يرى مدير مركز دراسات الشرق المعاصر برهان غليون، في حواره مع الجزيرة نت، أن الثورة المصرية لن يقتصر تأثيرها على مصر فحسب بل ستعيد رسم مصير العرب والمنطقة برمتها.
يبدي المفكر غليون إيمانه الكبير بالدور الذي يلعبه المثقف الحقيقي المبشّر منذ عقود. ويتحمس، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون الجديدة في باريس، لما تشهده المنطقة العربية من حراك وعدوى نحو التحررّ، وإن كان ينبّه إلى اختلاف المسارات لدى كل دولة.
. |
|
ـ كيف تتصورون مآلات ما يحدث في مصر راهنا؟ مع مشهد انقسام الشعب إلى مؤيد ومعارض للنظام، ودخول الاخوان المسلمين حلبة الحوار.. وهل تثقون في قدرة العقل العربي على استيعاب ومواكبة كل هذه المستجدات المتلاحقة؟
برهان غليون:
ما يحدث في مصر هو ثورة شعبية عارمة ستحدد نتائجها مصير العرب ومنطقة الشرق الأوسط لعقود طويلة قادمة. وبسبب ضخافة رهاناتها الداخلية والإقليمية والدولية كانت بالضرورة معركة ضارية، تستخدم فيها كل الوسائل ويتدخل فيها العديد من القوى الداخلية والخارجية. فالأمر يتعلق أولا بتقرير مصير شعب مصر العظيم ومستقبله على أرضه، أي الاستمرار في استعباده وإخضاعه أو تحرره من نظام العسف والفساد والاستبداد والمعاملة المهينة واللاإنسانية. ويقف في مقابل شعب مصر الذي يشكل العمود الفقري للأمة العربية تآلف يجمع بين الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الغربية الخائفة من تحرر المنطقة العربية ومجموعة من القوى المحلية التي تضم، إلى جانب الأسر المافيوية التي تدير مصر بأكملها من منطق تعظيم ثرواتها وحساباتها النقدية، قطاعات واسعة من رجال المال والأعمال الذين يشكلون طبقة من الميركنتيلية التي ارتبطت مصالحها بمصالح العائلة والنظام الاستبدادي والفاسد على حد سواء، بالإضافة إلى قاعدة واسعة من القوى الزبائنية المتحكمة بمؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والإدارية والمسستفيدة من موقعها وعلاقتها الوثيقة بالعائلة الحاكمة أو بالأحرى المالكة.
كما يتعلق الأمر، أعني المعركة التاريخية الراهنة، بتحديد موقع مصر ودورها في المنطقة الشرق أوسطية، ومن وراء ذلك هوية المنطقة نفسها، والمصالح السائدة فيها، ومستقبل تطورها ومكانتها الدولية. ومن المحتم أن عودة مصر للشعب المصري الذي اختطفت منه، واستعادة هذا الشعب لسيادته وحريته في تقرير شؤونه السياسية الداخلية والخارجية، سوف يغير من الوظيفة التي قامت بها مصر في إطار النظام الإقليمي، فيحولها من حليف استراتيجي للتحالف الغربي والاسرائيلي الذي يبسط نفوذه في المنطقة ويسعى من خلال إخضاع الشعوب العربية وتحييدها إلى احتواء المقاومات المحلية والإقليمية وضمان سيطرته على منابع الطاقة الاستراتيجية وعلى أمن إسرائيل ومشروع توسعها الاستعماري، إلى قاعدة كبرى لعملية إعادة بناء المنطقة العربية وتأهيلها للدخول في عصر السيطرة الذاتية والقضاء على المشاريع والمطامع التوسعية الاسرائيلية وفتح الطريق امام ممارسة الشعوب لحقوقها الانسانية وجعل المنطقة مركزا من المراكز العالمية للتنمية الحضارية والانسانية.
من الطبيعي إذن أن نشهد المناورات الدولية والمحلية المستمرة على الثورة، ومن ضمنها السعي إلى تقسيم القوى السياسية، وربما شق الجبهة الموحدة أو الالتفاف على إمكانية قيام جبهة موحدة تجميع الشباب وقوى المعارضة المصرية في خط واضح وحاسم لتغيير النظام. وهذا هو الهدف من الحوار الذي طرحه نائب الرئيس والذي أراد فيه أن يحتوي عناصر الثورة ومطالبها داخل النظام وقواعده الدستورية والقانونية، أي في الحقيقة أن يقلب الثورة من مشروع تغيير للنظام إلى مشروع إصلاح داخل النظام. وهذا يعني الالتفاف على مطلب الثورة الحقيقي والجوهري الذي هو إقامة نظام يستمد شرعيته من الشعب، أي يكون الشعب فيه هو مصدر السلطة وصاحبها ومرجعها، بهدف الإبقاء على الوضع القائم الذي يفتقر إلى أي شرعية سوى التمسك الأعمى بدستور تمت صياغته بحسب حاجات أجندة السيطرة الغربية ومصالح قاعدتها الزبائنية المحلية، وفي مقدمها العائلة الحاكمة. وهذا هو المعنى الحقيقي لشعار التغيير مع الحفاظ على الاستقرار او ما يسمى في قاموس التصريحات الأمريكية الرسمية التي يرددها المسؤولون المصريون حرفيا، الانتقال السلمي والآمن، أو انتقال السلطة، من دون أي تحديد لمضمون هذا الانتقال. والحال أن المطلب الأول للثورة الذي هو سيد جميع المطالب الأخرى الاعتراف بأن الشعب هو مصدر السلطات، أي صاحب السيادة في البلاد، وبالتالي هو الذي يقرر وحده مصيرها واختياراتها الداخلية والخارجية، من خلال ممثلين شرعيين تم انتخابهم بحرية وفي شروط قانونية. ولا تعبر التظاهرات المليونية التي يقوم بها هذا الشعب منذ ثلاثة أسابيع، والتي تزداد اتقادا وقوة يوما بعد يوم، إلا عن هذه الحقيقة الناصعة أعني تأكيد الشعب لحقه في هذه السيادة التي انتزعت منه بالقوة والحيلة والغش والخداع، وإرادته في أن يستعيدها ممن اختطفوها منه. مما يعني بدهيا أن السلطة القائمة هي بالضرورة سلطة ساقطة لأنها تقوم على تزييف إرادة الشعب واغتصاب حقه في السيادة، كما تستند إلى نواب لا يمثلونه وإنما هم الادوات التي استخدمها ويستخدمها صاحب السلطة الفعلية للقيام بهذا التزييف وإضفاء الصفة القانونية الشكلية عليه. ففي الواقع الصراع القائم اليوم في مصر يدور حول تقرير صاحب السيادة في مصر، الشعب المصري أم النظام الكمبرادوري الذي قام بالتفاهم بين النخبة الحاكمة والولايات المتحدة الأمريكية التي التزم أمامها بسياسة إقليمية تخدم مصالحها القومية، أم الجيش وقيادة القوات المسلحة، أي القوة أو من يملك القوة والتفوق في استخدام العنف.
وفي اعتقادي أن جميع المصريين أصبحوا منخرطين اليوم في هذه الثورة أو المعركة الكبرى الداخلية لكن ذات الأبعاد الإقليمية والدولية. لكن جميعهم ليسوا على درجة واحدة من إدراك رهاناتها الكبيرة والمتعددة، الاجتماعية والإقليمية، وليس لديهم جميعا المصلحة ذاتها في تغيير التوازن السياسي والاجتماعي والاقتصادي وربما الجيوستراتيجي القائم، وبعضهم ليس على ثقة كبيرة بإمكانية الذهاب في الثورة إلى حد القطيعة مع الوصاية العسكرية والدولية، مع ايمانه بضرورة التغيير، وبعضهم يعتقد أن من الممكن البناء على ما أظهره الشعب حتى الآن من قوة لبدء مرحلة التفاوض على الانتقال نحو حكومة تعددية تضمن الحريات الأساسية، وبعضهم الآخر يعتقد أن هذه هي الفرصة التاريخية لفرض قاعدة جديدة للعمل السياسي تنطلق من التسليم النهائي بسيادة الشعب وحقه في اختيار قادته ومن يمثله ويطبق سياساته. وأن حسم المعركة لصالح سيادة الشعب ليست مستحيلة ولكنها راهنة.
على هذا التباين الطبيعي في اختيارات الاطراف والأفراد وحساسياتهم يلعب النظام القائم لبث الفرقة والاختلاف داخل صفوف الشعب، مستخدما منذ البداية الحوار والمفاوضات كأفضل وسيلة لفك التحالف الشعبي الواسع الذي كان في طريقه إلى البناء. لكنني أعتقد أن الحوار قد فشل وكان محكوما عليه بالفشل ليس في تحقيق هدفه الرئيسي هذا، أي المناورة لتقسيم قوى الثورة وقطع الطريق على بناء تحالف ثوري واسع، ولكن أيضا في تحقيق أي نتائج مع المحاورين المعتدلين أنفسهم. ولذلك انسحب القسم الأكبر منهم منه. وفي المقابل ادى انكشاف خطة النظام في استخدام الحوار كوسيلة للمناورة للاحتفاظ بالمبادرة وتشويش الرأي العام المصري، إلى رد فعل معاكس عند الشعب فتح الطريق امام نزول فئات وقطاعات جديدة إلى الشارع وساهم في توسيع دائرة التحالف الثوري، بما يجعل من هذا الحوار فارغا من المضمون تماما
أنا أعتقد أن النظام قد خسر مناورة الحوار تماما، وأن الصراع من أجل تأكيد السيادة الكاملة للشعب على أرضه وفي تقرير مصيره لم يعد هدفا بعيد المنال أبدا. لقد أصبح مع انخراط الشعب المصري بأكمله في الصراع الهدف الوحيد المطلوب والمقبول من قبل المصريين. وهذا يعني عدم القبول بأي تسوية مع النظام القائم، والاصرار على أن من يقرر مصير الشعب وخياراته هو الشعب نفسه، وأن المطلوب من النظام القائم ليس الاعداد للانتقال كما يدعي حتى يبرر التمديد لها وينتزع شرعية من العدم، وإنما الانسحاب والاستسلام للنظام الجديد النابع من الشعب نفسه. المطلوب إذن نظام جديد يستمد شرعيته من الشعب نفسه، ويلغي نظام الوصاية القائم، وصاية الرئيس او الجيش أو الطغمة الأبوية الحاكمة. وعندما نصل إلى الاعتراف بهذه القاعدة الرئيسية يمكن البحث، بين قوى الثورة المختلفة والمتعددة المصالح ،عن تسويات في ما يتعلق برزنامة تحقيق المطالب المرتبطة بتجسيد هذه السيادة، وبأسلوب التعامل مع الحقبة الماضية ومخلفاتها.
لم يعد هناك مجال للخوف. الذي يقرر مصير الثورة الآن، ليست طاولة الحوار، لكن زخم الحشود والتعبئة الشعبية. وفي اعتقادي أن الثورة المصرية تجاوزت خطر التراجع أو انحسار المد الشعبي كما يدعي أعداؤها، وسوف تجذب إليها اكثر فأكثر جماهير جديدة بدأت تتعرف على نفسها في جو الحرية وتعي عمق المأساة التي تعيشها وتستيقظ على حقوقها الطبيعية.
وهذا ما يفسر إخفاق الحوار الذي طرحه نائب الرئيس وانسحاب الاخوان منه. وفي اعتقادي سوف يدرك جمبع من شارك ويشارك في هذا الحوار أن طريقه مسدود، وليس بإمكانهم هم أنفسهم تحقيق شيء من اهدافهم الجزئية من دون استمرار ضغط الشارع والتعبئة الشعبية. ولذلك ينبغي في اعتقادي عدم التركيز على هذا الحوار والعمل على استعادة الجميع على صف الثورة وإشراكهم في القضاء على مشروعت تكريس نظام الوصاية العسكرية أو الابوية.
أما في ما يتعلق بقدرة العقل العربي على مواجهة تحديات التغيير الثوري، فالواقع نفسه يقدم الجواب. مصر كلها تغلي اليوم بحلم الثورة وترمي بنفسها في أتونها. ويجدر بنا أن نتجنب في هذه اللحظة التاريخية التشكيك بقدرات شعوبنا. ليس هناك عقل عربي او أعجمي أو غربي. هناك خيارات سياسية واستراتيجية علينا أن نناقشها بطريقة عقلية ونقدية وأن نثق بأننا قادرين ونحن قادرون بالتأكيد على تحقيق أهدافنا وإنجاز مطالبنا العادلة. وقد نغامر من دون أن ندري، عندما نطرح أسئلة من نوع ما هي قدرة العقل العربي على كذا وكذا، بتسفيه أنفسنا ومجتمعاتنا وثقافتنا بشكل غير مباشر. فالتساؤل بهذه الطريقة عن قدرة العقل العربي على استيعاب حاجات الثورة أو التغيير قد يغذي نوعا من العنصرية الموجهة نحو الذات التي تعكس استبطاننا للعنصرية التي وجهت إلينا خلال العقود الماضية والتي جعلتنا نعتقد أن لنا عقلا يختلف عن عقول بقية أبناء الانسانية، وهو الذي يفسر فشلنا في مسايرة ما يحصل في المجتمعات الاخرى. والثورة العربية الراهنة تأتي لتحطم هذا الوهم بالذات.
3 ـ رفضتم اطلاق صفة الاتكالية على الشعب المصري الذي ينتظر تحركا للجيش، معتبرا ذلك خطوة في التموقع الصحيح أي في اطار ضبط دور المؤسسة العسكرية في حماية السيادة الوطنية والقانون لكن ألا يعتبر إلتزام الحياد طيلة الوقت، في ظل كل التغيرات، سلبية لا جدوى منها! خصوصا وأن موقف الجيش كان نقطة مفصلية في الثورة التونسية؟
غليون:
الشعب المصري هو الذي فجر الانتفاضة الراهنة ولم يتكل على الجيش أو على مبادرة العسكريين لتحقيق ذلك. وهذا أمر لا يناقش. وهذا كان ردي على سؤال من قبل قناة اورونيوز يقول متى يتخلي الشعب المصري عن اتكاله على الجيش. وقلت بالفعل إن الشعب لا يتكل على الجيش في تحقيق مطالبه ولكنه يعتمد على نفسه، لكنه يسعى إلى التآخي مع الجنود حتى يكسبهم لقضيته.
وفي اعتقادي أن الجيش المصري ليس كتلة واحدة صماء بالرغم من انه مؤسسة راسخة. فقيادته مرتبطة بالتاكيد بالنظام القائم وحريصة على الوفاء بالتزاماتها الإقليمية والدولية أيضا حيث تجد لنفسها الدعم المادي والعسكري. لكن القيادة العسكرية لا تستطيع أن تقرر ما تشاء، لأن عليها أن تحسب أيضا حساب القاعدة المكونة من جنود وضباط مصريين هم أبناء الشعب وربما لا تختلف معاناتهم كثيرا إن لم تزد عن معاناة بقية طبقاته. وهذا ما يفسر الموقف الذي اتخذته القيادة العسكرية. وهو في اعتقادي ليس موقفا محايدا أبدا. لم يقمع الجيش المتظاهرين، هذا هو المكسب الرئيسي، لأن القادة كانوا يخشون أن يؤدي مثل هذا الأمر إلى تمرد القاعدة من الضباط والجنود. لكنه لم يدعم مطالب الشعب كما حصل في تونس، ولم يتخذ أي موقف لدعوة الرئيس مبارك إلى التخلي لضمان مصالح مصر الوطنية وعدم جر البلاد إلى الفوضى والعنف. وهذا يعني أنه لم يتخل عن الحكم القائم ولم يسحب تأييده عنه. كانت قيادة الجيش ايجابية تجاه الرئيس والنظام وسلبية تجاه مطالب الشعب، لكن من دون عنف حتى الآن. وفي اعتقادي أن أي مشاركة للقيادة العسكرية في قمع الثورة الشعبية تهدد تماسك الجيش ويمكن أن تدخل البلاد في حرب أهلية حقيقية. هذه أخطر مغامرة يمكن أن تتخذها القيادة العسكرية أو حكم حسني مبارك.
ـ ألا ترون أنّ ما حدث من ثورة شبابية انطلقت شرارتها في تونس ومرت على عديد دول عربية قبل أن تستقر حاليا في مصر هو تحدّ جاد للمفكر العربي الذي كثيرا ما استخف بهذا الجيل كونه جيلا لا يعوّل عليه كثيرا وبكونه جيلا مستقيلا من الشأن العام؟!
غليون: أكيد أن معظم المثقفين العرب اهتزت موازينهم في العقود الثلاثة الماضية المريرة والمؤلمة، فالتحق بعضهم بالأنظمة اعتقادا منهم أنها أصبحت قوية لا أمل بالخلاص منها ولا مهرب من التعامل معها، وفقد بعضهم الآخر، حتى عندما بقي بعيدا عن التعامل مع الانظمة، ثقته كليا بالشعب وعاش في ما يشبه المناحة والقطيعة واليتم في مجتمعه نفسه. لكن لا ينبغي هذا أن ينسينا أن قسما آخر من المثقفين استمر في المقاومة الفكرية والسياسية، وشكلت أفكاره خميرة الثورة الشبابية التي تفجرت اليوم. ولم تثن الأوضاع السيئة هؤلاء عن الايمان بأهلية الشعوب العربية ذات الثقافة التاريخية وقدرتها على الرد عندما تنضج الشروط على نظم القهر والإهانة التي تكبلها. وكان الرهان على الشباب هو أيضا أحد منابع الأمل والإلهام عندهم.
وهذا يعني أنه لا ينبغي علينا أيضا أن نخلق قطيعة نفسية جديدة بين الأجيال الشابة وغير الشابة في مجتمعاتنا المتحولة التي تحتاج للشباب وللأقل شبابا أيضا. ومن استخف في الماضي بجيل الشباب تلقن درسا لن ينساه أبدا، ولا ينبغي أن نستخف اليوم بالكهول. لا يمكن لنا أن نتقدم إلا إذا سرنا معا صفا واحدا، شبابا وكهولا وتوحدت أفكارنا وقلوبنا حول مطلب التغيير الشامل الذي يعيد لمجتمعاتنا الحيوية والوحدة والدينامية الضرورية للتنمية الانسانية التي ستصبح منذ الآن التحدي الرئيسي لنا جميعا وللثورة المجيدة التي فجرها الشباب أيضا. فالمهام المنتظرة منا لا تنتهي بتفجير الثورة وإنما تبدأ بعدها. ومن واجبنا أن ننجح في تحقيقها. وهذا ما يحتاج تضافر جميع القوى وتعاون جميع الأفراد بصرف النظر عن أعمارهم وأنسابهم ومذاهبهم الفكرية ودياناتهم.
ـ كتبتم في أول يوم من السنة الجديدة أن عام 2011 سيكون "عام القلاقل والتحولات" فبعد شذرات وجزئيات بسيطة استطعتم التنبؤ بـ "بداية دورة جديدة من الحراك الداخلي الذي يستفيد من اهتزاز وضع النظم القائمة الخارجي وتراجع ثقتها بنفسها وبحماياتها الخارجية".. إلى أين يمكن أن تصل المنطقة العربية من هذا المخاض الذي نشهده هذه الأيام؟
غليون:
في نظري كانت المنطقة العربية ناضجة للتحول نحو التعددية السياسية إذا لم نشأ الحديث عن الديمقراطية منذ الثمانينات مع انهيار مشاريع التنمية التي رعتها الدولة. لكن الأوضاع الإقليمية والسياسات الدولية هي التي شجعت النخب الحاكمة على اتباع طريق القمع والديكتاتورية. وجاءت الحرب الأمريكية على العراق الأولى والثانية لتجهض موجة الاحتجاج والنقمة الشعبية وإرادة التغيير الديمقراطي عند الشعوب العربية قبل أن تغلق سياسة الحرب العالمية على الارهاب الباب كليا أمام أي أمل في حصول إصلاحات سياسية وتعزز الانغلاق المتزايد للنظم العربية على نفسها ومحو الديمقراطية تماما من قاموس السياسة العربية.
ما نعيشه هو تصحيج عنيف للانحراف الذي دفع الأقطار العربية خارج المسار الطبيعي وفرض عليها مسارات استبدادية واستعمارية في الوقت نفسه.
ونحن ذاهبون نحو تكسير هذه الحواجز التي حالت دون الشعوب العربية والديمقراطية ودونها أيضا واستقلالها وسيادتها الوطنية. وإذا نجحنا في ذلك فسيكون كل شيء متاح بعده، من القضاء على الاحتلال إلى التعاون العربي الشامل بل ربما تكوين اتحاد عربي من الدول العربية الديمقراطية، إلى خلق شروط التنمية الاقتصادية الوطنية، إلى النهضة الفكرية والأدبية والعلمية.
ـ أصدر المثقفون العرب والمصريون بيانهم المؤيد لما أسموه هم بـ "ثورة الشباب" بعد 12 يوما عن بداية التظاهرات والاحتجاجات.. إلى أيّ مدى فقد المثقف زمام المبادرة وأضحى سائرا خلف الثورت لا أمامها؟
غليون:
لم يفقد المثقف في نظري زمام المبادرة. لقد كان معظم المثقفين الحقيقيين في موقف المبشرين بالتغيير والعاملين من اجله منذ عقود. لكن الذي يصنع التاريخ في كل مجتمع ومكان ليس المثقفين ولا الأحزاب السياسية وإنما الشعوب نفسها. البطل الحقيقي كان وهو اليوم وسيظل الشعب. وما لم تنضج روح الثورة في الشعب ويتحقق التواصل بين أعضائه، وتشتعل فيه الخميرة الأخلاقية، لا يستطيع المثقف ولا الحزب السياسي أن يفعل شيئا. والشباب ليسوا بمعزل عن الشعب أو خارجه، وإنما هم جزء منه. وكانوا هم أيضا وسيلة تواصله وفتيلة اشتعاله.
وعندما نقول إن الثورات العربية الجديدة من فعل الشباب فليس المقصود بذلك صغر السن فحسب، وإنما صدور المبادرة من الشعب وليس من المنظمات السياسية أو الطبقات المرتبطة بالسلطة، سواء أكانت سلطة سياسية أم اجتماعية أم ثقافية. ينبغي بالعكس مساعدة المثقفين المخلصين على الالتحاق بالمبادرة والانخراط في الثورة والمشاركة الفعالة فيها. فنحن بحاجة للجميع، ما لم يكن أحدهم قد ارتكب جرما واضحا بحق الجماعة الوطنية.
ـ دائما ما تحتاج الثورة إلى فئة نخبوية تؤطرها وتدعم هيكلها.. هل ماتزال هناك امكانية في استعادة المثقف لدوره الحقيقي الفعال، والقيام بما يجب القيام به قبل أن تسرق هذه الثورات ويشوه مسارها الطبيعي؟
ليس تفجير الثورة أو النجاح في قلب النظام القائم هو نهاية المطاف وإنما هو بداية المسيرة الطويلة نحو التغيير. وفي معركة التغيير هذه لا تكفي الشجاعة ولا المبادرة وإنما لا بد من بناء مؤسسات فاعلة واقتراح خطط وبرامج اجتماعية للمثقفين ورجال السياسة دور كبير في بلورتها وتطوير النقاش من حولها وإنضاجها. ما قصر فيه المثقفون قبل الثورة يمكن ان يعوضونه ما بعد الثورة. المهم أن لا نخلق كما قلت قطيعة لا معنى لها ولا وجود بين الشعب ومثقفيه وقواه السياسية المنظمة. وقد أثر في كثيرا كلام روائية عربية معروفة التقيتها منذ أيام واعترفت لي بأنها تريد أن تعتذر للشعب العربي لأنها وصلت قبل الانتفاضات الراهنة إلى درجة من اليأس والاحباط فقدت ايمانها بالشعوب العربية وبقدرتها على الارتفاع إلى مستوى الحياة الاخلاقية والكفاح من اجل الحرية والعدالة الانسانية. بل وصلت إلى حد أنها لم تعد تشعر بنفسها أنها عربية أو لا تريد أن تعلن عن عروبتها. وهي تقول اليوم إنها فخورة فعلا بانتمائها العربي. وأعتقد أن هذا الشعور مشترك بين الجميع.
والقصد من هذا أننا لا ينبغي أن نجعل من خطأ الناس أو جهلهم أو ضعفهم أو سرعة احباطهم سببا لإدانتهم والتخلي عنهم، فندخل في المدخل السيء نفسه الذي دخل فيه من نثور اليوم ضدهم. علينا بالعكس أن نؤكد ثقتنا بالجميع وايماننا بأنهم قادرين، ولو على درجات متفاوتة، على أن يكونوا مواطنين أو جديرين بصفة المواطنية بما تعنيه من مقدرة على السلوك الاجتماعي على قاعدة قانونية وسياسية وأخلاقية. وأن نقبل الخطأ كشرط إنساني ونتقبل الاعتذار ونتجنب كل أشكال العزل والإدانة والابعاد بسبب الاختلاف في الرأي أو التقييم أو الالتزام. المواطنية تستحق بالعمل من دون شك، ولكنها حق مسلم به للجميع ما لم تقع من بعضهم ممارسات تخل بالالتزامات الجماعية.
ـ هل ننتظر، مستقبلا، انتفاضة باقي الدول العربية بهوامش واسعة ونتائج ايجابية؟!
منذ انطلاقها اعتقدت أن الانتفاضة التونسية ليست تونسية فحسب ولكنها مقدمة لانتفاضات عربية قادمة لا محالة، لا بسبب تشابه الأحوال والنظم الحاكمة فحسب، وإنما بسبب تماثل العوامل الداخلية والخارجية أيضا التي عززت نظم الحكم البوليسي وعممتها على بلدان المنطقة العربية بأكملها، وقطعت طريق التغيير والاصلاح بالصورة نفسها تقريبا في كل الأقطار. من هنا وضعت لأول مقال كتبته حول هذه الثورة عنوان: تونس تفتح طريق الحرية للعرب. ولم يمض أسبوع على انتصار الثورة التونسية حتى اندلعت شرارة الثورة المصرية الكبرى التي سوف تغير موازين القوى واتجاهات الفكر والممارسة في المنطقة العربية بأكملها.
لكن قلت أيضا أننا لا ينبغي أن نتوقع حصول هذا التغيير حسب الأنماط نفسها والمسارات ذاتها. وأن الثورة التي انطلقت من تونس شكلت خميرة قوية سوف تدفع إلى اختمار العجين العربي في كل مكان. إنما لن يكون هذا الاختمار منفصلا عن نوعية العجين والمناخ العام الذي يحيط به وحرارة الجو والمجتمع. فحيث تكون العوامل ملائمة ستنطلق الثورة على الفور كما حصل في مصر وتتحول إلى ثورة شاملة. لكنها يمكن أن تبدأ بإرهاصات مديدة وتستمر لوقت طويل في أقطار أخرى، كما أن من الممكن لبعض النظم أن تتعلم من أخطاء غيرها وتقوم ببعض الاصلاحات التي تبرد الجو أو تخفف من حرارة المجتمع وتؤجل الثورة أو تغير من نمط إنجازها.
لكن ما نستطيع أن نؤكده هو أولا أن العالم العربي لن يكون بعد الثورة التونسية، ثم أكثر المصرية، كما كان قبلها، وذلك على جميع الأصعدة، النفسية والثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. وثانيا أن التغيير الذي سيحصل سيتمحور أساسا على أجندة تحررية تعنى بمكانة الفرد ودوره ومعاملته ومشاركته الاجتماعية، وتفتح باب البناء الديمقراطي الذي كان تغييبه والعمل ضده الاستراتيجية الرئيسية التي استخدمها التحالف الأمريكي الاسرائيلي الغربي وتوابعه العربية من أجل إحكام السيطرة على الشعوب العربية وتحييدها في معركة التحكم بمصير المنطقة الشرق أوسطية ، التي حددت وظيفتها بتوفير الطاقة النفطية الرخيصة للدول الصناعية، وبتكوين بيئة جيوستراتيجية وسياسية ملائمة لتأمين الدولة اليهودية وتعزيز قوتها وتفوقها الاستراتيجي الساحق وضمان ازدهارها، على حساب الشعوب العربية والتضحية بحقوقها الانسانية الأساسية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire