ااتحاد 15 ديسمبر 2010
بصرف النظر عن الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية إلى إعلان تراجعها عن مشروع المفاوضات المباشرة الاسرائيلية الفلسطينية، وتخليها عن شرط تجميد الاستيطان، وهي أسباب معروفة للداني والقاصي، يشكل إخفاق مبادرة السلام الامريكية التي وضعها الرئيس باراك أوباما في رأس قائمة برنامجه لمصالحة أمريكا مع العالم العربي والاسلامي، اعترافا مدويا بإخفاق جهود التسوية السلمية ووصول مبادرات السلام جميعا، الغربية والعربية معا، إلى طريق مسدود. وهي المبادرات التي مضى عليها الآن ما يقارب الثلاثين عاما منذ إطلاق مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. ولا تستطيع المفاوضات غير المباشرة والجانبية التي تريد الإدارة الأمريكية الآن استخدامها لتقريب وجهات النظر، كما يقول مسؤولوها، أن تغطي على تداعي صدقية الدبلوماسبة الأمريكية ، وليس بإمكانها أن تقنع أحدا بأنه لا يزال هناك حظ، مهما كان ضيئلا، للتوصل إلى تسوية خلال عام أو حتى أعوام وعقود، لتفادي الفراغ الخطير الناجم عن عودة المنطقة إلى نقطة الصفر، أي مواجهة حقيقة الحرب والسلام بعين جديدة.
يطرح هذا الإخفاق أسئلة كبيرة على الدبلوماسية الأمريكية والاوروبية اللتين قادتا مشروع التوصل إلى تسوية شرق أوسطية للنزاع، لكنها تطرح أسئلة لا تقل ألحاحا على الأمم المتحدة وأعضاء مجلس الأمن الذين كانوا شركاء في رباعية لم تحقق شيئا من أهدافها ونلم تجرؤ مرة واحدة عن إعلان موقفها من الأطراف التي أعاقت ولا تزال تعيق أي جهد للتوصل بوسائل سلمية لحل النزاع. وتطرح أسئلة مماثلة أيضا على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي طالما صوتت على قرارات تدين الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية وترفض الاعتراف بالضم والاستيطان والتهويد، من دون أن تظهر أي بادرة تململ أو اعتراض على الجمود الناجم عن عجز الدبلوماسية الأمريكية والغربية عموما عن إقناع إسرائيل بالتعاون الجدي مع الوسطاء الدوليين، أو عن عدم رغبتها في القيام بأي ضغط يسيء إلى مصالح إسرائيل أو يؤثر على الاتفاقات العلمية والتقنية والاقتصادية الاستثنائية التي تربطها بالدول الصناعية. وكل ذلك يعطي الانطباع لدينا نحن العرب بأن إسرائيل لا تدعي لنفسها موقعا فوق القانون وإنما تعامل بالفعل من قبل المجموعة الدولية، عن قناعة أو بسبب الضغوط المتعددة، على أنها لا تخضع لقانون العلاقات الدولية ولا تنطبق عليها المباديء والقيم والمعايير المطبقة على بلاد العالم الأخرى.
لكن في ما وراء الإشارة إلى ما أصبح موضع اقتناع واعتقاد راسخ عند الجمهور العربي وربما جزء كبير من الرأي العام الاسلامي والدولي بأن إسرائيل منزهة عن المساءلة والمحاسبة ومن باب أولى العقاب، يطرح إخفاق مفاوضات التسوية السياسية في الشرق الأوسط أسئلة مؤجلة أو أوجلت لوقت طويل على الدول العربية ذاتها التي أحبطت إسرائيل، والولايات المتحدة من بعدها، مساعيها للتوصل إلى سلام مع تل أبيب، حتى من دون شروط العدل والانصاف. ففد جردها الوضع الجديد من أي سلاح. ولن ينفع سحب مبادرة السلام العربية في إعادة الصدقية لسياستها الوطنية ما لم يرتبط ذلك بخطة جديدة مقنعة لرأيها العام لمواجهة مخاطر استمرار إسرائيل في سياسة الاحتلال وتهويد الأراضي الفلسطينية وفي مقدمها مدينة القدس العربية. ولا يستثني هذا الاعتبار أي بلد منها ولو أنه يضع مسؤوليات أكبر على الدول التي احتلت في العقود السابقة موقع القيادة في بلورة السياسات العربية الإقليمية، والتي تبنت جميعا مبدأ السلام كخيار استراتيجي ونهائي في أعقاب مصر الساداتية.
ليس هذا ولا ينبغي أن يكون وقت المناحة ولا الشماتة ولا التشفي من فريق من الدول ضد فريق آخر أو من سياسة قطرية لصالح سياسة قطرية أخرى. فلن يفيدنا هذا في أي شيء سوى إضاعة المزيد من الوقت وتعميق الانقسام والشرخ القائم في تفكير النخب العربية وفي ما بينها، وهو الانقسام الذي يكمن وراء إضاعة فلسطين الأولى ما قبل 1948 وهو في سبيله إلى أن يغطي على إضاعة فلسطين الثانية، ومن ورائها فتح الباب أمام إسرائيل للتحول إلى قوة عظمى في المنطقة تملي على الجميع سياساتها وتتدخل من دون رادع في شؤونها الداخلية. بالعكس ما هو مطلوب اليوم هو مراجعة جدية وهادئة يشارك فيها أصحاب الرأي والقرار، من المهتمين بمصير العالم العربي وشعوبه، في كل مكان، من أجل بلورة رؤية ناجعة للخروج من المأزق الذي لا يجسده في نظري انهيار مفاوضات التسوية السياسية العربية الاسرائيلية، فهذا عرض جانبي، وإنما في انهيار الرهان على الآخر، وهنا على الولايات المتحدة أساسا، كاستراتيجية ناجعة لمواجهة الحرب الاسرائيلة المستمرة والتهديدات الخارجية وحماية المصالح الوطنية والقومية.
لكن هذا بالضبط هو الذي يدفعنا إلى الأمل في أن يكون هذا الإخفاق منطلقا ليقظة عربية وعودة إلى التفكير الجدي في بناء استراتيجية الامن الوطني والعربي من جديد على أسس المبادرة الذاتية، وتامين وسائل العمل الضرورية لقيام العرب أنفسهم في قلع أشواكهم بأيديهم والدفاع عن مصالحهم. إن إخفاق أكبر دولة قائمة في إكراه القيادة الاسرائيلية على أن تجمد الاستيطان لأشهر معدودة لإتاحة مناخ ملائم لإطلاق مفاوضات التسوية السياسية، وحفظ ماء وجه الإدارة الأمريكية، الحليف الأوثق لتل أبيب، يشكل برهانا مدويا على خطأ استراتيجية الرهان على الغير وأهمية بناء أجندة وطنية عربية تضمن الدفاع عن مصالح العرب الكبرى والحفاظ على أمنهم واستقرار مجتمعاتهم وحمايتها من الاعتداءات والتدخلات والاختراقات الخارجية.
وليس بناء مثل هذه الأجندة بالأمر اليسير والمتوفر لمجرد كوننا عربا وننتمي إلى ثقافة واحدة ويجمعنا تاريخ مشترك منذ أكثر من أربعة عشر قرنا. فالأخوة أيضا يتنازعون في ما بينهم، وربما يقتتلون عندما تصطدم مصالحهم الخاصة أو يغبن بعضهم الآخر. يستدعي مثل هذا البناء نشوء إدراك موحد للتهديدات الخارجية وربما الداخلية أيضا، ورؤية مشتركة أو أسلوب موحد للرد على هذه التهديدات، وهو ما يرتبط بوجود أهداف وغايات مشتركة أيضا لدى الفاعلين. ومن الواضح أن النظم العربية تفتقر إلى الغايات المشتركة والاهداف الواحدة، حتى لو انها تتفق أو لا تزال تتفق شكلا على مصادر التهديدات أو بعضها. وبسبب عدم الثقة العميقة القائمة بين نظم تسعى لخدمة مصالحها الذاتية ويخشى كل واحد منها من الآخر ويراهن على خرابه من أجل تعزيز مواقعه الداخلية والإقليمية، تكاد الأجندة الامنية الداخلية ذاتها التي هي ميدان التعاون الرئيسي، وربما الوحيد الثابت بين الأقطار العربية، تقتصر على التنسيق وتبادل المعلومات والخدمات الجزئية.
والقصد، ليس هناك رد أمريكي او غربي او دولي لصالح العرب على التهديد الاسرائيلي الاستيطاني، وليس هناك رد قطري أيضا، لا فلسطيني ولا سوري ولا لبناني عليه. الرد الوحيد الممكن هو الرد العربي والإقليمي. هذا هو الدرس الرئيسيي لإخفاق مفاوضات التسوية السلمية التي لم تكن بالنسبة لاسرائيل سوى ذريعة لكسب الوقت وتعزيز سياسة الاحتلال والضم والاستيطان.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire