الاتحاد 4 مايو 11
كنت دائما أقول إن مشكلة النظام السوري هو أنه يفتقر إلى الحلقة الرئيسية التي تجعل من أي حكم حكما سياسيا. وكل سياسة قائمة، بعكس الحرب، على تفاعل بين أطراف يعترف كل واحد منهم بالآخر، حتى لو فرض عليه صورة مشوهة لهويته، أو تعامل معه بأقل مما هو عليه بالفعل. وكل تفاعل يفترض الأخذ والعطاء، أي حدا من المرونة لا يمكن من دونها التوصل إلى حلول سياسية، أي سلمية لا تستدعي استخدام العنف والقوة. وكل مرونة قائمة على قدر من الاستعداد للتراجع والتقدم، كما وصفها معاوية عندما تحدث عن الشعرة التي لو كانت بينه وبين الناس، أي الطرف الآخر، وبشكل خاص معارضيه في ذلك الوقت، لما انقطعت. باختصار السياسة تقدم للحكم القائم بالضرورة على هيمنة طرف على طرف آخر والتحكم بالقرار المتعلق بحياة المجموع أو المجتمع أو الشعب، استعدادات ومباديء وقواعد ومؤسسات للتوسط بين الأطراف، وللمناورة والمداورة بحيث يصل فيه كل طرف من الأطراف المتنافسة إلى أهدافه، كلها أو بعضها، من دون الاضطرار إلى استخدام القوة أو تعريض نفسه لسيف العنف. وهي تفترض قبل هذا وذاك الاعتراف بأن هناك أطرافا مختلفة، أي اعتراف الطرف السائد والحاكم بوجود الطرف الآخر، وأن له حقوقا ومصالح مشروعة، حتى لو كان هدفه إخضاعه وفرض تسويات مجحفة بحقه.
بهذا المعنى وجدت السياسة لتكون بديلا للحرب في علاقة الأطراف والجماعات والطبقات والطوائف والعشائر فيما بينها. فالحرب تعني بالتعريف تعريض حياة الأفراد والجماعات للموت وتعميم الدمار، وبالتالي لا يمكن أن تقوم حضارة ويحصل تقدم وتمدن، ما لم تتراجع قاعدة الحرب في العلاقات داخل المجتمعات وبينها، وتنشأ في مكانها علاقة سياسية أي تنازعا سلميا مقبولا ومحكوما بقواعد خاصة تستمد قوتها من سلميتها، كالضغوط المجسدة في التجمعات والتظاهرات والبيانات والمهرجانات، هدفها التفاوض الرسمي أو الضمني، والتفاعل للوصول إلى التسويات التي تؤمن حدا ادنى من المصالح للجميع وتضمن الاستقرار.
وتبدأ المدنية عند الشعوب في الوقت الذي تبدأ هذه الشعوب بالكف عن اللجوء السريع والسهل إلى القوة لحل نزاعاتها، سواء من أجل تأمين الموارد اللازمة لمعيشتها، أو لفرض قسمة تمكنها من الحصول على حصة الأسد من الموارد المتاحة وحرمان الآخرين منها أو من القسم الأكبر منها. وهذا يفترض أن شروط الفعل السياسي (التفاوض) المختلف تماما عن الفعل العسكري (استخدام العنف) قد توفرت، وأن الشعوب قد نضجت، بعد معاناة طويلة، في ميدان الوعي وإدراك وحدة المصالح والاهداف. وتاريخ انتقال العرب من البداوة إلى الحضارة، مثلهم مثل غيرهم، ارتبط منذ ماقبل الاسلام بالتخلي عن الغزو وعن حروب داحس والغبراء التي كانت تحكم العلاقات بين القبائل وتحدد مكانة كل منها وحصتها من الموارد المتاحة، وبالدخول في مشروع بناء الدولة، الممالك الصغيرة أولا، ثم الامبرطورية الواسعة التي تعني قبل أي شيء آخر وجود سلطة مركزية مسلحة بقانون أو بشرعة مقبولة تشكل مرجعا للسلطة والشعب معا، تضبط من خلالها النزاعات وتنازع المصالح، وتجعل الخضوع للقانون، أي لإرادة الدولة التي تطبقه، منطلقا للسلام والاستقرار والسلم الأهلي.
وعندما نتحدث عن القانون الذي هو أهم مقتضيات السياسية ومكوناتها فنحن نتحدث في الوقت ذاته عن الحق الذي يدور حوله الفعل السياسي بأكمله، أي حق كل فرد تجاه الجماعة وتجاه الأفراد الآخرين، ونتحدث أيضا من ورائه عن مفهوم العدالة التي هي احترام الحق، كما حدده القانون، وهو ما ينظر إليه المجتمع، في حقبة معينة، كتجسيد للعدالة. وهذا لا يعني المساواة بين الأفراد بالضرورة. ففي المجتمع العبودي الحق ليس واحدا، والعدالة لا تعني المساواة في الحقوق وإنما احترام العبد لسيادة السيد والسيد لحياة العبد.
وكل نظام وجدت فيه اداة التوسط السياسية هذه، أي حقلا سياسيا متميزا عن حقل الحرب ومستقلا عنه، مهما كانت مساحته، قادر على التحرك والتفاعل والتطور. لأنه يملك الجهاز الذي يسمح له بقياس موازين القوى ونوعية الضغوط التي قد تقود إلى العنف وتلك التي يمكن التغاضي عنها من أجل تجنبه. من هنا لا تستقيم السياسة من حيث هي ايجاد الحلول للنزاعات والخلافات عن طريق التفاوض لا عن طريق العنف من دون تطوير نمط من المنطق والعقل السياسيين، أي من فهم شروط العمل لتوحيد المجتمعات او ضمان استقرارها مع الاعتراف بحق كل طرف في النزاع السلمي والتنافس لضمان مصالحه والدفاع عن حقوقه، ولتحسين شروط حياته. فالسياسة وحدها هي التي تضمن الوحدة داخل التعدد، وتمنع النزاع من التحول إلى انقسام ومواجهة شاملة في مجتمع هو بالضرورة متعدد المصالح والأطراف والتشكيلات. وكلما تطورت بنية العمل السياسي في نظام اجتماعي تعمق الاستقرار، وابتعد احتمال النزاع العنيف والمسلح، ونعم أفراد المجتمع بدرجة أكبر من الثقة والأمل الضرورين لتشجيع الاستثمار وبذل الجهد والابداع.
وبالعكس، يشكل تفكيك البنية السياسية وتفريغ الأجهزة المرتبطة بها من مضمونها الهدف الاول لأي نظام اجتماعي قائم على الاحتكار وسيطرة فئة واحدة على حساب الفئات الأخرى، وتحويل السياسة إلى استيلاء والشرعية إلى خضوع بالقوة. في هذه الحالة تعود العلاقة بين الأطراف إلى مستوى الصفر السياسي، ولا يضمن استمرارها سوى الاستخدام المنظم أو الاعتباطي للعنف، وهدم القانون أو تفريغه من مضمونه، ومعه مباديء الحق والعدالة وأدوات التفاوض السلمية من حرية التعبير والتنظيم والتظاهر وغيرها. في هذه الحالة تتوحد السيطرة القائمة مع مصالح طرف واحد وتتطابق معها، ولا تبقى وسيلة لتنظيم العلاقات الاجتماعية سوى العنف، وأسوأ أشكاله العنف الأعمى والمجاني، أي الفوضى. وهو ما تلجأ إليه عادة سلطة النظم القهرية عندما تمر بأزمة خطيرة.
هذا يفسر ما يجري في البلدان العربية من لجوء مكثف للعنف أمام صعود حركات الاحتجاج الاجتماعي التي تعبر، كما هو واضح من اتساع المشاركة في المسيرات، عن إرادة قطاعات واسعة من الشعب العربي في إعادة تعريف مصالحها وحقوقها، وبالتالي موقعها ودورها في النظام الاجتماعي بأكمله. ولعل المثال الأكبر لما ذكرت هو ما نشهده في سورية اليوم، حيث يكاد المرء يرى صورة كاريكاتورية عن نظام اجتماعي يفتقر إلى أي بنية سياسية تقوم بوظيفة السياسي فعلا ولا تشكل غلالة تخفي معادلة القوة ومنطق الحرب والعنف الذي يستند إليه النظام. ولو دققنا النظر في ما جرى ويجري منذ أسابيع لما رأينا أي رجل سياسة يظهر على المسرح ليتحدث إلى الشعب، ولا أي خطاب سياسي بالمعنى الحقيقي للكلمة يستخدم لغة الحقوق والمصالح والتسويات. تكاد البنية السياسية تختصر في شخص الرئيس وحده، ويكاد الرئيس يختصر في خطابه، خطاب الحرب، بل هذا ما أكده في أول ظهور له في مجلس الشعب بعد أسبوعين من التظاهرات ومسيرات الاحتجاج، عندما قال إذا أرادوا الحرب فنحن مستعدون لها.
بغياب بنية سياسية تسمح بالتوسط بين السلطة والشعب وبين فئات المصالح المختلفة والمتعددة يختصر النظام إلى حلقتين مترابطتين: مركب من المصالح، وهنا مصالح فريق يجمع أصحاب السلطة مع أصحاب الثروة مع أصحاب السلاح مع أصحاب الحزب والإدارة البيرقراطية، وذراع أمنية مكونة من اجهزة متعددة الأشكال والوظائف تؤمن لهذا المركب سيطرة شاملة وكاملة ومستمرة، لا تقبل النقاش ولا المراجعة ولا المنافسة ولا الاعتراض. وعندما تكرس مثل هذه الوضعية بمادة دستورية، لا يبقى هناك أي إمكانية لوضع صيغة اقتسام السلطة والثروة والقوة والمركز الاجتماعي أمام أي تساؤل، مهما كان شكله أو هدفه، حتى لو قصد الاصلاح، ولا أي فرصة لدى الحاكم نفسه للتقدم والتراجع. النظام وحده هو الذي يقدم عند الضرورة أعطيات ومكرمات يوزعها هنا وهناك لشراء سكون البعض أو استرضاء وجهاء الأطراف.
هذا هو الذي يفسر المكانة الاستثنائية الطاغية التي تحتلها أجهزة الأمن أو الترويع، والجاهزية والشمولية والسرعة التي تتحرك بها أذرعها المتعددة في كل لحظة يشعر فيها النظام بالتحدي. والتحدي لايعني هنا وجود خطر يهدد النظام، ولكن كل ما لا يصدر عن النظام او لا يكون تحت إشرافه وسيطرته، ربما مقالة نقدية لكاتب أو انتشار خبر أو كتابة شعار على جدار، فما بالك عندما تتظاهر آلاف الناس في الشوارع. هذا في منطق النظام القائم على الحرب ومنع أي تعبير مهما كان ضيئلا عن الخلاف والاختلاف عما يقوله النظام، أي ريئسه، مؤامرة حقيقية. وهذا هو الذي يفسر ظاهرتين مترابطتين ومتكاملتين في هذا النوع من الانظمة : التقديس الكلي لشخص الرئيس، أي تحويل رجل السياسة إلى إله، يمن ويفرض ولا يحاور ولا يناقش، وهوس التآمر والمؤامرة الخارجية الذي رافق النظام منذ نشأته ولا يزال. فالاستقرار قائم على منع أي تعبير عن الاختلاف مهما كان حجمه، وظهور الاختلاف لا يمكن إلا أن يكون نتيجة مؤامرة، وهو ما يبرر عمليات التطهير السياسي المنهجية والدائمة التي لا يعيش النظام من دونها، والتي تشكل السياسية، او الفعل السياسي الأصيل الوحيد في النظام. فبغياب البنية السياسية كحلقة توسط بين سلطة المصالح والمجتمع، لا يبقى سوى منطق الحرب الدائمة والمستمرة كوسيلة لضبط الاوضاع وتجميدها ومنع أي طرف اجتماعي، بل حتى فرد، من حيازة أي موارد يمكن أن تقلل من احتكار النظام الحصري لموارد القوة: من الكلمة إلى المعلومة إلى المناصب الادارية والحريات السياسية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire