الاتحاد 29 يوليو 09
طرحت الأرقام المخيفة التي أشار إليها تقرير التنمية العربية الذي صدر هذا الشهر عن 2009 مجددا وبصورة أكثر حدة من قبل مسألة الاصلاح التي اعتقد العديد من الحكومات العربية أنها دفنت نهائيا. وكانت بعض الدول العربية قد حاولت، في محاولتها لتخفيف الضغوط الأمريكية، إجراء بعض الاصلاحات الديكورية في الممارسة السياسية، بما في ذلك تعديل قوانين أو إنشاء مؤسسات شكلية إضافية تهدف إلى توسيع القاعدة الزبائنية، وتبدو من حيث المظهر توسيعا للمشاركة السياسية.
في المقابل نحا بعضها الآخر، بالعكس، منحا آخر تماما. فقد استفاد من نتائج الحملة الامريكية الفاشلة لإدارة الرئيس بوش الابن على المنطقة المشرقية كي يعزز مواقعه ويخرج أقوى مما كان من قبل. وقد استغل حصول الإجماع في الداخل، والخارج، على أسبقية الاستقرار على أي هدف آخر، ليعيد بناء التوازنات الداخلية والخارجية على أسس جديدة، تضمن مزيدا من احتكار السلطة وشخصنتها. وفي سياق تحول الاستقرار إلى الخيار الرئيسي للمنظومة الدولية، وتلقي النظم المزيد من الدعم الخارجي تجنبا لخيار الفوضى والعنف (الاسلاموي) أو الإرهابي، والإحباط المتجدد للرأي العام، نجح العديد من النظم في التحول من نظم تسلطية إلى نظم قيصرية أو قيصرية جديدة. والقيصر هو بشكل أو آخر، ملك إله، يقضي في شؤون الناس ومصالحهم على هواه بمقدار ما يعتبر نفسه، ويصور من قبل أعوانه كشخص ملهم، لا يخطيء بمقدار ما هو منزه عن المصالح والأهواء.
والقيصرية السياسية ليست ثمرة طبيعية تولد من تلقاء نفسها، بسبب الطبيعة الثقافية أو النفسية، أو التراث التاريخي لشعب، ولا حتى الأهواء الشخصية. إن ولادتها تحيل إلى سياق اجتماعي سياسي هو هنا التحالف اللامنسجم واللامتجانس لفئات مصالح لا يجمع فيما بينها ويضمن استمرار تسيدها وتحقيق ذاتها سوى الولاء المشترك والكامل للسلطة وخضوعها الكلي لها وتسليمها لواحد أحد يحكم فيما بينها ويفصل في شؤونها. فبهذه الطريقة يتميز القيصر عنها جميعا ويتحول إلى كيان شامل أو رمز لشمولية الدولة والمجتمع، ومركز تماه جمعي، بل يتحول إلى تجسيد لشعب بأكمله قبل أن يكون ممثلا للطبقة اللمامة التي يستند النظام القائم إليها.
فالقيصرية نظام يقوم بالأساس على، أو بالأحرى لا قيام له من دون، هذه الوظيفة الجامعة والشاملة التي يمثلها القيصر، والموقع المتميز والمشرف والمستقل، وبالتالي المقدس أو شبه المقدس الذي يعطى له، والذي يجعل الجميع أمامه على القدر نفسه من العبودية والحرمان من السيادة والأهلية، مهما عظم شأنهم الاقتصادي وعلا كعبهم الاجتماعي. والتسليم للملك الإله، وإعلان الولاء الجامع له، من دون استثناء أو انتقاص أو تردد، هو شرط تكونه كقيصر، لا يشك في ولائه أو إلهامه أو إخلاصه ووفائه وسداد رأيه. وبعكس الحاكم السياسي، أي البشري، لا تستقيم صورة القيصر ولا تستقر في الذهن كسلطة فائقة الرمز والقوة والقيمة والنجاعة، إلا برفع الحاكم الفرد، ملكا كان أو رئيسا، إلى مرتبة استثنائية، غير طبيعية، وتجنب مقارنته بغيره من الحكام. فممارساته، مهما كانت، فوق بشرية، لا تخضع لمعايير العقل أو المنطق أو السياسة أو المصلحة أو الأخلاق، أي لمعايير ومنطق الصح والخطأ، والحق والباطل والخير والشر. منطقها الوحيد هو الحكمة الكامنة فيها والتي لا يعرفها إلا أهل الذكر والقيمين على السر، ولا تتجلى حقيقتها إلا في تاريخ لاحق.
وبعكس ما يبدو في الظاهر، لا تنبع قوة القيصر من صفاته الشخصية، العقلية أو النفسية، وإنما من الموقع الذي يحتله في النظام والقوة التمييزية المطلقة التي تمنح له من قبل الأطراف المشاركة في النظام. لذلك ليس لقوة الشخصية قيمة هنا، بل ربما كان ضعف الشخصية سببا إضافيا في تعزيز السياسة القيصرية. إذ يميل الشخص ضعيف الثقة بالنفس إلى استغلال القوة التمييزية التي يعطيها له النظام بأكملها، وعدم التساهل في أي جزء منها. وبالإضافة إلى مصدر القوة الرئيسي هذا، لا تقوم القيصرية من دون عمل يومي دؤوب يقوم فيه كهنة النظام والقيمين عليه، من أنصار وايديولوجيين، ورجال دين مقربين، ورجال دولة وأمن، وأطراف اجتماعية مشاركة في النظام ومستفيدة رئيسية منه، بالمشاركة الحية في بناء القيصرية كمصدر سلطة استثنائية، مقدسة وملهمة وناجعة معا، ورسم صورة رمزها كما ينبغي أن تكون. وتهدف هذه المساهمة إلى التاكيد اليومي والدائم، في الممارسة والخطاب معا، على الطابع الفريد والامتيازي لنظام الحكم وللحاكم معا، وقمع أي سلوك أو كلام من شأنه التشكيك باستثنائية الوضع وشخص القيصر أو بمناقشة أفعاله وأقواله أو إخضاعها لمقياس العقل أو السياسة أو المنطق الطبيعي، وفي المقابل تكريس سلطة الحاكم الفرد المطلق كواقع طبيعي وحتمي، منزه عن الأغراض والأهواء والمصالح والأخطاء.
لا يصبح القيصر قيصرا إلا بمقدار ما يسلم له الجميع، وفي مقدمهم بالطبع القوى الاجتماعية التي تشكل قاعدة النظام، والنخب الثقافية وغير الثقافية التي تدور حولها، بالأمر، ويقبلون به وكيلا لذواتهم جميعا قبل أعمالهم. والتسليم فعل من أفعال الايمان، لا يقبل إلا إذا كان مخلصا وصادقا وكاملا لا يدخله أي شك أو تردد أو اعتبار سوى الثقة بمقدرة الملك الإله وحكمته وطبيعته الخيرة. من هنا يحتل القيصر، كحاكم فرد مطلق ومنزه عن الاهواء والأغراض، رئيسا كان أم ملكا، كل الواجهة السياسية، أي كل فضاء العمومية، ويحول جميع المؤسسات والسلطات الخاضعة له، عسكرية واقتصادية وسياسية وإدارية وثقافية وأهلية، بما في ذلك المسؤولين فيها، إلى أدوات يستخدمها في تحقيق إدارة ليست من السياسة وإنما هي من الحكمة اللدنية، لا تخضع لأي معيار موضوعي وقانوني، سوى ما يراه هو من خير وفائدة للمجتمع والبلاد. الحكم حسب إرادة الحاكم ورغبته وتمنياته، والاستجابة لتصوراته وأهوائه، الخيرة بالضرورة، من دون أي محاسبة أو مراقبة حتى من قبل من يحيط به من رجال السلطة أو من طرف القوى المالكة التي تشكل قاعدة نظامه الاجتماعية، هو جوهر الايمان والتسليم، ومن وراء ذلك راحة البال وحسن المآل في الدنيا والآخرة.
في هذا السياق، لم يكن من المستغرب أن يكون تقرير عام 2009 للتنمية البشرية، بصرف النظر عما تعرض له من تزيين، أكثر إدانة لواقع المجتمع والسياسة العربيين من التقارير السابقة، التي شكلت عندما صدرت عام 2009 صدمة حقيقية للوعي العربي، العام والمختص معا. فجميع المؤشرات، ما تعلق منها بالنمو الاقتصادي أو التكافؤ الاجتماعي أو البطالة أو الفقر أو التعليم، فما بالك بالمشاركة السياسية والتقدم على طريق تحقيق المطالب الديمقراطية والحقوق الانسانية، تشير إلى تجاوز الخطوط الحمر. ومع نسبة بطالة تزيد على 14 بالمئة، ومستقبل قاتم للتنمية المستدامة، وانعدام أي آفاق لتعاون اقتصادي وتقني وعلمي جدي بين البلدان العربية، لن يكون من المستغرب أن تتدهور بشكل أكبر معاني الحكم السياسي المدني ومفاهيمه، لتحل محلها المحسوبيات الشخصية والطائفية والعشائرية، أي أن يترسخ أكثر فأكثر خروج العالم العربي، أو قسما كبيرا منه، من السياسة الحديثة.
طرحت الأرقام المخيفة التي أشار إليها تقرير التنمية العربية الذي صدر هذا الشهر عن 2009 مجددا وبصورة أكثر حدة من قبل مسألة الاصلاح التي اعتقد العديد من الحكومات العربية أنها دفنت نهائيا. وكانت بعض الدول العربية قد حاولت، في محاولتها لتخفيف الضغوط الأمريكية، إجراء بعض الاصلاحات الديكورية في الممارسة السياسية، بما في ذلك تعديل قوانين أو إنشاء مؤسسات شكلية إضافية تهدف إلى توسيع القاعدة الزبائنية، وتبدو من حيث المظهر توسيعا للمشاركة السياسية.
في المقابل نحا بعضها الآخر، بالعكس، منحا آخر تماما. فقد استفاد من نتائج الحملة الامريكية الفاشلة لإدارة الرئيس بوش الابن على المنطقة المشرقية كي يعزز مواقعه ويخرج أقوى مما كان من قبل. وقد استغل حصول الإجماع في الداخل، والخارج، على أسبقية الاستقرار على أي هدف آخر، ليعيد بناء التوازنات الداخلية والخارجية على أسس جديدة، تضمن مزيدا من احتكار السلطة وشخصنتها. وفي سياق تحول الاستقرار إلى الخيار الرئيسي للمنظومة الدولية، وتلقي النظم المزيد من الدعم الخارجي تجنبا لخيار الفوضى والعنف (الاسلاموي) أو الإرهابي، والإحباط المتجدد للرأي العام، نجح العديد من النظم في التحول من نظم تسلطية إلى نظم قيصرية أو قيصرية جديدة. والقيصر هو بشكل أو آخر، ملك إله، يقضي في شؤون الناس ومصالحهم على هواه بمقدار ما يعتبر نفسه، ويصور من قبل أعوانه كشخص ملهم، لا يخطيء بمقدار ما هو منزه عن المصالح والأهواء.
والقيصرية السياسية ليست ثمرة طبيعية تولد من تلقاء نفسها، بسبب الطبيعة الثقافية أو النفسية، أو التراث التاريخي لشعب، ولا حتى الأهواء الشخصية. إن ولادتها تحيل إلى سياق اجتماعي سياسي هو هنا التحالف اللامنسجم واللامتجانس لفئات مصالح لا يجمع فيما بينها ويضمن استمرار تسيدها وتحقيق ذاتها سوى الولاء المشترك والكامل للسلطة وخضوعها الكلي لها وتسليمها لواحد أحد يحكم فيما بينها ويفصل في شؤونها. فبهذه الطريقة يتميز القيصر عنها جميعا ويتحول إلى كيان شامل أو رمز لشمولية الدولة والمجتمع، ومركز تماه جمعي، بل يتحول إلى تجسيد لشعب بأكمله قبل أن يكون ممثلا للطبقة اللمامة التي يستند النظام القائم إليها.
فالقيصرية نظام يقوم بالأساس على، أو بالأحرى لا قيام له من دون، هذه الوظيفة الجامعة والشاملة التي يمثلها القيصر، والموقع المتميز والمشرف والمستقل، وبالتالي المقدس أو شبه المقدس الذي يعطى له، والذي يجعل الجميع أمامه على القدر نفسه من العبودية والحرمان من السيادة والأهلية، مهما عظم شأنهم الاقتصادي وعلا كعبهم الاجتماعي. والتسليم للملك الإله، وإعلان الولاء الجامع له، من دون استثناء أو انتقاص أو تردد، هو شرط تكونه كقيصر، لا يشك في ولائه أو إلهامه أو إخلاصه ووفائه وسداد رأيه. وبعكس الحاكم السياسي، أي البشري، لا تستقيم صورة القيصر ولا تستقر في الذهن كسلطة فائقة الرمز والقوة والقيمة والنجاعة، إلا برفع الحاكم الفرد، ملكا كان أو رئيسا، إلى مرتبة استثنائية، غير طبيعية، وتجنب مقارنته بغيره من الحكام. فممارساته، مهما كانت، فوق بشرية، لا تخضع لمعايير العقل أو المنطق أو السياسة أو المصلحة أو الأخلاق، أي لمعايير ومنطق الصح والخطأ، والحق والباطل والخير والشر. منطقها الوحيد هو الحكمة الكامنة فيها والتي لا يعرفها إلا أهل الذكر والقيمين على السر، ولا تتجلى حقيقتها إلا في تاريخ لاحق.
وبعكس ما يبدو في الظاهر، لا تنبع قوة القيصر من صفاته الشخصية، العقلية أو النفسية، وإنما من الموقع الذي يحتله في النظام والقوة التمييزية المطلقة التي تمنح له من قبل الأطراف المشاركة في النظام. لذلك ليس لقوة الشخصية قيمة هنا، بل ربما كان ضعف الشخصية سببا إضافيا في تعزيز السياسة القيصرية. إذ يميل الشخص ضعيف الثقة بالنفس إلى استغلال القوة التمييزية التي يعطيها له النظام بأكملها، وعدم التساهل في أي جزء منها. وبالإضافة إلى مصدر القوة الرئيسي هذا، لا تقوم القيصرية من دون عمل يومي دؤوب يقوم فيه كهنة النظام والقيمين عليه، من أنصار وايديولوجيين، ورجال دين مقربين، ورجال دولة وأمن، وأطراف اجتماعية مشاركة في النظام ومستفيدة رئيسية منه، بالمشاركة الحية في بناء القيصرية كمصدر سلطة استثنائية، مقدسة وملهمة وناجعة معا، ورسم صورة رمزها كما ينبغي أن تكون. وتهدف هذه المساهمة إلى التاكيد اليومي والدائم، في الممارسة والخطاب معا، على الطابع الفريد والامتيازي لنظام الحكم وللحاكم معا، وقمع أي سلوك أو كلام من شأنه التشكيك باستثنائية الوضع وشخص القيصر أو بمناقشة أفعاله وأقواله أو إخضاعها لمقياس العقل أو السياسة أو المنطق الطبيعي، وفي المقابل تكريس سلطة الحاكم الفرد المطلق كواقع طبيعي وحتمي، منزه عن الأغراض والأهواء والمصالح والأخطاء.
لا يصبح القيصر قيصرا إلا بمقدار ما يسلم له الجميع، وفي مقدمهم بالطبع القوى الاجتماعية التي تشكل قاعدة النظام، والنخب الثقافية وغير الثقافية التي تدور حولها، بالأمر، ويقبلون به وكيلا لذواتهم جميعا قبل أعمالهم. والتسليم فعل من أفعال الايمان، لا يقبل إلا إذا كان مخلصا وصادقا وكاملا لا يدخله أي شك أو تردد أو اعتبار سوى الثقة بمقدرة الملك الإله وحكمته وطبيعته الخيرة. من هنا يحتل القيصر، كحاكم فرد مطلق ومنزه عن الاهواء والأغراض، رئيسا كان أم ملكا، كل الواجهة السياسية، أي كل فضاء العمومية، ويحول جميع المؤسسات والسلطات الخاضعة له، عسكرية واقتصادية وسياسية وإدارية وثقافية وأهلية، بما في ذلك المسؤولين فيها، إلى أدوات يستخدمها في تحقيق إدارة ليست من السياسة وإنما هي من الحكمة اللدنية، لا تخضع لأي معيار موضوعي وقانوني، سوى ما يراه هو من خير وفائدة للمجتمع والبلاد. الحكم حسب إرادة الحاكم ورغبته وتمنياته، والاستجابة لتصوراته وأهوائه، الخيرة بالضرورة، من دون أي محاسبة أو مراقبة حتى من قبل من يحيط به من رجال السلطة أو من طرف القوى المالكة التي تشكل قاعدة نظامه الاجتماعية، هو جوهر الايمان والتسليم، ومن وراء ذلك راحة البال وحسن المآل في الدنيا والآخرة.
في هذا السياق، لم يكن من المستغرب أن يكون تقرير عام 2009 للتنمية البشرية، بصرف النظر عما تعرض له من تزيين، أكثر إدانة لواقع المجتمع والسياسة العربيين من التقارير السابقة، التي شكلت عندما صدرت عام 2009 صدمة حقيقية للوعي العربي، العام والمختص معا. فجميع المؤشرات، ما تعلق منها بالنمو الاقتصادي أو التكافؤ الاجتماعي أو البطالة أو الفقر أو التعليم، فما بالك بالمشاركة السياسية والتقدم على طريق تحقيق المطالب الديمقراطية والحقوق الانسانية، تشير إلى تجاوز الخطوط الحمر. ومع نسبة بطالة تزيد على 14 بالمئة، ومستقبل قاتم للتنمية المستدامة، وانعدام أي آفاق لتعاون اقتصادي وتقني وعلمي جدي بين البلدان العربية، لن يكون من المستغرب أن تتدهور بشكل أكبر معاني الحكم السياسي المدني ومفاهيمه، لتحل محلها المحسوبيات الشخصية والطائفية والعشائرية، أي أن يترسخ أكثر فأكثر خروج العالم العربي، أو قسما كبيرا منه، من السياسة الحديثة.