الوطن 15 يناير 2011
لعل إخفاق العرب في عملية الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي، أي باختصار في تجربتهم التحديثية، هي الآن السؤال الأكبر الذي يطرحه العرب على أنفسهم كما يطرحه غير العرب أيضا بخصوص مصير العالم العربي الذي لا يبدو مرضيا لأحد. وهو السؤال التاريخي المطروح فعلا اليوم.
بالتأكيد لا يستطيع أحد أن يحيط بجميع عناصر هذه المشكلة أو يمسك بجميع العوامل التي ساهمت في تحديد مصير العرب كما هو عليه اليوم. لكننا نستطيع أن نعطي رأيا خاصا انطلاقا من الخبرة الشخصية ونوعية المعرفة التي نتسلح بها، العلمية وغير العلمية.
وأول ما يخطر لي في هذا المجال للرد على هذا السؤال الكبير هو أن مفهوم الإخفاق نفسه يحتاج إلى تدقيق ليكون أقرب للصواب. فعرب اليوم ليسوا، بالرغم من المشاكل العديدة التي تعاني منها مجتمعاتهم على جميع المستويات، عرب القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين أو حتى منتصفه. فهم اليوم مجتمعات حديثة من دون شك، أي أعادت تنظيم نفسها من منطلقات الرد على حاجات الحياة الحديثة، وانخرطت من اجل ذلك في بناء مؤسسات تماثل في المظهر على الأقل مؤسسات المجتمعات الحديثة بما في ذلك الدولة والاقتصاد الرأسمالي والمجتمع المدني والقانون والتشريع، ومن باب أولى نظم الصحة والتعليم والنقل والمواصلات والاتصالات إلخ. وهدفي القول إن تحولا عميقا قد حصل. وأن المشكلة ليست مشكلة جمود أو انغلاق على النماذج والنظم القديمة، وإنما هي في النظم الحديثة، او في نوعية مؤسسات الحداثة ونوعية القيم التي استوعبت منها. ولذلك قلت دائما في كتاباتي أن اصل المشكلة هو الحداثة الرثة التي استنبتها العرب في عالمهم وليست مشكلة ثقافتهم أو قيمهم أو مؤسساتهم القديمة بما فيها الدين والقبيلة والقيم التقليدية. فلا يفسر استمرار عمل هذه القيم سوى نقص فاعلية ونجاعة مؤسسات وقيم الحداثة التي أصبحت هي المؤطر لمجتمعات العربي والمحرك لسياساتهم وسلوك أفرادهم.
الآن كيف نفسر نشوء هذا النمط من الحداثة المشوهة المسؤولة عن تخبط العرب اليوم وعدم مقدرتهم على الانجاز المرضي، في الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلم والتقنية على حد سواء، وضعف مصادر الابداع في هذه المجتمعات أيضا؟
في نظري أن مصير المجتمعات، أي نمط تحولها وتبدلها هو محصلة تفاعل وعيها الذاتي، أي مقدرتها أيضا على الارتفاع عن شروط الواقع والتطلع إلى المستقبل، من جهة والظروف الموضوعية المفروضة عليها والتي لا تختارها. فالشعوب لا تختار مثلا تراثها التاريخي، الثقافي والاجتماعي والرمزي، ولا موقعها الجيوسياسي والاستراتيجي، ولا مناخها ولا حتى مواردها الاقتصادية والمادية عموما. وعلى قدرتها على التوفيق بين معطيات واقعها الموضوعي وتطلعاتها الجديدة النابعة من تطور وعيها الذاتي الحر والمستقل والنقدي يتوقف حظها من النجاح في التقدم والتحول التاريخي.
وفي اعتقادي أن الذي أجهض سعي العرب الحثيث والمبكر - منذ منتصف القرن التاسع عشر على الأقل - للانخراط في الحداثة والدخول في عصرها وتمثل معاييرها واستنبات مؤسساتها، ليس ضعف الوعي بحاجات التغيير وضرورته، ولا العجز عن فهم معنى التغيير او رفض قيمه ومعاييره. فقد قام الفكر العربي الحديث، منذ النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم عبر الحركة الاصلاحية الدينية الاسلامية حتى بداية القرن العشرين، وخلال النصف الأول من هذا القرن عبر انتشار الأفكار القومية والماركسية والوضعانية والعلوم إنسانية الحديثة، على تبني خيار الحداثة وتأكيد كونيتها ثم مطابقتها للقيم والاحكام الدينية وأخيرا صلاحها للتطبيق، كما حصل مع القومية والاشتراكية، في المجتمعات العربية.
بالعكس، أعتقد أن سبب الإجهاض، وبالتالي تحول الحداثة التي كانت مشروعا واعدا إلى حداثة ميتة وميكانيكية، أي شكلية وخارجية، لا روح ملهمة فيها ولا قيما إنسانية، هو عدم إدراك العرب لشروط تحقيق حلمهم الحداثي الموضوعية. لقد عاملوا أنفسهم كما لو كانوا مماثلين لغيرهم من الشعوب الأوروبية التي دخلت الحداثة قبلهم، ولم ينظروا في الشروط الخاصة التي تميز عملية دخولهم في الحداثة، وفي مقدمها تراثهم الضخم الذي يحتاج لنقد وغربلة وصهر وتحرير من قيم الماضي المستبطنة، وهياكل مجتمعاتهم المدنية الخربة، وسياق ممارستهم التاريخية المرتبط بالهيمنة الاستعمارية وعدم التساوي في القوة والسيادة والوزن. فصارت حالتهم حالة ذلك الجيش الذي اخترق حدود العدو بأقصى ما استطاعه من قوة وسرعة، متسلحا بحماسة وإرادته القوية، قبل أن يجد نفسه محاصرا بمراكز دفاعات العدو التي تركها وراءه، والتف عليها.
باختصار ضعف وعينا بواقعنا الموضوعي وتقديرنا لقوة مقاومته، واعتدادنا بانفسنا وقوانا الذاتية أو بإرادتنا القوية، وعدم تخطيطنا العقلاني والرشيد لخطة طريقنا ووسائل تنظيم مقاومتنا للمصاعب والعقبات، واعتقادنا أن كل المصاعب يمكن حلها بالإرادة والتصميم فحسب، كل ذلك هو الذي أدى إلى فشلنا، وليس أبدا غياب إرادة التحديث أو رفض قيم الحداثة أو عجزنا عن التفاعل معها. فمن شدة تعلقنا بقيم الحداثة وافتتاننا بها، فقدنا النظر العقلاني بواقعنا الفعلي وشروط تحديثنا، واستسهلنا الدخول في العصر، ولم نقدر حجم التضحيات والاستثمارات الأولية المطلوبة منا كي ننجح في استيعاب قيم الحداثة الحقيقية وشروط الدخول فيها. ولأننا أردناها سريعة وجاهزة حولناها إلى وجبة سريعة، وحصلنا في النهاية على الطبعة التي نعرفها اليوم منها، أي على حداثة إستهلاكية فيها كل ما يميز الحداثة من حيث المظهر، لكن من دون المحرك والكيمياء الداخلية التي تشكل مصدر نموها وتقدمها، وهي القيم الانسانية. والطريق هو العمل الجدي والطويل النفس على أنفسنا نحن كأفراد وعلى شعوبنا ومجتمعاتنا لنعدها للعصر ونؤهلها لدخوله والتفاعل معه ونزودها بالمعارف والعلوم والقيم التي تسمح لها بأن تدخله بثقة وقناعة وتشارك في إبداعاته وإنتاجه بفاعلية، لا كإمعات مستلبة أو فقاعات تهوم فوقه وتردد كالببغاوات ما تفرزه حداثة المجتمعات الأخرى.
باختصار لا توجد حداثة ولا حرية ولا وطنية ولا سيادة ولا ديمقراطية ولا منظومة أخلاقية إنسانية بثمن بخس، أو بالمجان. نوعية ما نحصل عليه مرتبطة بالثمن الذي ندفعه فيه. الجهد أو الاستثمار الرخيص يأتي بحداثة رخيصة وسوقية. وهذا موجه بالدرجة الأولى إلى النخب الاجتماعية التي هي المسؤولة عن هذا الاستثمار والمطالبة به.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire