الاتحاد 29 ديسمبر 2010
في أقل من شهر دعيت إلى المشاركة في أربع ندوات تبحث في العلاقات العربية الايرانية، شارك فيها الكثير من الباحثين العرب وأحيانا مع شركاء ايرانيين وقليل من الأتراك. وكان بعضها في دول الخليج العربي أو بدعوة من مراكز خليجية. لا يعكس هذا الطلب المتزايد على دراسة العلاقات بين ايران والعرب تغيرا ايجابيا في تصور العلاقة التي تجمع بين الطرفين عند أطراف النخبة العربية والرأي العام. فلا تزال ايران تشكل بالنسبة للقسم الأكبر من الحكومات العربية مصدرا رئيسيا للتهديد، بل المصدر الرئيسي له، بسبب ما تسعى إليه من مراكمة القوة العسكرية، وما تطمح إليه من لعب دور قيادي في المنطقة المشرقية، وما تحظى به، أو ما أصبحت تمتلكه بالفعل، بخلاف الدول الإقليمية الأخرى جميعا، من قواعد مادية وسياسية وتقنية لمد نفوذها في بلدان العالم العربي، رسميا وشعبيا. كما أن صورتها لم تهتز عند قطاعات الرأي العام العربي، خاصة تلك التيارات القومية واليسارية التي تستفزها سياسات إسرائيل والغرب المماليء لها. فهي لا تزال تمثل في نظر الكثيرين تلك القوة الإقليمية التي انقلبت بفضل الثورة الاسلامية التي شهدتها في الثمانينات من القرن الماضي من دولة عدوة معلنة للقضية الفلسطينية وحارسا للمصالح الغربية في الخليج، إلى قوة معادية للغرب ومناصرة للقضية الفلسطينية وشريكة للعرب في تأكيد الهوية الاسلامية التي تحولت إلى مكسر عصا لجميع التيارات اليمينية في تنافسها على السلطة في الدائرة الغربية.
وبالمثل لم يطرأ أي تغير جوهري على سياسة طهران التقليدية تجاه المنطقة المشرقية. فهي لم تتخل عن مشروعها النووي الذي يثير قلق جيرانها، خاصة في الخليج، ورفض جميع المبادرات الرامية إلى حرمان طهران مما تعتبره حقها الطبيعي في امتلاك التقنية النووية المتطورة وتحقيق التخصيب على أراضيها. بل ليس من المبالغة القول إنها لم تكن في أي وقت مضى قريبة من تحقيق هدفها هذا، وربما التحول خلال سنوات قليلة إلى قوة نووية عسكرية، كما هي الآن، وذلك بصرف النظر عن الحصار المفروض عليها والعقوبات التي تتعرض لها منذ عقود. وبالرغم من زيارات وخطابات التطمين التي قام بها ولا يزال يقوم بها العديد من مسؤوليها إلى العواصم العربية، لم تتراجع طهران عن أي من خياراتها الاستراتيجية الإقليمية التي اعتمدت على دعم قوى الممانعة، أو ما اطلقت عليه هذا الاسم. وما كان للسياسة التي مارستها في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وفي ظل الاحتلال الأمريكي، إلا أن يزيد من مخاوف الدول العربية من سياسة المحاور التي تتبعها، ويعمق الشك في إمكانية التوصل مع ايران إلى تفاهم يضمن الحد الأدنى من التعاون والتنيسق السياسي والأمني.
وهذا يعني أن تنامي الطلب على دراسة العلاقات العربية الايرانية لا يعكس ازدياد الأمل في تحقيق اختراق في هذا الميدان يسمح بإعادة بناء هذه العلاقات على أسس أفضل، ويزيل أو يخفف القلق الناجم عن الدور المفارق الذي تلعبه ايران، في سياق الانقسام العربي وغياب أي أجندة أمنية عربية، عند الحكومات العربية والرأي العام. ربما كان يشير، بالعكس من ذلك، إلى تزايد شك العرب في الأعوام القليلة الماضية في تماسك سياساتهم الأمنية وقلقهم من تنامي عوامل الحت في الأسس التي كانت تقوم عليها هذه السياسات، بما في ذلك تجاه ايران. ومن هذه العوامل وأهمها انحسار الثقة بقوة الردع الامريكية وصدقية واشنطن الاستراتيجية في منطقة شهدت فيها استراتيجية الدولة الأعظم ولا تزال نكسات حقيقية، إن لم نتحدث عن انهيار سياستها الشرق أوسطية. وهذا ما يعبر عنه بشكل واضح المصير المأساوي لمبادرة الإدارة الأمريكية السابقة لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الموسع، واضطرار واشنطن إلى العودة إلى سياسة تعزيز الاستقرار والحفاظ على الوضع القائم السابقة، وخسارتها الحرب في العراق مجانا لصالح خصمها الايراني اللدود الذي لم يشارك في الحرب، بالإضافة إلى فشل الإدارة الأمريكية الديمقراطية لباراك أوباما في احتواء طالبان وتحقيق النتائج المنشودة في الحرب الأفغانية، وأخيرا، وليس الأقل أهمية، انكشاف العجز الأمريكي المريب في مسألة وقف سياسة التوسع الاستيطاني الاسرائيلي، فما بالك بفرض حل الدولتين الذي بشر به الرئيس الأمريكي للعام 2011 في فلسطين التاريخية، أي إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وإنهاء النزاع العربي الاسرائيلي بأكمله. ومن المؤكد أن انحسار الثقة بالصدقية الاستراتيجية الأمريكية لا يساعد أقطار المنطقة التي تعتمد بشكل أساسي في أمنها على قوة الردع الأمريكية على الشعور بالأمن والاستقرار، وربما يدفعها إلى البحث عن حلول بديلة ممكنة.
والعامل الثاني هو ما يبدو على طهران من تنامي الثقة بنفسها، في موازاة تعثر المساعي الغربية لوقف مساعيها للحصول على التنقية النووية، سواء أكان ذلك عن طريق فرض العقوبات عليها أو التهديد بعملية عسكرية، لا يكاد أحد يعتقد بعد بنجاعتها أو حتى بإمكانية تحقيقها، بما في ذلك أكثر الدول حماسا لعملية "جراحية" تقضي مرة واحدة وإلى الأبد على قدرات طهران النووية. وهذه الثقة المتزايدة بالنفس، بالرغم من جميع المصاعب الداخلية التي تعاني منها الجمهورية الاسلامية، هي التي تفسر تصاعد اللهجة القومية عند القيادة الايرانية وحرصها المتزايد على التعبير عن مطالبها السياسية وعدم ترددها في تأكيد حقها في امتلاك التقنية النووية بموازاة المطالبة العلنية بلعب دور رئيسي في السياسات الإقليمية، بل وضع هذا الحق في مقدمة أهدافها السياسية.
أما العامل الثالث الذي يكمن وراء قلق الأطراف العربية فهو من دون شك تأكد عجز العرب الملفت عن التوصل في ما بينهم إلى أي نوع من التفاهم حول أجندة أمنية تساعدهم على مواجهة التهديدات المتزايدة هنا وهناك، وتتيح لهم المشاركة ولو بدور ثانوي في تحديد هوية النظام الإقليمي الذي هو الآن قيد التكوين، وضمان الحد الأدنى من توازن القوى الذي يمنع من تحويلهم إلى فريسة تتقاسمها القوى الدولية والإقليمية. وهذا ما عبر عنه على أفضل وجه مؤتمر مداولات آخر القمم العربية التي عقدت في مدينة سرت الليبية في 10/10/2010. وهو المؤتمر الذي فشل في كل شيء تقريبا، وبشكل خاص في معالجة مسألة تصاعد وزن القوى الإقليمية في سياق تدهور استراتيجيات الحماية الأجنبية التقليدية وتعثر مشروع الحل السياسي للمسألة الفلسطينية.
أمام زوال أي أمل ببلوة أجندة أمنية عربية لايمكن من دونها مواجهة أي مشكلة من المشاكل السياسية والاستراتيجية المطروحة على الدول العربية، أقطارا ومجموعات، لا يكاد العرب يجدون حلا لمشاكلهم الأمنية في نهاية هذه العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين غير الرهان على قوى إقليمية صاعدة أخرى توازن صعود القوة الايرانية. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يتحول مركز الاهتمام مباشرة نحو تركيا، وتحل المراهنات على دورها الإقليمي الايجابي محل الجهد المطلوب لتكوين قوة توازن عربية، يشكل الافتقار إليها المصدر الأول للشك والقلق والاضطراب في منطقة يمثل العرب، بما لا يقاس، كتلتها السكانية الرئيسية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire