الاتحاد 6 ابريل 11
فتحت الثورة المدنية والديمقراطية للشعوب العربية آفاقا كانت الاستراتيجيات القديمة التي استخدمتها بعض حركات المعارضة السياسية قد أغلقتها عليها تماما، إن لم تساهم في تعزيز سطوة النظم الاستبدادية من خلال ما أحدثته من شروخ ومخاوف وعداوات داخل المجتمعات. بل إن هذه الثورة المدنية التي تنادي بالكرامة، بما تعنيه من احترام للفرد الانساني بوصفه كذلك، وبصرف النظر عن أصله ودينه ووضعه الاجتماعي، كما تنادي بالحرية التي تؤسس لسياسات مشاركة جميع الأفراد بصورة متساوية في الشأن العام، أي تنشد باختصار تحقيق المواطنية للجميع، ما كان من المقدر لها أن تنطلق وتتقدم وتنتصر في بعض الأقطار العربية إلا لأنها نجحت في أن تتجاوز ثقافة العصبية وتقاليد الانقسام الحزبوية وتضع نفسها على السكة ذاتها التي تحرك جميع المجتمعات اليوم وتدفعها إلى الارتقاء بوعيها وثقافتها ونظم سياستها وإدارتها إلى مستوى المباديء والقيم والممارسات الإنسانية. ونقصد بهذا المستوى الوصول إلى رؤية الانسان كإنسان، خارج كل مواصفاته الخارجية، وجعل غاية أي حياة سياسية ومدنية منظمة، تحسين شروط حياة هذا الانسان الفرد، من الناحية المعنوية والثقافية والمادية.
هذا هو المضمون العميق للأجندة التحررية التي تحرك اليوم المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج بالفعل، وتسمح لأؤلئك الذين كانوا قد هجروا الحياة السياسية، وهم الأغلبية الساحقة، بالعودة من جديد إلى ساحة العمل الوطني والاجتماعي، ومن وراء ذلك استعادة ثقتهم بأنفسهم، وأكثر من ذلك بأقرانهم الذين بقوا لفترة طويلة غرباء عنهم بسبب الانقسامات الداخلية. وفي تعبيرها عن التطلعات الجديدة والعميقة لهجر الأفراد معازلهم الطائفية والعشائرية التي فرضتها ظروف الشح السياسي على الجميع في الماضي، تعلن هذه العودة إلى ساحة العمل العام، والاستعداد للتضحية من أجلها، بما في ذلك التضحية بالأرواح، الولادة الجديدة للوطنية العربية او بالأحرى الشوق الملتهب إلى الخروج من ذل وضعية الزبائنية والمحسوبية، إلى وضعية المواطنة وما تعنيه من كرامة شخصية وممارسة للحرية والسيادة الذاتية.
من هنا ما كان من الممكن لإرادة الانعتاق التي تحملها المطالب المواطنية إلا أن تصطدم في كل مكان برزت فيه بأنماط من الحكم والإدارة البيرقراطية أو الاستبدادية التي لا يمكن أن تستمر إلا بتحييد الشعوب، ووسيلته الرئيسية تقسيمها والتعامل معها بالقطعة، كقبائل أو عشائر أو طوائف أو جهويات ومحليات، وتعزيز خصوصياتها الأهلية وإبرازها على حساب عموميتها السياسية، أي مواطنيتها. فالمواطنية لا تستقيم من دون الحرية والكرامة والمساواة بين الأفراد وتقديس الحياة القانونية، وبالتالي من دون تكون الشعب كقوة مستقلة عن العشيرة والقبيلة والعائلة والعصبية المحلية، وتدخله المباشر والدائم في تسيير شؤون الدولة واختيار ممثليه بحرية.
وما شهدناه في الأشهر الماضية من مواجهات بين النخب الحاكمة التي عملت ولا تزال المستحيل من أجل إبراز الانقسامات الأهلية داخل مجتمعاتها، وتفجيرها إذا امكن، والشعوب الناهضة لتوها من حطامها، والطامحة إلى أن توحد نفسها وتفرض إرادتها، يعكس بشكل واضح هذا الصراع على تحديد وضعية الفرد ومكانته في بلادنا العربية: وضعية الزبون التابع لزعامة عشيرته أو طائفته أو حزبه أو رئيس دولته، والملتزم من دون تفكير بكل ما يفرضه منطق المحسوبية من ولاء والتصاق والتحام أعمى، او من عصبية، أو بالعكس وضعية المواطن الحر الذي يعرف أن شرط ممارسته لهذه الحرية واحتفاظه بها وتعزيزها والارتقاء بمستوياتها ومعانيها هو احترام حرية الآخر، وتعميم المشاركة على الجميع لتحويلهم إلى رجال أحرار، فاعلين ومسؤولين، أي واعين لمعنى الحرية المدنية والسياسية.
وكما يتطلب الحفاظ على الأوضاع وأنماط الحكم الرعوية والأبوية والاستبدادية الراهنة، القائمة على إخراج الشعوب من معادلة السياسة والقوة، تكسير هذه الشعوب وتقسيمها وإجهاض روح الكرامة والحرية في كل فرد منها، وهذا ما تتكفل به العصا الأمنية الغليظة، يتطلب تحقيق المواطنية التي تجتاح بروحها اليوم الوعي العربي، الانتقال إلى نمط جديد من الحكم، وتنظيم السلطة السياسية، والعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، يكون فيها للأفراد السيادة على من يحكمونهم وليس العكس. وهذا يعني أولا انقلابا أخلاقيا، يشير إلى تغير نظرة الفرد إلى نفسه ورفضه أن يعامل، وبالتالي أن يتعامل مع غيره، كمولى وتابع وزبون ومحسوب لا إرادة خاصة له ولا استقلال ذاتي، وثانيا انقلابا فكريا يدفع بالأفراد إلى الخروج عن عصبوياتهم وانغلاقاتهم التقليدية في حجر العشيرة أو القبيلة أو الطائفة نحو فضاءات أرحب يلتقي فيها مع أقرانه في المواطنية، ومن ورائهم، مع أبناء الإنسانية، وثالثا ثورة سياسية تقودهم إلى التحرر من جميع الوصايات الأبوية، المدنية أو الطائفية، والاندماج في مغامرة تكوين رابطة الأمة السياسية التي هي التعبير الأوضح عن الانخراط في التاريخية الحضارية، وأخيرا ثورة اجتماعية تفتح الباب أمام انفتاح الجماعات الأهلية والفئات الاجتماعية والجهوية بعضها على البعض الآخر، من دون أحكام مسبقة وحسابات ماضية أو راهنة، وتقود إلى نشوء روح جماعية جديدة، تتجدد عبرها الجماعة ذاتها وتتحول إلى جماعة وطنية.
وفي هذا الصراع، ليس لنظم الحكم الأبوية والاستبدادية القائمة، وللمصالح الاجتماعية المرتبطة بها، أمل في البقاء من دون إجهاض دينامية التحرر المواطني الراهن هذا، الذي جسده شعار ثوار سورية : (واحد واحد واحد، شعب واحد)، ومن دون إحياء ذاكرة النزاعات المأساوية القديمة، وشحن العواطف البدائية، وتخويف الكل من الكل، ووضع الناس في مواجهات طائفية أو عشائرية إجبارية تفرض على كل فرد الالتحاق بعصبيته ليضمن لنفسه الحماية التي حرمته منها الدولة. والهدف من ذلك هو إجهاض الوليد في المهد، أي الشعب المواطني الحديث الحر والمتساوي، وإكراه الجميع على الانطواء ضمن عشائرهم وطوائفهم من جديد، حتى يمكن التلاعب بانقساماتهم وفرض الوصاية الأبدية عليهم.
وليس من قبيل الصدفة أن الرئيس السوري، عندما زادت عليه الضغوط الداخلية والخارجية، وأدرك أنه لا يكفي الرهان على الرصاص وقنابل الغاز الخانق لكسر إرادة الثورة الشعبية، اختار أن يفتح حواره مع زعماء العشائر الكردية في الجزيرة السورية ومع رجال الدين ووجهاء المجتمع وأعيانه في عموم المدن الأخرى، وأشار إلى ضباط المخابرات لفتح ما سموه حوارا مع الناشطين والمثقفين. يعني هذا أن النظام لا يزال يصر على إنكار الحقوق السياسية التي تعني جميع أفراد الشعب، وبالتالي على الحوار مع من يمثل هذه السمة الجمعية، من شباب الانتفاضة أو المعارضات السياسية، بل ومحاولة الالتفاف على القوى الوطنية من خلال رشوة الزعامات الدينية والقبلية، وتكثيف ضغط المخابرات على القوى السياسية الحاملة وحدها لمطالب موحدة او توحيدية، أي وطنية شاملة.
ويعني الإصرار على إدارة الأزمة عبر تلبية المطالب الجزئية لكل فئة أو عشيرة أو طائفة أو أقوامية خاصة، التصميم على رفض الاعتراف بالشعب كحقيقة سياسية، والاستمرار في استراتيجية التقسيم والتفتيت التي تهدف إلى قطع الطريق على تكون الشعب واتحاده كهوية سياسية جامعة ومشتركة، وهي الهوية التي لا يمكن قيامها إلا على أسس سياسية ومبادي وقيم إنسانية. فاستراتيجية إجهاض الثورة الديمقراطية، من حيث هي أيضا ثورة تكون الشعوب كقوة مستقلة ومصدر شرعية السلطة والحقوق المدنية والسياسية، تقوم على عدم الاعتراف داخل المجتمع سوى بما يعزز الانقسامات والتمايزات القبلية والطائفية، وعلى عدم الاستجابة إلا للأمور المطلبية الخاصة بكل قبيلة أو طائفة. وذلك من أجل تجنب الاستجابة للمطالب الديمقراطية التي تعني الجميع وتتعامل معهم كمواطنين متساوين وتتوجه إليهم كأفراد لا أبناء عشائر وقبائل وطوائف.
وبالعكس، تستدعي الاستجابة للمطالب الديمقراطية، التي تتلخص في الاعتراف بسيادة الشعب لا بالوصاية عليه، وبالمواطنة المتساوية للجميع، تجاوز التمثيل الطائفي والعشائري والجهوي، والتوجه مباشرة للمواطن كفرد، وإقرار الحقوق الأساسية للشعب ككل، أي أولا بحق الشعب في أي يقرر وحده من يحكمه، وثانيا في الحوار مع ممثليه السياسيين، أو رجال السياسة والقانون والثقافة، من أجل وضع التشريعات وتحقيق التعديلات الدستورية وتحديد الأجندة الزمنية اللازمة لترجمة مباديء الديمقراطية في الواقع العملي.
هذا النمط من الاصلاح الرامي قبل أي شيء آخر إلى تقسيم الشعب ومنعه من التكون كقوة مستقلة ومصدر للشرعية والسيادة، كما تعبر عنها النظم الديمقراطية، هو ما سعى إليه أيضا من قبل نظام مبارك عندما دفع بوزير داخليته إلى تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية لتبعث الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط، حتى يبرهن على أن الفوضى هي النتيجة الطبيعية للحرية، ويبرر استمرار نظام القمع وضرورة تجديد البيعة للسلطة الاستبدادية الأبوية. وهذا ما فعله النظام اليمني وما يفعله النظام الليبي عندما هددا بالفتنة بين القبائل، معتقدين أن الولاءات القبلية ينبغي أن تكون أسبق من الولاءات السياسية الجديدة الطامحة إلى بناء فضاءات المواطنة الرحبة والمنفتحة. وهذا ما حاول ان يفعله النظام في البحرين مؤلبا السنة على الشيعة والعكس، ونافيا لروح الوطنية البحرينية الصاعدة على انقاض اللعب بالحزازات الطائفية والمذهبية. وهذا ما يحاول أن يفعله اليوم النظام السوري الذي يسلح هؤلاء وأولئك ويشحن مشاعر الخوف والضغينة بين الطوائف.
لم يعد لهذه الأنظمة جميعا إلا رسالة واحدة، هي تفجير مجتمعاتهم من أجل الاستمرار في إخضاعها وسلب إرادتها وحرياتها ومواردها، وفرض الإذعان عليها، وشدها نحو عصور الظلام الكيئبة. وبالرغم انني على ثقة من أن الشعوب لن تضحي بحرياتها المنشودة وحلمها بحياة جديدة حرة وكريمة في سبيل سفاسف وحساسات وحسابات قديمة وانتقامات لا أخلاقية وتافهة، لا تفيد إلا الطغاة وأعداء العرب أجمعين، إلا أننا لا ينبغي أن نستهين بما يمكن أن تفعله طغم فقدت صوابها، ولم يكن لديها يوما شعور بالمسؤولية تجاه بلدانها، وما يمكن أن تنصبه للشعوب من أفخاخ تكلفها ضحايا كثيرة، وربما تؤخر يقظتها وولادتها الجديدة لسنوات طويلة قادمة. وما فعله القذافي وأفراد عائلته الذين ورطوا شعبهم في حرب جرت عليه الدمار وكرست التدخل الدولي في شؤونه، لا يزال ماثلا أمامنا. باسم هذه الشعوب المقهورة وحقها في أن تعيش بسلام وتحرز تحررها أدعو جميع المثقفين العرب والوطنيين إلى ان يرفعوا عاليا، وفي كل مكان من الأرض العربية، راية المقاومة العنيدة لاستراتيجيات الفتنة الطائفية هذه وأن يدينوا بصوت مرتفع أصحابها من النظم النظم العقيمة والمعقمة التي تفضل تدمير بلدانها على فتح باب المشاركة في السلطة لشعوبها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire