الجزيرة نت 18 مايو 08
أصبح من المعتاد القول اليوم أنه لا يوجد حل عسكري للأزمة اللبنانية، وأن الحل الوحيد يكمن في توافق الاطراف واتفاقها. ولا يمكن للبنان أن يعيش في ظل سيطرة طرف واحد أو فئة عليه. لكن ما لا ينبغي أن نتجاهله أيضا وفي السياق ذاته أنه لا حل توافقي في لبنان من دون توافق الدول والاطراف العربية والدولية التي تتنازع السيطرة على لبنان، وتأمل في أن يكون أحد مواقع عملها الاستراتيجية. فغياب هذا التوافق هو اليوم مانع أكبر لحصول التوافق اللبناني من التضارب الذي يبدو في الرؤى والمصالح بين الأطراف التي يقود بعضها حزب الله وبعضها الآخر تيار المستقبل.
لا يعني ذلك أنه لا توجد خلافات حقيقية بين اللبنانيين، سواء في قضية توزيع السلطة أو في التحالفات الخارجية، إنما لم يكن من الصعب تعايش الأطراف اللبنانية مع هذه الخلافات، على الأقل لفترة طويلة بانتظار أن تنقشع الرؤية الإقليمية والدولية. وهذا هو الوضع الذي ساد في الحقبة السابقة حتى اغتيال رفيق الحريري أو قبله بقليل، فقد بقي الطرفان حليفين قويين بالرغم من خلافاتهما العميقة، بفضل غياب التنافس على لبنان بين الأطراف الإقليمية والدولية، أي عندما كان ،تحت الإشراف السوري طالما كانت دمشق تشكل طرفا في الإجماع العربي الذي تجسد في اتفاق الطائف، وتعمل من خلاله. بدأ الامر يتغير مع تغير موقع دمشق في هذا الإجماع العربي وخروجها من التفاهم الثلاثي السعودي المصري السوري الذي أشرف على ترتيب أوضاع المشرق العربي خلال العقود الثلاث السابقة. فبقدر ما تخلت دمشق تحالفاتها العربية السابقة وانضمت إلى طهران التي لا تزال تعيش على منطق الثورة المعادية للولايات المتحدة وتخضع لحصار غربي مستمر منذ عقود، فقدت مظلة الإجماع العربي ووضعت دورها في لبنان على المحك، وبالمناسبة أعادت فتح معركة السيطرة الإقليمية والدولية على لبنان.
جاء تفكك المحور العربي المشرقي نتيجة مباشرة لضغط الإدارة الأمريكية الجديدة على الدول العربية في سياق تطبيق المحافظين الجدد مذهبهم الاستراتيجي القاضي بإعادة هيكلة الشرق الاوسط وإخضاعه مباشرة لاجندة السيطرة العالمية الأمريكية. وسرع احتلال العراق عام 2003 في توسيع الهوة بين مواقف العواصم المشرقية ودفعها إلى تبني استراتيجيات متباينة، واحيانا متناقضة، في مواجهة هذه الضغوط والتهديدات الرامية إلى تطويع الانظمة العربية وإدخالها في استراتيجة واشنطن، سواء أجاء ذلك باسم الديمقراطية وإصلاح النظم العربية أو باسم الحرب العالمية ضد الإرهاب. فبينما اختارت القاهرة والرياض استراتيجية الانحناء للعاصفة والتكيف مع السياسة الأمريكية، نزعت دمشق التي كان القضاء على نظامها هدفا معلنا للأمريكيين بعد سقوط صدام، إلى تبني موقف المجاهرة برفض السياسة الامريكية الجديدة ومقاومتها. وتفاقم الخلاف بين دمشق والقاهرة والرياض بموازاة ارتفاع وتيرة الضغط الأمريكي على سورية، وإجبارها على الخروج من لبنان، سواء أجاء على شكل قرارات تؤكد على ضرورة انسحاب الجيوش الأجنبية صوت عليها مجلس الامن، او على شكل تعبئة سياسية داخل لبنان وخارجه ضد النظام البعثي في دمشق أو على شكل عقوبات دولية. وأمام ما بدا لدمشق خيانة لها من قبل العواصم العربية الحليفة، وتخل عنها، لم يجد النظام البعثي بديلا للتضامن العربي الذي عاش عليه خلال عقود طويلة سابقة، سوى في الارتماء على طهران التي كانت ولا تزال تغذي عقيدة العداء الأقوى لواشنطن في المنطقة. ومع اغتيال الحريري واضطرار دمشق لسحب قواتها من لبنان، ونصب مقصلة المحكمة الدولية بتأييد من العرب، تكرست القطيعة نهائيا بين دمشق وحلفائها السابقين في القاهرة والرياض. وبدخول ايران في معركة الحصول على التقنية النووية، سوف يتحول الخلاف العربي العربي إلى حرب إقليمية.
على هامش هذه القطيعة والحرب العربية العربية التي ولدتها الضغوط الامريكية منذ بداية القرن الجديد، ستولد القطيعة في لبنان بين الاطراف المتعايشة: حزب الله والخط الذي يمثله والأكثرية النيابية التي يمثلها الحريري. وبموازاة ذلك سيعاد تكوين الاحلاف الإقليمية والدولية كما لم تكن من قبل، أي التحالف المصري السعودي الأردني الأمريكي، والتحالف الايراني السوري وحزب الله وحماس ومن ورائهما على درجة أو أخرى روسيا والصين.
لا يستطيع حزب الله أن يستمر في التعايش مع والأغلبية الحاكمة في بيروت بينما يخوض نظامي دمشق وطهران معركة حياة أو موت مع الولايات المتحدة. وبالمثل لا تستطيع الأغلبية اللبنانية أن توقف الضغط الذي تتعرض له من طهران ودمشق وحزب الله، وأن تؤكد سيطرتها على الوضع وتؤمن الدعم الدولي ا لذي تحتاجه بالوقوف ضد الولايات المتحدة أو بالمغامرة بتأليب الرياض والقاهرة عليها. وليس لهذه المعادلة أسباب أخرى سوى أن لبنان، كما صنعته الحروب الداخلية وسياسات النخب المحلية معا، ظل بلدا يفتقر لأي مقومات اقتصادية فعلية أو عمق استراتيجي، ويحتاج من أجل بقائه إلى مساعدات الدول العربية والغربية معا. وكما أن التخلي عن طهران وبالتالي دمشق يعني المساس بمشاعر مئات آلاف البشر ومصالحهم، يعني التخلي عن الرياض وواشنطن وباريس حرمان لبنان من الدعم المالي الاستثنائي الذي سمح له بالبقاء منذ نهاية الحرب الأهلية، وأمن له الموارد الضرورية للتنمية والإعمار وإعادة بناء الدولة. وهذا ما وفرته له مؤتمرات باريس الدولية.
ترجع المسؤولية في ما وصل إليه لبنان بالدرجة الاولى إلى النخبة اللبنانية التي استمرأت العيش على حساب الدول الاجنبية، الإسلامية منها والعلمانية، المعادية للولايات المتحدة والمؤيدة لها. وترجع المسؤولية بالدرجة الثانية إلى واشنطن وسياستها الغوغائية التي دمرت آخر ما تبقى من توازنات نسبية في منطقة الشرق الأوسط وقضت على فرص التعايش بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، برعايتها التصويت في مجلس الأمن على قرارات غير واقعية ولا مدروسة، تهدف إلى محاصرة حزب الله ونزع سلاحه لصالح إسرائيل وتطمينها على أمن حدودها الشمالية. وترجع المسؤولية ثالثا إلى دمشق التي دفعها الخوف والقلق والشك إلى اتخاذ قرارات متعجلة أودت بالتحالف العربي التقليدي لصالح سياسة المحاور المتنازعة، بدل السعي بروية من أجل تقوية عزيمة الأطراف العربية وتشجيعها على مواجهة الضغوط الأمريكية. وترجع المسؤولية أخيرا للرياض والقاهرة لعجزهما، وهما العاصمتان الأكبر، عن تأمين إطار سياسي وجيوسياسي فعال يضم جميع الدول العربية ويؤمنها ضد التدخلات الأجنبية.
لكن مهما كان الحال، إذا كان الهدف الحفاظ على السلام الأهلي في لبنان وتجنب الحرب الأهلية، ليس هناك ولن يكون حل آخر سوى القبول بمنطق التعايش بين الاطراف، وتحييد لبنان أو الاتفاق على تجنب تحويله إلى ساحة مواجهة بين الاطراف الإقليمية والدولية. وهذا يعني ببساطة أنه مثل ما أن لبنان لا يستمر مع استئثار أي طرف من أطرافه، طائفيا كان أم سياسيا، بالسلطة والنفوذ فيه، فإنه لن يستمر ولن يستطيع أن يضمن شروط التعايش بين الطوائف والتيارات السياسية والفكرية إذا قرر أحد الاطراف الإقليمية أو الدولية المتنازعة في الشرق الاوسط الاستئثار بالسيطرة على لبنان والقضاء على نفوذ الأطراف الاخرى. لن يستقر لبنان إذا كان قرار الأمريكيين والاسرائيليين القضاء على النفوذ السوري والايراني فيه، وبصورة أكبر إذا اعتبر هؤلاء أن حزب الله هو امتداد لهذا النفوذ فحسب، وبرروا بالتالي حصاره وتجريده من سلاحه. وبالمثل لن يستقر أيضا إذا قررت طهران ودمشق وحزب الله ان لبنان ينبغي أن يكون قلعة المقاومة ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وقرروا هم أيضا إزالة أي نفوذ سعودي أو مصري أو أمريكي فيه. فكما أن طهران ودمشق لن تسمحا بأن يكون لبنان تحت نفوذ معاد لهم، لن تسمح أيضا واشنطن ولا تل أبيب ولا الرياض ولا القاهرة أن يتحول لبنان إلى قاعدة للنشاط الايراني والسوري المعادي لهم.
هذا يعني أنه إذا كان التعايش يصبح أكثر احتمالا بانحسار الولاءات الخارجية، فهو أصعب بكثير إذا استمرت الدول الخارجية التي لا يعنيها مستقبل لبنان في اعتباره ساحة نزاع استراتيجية. وهو ما يشير إلى صعوبة التفكير بمخرج عن طريق التفاهم الخارجي أو إقامة ما يشبه الوصاية المشتركة على لبنان. إن الرهان الرئيسي في تعزيز استقلال لبنان ينبغي أن يكون على بروز رأي عام لبناني قوي مؤمن بلبنان ورافض للحرب الأهلية، وبالتالي لأي التحاق بهذه القوة الخارجية أو تلك، أو تقديم الخدمات الاستراتيجية والسياسية لها، أو استخدام السلاح لأهداف سياسية، أو خارج إطار التوافق على الجبهات الخارجية. مما يعني أن سلاح حزب الله، إذا تم الاتفاق على صيانته، ينبغي أن يكون ذلك لأهداف دفاعية فحسب.
مع ذلك لا ينبغي أن نقطع الامل تماما في احتمال توصل الاطراف الدولية إلى توافق على تحييد لبنان إذا قدرت أن أحدا منها لن يستطيع الانتصار فيه وعزل الاطراف الاخرى. وربما هنا، أي في عدم اليأس من وجود هذا الاحتمال، تكمن عبقرية المبادرة القطرية العربية التي قلبت الموقف اللبناني خلال ساعات من السلبية إلى الايجاب. وفي هذه الحالة سيكون تحييد لبنان في الصراعات الإقليمية أساس لاستقرار طويل المدى. ولا يعني تحييد لبنان القطيعة معه أو حتى قطع المعونات عنه وإنما الكف عن استخدامه كورقة في اللعبة الاستراتيجية الإقليمية أو ساحة مواجهة بين الاطراف الأجنبية. والتحييد بهذا المعنى يختلف عن مفهوم الحياد كما كان مطروحا في الحرب الاهلية الماضية، أي عن اعتباره دولة لاهوية ولا موقع لها في الصراع الحضاري والاستراتيجي الإقليمي. وهو ما لايمكن أن يتحقق من دون ضغط من قبل الرأي العام اللبناني على طبقته السياسية نفسها وتأكيده رفض العمل في خدمة الاستراتيجيات الخارجية.
أساس التوافق الداخلي أن تدرك القوى السياسية المتنازعة، على اختلافها، أنه لا يكفي أن يكون المرء ضد الولايات المتحدة وإسرائيل حتى يبرر استئثاره بالسلطة أو تمديده لدائرة قوته ونفوذه بما يهدد فكرة التعايش والمساواة بين الجماعات والطوائف المختلفة. كما لا يكفي الحديث عن تعزيز الدولة والدفاع عن المؤسسات من أجل تبرير محاصرة حزب الله او تجريده من سلاحه. بالعكس أن احترام موقع الآخرين وحقوقهم هو شرط قيام التعايش بين الاطراف. وهو مما يستدعي ضبط النفس وعدم الكيل بمكيالين. فالذي يعيش على المساعدات والمنح الايرانية لا يملك حق حرمان الآخرين من العيش على المساعدات والمنح السعودية، والعكس بالعكس. لبنان بلد مدان بالتبعية بسبب بنيته الاقتصادية ذاتها. والذي يستمد قوته من الدعم الاستراتيجي الخارجي لا يستطيع أن ينكر على الآخرين حقهم في استمداد الدعم من الخارج أيضا. هذا يفسر الواقع المأساوي الذي يعيشه لبنان لكنه لا يبرر الحرب الأهلية ولا يشجع أو ينبغي ان يشجع عليها. بل بالعكس ينبغي أن يحث الجميع على التفكير في التوافق الذي يسمح بإعادة بناء لبنان وتطوير قاعدته الاقتصادية والسياسية، وتحريره من التبعية البنيوية التي ليست هي نفسها سوى النتيجة الحتمية للحروب والنزاعات الاهلية المتكررة والمستمرة.
قد يقول البعض كيف يمكن الحديث عن تحييد لبنان، في سياق الهمجيات المنفلتة في المنطقة، وأن لبنان لا يمكن أن يتخلى عن مشروع المقاومة، بل أن من الجريمة تحييده في المعركة القومية. هذا هو مع الأسف الثمن الوحيد لتجنب الحرب الاهلية.
وقد يعتقد البعض، تحت إغراء القوة، أن المواجهة الاخيرة أثبتت أن من الممكن للمقاومة أن تفرض سيطرتها على لبنان من دون أن يقود ذلك إلى حرب أهلية كما يهدد خصومها. فهي تتمتع بتفوق عسكري ساحق إلى درجة لا يجد خصوم حزب الله بدا من الخضوع والتسليم. والواقع عكس ذلك تماما. إن الإمعان في تحدي التوافقية، التي أصبحت شبه عقيدة لبنانية رسمية جديدة حلت من دون أن يشعر أحد بذلك محل الميثاق الوطني، سوف يقود بالعكس إلى إشعال الطائفية ودفع تلك الجماعات التي أخفقت في مواجهة التحدي العسكري الراهن إلى مضاعفة جهودها لتكديس الأسلحة والتدرب على استخدامها لمواجهة تحدي حزب الله. ولن تجد هذه الجماعات صعوبة في ذلك. بل إن النتيجة الطبيعية لمثل هذا الحساب الخاطيء ستكون لا محالة تدخلا عسكريا أمريكيا وغربيا لا يستهدف لبنان وحده وإنما الأطراف الإقليمية التي تريد أن تستأثر به في الوقت نفسه، وفي مقدمها سورية.
وإذا اشتعلت الحرب لن يستفيد منها لا أصحاب حماية المقاومة ولا أصحاب صون الاستقلال. كل ما سيحصل هو أن اللبنانيين يكونوا قد اختاروا بأنفسهم أن تخاض المعركة الاسرائيلية الايرانية والامريكية الايرانية السورية، على أرض لبنان وعلى حسابه.
لا يعني ذلك أنه لا توجد خلافات حقيقية بين اللبنانيين، سواء في قضية توزيع السلطة أو في التحالفات الخارجية، إنما لم يكن من الصعب تعايش الأطراف اللبنانية مع هذه الخلافات، على الأقل لفترة طويلة بانتظار أن تنقشع الرؤية الإقليمية والدولية. وهذا هو الوضع الذي ساد في الحقبة السابقة حتى اغتيال رفيق الحريري أو قبله بقليل، فقد بقي الطرفان حليفين قويين بالرغم من خلافاتهما العميقة، بفضل غياب التنافس على لبنان بين الأطراف الإقليمية والدولية، أي عندما كان ،تحت الإشراف السوري طالما كانت دمشق تشكل طرفا في الإجماع العربي الذي تجسد في اتفاق الطائف، وتعمل من خلاله. بدأ الامر يتغير مع تغير موقع دمشق في هذا الإجماع العربي وخروجها من التفاهم الثلاثي السعودي المصري السوري الذي أشرف على ترتيب أوضاع المشرق العربي خلال العقود الثلاث السابقة. فبقدر ما تخلت دمشق تحالفاتها العربية السابقة وانضمت إلى طهران التي لا تزال تعيش على منطق الثورة المعادية للولايات المتحدة وتخضع لحصار غربي مستمر منذ عقود، فقدت مظلة الإجماع العربي ووضعت دورها في لبنان على المحك، وبالمناسبة أعادت فتح معركة السيطرة الإقليمية والدولية على لبنان.
جاء تفكك المحور العربي المشرقي نتيجة مباشرة لضغط الإدارة الأمريكية الجديدة على الدول العربية في سياق تطبيق المحافظين الجدد مذهبهم الاستراتيجي القاضي بإعادة هيكلة الشرق الاوسط وإخضاعه مباشرة لاجندة السيطرة العالمية الأمريكية. وسرع احتلال العراق عام 2003 في توسيع الهوة بين مواقف العواصم المشرقية ودفعها إلى تبني استراتيجيات متباينة، واحيانا متناقضة، في مواجهة هذه الضغوط والتهديدات الرامية إلى تطويع الانظمة العربية وإدخالها في استراتيجة واشنطن، سواء أجاء ذلك باسم الديمقراطية وإصلاح النظم العربية أو باسم الحرب العالمية ضد الإرهاب. فبينما اختارت القاهرة والرياض استراتيجية الانحناء للعاصفة والتكيف مع السياسة الأمريكية، نزعت دمشق التي كان القضاء على نظامها هدفا معلنا للأمريكيين بعد سقوط صدام، إلى تبني موقف المجاهرة برفض السياسة الامريكية الجديدة ومقاومتها. وتفاقم الخلاف بين دمشق والقاهرة والرياض بموازاة ارتفاع وتيرة الضغط الأمريكي على سورية، وإجبارها على الخروج من لبنان، سواء أجاء على شكل قرارات تؤكد على ضرورة انسحاب الجيوش الأجنبية صوت عليها مجلس الامن، او على شكل تعبئة سياسية داخل لبنان وخارجه ضد النظام البعثي في دمشق أو على شكل عقوبات دولية. وأمام ما بدا لدمشق خيانة لها من قبل العواصم العربية الحليفة، وتخل عنها، لم يجد النظام البعثي بديلا للتضامن العربي الذي عاش عليه خلال عقود طويلة سابقة، سوى في الارتماء على طهران التي كانت ولا تزال تغذي عقيدة العداء الأقوى لواشنطن في المنطقة. ومع اغتيال الحريري واضطرار دمشق لسحب قواتها من لبنان، ونصب مقصلة المحكمة الدولية بتأييد من العرب، تكرست القطيعة نهائيا بين دمشق وحلفائها السابقين في القاهرة والرياض. وبدخول ايران في معركة الحصول على التقنية النووية، سوف يتحول الخلاف العربي العربي إلى حرب إقليمية.
على هامش هذه القطيعة والحرب العربية العربية التي ولدتها الضغوط الامريكية منذ بداية القرن الجديد، ستولد القطيعة في لبنان بين الاطراف المتعايشة: حزب الله والخط الذي يمثله والأكثرية النيابية التي يمثلها الحريري. وبموازاة ذلك سيعاد تكوين الاحلاف الإقليمية والدولية كما لم تكن من قبل، أي التحالف المصري السعودي الأردني الأمريكي، والتحالف الايراني السوري وحزب الله وحماس ومن ورائهما على درجة أو أخرى روسيا والصين.
لا يستطيع حزب الله أن يستمر في التعايش مع والأغلبية الحاكمة في بيروت بينما يخوض نظامي دمشق وطهران معركة حياة أو موت مع الولايات المتحدة. وبالمثل لا تستطيع الأغلبية اللبنانية أن توقف الضغط الذي تتعرض له من طهران ودمشق وحزب الله، وأن تؤكد سيطرتها على الوضع وتؤمن الدعم الدولي ا لذي تحتاجه بالوقوف ضد الولايات المتحدة أو بالمغامرة بتأليب الرياض والقاهرة عليها. وليس لهذه المعادلة أسباب أخرى سوى أن لبنان، كما صنعته الحروب الداخلية وسياسات النخب المحلية معا، ظل بلدا يفتقر لأي مقومات اقتصادية فعلية أو عمق استراتيجي، ويحتاج من أجل بقائه إلى مساعدات الدول العربية والغربية معا. وكما أن التخلي عن طهران وبالتالي دمشق يعني المساس بمشاعر مئات آلاف البشر ومصالحهم، يعني التخلي عن الرياض وواشنطن وباريس حرمان لبنان من الدعم المالي الاستثنائي الذي سمح له بالبقاء منذ نهاية الحرب الأهلية، وأمن له الموارد الضرورية للتنمية والإعمار وإعادة بناء الدولة. وهذا ما وفرته له مؤتمرات باريس الدولية.
ترجع المسؤولية في ما وصل إليه لبنان بالدرجة الاولى إلى النخبة اللبنانية التي استمرأت العيش على حساب الدول الاجنبية، الإسلامية منها والعلمانية، المعادية للولايات المتحدة والمؤيدة لها. وترجع المسؤولية بالدرجة الثانية إلى واشنطن وسياستها الغوغائية التي دمرت آخر ما تبقى من توازنات نسبية في منطقة الشرق الأوسط وقضت على فرص التعايش بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، برعايتها التصويت في مجلس الأمن على قرارات غير واقعية ولا مدروسة، تهدف إلى محاصرة حزب الله ونزع سلاحه لصالح إسرائيل وتطمينها على أمن حدودها الشمالية. وترجع المسؤولية ثالثا إلى دمشق التي دفعها الخوف والقلق والشك إلى اتخاذ قرارات متعجلة أودت بالتحالف العربي التقليدي لصالح سياسة المحاور المتنازعة، بدل السعي بروية من أجل تقوية عزيمة الأطراف العربية وتشجيعها على مواجهة الضغوط الأمريكية. وترجع المسؤولية أخيرا للرياض والقاهرة لعجزهما، وهما العاصمتان الأكبر، عن تأمين إطار سياسي وجيوسياسي فعال يضم جميع الدول العربية ويؤمنها ضد التدخلات الأجنبية.
لكن مهما كان الحال، إذا كان الهدف الحفاظ على السلام الأهلي في لبنان وتجنب الحرب الأهلية، ليس هناك ولن يكون حل آخر سوى القبول بمنطق التعايش بين الاطراف، وتحييد لبنان أو الاتفاق على تجنب تحويله إلى ساحة مواجهة بين الاطراف الإقليمية والدولية. وهذا يعني ببساطة أنه مثل ما أن لبنان لا يستمر مع استئثار أي طرف من أطرافه، طائفيا كان أم سياسيا، بالسلطة والنفوذ فيه، فإنه لن يستمر ولن يستطيع أن يضمن شروط التعايش بين الطوائف والتيارات السياسية والفكرية إذا قرر أحد الاطراف الإقليمية أو الدولية المتنازعة في الشرق الاوسط الاستئثار بالسيطرة على لبنان والقضاء على نفوذ الأطراف الاخرى. لن يستقر لبنان إذا كان قرار الأمريكيين والاسرائيليين القضاء على النفوذ السوري والايراني فيه، وبصورة أكبر إذا اعتبر هؤلاء أن حزب الله هو امتداد لهذا النفوذ فحسب، وبرروا بالتالي حصاره وتجريده من سلاحه. وبالمثل لن يستقر أيضا إذا قررت طهران ودمشق وحزب الله ان لبنان ينبغي أن يكون قلعة المقاومة ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وقرروا هم أيضا إزالة أي نفوذ سعودي أو مصري أو أمريكي فيه. فكما أن طهران ودمشق لن تسمحا بأن يكون لبنان تحت نفوذ معاد لهم، لن تسمح أيضا واشنطن ولا تل أبيب ولا الرياض ولا القاهرة أن يتحول لبنان إلى قاعدة للنشاط الايراني والسوري المعادي لهم.
هذا يعني أنه إذا كان التعايش يصبح أكثر احتمالا بانحسار الولاءات الخارجية، فهو أصعب بكثير إذا استمرت الدول الخارجية التي لا يعنيها مستقبل لبنان في اعتباره ساحة نزاع استراتيجية. وهو ما يشير إلى صعوبة التفكير بمخرج عن طريق التفاهم الخارجي أو إقامة ما يشبه الوصاية المشتركة على لبنان. إن الرهان الرئيسي في تعزيز استقلال لبنان ينبغي أن يكون على بروز رأي عام لبناني قوي مؤمن بلبنان ورافض للحرب الأهلية، وبالتالي لأي التحاق بهذه القوة الخارجية أو تلك، أو تقديم الخدمات الاستراتيجية والسياسية لها، أو استخدام السلاح لأهداف سياسية، أو خارج إطار التوافق على الجبهات الخارجية. مما يعني أن سلاح حزب الله، إذا تم الاتفاق على صيانته، ينبغي أن يكون ذلك لأهداف دفاعية فحسب.
مع ذلك لا ينبغي أن نقطع الامل تماما في احتمال توصل الاطراف الدولية إلى توافق على تحييد لبنان إذا قدرت أن أحدا منها لن يستطيع الانتصار فيه وعزل الاطراف الاخرى. وربما هنا، أي في عدم اليأس من وجود هذا الاحتمال، تكمن عبقرية المبادرة القطرية العربية التي قلبت الموقف اللبناني خلال ساعات من السلبية إلى الايجاب. وفي هذه الحالة سيكون تحييد لبنان في الصراعات الإقليمية أساس لاستقرار طويل المدى. ولا يعني تحييد لبنان القطيعة معه أو حتى قطع المعونات عنه وإنما الكف عن استخدامه كورقة في اللعبة الاستراتيجية الإقليمية أو ساحة مواجهة بين الاطراف الأجنبية. والتحييد بهذا المعنى يختلف عن مفهوم الحياد كما كان مطروحا في الحرب الاهلية الماضية، أي عن اعتباره دولة لاهوية ولا موقع لها في الصراع الحضاري والاستراتيجي الإقليمي. وهو ما لايمكن أن يتحقق من دون ضغط من قبل الرأي العام اللبناني على طبقته السياسية نفسها وتأكيده رفض العمل في خدمة الاستراتيجيات الخارجية.
أساس التوافق الداخلي أن تدرك القوى السياسية المتنازعة، على اختلافها، أنه لا يكفي أن يكون المرء ضد الولايات المتحدة وإسرائيل حتى يبرر استئثاره بالسلطة أو تمديده لدائرة قوته ونفوذه بما يهدد فكرة التعايش والمساواة بين الجماعات والطوائف المختلفة. كما لا يكفي الحديث عن تعزيز الدولة والدفاع عن المؤسسات من أجل تبرير محاصرة حزب الله او تجريده من سلاحه. بالعكس أن احترام موقع الآخرين وحقوقهم هو شرط قيام التعايش بين الاطراف. وهو مما يستدعي ضبط النفس وعدم الكيل بمكيالين. فالذي يعيش على المساعدات والمنح الايرانية لا يملك حق حرمان الآخرين من العيش على المساعدات والمنح السعودية، والعكس بالعكس. لبنان بلد مدان بالتبعية بسبب بنيته الاقتصادية ذاتها. والذي يستمد قوته من الدعم الاستراتيجي الخارجي لا يستطيع أن ينكر على الآخرين حقهم في استمداد الدعم من الخارج أيضا. هذا يفسر الواقع المأساوي الذي يعيشه لبنان لكنه لا يبرر الحرب الأهلية ولا يشجع أو ينبغي ان يشجع عليها. بل بالعكس ينبغي أن يحث الجميع على التفكير في التوافق الذي يسمح بإعادة بناء لبنان وتطوير قاعدته الاقتصادية والسياسية، وتحريره من التبعية البنيوية التي ليست هي نفسها سوى النتيجة الحتمية للحروب والنزاعات الاهلية المتكررة والمستمرة.
قد يقول البعض كيف يمكن الحديث عن تحييد لبنان، في سياق الهمجيات المنفلتة في المنطقة، وأن لبنان لا يمكن أن يتخلى عن مشروع المقاومة، بل أن من الجريمة تحييده في المعركة القومية. هذا هو مع الأسف الثمن الوحيد لتجنب الحرب الاهلية.
وقد يعتقد البعض، تحت إغراء القوة، أن المواجهة الاخيرة أثبتت أن من الممكن للمقاومة أن تفرض سيطرتها على لبنان من دون أن يقود ذلك إلى حرب أهلية كما يهدد خصومها. فهي تتمتع بتفوق عسكري ساحق إلى درجة لا يجد خصوم حزب الله بدا من الخضوع والتسليم. والواقع عكس ذلك تماما. إن الإمعان في تحدي التوافقية، التي أصبحت شبه عقيدة لبنانية رسمية جديدة حلت من دون أن يشعر أحد بذلك محل الميثاق الوطني، سوف يقود بالعكس إلى إشعال الطائفية ودفع تلك الجماعات التي أخفقت في مواجهة التحدي العسكري الراهن إلى مضاعفة جهودها لتكديس الأسلحة والتدرب على استخدامها لمواجهة تحدي حزب الله. ولن تجد هذه الجماعات صعوبة في ذلك. بل إن النتيجة الطبيعية لمثل هذا الحساب الخاطيء ستكون لا محالة تدخلا عسكريا أمريكيا وغربيا لا يستهدف لبنان وحده وإنما الأطراف الإقليمية التي تريد أن تستأثر به في الوقت نفسه، وفي مقدمها سورية.
وإذا اشتعلت الحرب لن يستفيد منها لا أصحاب حماية المقاومة ولا أصحاب صون الاستقلال. كل ما سيحصل هو أن اللبنانيين يكونوا قد اختاروا بأنفسهم أن تخاض المعركة الاسرائيلية الايرانية والامريكية الايرانية السورية، على أرض لبنان وعلى حسابه.
1 commentaire:
Very well said. unfortunately the leadership in Lebanon is not willing to prioritize civil peace over ideology and interests. We can only expect more complications after the honeymoon period offered to General Suleiman expires.
Joseph
www.arabdemocracy.com
Enregistrer un commentaire