واضح أن النظام السوري لا يزال يرفض فهم ما يجري، ومن باب أولى فهم ما ينبغي فعله لمواجهة مطالب ثورة الكرامة والحرية في سورية الجديدة التي خرجت من ركامها، أو من الركام الذي تحولت إليه، سورية الشجاعة والنبيلة والأبية.
لم يفهم النظام مايجري لأنه لا يزال يردد على لسان مستشارة الرئيس السياسية الكلام الخطير والمؤسف نفسه عن أن الأزمة الراهنة هي من صنع فئات مدسوسة أو عصابات محلية فلسطينية أو أجنبية، مؤكدا رفضه الاعتراف بأن ما يحصل هو ثورة شعبية حقيقية، ومن وراء ذلك رفض المطالب الشرعية لهذا الشعب، وفي مقدمها نزع الوصاية، ونقل السلطة من القيادة القطرية التي لا نكاد نسمع لها حسا ولا إنسا، رغم أنها قيادتنا الرسمية العليا بل الأعلى، إلى برلمان وطني يتم انتخابه من قبل الشعب بنزاهة وشفافية وحرية.
ولم يفهم ما يجري لأنه لا يزال يلعب مع الشعب، بعد مرور عشرة أيام على الأحداث الدامية وسقوط مئات الشهداء وآلاف الضحايا، لعبة المستخباية الطفولية. فهو يدفع إلى الواجهة مستشارة الرئيس للشؤون السياسية، وهي أكثر من يتمتع بعدم الثقة بين جميع شخصيات النظام، عدا عن أنها لا تملك أي شرعية، لا انتخابية ولا شعبية. في الوقت الذي اختفت فيه كل شخصيات النظام ذات المسؤولية السياسية المباشرة، بدءا بالقيادة القطرية التي تعتبر نفسها مصدر السلطة في الدولة البعثية، إلى رئيس الجمهورية " مرورا بنائبيه الدائمين ورئيس وزرائه ووزرائه للداخلية والخارجية، ومسؤولي مجلس أمنه الوطني وقادة أجهزة الأمن الغائبين الحاضرين، الذين كانوا، خلال العقود الطويلة الماضية، "المحاورين" الوحيدين للناشطين السياسيين ووكلاء النظام في تركيع جميع أبناء الشعب. كل شيء يجري كما لو الأمر لم يصبح بعد على درجة من الخطورة تستدعي دخول شخصيات سياسية كبيرة إلى ساحة السياسة السورية الداخلية، أو أن دخول هؤلاء يضفي طابعا جديا على الأحداث، وربما على الوعود التي يقدمها النظام لكسب الوقت ولا يريد أن يلتزم بها إذا ما نجح في قلب اتجاه الريح لصالحه، كما كان يفعل خلال عقود طويلة ماضية.
وهو لم يفهم لأنه لا يزال يراهن على إخماد ثورة الشعب السوري بالقوة المسلحة، ولا يزال يعتقد أن بإمكانه ردع السوريين عن المشاركة في ثورة الحرية بتهديدهم بالقتل وترويعهم، لا بمخاطبتهم بمنطق السياسة والعقل. فيضيف كل يوم شهداء جددا على قائمة الشهداء السابقين.
ولم يفهم أيضا لأنه لا يزال يعتقد أن بإمكانه النجاح في إجهاض الانتفاضة السورية عن طريق اللعب على وتر الطائفية، الذي لعب عليه طويلا، والابتزاز بالفتنة المذهبية، أو بالفوضى، بل بنشر الفوضى بالفعل من خلال إطلاق يد البلطجية، أو الشبيحة بالعامية السورية، حتى يظهر للرأي العام السوري والعالمي أن القتل لا يأتي على يد قوى الامن وإنما على يد عصابات لا يستطيع هو السيطرة عليها، من مؤيدي النظام أو أنصاره. وهو بذلك يدين نفسه ، بمقدار ما يظهر استفراسه تجاه المتظاهرين العزل وقدرته على إنزال العقاب الدامي بهم، وشلل أجهزته وقادته أمام قناصة البلطجية الذين يرمون الناس، كما تقول وسائل إعلامه، من على الأسطح القريبة.
وهو لم يفهم لأنه لا يزال يردد، وربما لا يزال يعتقد بالفعل، وهذا أخطر، أن بإمكانه ايقاف مسيرة الثورة الشعبية بالتلويح بالخطر الأجنبي، أو باستجداء العطف على سياسات النظام الخارجية. ولا يدرك أنه عندما يرجع ثورة الشعب إلى مؤامرة جديدة تستهدف المواقف السورية الممانعة والمقاومة، كما جاء على لسان الناطقة الرسمية والوكيلة الحصرية للسياسة الرسمية اليوم، بعد إخفاق مؤامرة منتصف العقد الماضي الأمريكية، فهو يحول ثورة الشعب ومطالبه إلى جزء من المؤامرة الخارجية، ويحول الشعب إلى عميل للخارج، ولا يبقى عليه بعد ذلك إلا أن يطلب من الشعب الرحيل عن سورية حتى يمكن صيانة مواقفها الوطنية.
ليس هناك حكم مهما انحطت به المعايير السياسية والعقلية يسمح لنفسه ولوسائل إعلامه وما بالك بناطقيه الرسميين، أن ينظر إلى شعبه هذه النظرة التحقيرية والاتهامية، ويمعن في تجاهل مطالبه ولا يتورع عن وضعها في سلة التآمر الأجنبي. في هذه الحالة كيف يمكن للشعب أن يقتنع بأن التنازلات التي يعد بها حقيقية وليست وسيلة لاستعداة زمام الامور والانقلاب ثانية على الشعب بعد تجريده من ثورته الحالية؟ وكيف يمكن لهذا الشعب أن يثق بقيادة تؤكد كل يوم عدم ثقتها به؟ ثم ما قمية هذا الحوار الذي يعد به النظام مع "الجماهير" كما ورد على لسان الناطقة، وكيف يمكن له أن يبدأ إذا اتهم الشعب سلفا بعمله على اجندة أجنبية تستهدف وطنه نفسه الذي يستشهد أبناؤه من أجله.
الخروج من الأزمة، أي أزمة يعني التخلي عن استخدام السلاح والمرواغة والقبول بمنطق السياسة الذي هو منطق التفاوض والحوار الجدي والشفاف في جميع المسائل التي يطرحها طرف أو آخر. ومنطق التفاوض والحوار السياسي يعني : الصدق في التعامل، الاعتراف بالآخر وبمشروعيه مطالبه، الثقة به، أي الثقة بالشعب، والاعتراف بشرعية احتجاجه، وقبول الحوار مع من يختارهم الشعب ممثلين له، أي أيضا بالمعارضة السياسية كمبدأ وكواقع. ومن الواضح أن النظام لم يدخل بعد منطق السياسة ولن يدخله كما يبدو في القريب، ولا يزال يحلم بإصلاحات شكلية من داخل النظام القائم، نظام الحكم الواحد والحزب الواحد والسلطة التعسفية الفردية المطلقة، وليس بقطيعة معه. وهو المطلب الأول والرئيسي للشعب السوري.
هذا يعني أنه لا تزال هناك أمام الشعب السوري تضحيات كبيرة يقدمها ومعارك مريرة يترتب عليه خوضها قبل أن يحلم بأن يعلن مسؤولوه، كما أعلن غيرهم من قبل، أنهم فهموا ما يجري على الأرض التي يعيشون عليها وأن يتنازلوا ويتحدثوا معه، ويقروا بشرعية مطالب الشعب الذي اعتادوا على تجاهله والاستخفاف به وإنكار وجوده السياسي، وبالتالي استسهال قهره وقتل أبنائه وسجنهم وتعذيبهم.
لكن التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب السوري في الأيام العشرة الأخيرة لم تذهب سدى. ولعل أهمها وأعظمها الانتصار الرائع على حاجز الرعب والعجز والشلل الذي بنته آلة قهر لا مثيل لها ربما في المنطقة كلها، تجمع بين البطش الأمني المباشر واليومي والشامل الدعاية الميكيافيلية وازدواجية الخطاب وإلحاق جميع السلطات ومؤسسات الدولة، بما فيها الإعلام بالسلطة الأمنية. وعلى هذا الانتصار العظيم ستتأسس جميع الانتصارات الضرورية القادمة. فلن يستطيع أحد، بعد الآن، لا في الداخل ولا في الخارج، ان ينكر وجود السوريين كشعب، لا كطوائف ولا عشائر ولا ملحقات بالسلطة والنظام، ولا أن يتجاهل مطالب التغييروالاصلاح. لقد أظهر هذا الانتصار حقيقة الأوضاع السورية القائمة للجميع، بما في ذلك أصحاب النظام أنفسهم الذين كانوا يعتقدون أن كم الأفواه وتزييف الوقائع والدعاية الكاذبة، كفيلة بإخفائها، وترك الشعب السوري ضحية للقهر والاستغلال.
بيد أن غياب سلطة القرار يخلق حالة من عدم اليقين وفراغ السلطة السياسية يشجع جميع القوى غير المنضبطة للاندساس في صفوف الثورة وحرفها عن أهدافها. وحتى في الوعود التي قدمتها الناطقة باسم الرئيس لم يكن هناك أي قرار وإنما تعهدات غير واضحة وغير ملزمة تتحدث عن وعود والتزام بتعزيز وتحسين وتكوين لجان. القرارات الوحيدة التي صدرت، أو ربما صدرت، هي التي تتعلق بزيادة الرواتب والمنح المادية، مما يترجم بسهولة على أنه نوعا من الرشوة مقابل جمود الإرادة السياسية. ولعل غياب القرار ناجم كما يلمح إلى ذلك بعض المراقبين السياسيين عن اختلافات داخل القيادة، لكن يمكن أن يكون أيضا مقصودا لذاته، من أجل ترك المجال مفتوحا للقلاقل والفوضى وتخويف الرأي العام ودفعه إلى التراجع عن أهدافهم الأصلية.
وبالمثل، لا يمكن لمن يتابع ما يجري على الأرض إلا أن يلاحظ غياب القيادة الواحدة للثورة، وحاجة هذه الثورة إذا أرادت التقدم إلى رؤية سياسية أكثر وضوحا واتساقا. ما يعوض عن هذا حتى الآن أن السوريين يخوضون معركة مماثلة لما تخوضه الشعوب العربية الأخرى، وان الديمقراطية هي المطلب الأساسي للجميع، بما تعنيه من تفكيك نظام السلطة الديكتاتورية ووضع أسس نظام الحرية والانتخابات التمثيلية. بيد أن تحقيق هذا الهدف يخضع أيضا للشروط الخاصة بكل قطر، ويستدعي وجود أجندة واضحة أيضا تسمح بتعبئة القوى وحل التناقضات القائمة وتمهيد الطريق نحو الانتقال العملي لنظام الحكم الجديد. ولا يمكن بلورة مثل هذه الأجندة من دون انخراط النخبة المثقفة والمعارضة السياسية على مختلف تشكيلاتها في النقاش الوطني العام. ولا يزال هذا النقاش للأسف بعيدا جدا عن الانطلاق الفعلي.
7 commentaires:
على فكرة.. هذه ليست ديمقراطية ولا ترقى لتكون ثورة.. مهم مجرد مرتزقة
أستاذي الكريم، قطار الحرية لابد سيتوقف في سورية وقفة طويلة ولايمكن أن تكون سورية خارج خارطة العالم الجديد الذي سيصنعه المغامرون، أوحب أن أسميهم المغامروه وليس الثوار لأنهم يسيرون نحو المجهول في مكان مثل سورية. ولكني على يقين مهما اختلفت السيناريوهات أنهم ومهما طالت الفترة أو قصرت وسواء بأسلوب القذافي أو باسلوب زين العابدين ستنتهي الثورة السورية نهاية سعيدة وسعيدة جداً ولكنها تفتقر فعلا إلى انخراط الفئات الواعية والمثقفة والسياسيين الشرفاء وكلمة شرفاء هنا هامة لأنه يوجد العديد من المعارضين السياسين لسورية ولكن لا ينطبق عليهم هذا الوصف، ولهذا أن أامل بمشاركتك ودعمك للثورة السورية وكنت اليوم قد خاطبت أحد الشباب على الفيس بوك وطلبت منه مراسلتك لتوجه نصائحك وملاحظاتك للشباب ولتشتفيد دمائهم الشابه بخبرتك ، فسورية بتستاهل ؟ صح
يا دكتور يا مدير مركز بحوث في السوربون لم تلفظ كلمة درعا وحتى اليوم ان كان هناك حدث ففي درعا بدون عقد حمصية وحلبية ودمشقية حتى نحترمك كباحث فوق الصغائر
تحليل منطقي ومعالجة جميلة، لطالما كانت كتاباتك نيرة كوجهك .... شكراً د.غليون
الأستاذ غليون، شكراً على المقال. هذا رسالة لك ولكل مفكر سوري من مواطنة سورية مهجَّرة. يقلقنا بشدة كيف يحاول النظام كسب الحرب الإعلامية وتمييع الثورة. المشكلة الحقيقية أنه ليس لهذه الثورة قيادة منظمة لها مطالب محددة. ماذا يعني إلغاء قانون الطوارىء؟ لاشيء، كلنا يعرف كيف يفبرك النظام المحاكمات والإدانات. طل الملوحي هي أوضح مثال. النظام غير قابل للإصلاح والمشكلة ليست في قانون أو اثنين. المشكلة في كل المنظومة في سوريا، لأن كل خطوة تتخذها السلطة هي مهينة للذكاء الانساني كله وأبسط مثال تعديل الدستور المهين. صدقني أنا هاجرت لأنني لم أستطع التعامل مع التوريث ورؤية صور الرئيس وأبيه كالطفح الجلدي في كل مكان. ألا يحق لنا نحن السوريين أن نعيش كالبشر دون عبادة الأصنام وفداء رجل لا نطيق نظامه بروحنا ودمنا. ولدت في سوريا ولم أعرف رئيساً سوى حافظ ثم ورثني ابنه كنعجة. أناشدكم أنتم المفكرين والمثقفين أن تقفوا في صف شعبكم لإسقاط النظام الذي أخرجنا من التاريخ لمدة خمسين عاماً. ليس المهم فقط الثورة ولكن الأخطر هو مرحلة ما بعد الثورة. لا نريد أن تنزلق سوريا إلى الضياع أو أن تصبح ساحة صراع بين قوى خارجية كالسعودية وإيران. الموقف حساس ولا يحتمل التسويف من قبل المتنورين أمثالك. الثورة بدأت ونحن نساهم كل حسب استطاعته ولكن أنتم من يقودها بفكركم .
vous croyez pas que le gouvernement syrien a un point trés important dont il peut jouer dessus le fait qu'il favorise la lutte contre israel et il essayerait de faire peur aux gens que la syrie est une cible puisqu'elle est tjs avec les palestiniens et la lutte contre israel
الدكتوربرهان غليون المحترم,
أولاً إسمح لي أن اشكرك على نزاهتك وعمق
دراساتك وتحليلك.
ثأنياً يقول الفرنسيون يجب ترك الوقت للوقت, أعتقد أن النقاش الذي تتأسف على إنطلاقته الفعلية سيأتي حتماً, وسيأخذ وقته وأعتقد أنه يجب أن يأخذ وقته ومداه ومن أسباب ذلك أن الشعب السوري وأنا منهم لا يعرفون الأحرار والشرفاء الحقيقيون واﻷسباب معروفة, لا نعرف من المعارضة إلا أصحاب المصالح.
ثالثاً كتبت لشباب ليبيا أني لاأعرف كيف أعتذر لهم عن المصائب التي أورثناهم إياها وأكررها لشباب سوريا ولكل شباب الوطن العربي, شخصياً أضع نفسي تحت تصرف الشباب, هي ثورتهم وهو مستقبلهم وفوق ذلك العالم تغير كثيراً ورغم عملي على اﻹستخدام اﻷمثل للتكنولوجيا إلا أني أعتقد أنهم هم من يقررون فعلاً كيف يستخدمونها ومفاجأة فيس بوك أكبر دليل. أتمنى أن تلقى هذه الكلمات صدىً لديكم وإن حصل فأرجو من كل قلبي أن تتقدم لشبابنا بدراسة أو دراسات حول هذه النقطة توضح لهم ما يمكن أن نقدم لهم والدور الذي يمكن أن نلعبه بحسب رغبتهم ولك جزيل الشكر.
Enregistrer un commentaire