الاتحاد 7 مايو 2008
كثيرا ما يؤخذ على المعارضات السياسية عجزها عن إحداث التغيير الذي ينتظره الرأي العام. وفي حالات كثيرة تستخدم النظم التسلطية هذا العجز لإقناع الجمهور بأنه لا قيمة للمعارضة ولا جدوى منها. .والحال أن المعارضة لا تستطيع أن تكون وسيلة تغيير إلا في إطار نظم ديمقراطية، تعترف بشرعية المعارضة وتحترم حقوقها، وفي مقدمها حقها في التداول على السلطة عند حصولها على أكثرية نيابية. خارج هذا الإطار لا يمكن لحركة التغيير أن تستند إلى المعارضة السياسية، خاصة وأن هذه المعارضة تكون سرية أو شبه سرية وبالتالي مقيدة إلى حد كبير.
يرتبط تغيير النظم بالتقاء عاملين : نمودج النظام وسياساته ووضعه العام من جهة وتحول الاوضاع الدولية وموقعه فيها من الجهة الثانية. وهذا ما يفسر أن التغييرات في النظم تتخذ شكل موجات تعكس تحولات عميقة في الأوضاع والتوازنات الدولية وتجرف عددا كبيرا من الانظمة التي تجاوزتها الأحداث والمعايير الدولية في أكثر من موقع ومكان. ومن الأمثلة على دلك تلك الموجة التي جاءت بعد الحرب العالمية الثانية وعكست في الوقت نفسه تراجع قوة الدول الاستعمارية الاوروبية بعد الحرب العالمية الثانية من جهة وفقدان النظم المجتمعية التي أقامتها في المستعمرات لأي صدقية.
وفي سياق الحرب الباردة التي ساهمت في توسيع هامش مناورة الدول الصغيرة والضعيفة، شهدت الستينات من القرن الماضي موجة ثانية من التغييرات التي استلهمت النظام السوفييتي الذي بدا في ذلك الوقت النموذج الأمثل لاستدراك التأخر والصعود إلى مصاف الدول الكبرى. وقد كان لانهيار هذا النموذج وتفكك الاتحاد السوفييتي أثر كبير على نشوء موجة ثالثة من التغيير، حلت بموجبها النظم شبه الليبرالية في العديد من بلدان العالم النامي والبلدان الشيوعية محل النظم الاحادية، الاشتراكية أو القومية، التي صعد نجمها في التغير السابق.
لكن القول بأن المعارضة ليست أداة التغيير الرئيسية في النظم السياسية وبشكل خاص استبدادية لا يعني أنها عديمة القيمة أو لا دور لها في التغيير. فهي تستمد أهميتها من انها الوسيلة الوحيدة للتغيير داخل النظم وحفظها من الفساد والانحطاط، وبالتالي ضمان أن لا يتحول الحكم السياسي، مهما كان نوعه إلى حكم العصبية والولاءات الشحصية المدمرة لروح القانون والعدالة والمخربة للأوطان والأعمال. وهذا ما يفسر وجودها وتعددها وتنوع مشاربها في معظم الدول والمجتمعات. فهي لا تستمد شرعيتها من مقدرتها على التغيير وقلب نظم الحكم، وإنما من قيامها بوظائف أخرى ضرورية حتى من دون تغيير النظام، بل بسبب امتناع هذا التغيير أو صعوبة تحقيقه. وفي مقدم هذه الوظائف واهمها مراقبة الحكومة ومتابعة سياستها، وبالتالي بث حد أدنى من التوازن في السلطة، وبشكل أكبر، عندما يتعلق الأمر بنظم يتحول فيها البرلمان صورة تعكس إرادة السلطة التنفيدية وأداة طيعة في يدها. وتشكل مراقبة الحكومة وتحليل سياستها ونقدها، مدرسة أساسية لتأهيل النخب الاجتماعية والسياسية، المشاركة في الحكم والموجودة خارجه، وتدريبها على تمثل مفهوم المصالح الوطنية والتعامل مع تعدد المصالح الاجتماعية والتمرس على إدارة الشؤون العمومية.
ومن هده الوظائف عقلنة حركات الاحتجاج وترجمتها إلى مطالب سياسية يمكن النقاش فيها والتفاهم من حولها. وإلغاء المعارضة أو تغييبها يخلق فراغا كبيرا لا يمكن لأي حزب حاكم مهما كان نوعه ملأه لأنه يمثل الحكومة، ولا يستطيع مهما فعل أن يعبر عن مطالب وطموحات القوى والفئات الاجتماعية الأخرى التي لا تشارك فيها أو التي تتناقض مصالحها مع سياساتها الخاصة. والافتقار إلى المعارضات السياسية الشرعية والقانونية يهدد بتحويل أي حركة احتجاج أو اعتراض أو نزاع، مهما كان حجمها ومحدودية مطالبها وضيق مجال انتشارها، إلى ما يشبه الثورة أو التمرد على النظام، بقدر ما يحرم المجتمع من آلية التوسط التي تمثلها المعارضة بين المصالح الخاصة والعامة. ويشير هذا إلى الدور البنيوي التي تمثله المعارضة في أي نظام، أعني تحويل حركات الاحتجاج إلى مطالب سياسية وتجنيبها الانخراط في منطق الانشقاق والتمرد والمواجهة.
فوجود المعارضة هو التعبير الأبسط عن وجود السياسة ذاتها. فكما أنه لا مكان للسياسة ولا وجود من دون معارضة، ليس للمعارضة أيضا وجود ولا مكان في مناخ المواجهة والمجابهة والانفجار. فهي صمام الأمان الوحيد ضد احتمال تحول النزاعات الداخلية على المصالح إلى انفجارات أو صراعات وحروب أهلية. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا هو الوضع القائم للأسف في العديد من البلاد العربية إن لم يكن في معظمها. فبسبب إلغاء السياسة واستبعاد المعارضة أو التنكيل المستمر بها وعدم الاعتراف بقيمتها ودورها وحرمانها من الشرعية، تكاد جميع حركات الاحتجاج الاجتماعية تتحول إلى حركات انشقاق إتنية أو طائفية أو عقائدية وتعامل كأنها حركات تقويض للنظام القائم وتمرد عليه. وهو ما يفسر أيضا مناخ المواجهة التي تعيشه هذه المجتمعات. بل إن المعارضة السياسية نفسها لا تجد، بغياب السياسة، مبررا لوجودها خارج المشاركة في حركة التمرد والانشقاق وتقمص روحها وجدول أعمالها. وهكذا تفقد المعارضة أيضا دورها التوسطي والمعقلن للنزاعات الأهلية، لتتحول إلى فريق احتجاج من نوع آخر، يضاف إلى جماعات الاحتجاج الأهلية الاخرى.
بتحويل المعارضة إلى حركة انشقاق معزولة عن المجتمع مرتبطة بأجندتها الخاصة، لا أجندة التحول الاجتماعي العام، تضمن السلطة تفريغ النظام الكامل من السياسة وإقفاله تماما أمام أي احتمال إعادة إحيائها. وفي سبيل ذلك لا تكف السلطة عن استفزاز المعارضة والتحرش المستمر بها لدفعها إلى الدخول في منطق رد الفعل والتحدي والمجابهة، ومنعها من العمل بالسياسة وحسب منطق السياسة، أي كوسيط بين المصالح الخاصة المتعددة والمتنازعة والمصلحة العامة، وبالتالي كمحول سياسي ومركز استقطاب اجتماعي. وبمقدار ما تنجح في تقويض ديناميكية المعارضة السياسية، تستطيع السلطة أن تفرض على أعضائها صورة المنشقين وتعاملهم معاملة المجرمين، تماما كما عاملت السلطات عمال المحلة الكبرى جنوب القاهرة في أبريل 2008، وكما تعامل سلطات عديدة المشاركين في الاحتجاجات الإتنية أو الطائفية.
وهذا ما حصل بالفعل. فبقبولها الدخول في منطق الانشقاق، سقطت المعارضة في فخ النظام ذاته، ودخلت هي نفسها في هوس القيامة أو الانقلاب الوشيك للأوضاع. فتحولت إلى قوى اعتراض واحتجاج على نظام السيطرة القائم أكثر مما هي معارضات منظمة تعمل حسب أصول وقواعد مرعية ومشروعة كسلطة بديلة محتملة. وأصبح مفهوم التغيير شعارها الرئيسي، وهو في ذهنها رديف تغيير النظام أو قلبه، ويطرح عادة كنقيض للإصلاح أو للتغييرات التي يمكن الحصول عليها بالتفاهم والحوار. والواقع أن العجز عن التمييز بين مفهوم المعارضة السياسية ومهامها من جهة، ومفهوم التغيير الجدري للنظام ومهامه من جهة ثانية يشكل، بالإضافة إلى القهر الفكري والسياسي الذي تمثله السلطة التسلطية بل شبه الإقطاعية السائدة اليوم في البلاد العربية، السبب الرئيسي لفشل المعارضة، بمقدار ما وضعها أمام تحد ليس مطروحا عليها وليست قادرة على رده.
القول أن المعارضة ليست أداة تغيير النظم ولا شرطه الرئيسي لا يعني أننا لسنا أمام مهمة تغيير ولكن بالعكس أن لكل نوع من التغيير، أقصد تغيير النظام والتغيير ضمن النظام، شروطه وأدواته. ولا يمكن للمعارضة السياسية أن تحل محل الثورة أو الانقلاب كما لا يمكن لأي إنقلاب أن يتحول إلى تغيير فعلي للنظام من دون إعداد طويل وعميق للنخب والرأي العام وتغيير مسبق في سلم القيم والأولويات، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون السياسة وخارج السياسة، بصرف النظر عن طبيعة النظم ووسائل القمع وحجم القوى الانقلابية أو طبيعتها. وكما يقول الشاعر العربي: ووضع القنا في موضع السيف بالوغى مضر كوضع السيف في موضع القنا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire