الاتحاد 14 يناير 2011
الوطنية وأفكارها، ومشاعر التضامن الوطني المرتبطة بها، في ما وراء الانتماءات والولاءات المذهبية والعشائرية، نبتة حية تحتاج كي تستمر إلى أن تسقى وتتغذى باستمرار. وإذا أهملت ماتت، وعاد للظهور من جديد نمط الولاءات والانتماءات القديم القائم على العصبية، خاصة في دولنا التي لا تزال الروح الوطنية فيها نبتة غضة طرية، ولم تعركها القرون والتجارب، كما هو الحال في البلدان الأوروبية أو حتى البلدان الأخرى.
والحال أن ما حصل لهذه النبتة الطرية للوطنية التي انبثقت في الكفاح ضد الاحتلال الأجنبي ومن أجل الاستقلال، الذي يشكل البيئة الحقيقية لنشوئها، جاء مناقضا تماما لما كانت تحتاج إليه حتى تنمو وتزدهر وتمد جذورها لتصبح قادرة على مقاومة العواصف والامتحانات الصعبة. ومنذ عقود طويلة وهي تتعرض لهزات قوية زعزعت فكرتها، قبل أن تأتي السياسات الاقتصادية والاجتماعية لعمليات الانفتاح الاقتصادي والتكيف السلبي مع السوق العالمية المفتوحة لتجعل من التربة التي تعيش فيها صحراءا قاحلة.
فالولاء الوطني قيمة لا يكون لها معنى إلا بمقدار ما يتحقق وجودها في الحياة اليومية لكل فرد من أفراد المجتمع. ومعناها، أو ما يجعل من الولاء العام للأمة كجماعة مواطنين، أولوية على الانتماءات والولاءات ما قبل الوطنية، أو القومية ببعض مصطلحاتنا، هو وجود التضامن والتكافل بين الأفراد المكونين لها بالفعل. والتضامن والتكافل في إطار الرابطة الوطنية لا يتحقق عمليا إلا من خلال الدولة التي تنظم هذا التكافل الذي ينبغي أن يتجاوز بالضرورة أطر العائلة والعشيرة والطائفة ، كما ترعى شؤون الأفراد وتنسق نشاطاتهم وممارساتهم التضامنية. فوجود الوطنية لا ينفصل عن الخيارات السياسية والاقتصادية الهادفة إلى تحقيق الغايات الرئيسية لأي رابطة اجتماعية، بناء اقتصاد يضمن للجميع البقاء والارتقاء في شروط الحياة، وهذا يعني تبني سياسات تشجع على ازدهار الاقتصاد وتطوير الانتاج وخلق فرص العمل للأجيال الجديدة وتحسين شروط توزيع الدخل ومكافحة كل ما يدفع إلى القطيعة بين النخبة والشعب، أو يسمح باستمرار تهميش فئات واسعة أو عزلها أو التمييز ضدها، بأي شكل كان. ويدخل في ذلك أيضا تحقيق الضمان الصحي والتأمين ضد البطالة ومحاربة الفقر. كما يعني وجود نظام سياسي يعمل على دمج الأفراد والفئات المعزولة أو التي استبعدت لفترات سابقة طويلة عن الحياة العمومية ودوائر القرار، وتعزيز مشاركتها أو نصيبها من المشاركة. ولذلك كانت عملية كسر الحواجز التي تركها الإرث الإقطاعي بين أهل الريف وأهل المدن، والقضاء على الأحكام المسبقة السلبية التي كان يخضع لها الفلاحون المغلوبون على أمرهم، وتحويلهم جميعا إلى مواطنين متساوين، شرطا أساسيا لتكوين القومية أو الأمة في كل مكان.
وفي هذا المنطق ذاته يدخل نظام الديمقراطية بوصفه النظام الذي يطبق قانونا واحدا وبمعاييرواحدة على الجميع، ويعطي لكل فرد، مهما كان مذهبه أو دينه أو أصله الاجتماعي أو دخله المادي صوتا واحدا، مثيلا لصوت غيره، ويؤسس للحراك الاجتماعي، أو يفتح آفاق الارتقاء للجميع بالتساوي من خلال كسر الاحتكارات الطائفية والأصنافية وإتاحة الفرصة أمام الجميع لاحتلال جميع المناصب السياسية وغير السياسية على أساس التنافس في الكفاءة، ولا يجعل بعض المناصب، أو المواقع أو مستويات العمل والنشاط أو المهن، خاصة بفئة دون أخرى. وهذا ما يعبر عنه مبدأ التنافس على المناصب جميعا بمعيار الكفاءة والمهارات الشخصية، لا بمعيار النسب والحسب، وكذلك بمبدأ التداول على مناصب المسؤولية، وفي مقدمها المناصب السياسية والإدارية العليا، حتى لا تصبح السلطة أو الثروة حكرا على جماعة أو طبقة أو طائفة لوحدها.
وهي تعني كذلك بناء روح المواطنة وثقافتها ومفهومها، أي احترام الإنسان لكونه مواطنا، ومهما كانت حالته المادية أو الثقافية، ووظيفته وعمله ودينه ومذهبه واعتقاداته، والقضاء على أولوية الحسب والنسب في ارتقاء مناصب المسؤولية العمومية. وغرز الشعور بأنه لا يوجد حق لأي فرد من دون واجب، وأن وجود الحق نفسه مرتبط بتبادل هذا الاحترام. وهذا ما يؤدي إلى نشوء فكرة القانون الذي يعني أن ضمان حقي مرتبط بضماني حق الآخرين على نفس المستوى وحسب نفس الشروط، بحيث لا أطبق على نفسي ما أرفض تطبيقه على الآخرين أو العكس. ومن هنا يشكل احترام القانون المتساوي، المؤسس للحق، بالمعني الحديث، أي السياسي للكلمة، الأساس الأول لقيام دولة الأمة. بل إن الفكرة القومية أو الوطنية لا تنشأ إلا بمقدار ما تترسخ فكرة القانون، أي القبول بالخضوع لقانون واحد وتطبيقه بطريقة مماثلة، ويصبح القانون هو المرجع في علاقات المواطنين في ما بينهم، وفي علاقتهم مع الدولة أو النخب الممسكة بالسلطة، وليس شيئا آخر، أو أي عصبية دينية أو قبلية.
فمن دون استبطان قانون واحد لا يميز بين أحد، وبناء ثقافة القانون، التي تعني احترامي لحق الآخر هو ضمانة حصولي على حقي ومصدر شرعيته، لا توجد رابطة سياسية، أي وطنية. ولا يمكن استبطان القانون إلا عندما تتحول الممارسة الاجتماعية إلى ممارسة قانونية، أي عندما يظهر في الواقع اليومي أثر القانون وأثر احترامه وتحديده الفعلي لمواقع الأفراد ومكانتهم وتقديرهم، وعندما تعمل النخبة الاجتماعية القائدة للمجتمع على تحقيق قيم المساواة القانونية وتطوير وتبني سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية تساعد على تعميقها وتكريسها في الواقع العملي.
وطالما بقيت العصبية الدينية والقبلية أكثر ضمانا للتضامن والتكافل بين الأفراد أو قسما كبيرا منهم، لن تكون هناك رابطة وطنية فعلية، أي نشطة وحية وفاعلة، حتى لو درج الحديث عنها على مستوى اللفظ والخطاب. فالهدف من أي رابطة كما ذكرت هو تأمين المهام الأساسية المطلوبة منها لحياة الانسان بوصفه اجتماعيا بالضرورة، وهي المعيشة والأمن والسعادة المرتبطة بإمكانية الترقي في الأفكار والسلوك والعوائد والقيم والمعاني والمشاعر والنفوس.
من هذا التحليل يظهر أن الوطنية ليست أغنية وعلما ونشيدا، ولا تستمر إذا بقيت على هذا المستوى. إنها برنامج عمل تاريخي، أي هي مشروع حي وغير ناجز تعمل النخب على تحقيقه بمقدار ما تتبنى السياسات التي تقود إلى المزيد من دمج الأفراد المنتمين إلى مذاهب واديان وقبائل مختلفة ومتعددة، في رابطة جديدة، هي رابطة التضامن الوطني، التي تجعل منهم جماعة جديدة تتجاوز الجماعات الجزئية التي تكونت منها. وما لم يتحقق برنامج الدمج هذا، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، فلن تنشأ عصبية وطنية قوية قادرة على تجاوز العصبيات التقليدية، وسيستمر الفرد في إعطاء ولائه للطائفة أو المذهب أو الدين او القبيلة الأولوية على الولاء للرابطة السياسية، او الدولة. ولن تتحول الدولة عندئذ إلى دولة أمة، أي إلى دولة جميع مواطنيها، وإنما ستبقى دولة سلطنة، ملك الفئة الإتنية أو الدينية أو القبلية التي تمسك بها، وما تبقى من الجماعات هي ملحقة بها، أي خاضعة لإرادتها وعاملة من أجل ضمان مصالحها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire