برنامج إصلاح ملموس ويعلن ذلك للرأي العام. كما لا يدعو رجل السلطة أعداءه إلى عدم المماطلة والتسويف في تحقيق السلام ولكنه يتخذ الإجراءات التي تمنع إسرائيل من التعطيل والمماطلة. فكان المطلوب مثلا في مثل هذه الحالة قرارات ذات مغزى استراتيجي من نوع تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، أو تكوين هيئة للتنسيق العسكري على المستوى العريي، أو خطة لتحديث الجيوش العربية وتجديد سلاحها، حتى تدرك إسرائيل بالفعل أن المبادرة العربية المغدورة ليست الكلمة الأخيرة للعرب. وكان من شأن هذه القرارات، حتى من دون التراجع عن اعتبار السلام خيارا استراتيجيا، إشعار العالم الصناعي الحساس لاستقرار الشرق الأوسط، وإسرائيل على الخصوص، بأن شيئا جديدا يحصل، في المعسكر العربي، ويحتاج إلى إعادة التفكير. ولا يقبل رجل السلطة أن يوقع على وثيقة اسمها وثيقة المصالحة، فالثقة لا تبنى بين الأطراف، ووحدة الصف لا يمكن ضمانها بالتوقيع على وثائق لا قيمة لها ولا مستقبل، ولكن من خلال الانخراط الفعلي في مشاريع تعاون مشتركة، اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، تضع الشعوب في مسار تعاون حقيقي في ما بينها، وتؤكد للعالم أجمع مقدرة العرب على تجاوز الخلافات وبناء إرادة موحدة.
يكفي لإدراك ذلك، ومعرفة الفرق بين بيان رجال السياسة وبيان رجال الدعاية والإعلام والاستعراض، أن نقارن هذا الخطاب مع ما صدر عن مؤتمر قمة العشرين الذي عقد في الأسبوع نفسه في لندن. فلن نجد في بيان هذا المؤتمر ولا وثائقه أي تأكيد أو تنديد أو تشديد وتهديد، وإنما إجابات والتزامات بخطط ووسائل عمل تتجسد في مخصصات مالية محددة لإنجاز الأهداف المنشودة. فأكثر ما يعبر عن مؤتمر العشرين ويعطي لانعقاده معنى هو تخصيصه ل 5000 مليار دولار لحفز الاقتصاد العالمي خلال سنتين، ورفع طاقة صندوق النقد الدولي إلى 1،1 ترليون دولار لمواجهة حاجات الدول الفقيرة، وزيادة حق السحب إلى 250 مليار، والاتفاق على خطة بقيمة 250 بليون دولار على مدى عامين لدعم تدفقات التجارة العالمية، ونشر قوائم سوداء عن الملاذات الضريبية والبلدان التي لا تحترم معايير مكافحة تبييض الأموال، وتلك التي لا تتعاون في مسائل الجرائم المالية. الإشراف على وكالات التصنيف: وهي التي اتهمت بأنها أخطأت في الحكم على المخاطر المرتبطة بالمنتوجات المضمونة ووضع حدّ لتضارب المصالح، إنشاء مجلس الرقابة المالية، وتحديد سقف مكافآت رؤساء الشركات المالية وربطه بالإداء. هكذا على كل مسألة من مسائل الاجندة المطروحة للبحث بهدف مواجهة خطر الكساد العام، كان هناك جواب وتامين موارد وتحديد جهة الاختصاص في العمل. والغاية «ان تؤدي الاجراءات المنسقة الى زيادة الانتاج العالمي بنسبة 4 في المئة بحلول نهاية 2010".
لماذا يغيب رجل السياسة في القمم العربية ولا يحضر إلا المعلم والموجه والمرشد الأخلاقي القومي أو الإنساني؟ وكيف يمكن لقادة لا تكاد توجد على سلطاتهم قيود أو حدود، أن يتصرفوا كرجال دعاية ودعوة وايمان، وينسوا مسؤولياتهم الأساسية، وما يعطي لسلطتهم نفسها معناها وقيمتها، أعني الفعل المؤثر في المجتمع والتاريخ؟ وفي هذه الحالة ألا يفسر هذا الفهم الخاص للسياسة بوصفها وجاهة وحق احتكار الصدارة والدعاية والكلام هو السبب في العداوة المرة التي يظهرها الحكام العرب للمثقفين. إذ، بالفعل، ماذا يبقى لهؤلاء من عمل إذا أصر المثقفون على إصدار البيانات نفسها التي يعتقد الزعماء السياسيون أن إصدارها يشكل جوهر مهمتهم، ومرتكز وجاهتهم، ومصدر شرعيتهم كرجال سلطة وحكم؟ لكن، بالمثل، ماذا يبقى للمثقفين من موقع إذا تحولت مؤتمرات القمم العربية إلى منابر أو منتديات للدعوة والتوجيه والتأديب والتعليم؟ للمثقف الكلمة، وللسياسي الفعل. وإذا لم يحترم كل منهما ميدان عمل الآخر وشروطه، أي حرية الكلمة وأسبقية الفعل، لن تكون هناك ثقافة ولا سياسة، وإنما فوضى شاملة، وتنازع على سلطة لم تعد تعي ذاتها ومسؤولياتها بين الجميع.