الاتحاد 13 يوليو09
لم يكن المواطن العربي بحاجة إلى تقرير التنمية البشرية الجديد حتى يدرك أن العالم العربي يعيش مشكلة داخلية حقيقية تتعلق بأسلوب عمله وتطوره، لا تقل أهمية عن المشكلة الخارجية المتمثلة في استمرار الاحتلال وضغط القوى الدولية.
وأصل هذه المشكلة هو إخفاق ما كنا نسميه في الأدبيات الدولية حركة التحرر الوطني
بما كانت تعنيه من تبلور قوة محلية سياسية وأجندة للعمل الجمعي وغايات واضحة توجه القادة والرأي العام معا وتبين مدى نجاحهم أو فسلهم في تحقيق البرنامج الوطني المجمع عليه. ويعني هذا الإخفاق فراغا فكريا وسياسيا وقياديا أيضا يجعل من الصعب تحديد المهام التاريخية المجمع عليها فما بالك بمواجهتها والتوافق على قيم وأهداف وغايات جماعية.
هكذا أصبح التغيير، أي سد الفراغ الفكري والسياسي والرمزي الذي تركه إخفاق نموذج حركة التحرر الوطني النظري والعملي، هدفا في ذاته بعد أن كان وسيلة لتحقيق أهداف واضحة ومنشودة، وأصبح استبدال النظم السابقة بنظم جديدة تعيد بناء العلاقة بين النخب والقيادات وتحيي معنى الشرعية والمشاركة السياسية، مقدمة لإطلاق ديناميكية العمل والنشاط الاجتماعيين وإخراج المجتمعات من الطريق المسدودة التي دخلت فيها، أي لعودة الايمان بإمكانية التقدم، على محدوديتها، ونجاعة الاستثمار في جميع مستوياته الاقتصادية والفكرية والمدنية.
وعندما نفكر اليوم بمصير الكتل القارية العديدة، نجد أنفسنا مدفوعين تلقائيا إلى أن نتحدث عن ديناميكيات التغيير الخاصة التي نقلت الشعوب والمجتمعات من حقبة نموذج التحرر الوطني إلى الحقبة الجديدة التي تلعب المشاركة الشعبية الفاعلة دورا أساسيا في بناء مشروعيتها وبناء الثقة العامة اللازمة لاستقرارها واستمرارها. وفي هذا السياق تقفز إلى ذهننا تجارب ناجحة عديدة. أولها تجربة دول أمريكا اللاتينية التي قبلت النخب المعارضة فيها، وكان لمعظمها ميليشيات ومواقع عسكرية قوية في البلاد، من خلال الحوار والتنازلات المتبادلة، بالاندماج في النظم القائمة والتخلي عن تمردها مقابل تخلي النظم الأوليغارشية عن احتراف القهر والقمع والاستبداد. وثانيها تجربة الدول الأفريقية التي كانت تتميز بتبعيتها والتي انتقلت إلى مواقع ديمقراطية تعددية. ولا شك أنه كان للضغوط الخارجية وضمان الدول الحامية التقليدية دور كبير في هذا التحول. وربما سيبقى لفترة طويلة شرط استمراره.
ويختلف عن ذلك نموذج تجربة شرق أوروبة الذي جمع بين التدخل الخارجي والديناميكية السياسية الداخلية. فلا يشك أحد في أثر زوال الاتحاد السوفييتي وإغراء الاندماج بالغرب الرأسمالي في دفع حركة المعارضة الثقافية وإطلاق حركة التغيير الشعبية التي أدت إلى إسقاط النظم الشمولية وإقامة نظم ديمقراطية مكانها.
وبالمقابل جمع النموذج العربي بين غائبين. أولهما انعدام أي تعاطف خارجي حقيقي مع الشعوب، وبالتالي صعوبة نشوء سياق يسمح بتكوين حركات انشقاق قوية وبناء ثقة عميقة بإمكانية التغيير عند الرأي العام الواسع، وثانيهما تمتع النظم السياسية والاجتماعية القائمة بهامش كبير من الاستقلالية تجاه الشعوب، إما بسبب التحالف الوثيق الذي يربطها بالدول الكبرى أو بسبب وجود موارد ريعية مادية ومعنوية غزيرة خلفتها الحركة القومية أو أخيرا بسبب نجاح هذه النظم في تدمير المجتمع المدني وفرض العزلة الثقافية والنفسية على الشعوب. والنتيجة استعصاء مديد في هذه المنطقة على أي تغيير في اتجاه التحولات العالمية وإنجاز المهمات التاريخية، كان من عواقبه انحسار الشرعية، وعلى هامشها استمرار التدخل الخارجي شبه الاستعماري الذي شكلت الحرب الأمريكية على العراق وجهه الكارثي الأبرز، وفرعنة نظم سياسة لا تجد مبررا لفتح أي حوار مع حركات الاحتجاج ومع الرأي العام ككل. وهي لا تزال مستمرة في تعبئة شعوبها بالطرق الكلاسيكية الشمولية نفسها، باستعداء الخارج وتهييج المشاعر القومية وتأليب الرأي العام على قوى المعارضة الجنينية. وهو ما يجعل العالم العربي يبدو وكأنه يعيش في حقبة ماضية، ويخرج من التاريخ الحي الذي تعيشه الشعوب الأخرى، ببرامجه الجديدة وقيمه وغايات إنسانه. كما يجعل الإنسان يشعر في هذا العالم بالضياع وانعدام الوجهة وضياع الأمل معا، ويغذي التوقعات الأكثر سلبية وسوداوية في مستقبل المجتمعات..
يشجع الجمود الذي يسم الأوضاع العربية منذ عقود طويلة، والتعثر الذي لا تزال تشهده
المسيرة الاصلاحية على تزايد دور الدول الاجنبية في تكوين التوازنات الإقليمية والداخلية، ونزوع النظام والمعارضات بشكل أكبر إلى الشك في مقدرتهم على البقاء والاستمرار من دون تعزيز التحالف مع الخارج. من هنا ولد الصراع الدائر اليوم حول التغيير في العالم العربي أوضاعا جديدة ذات سمات خصوصية، وأنتج إشكاليات نظرية سياسية لم تكن موجودة من قبل. وأصبحت العلاقة مع الخارج، والغرب منه بشكل خاص، إشكالية مركزية في أي نقاش حول التغيير. وما كان لمثل هذه الإشكالية أن ترى النور لو نجحت قوى المعارضة الداخلية أو القوى الشعبية المدنية كما حصل في العديد من البلدان الأخرى التي عانت من نظم شمولية في أن تنتزع المبادرة من القوى الحاكمة أو أن تجبرها على القيام بالتنازلات الضرورية لشق طريق الاصلاح والعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية. وأكثر فأكثر تثبت الأيام أن مثل هذه الاحتمالات التي مكنت المجتمعات التي عاشت ظروفا مشابهة لظروف المجتمعات العربية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوروبة الشرقية والكتلة السوفييتية السابقة غير واردة أو صعبة التحقيق في البلاد العربية.
تنبع المشكلة بالفعل من انسداد النظم وانغلاقها وعدم عكسها لحركة المجتمعات وتجميدها للمصالح وتحولها إلى قنوات لتأكيد سيطرة مستمرة وكاملة وأبدية لجماعة مصالح واحدة. ولا يزال السؤال الذي نظرحه منذ عقود دون جواب، أعني كيف يمكن فتح هذه الأنظمة لإطلاق ديناميكية الحراك الاجتماعي وتشجيع الناس على العمل والمبادرة والمشاركة وبذل الجهد. والقضاء بالمناسبة على الطبقة الطفيلية التي تكونت في العقود الماضية وأصبح وجودها منبع الفساد الكبير والصغير، وذلك بمقدار ما تفرض إعادة إنتاجها الرشوة المعممة وأحيانا وفي بلدان كثيرة تأبيد الأحكام العرفية والاستثنائية وانتشار المعاملات المهينة والمذلة للأفراد، وإحلال العصبيات والولاءات الزبائنية والمحسوبيات محل الهوية السياسية والولاءات الوطنية.
ليس هناك خيارات كثيرة في الواقع، فإما أن تتقوى قوى الاصلاح الداخلية كي ما تفرض التغيير بالحوار على الطريقة الأمريكية اللاتينية وما تعنيه من تنازلات متبادلة، أو أن تنجح الضغوط الخارجية في ضمان تحول تدريجي للنظم لقاء مساعداتها السياسية والاستراتيجية
أو أن يتفاقم الفساد ويشمل الانهيار والتفسخ جميع مؤسسات النظم، مع ما يعني ذلك من تدهور شروط معيشة الأفراد المادية والمعنوية، وتزايد احتمال الانفجارات على الطريقة التقليدية/ وما يمكن أن تجره من المزيد من التدخلات الأجنبية.
باختصار، أصبح التغيير بصرف النظر عن مضمونه ومعانيه السمة الرئيسية للحقبة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم في كل مكان. وعلى قدر النجاح في هذا التغيير تقاس جدارة النظم وشرعية بقائها، لدى الرأي العام الداخلي والخارجي معا.
لم يكن المواطن العربي بحاجة إلى تقرير التنمية البشرية الجديد حتى يدرك أن العالم العربي يعيش مشكلة داخلية حقيقية تتعلق بأسلوب عمله وتطوره، لا تقل أهمية عن المشكلة الخارجية المتمثلة في استمرار الاحتلال وضغط القوى الدولية.
وأصل هذه المشكلة هو إخفاق ما كنا نسميه في الأدبيات الدولية حركة التحرر الوطني
بما كانت تعنيه من تبلور قوة محلية سياسية وأجندة للعمل الجمعي وغايات واضحة توجه القادة والرأي العام معا وتبين مدى نجاحهم أو فسلهم في تحقيق البرنامج الوطني المجمع عليه. ويعني هذا الإخفاق فراغا فكريا وسياسيا وقياديا أيضا يجعل من الصعب تحديد المهام التاريخية المجمع عليها فما بالك بمواجهتها والتوافق على قيم وأهداف وغايات جماعية.
هكذا أصبح التغيير، أي سد الفراغ الفكري والسياسي والرمزي الذي تركه إخفاق نموذج حركة التحرر الوطني النظري والعملي، هدفا في ذاته بعد أن كان وسيلة لتحقيق أهداف واضحة ومنشودة، وأصبح استبدال النظم السابقة بنظم جديدة تعيد بناء العلاقة بين النخب والقيادات وتحيي معنى الشرعية والمشاركة السياسية، مقدمة لإطلاق ديناميكية العمل والنشاط الاجتماعيين وإخراج المجتمعات من الطريق المسدودة التي دخلت فيها، أي لعودة الايمان بإمكانية التقدم، على محدوديتها، ونجاعة الاستثمار في جميع مستوياته الاقتصادية والفكرية والمدنية.
وعندما نفكر اليوم بمصير الكتل القارية العديدة، نجد أنفسنا مدفوعين تلقائيا إلى أن نتحدث عن ديناميكيات التغيير الخاصة التي نقلت الشعوب والمجتمعات من حقبة نموذج التحرر الوطني إلى الحقبة الجديدة التي تلعب المشاركة الشعبية الفاعلة دورا أساسيا في بناء مشروعيتها وبناء الثقة العامة اللازمة لاستقرارها واستمرارها. وفي هذا السياق تقفز إلى ذهننا تجارب ناجحة عديدة. أولها تجربة دول أمريكا اللاتينية التي قبلت النخب المعارضة فيها، وكان لمعظمها ميليشيات ومواقع عسكرية قوية في البلاد، من خلال الحوار والتنازلات المتبادلة، بالاندماج في النظم القائمة والتخلي عن تمردها مقابل تخلي النظم الأوليغارشية عن احتراف القهر والقمع والاستبداد. وثانيها تجربة الدول الأفريقية التي كانت تتميز بتبعيتها والتي انتقلت إلى مواقع ديمقراطية تعددية. ولا شك أنه كان للضغوط الخارجية وضمان الدول الحامية التقليدية دور كبير في هذا التحول. وربما سيبقى لفترة طويلة شرط استمراره.
ويختلف عن ذلك نموذج تجربة شرق أوروبة الذي جمع بين التدخل الخارجي والديناميكية السياسية الداخلية. فلا يشك أحد في أثر زوال الاتحاد السوفييتي وإغراء الاندماج بالغرب الرأسمالي في دفع حركة المعارضة الثقافية وإطلاق حركة التغيير الشعبية التي أدت إلى إسقاط النظم الشمولية وإقامة نظم ديمقراطية مكانها.
وبالمقابل جمع النموذج العربي بين غائبين. أولهما انعدام أي تعاطف خارجي حقيقي مع الشعوب، وبالتالي صعوبة نشوء سياق يسمح بتكوين حركات انشقاق قوية وبناء ثقة عميقة بإمكانية التغيير عند الرأي العام الواسع، وثانيهما تمتع النظم السياسية والاجتماعية القائمة بهامش كبير من الاستقلالية تجاه الشعوب، إما بسبب التحالف الوثيق الذي يربطها بالدول الكبرى أو بسبب وجود موارد ريعية مادية ومعنوية غزيرة خلفتها الحركة القومية أو أخيرا بسبب نجاح هذه النظم في تدمير المجتمع المدني وفرض العزلة الثقافية والنفسية على الشعوب. والنتيجة استعصاء مديد في هذه المنطقة على أي تغيير في اتجاه التحولات العالمية وإنجاز المهمات التاريخية، كان من عواقبه انحسار الشرعية، وعلى هامشها استمرار التدخل الخارجي شبه الاستعماري الذي شكلت الحرب الأمريكية على العراق وجهه الكارثي الأبرز، وفرعنة نظم سياسة لا تجد مبررا لفتح أي حوار مع حركات الاحتجاج ومع الرأي العام ككل. وهي لا تزال مستمرة في تعبئة شعوبها بالطرق الكلاسيكية الشمولية نفسها، باستعداء الخارج وتهييج المشاعر القومية وتأليب الرأي العام على قوى المعارضة الجنينية. وهو ما يجعل العالم العربي يبدو وكأنه يعيش في حقبة ماضية، ويخرج من التاريخ الحي الذي تعيشه الشعوب الأخرى، ببرامجه الجديدة وقيمه وغايات إنسانه. كما يجعل الإنسان يشعر في هذا العالم بالضياع وانعدام الوجهة وضياع الأمل معا، ويغذي التوقعات الأكثر سلبية وسوداوية في مستقبل المجتمعات..
يشجع الجمود الذي يسم الأوضاع العربية منذ عقود طويلة، والتعثر الذي لا تزال تشهده
المسيرة الاصلاحية على تزايد دور الدول الاجنبية في تكوين التوازنات الإقليمية والداخلية، ونزوع النظام والمعارضات بشكل أكبر إلى الشك في مقدرتهم على البقاء والاستمرار من دون تعزيز التحالف مع الخارج. من هنا ولد الصراع الدائر اليوم حول التغيير في العالم العربي أوضاعا جديدة ذات سمات خصوصية، وأنتج إشكاليات نظرية سياسية لم تكن موجودة من قبل. وأصبحت العلاقة مع الخارج، والغرب منه بشكل خاص، إشكالية مركزية في أي نقاش حول التغيير. وما كان لمثل هذه الإشكالية أن ترى النور لو نجحت قوى المعارضة الداخلية أو القوى الشعبية المدنية كما حصل في العديد من البلدان الأخرى التي عانت من نظم شمولية في أن تنتزع المبادرة من القوى الحاكمة أو أن تجبرها على القيام بالتنازلات الضرورية لشق طريق الاصلاح والعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية. وأكثر فأكثر تثبت الأيام أن مثل هذه الاحتمالات التي مكنت المجتمعات التي عاشت ظروفا مشابهة لظروف المجتمعات العربية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوروبة الشرقية والكتلة السوفييتية السابقة غير واردة أو صعبة التحقيق في البلاد العربية.
تنبع المشكلة بالفعل من انسداد النظم وانغلاقها وعدم عكسها لحركة المجتمعات وتجميدها للمصالح وتحولها إلى قنوات لتأكيد سيطرة مستمرة وكاملة وأبدية لجماعة مصالح واحدة. ولا يزال السؤال الذي نظرحه منذ عقود دون جواب، أعني كيف يمكن فتح هذه الأنظمة لإطلاق ديناميكية الحراك الاجتماعي وتشجيع الناس على العمل والمبادرة والمشاركة وبذل الجهد. والقضاء بالمناسبة على الطبقة الطفيلية التي تكونت في العقود الماضية وأصبح وجودها منبع الفساد الكبير والصغير، وذلك بمقدار ما تفرض إعادة إنتاجها الرشوة المعممة وأحيانا وفي بلدان كثيرة تأبيد الأحكام العرفية والاستثنائية وانتشار المعاملات المهينة والمذلة للأفراد، وإحلال العصبيات والولاءات الزبائنية والمحسوبيات محل الهوية السياسية والولاءات الوطنية.
ليس هناك خيارات كثيرة في الواقع، فإما أن تتقوى قوى الاصلاح الداخلية كي ما تفرض التغيير بالحوار على الطريقة الأمريكية اللاتينية وما تعنيه من تنازلات متبادلة، أو أن تنجح الضغوط الخارجية في ضمان تحول تدريجي للنظم لقاء مساعداتها السياسية والاستراتيجية
أو أن يتفاقم الفساد ويشمل الانهيار والتفسخ جميع مؤسسات النظم، مع ما يعني ذلك من تدهور شروط معيشة الأفراد المادية والمعنوية، وتزايد احتمال الانفجارات على الطريقة التقليدية/ وما يمكن أن تجره من المزيد من التدخلات الأجنبية.
باختصار، أصبح التغيير بصرف النظر عن مضمونه ومعانيه السمة الرئيسية للحقبة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم في كل مكان. وعلى قدر النجاح في هذا التغيير تقاس جدارة النظم وشرعية بقائها، لدى الرأي العام الداخلي والخارجي معا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire