الجزيرة نت فيفرييه 08
الحياة السياسية في العديد من البلاد العربية مأساة حقيقية، يخاطر فيها المرء بدفع سنوات طويلة من عمره في السجون والمعتقلات لممارسة نشاطات لا تتجاوز التعبير السلمي عن الرأي أو المشاركة في ندوة أو اجتماع غالبا ما يحصل داخل أسوار قاعات الاستقبال الشخصية، بينما يحتل الحزب الحاكم وأجهزته دوائر الدولة من القمة إلى القاعدة ويسيطر، بترتيبات شبه قانونية أو قانونية مزيفة، على جميع المؤسسات الأهلية النقابية وغير النقابية، ولا يترك مساحة داخل أجهزة الإعلام الرسمية والخاصة حتى للتعبير عن اختلاف وجهات النظر داخل صفوف الحزب أو الإئتلاف الحاكم نفسه.
يعتقد الكثير من المسؤولين أن قهر حركات المعارضة وأعضائها لا يؤثر كثيرا على حياة البلاد ما دام الأمر لا يتعلق إلا بمجموعة قليلة من الأفراد الذين يرفضون الانصياع للأمر الواقع، ويصرون على الاشتغال في قضايا، أدرك الجمهور الواسع أن لا أمل في الاشتغال بها، ولم يعد لممارستها، والمقصود هنا بالتأكيد السياسة، أي قاعدة شرعية. و ربما اعتقد بعضهم أن هذا القهر، بأي ذريعة جاء، يصب في النهاية في مصلحة المجتمع بقدر ما يجنب البلاد مشاكل التنازع السياسي والتنافس على السلطة، ويضمن مناخا هادئا لجذب الاستثمارات والعناية بالتنمية الاقتصادية. فهو ثمن بخس لكسب المزيد من سنوات الاستقرار وضمان التحكم بمستقبل البلاد ومصيرها بعيدا عن تيارات التوتر الداخلية والنفوذ الخارجية.
لكن الواقع غير ذلك تماما. وبصرف النظر عما تمثله هذه السياسة من اعتداء على حقوق الأفراد الشخصية - فنحن نفترض أنهم مناضلون يعرفون منذ انخراطهم في عملهم أنهم اختاروا طريق التضحية ونكران الذات - من الواضح اليوم أن هذه السياسة أصبحت تدفع بالدول بشكل أكبر إلى الوقوع في المخاطر التي تسعى إلى تجنبها بالضبط، أي إلى الاحباط والتوتر والانقسام في الداخل، وانهيار الثقة الخارجية بمستقبل واضح ومستقر للبلاد. فهي تظهر أكثر فأكثر للرأي العام، العربي والعالمي، الطبيعة الاحتكارية والانفرادية للسلطة القائمة، وطلاقها الكامل، في سبيل تأكيد نفسها وفرض احترامها على مجتمعها، مع المباديء المدنية والسياسية الرئيسية التي لا تقوم من دونها حياة مدنية ولا سياسية في أي مجتمع معاصر. أعني مبدأ الشرعية واحترام الحريات الفردية والمساواة القانونية والمشاركة السياسية لجميع الأفراد. ولعل أخطر ما تشير إليه هو أن السلطة لا تقوم في هذه البلاد على مبدأ ولا نظام، وإنما هي سلطة تعسفية واعتباطية، يتصرف فيها القابض على زمام الأمر أو يستطيع أن يتصرف ويبيح لنفسه أن يفعل ما يشاء بمن يشاء وأينما شاء. فهي تعطي للعالم صورة عن مجتمعات بدائية لا تخضع في سلوكها لقانون آخر سوى قانون الغلبة والاستئثار. وهي تعيد تربية مجتمعاتها بالفعل على حسب قاعدة الغلبة والاستئثار التي تتحول إلى قانون مستبطن ومتمثل من قبل جميع الأفراد والفئات.
والحال أن منطلق تكوين الأمم والدول والشعوب هو تأكيد قانون الحق مقابل حكم القوة. ذلك أنه من دون حق يعلو على القوة ليس هناك أمل في بناء أي علاقات ايجابية ومثمرة بين الأفراد. وهذا هو الذي ميز منذ البداية مجتمع الإنسان عن مجتمع الحيوان، وجعله منتجا لثقافة وحضارة ومدنية. ولم تنشأ الدولة في العصر الحديث وتستقطب ولاء الناس وتتحول إلى مركز رابطة سياسية، أي أمة، بديلا عن السلطنة وحكم العصبية الطبيعية أو قوة الاستيلاء، إلا بقدر ما أصبح مفهومها متطابقا مع مفهوم الحق أو قانون الحق، وتكريس سلطة القانون وضمان ممارسة هذه السلطة بما يعزز كل يوم بشكل أكبر مفهوم الحق والعدل والانصاف والمساواة، ويحد من إقامة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد على قاعدة القوة والغلبة الطبيعية، أي الحيوانية.
هذا هو الذي يفرق في الواقع بين الحضارة والبربرية، أي بين العنف الذي تمارسه سلطة سياسية شرعية، باسم القانون وتطبيقا له بالفعل، والذي يشكل أساس المدنية والسلام والاستقرار الاجتماعيين، بقدر ما يلغي الحاجة إلى استخدام الخواص للقوة، والعنف الذي تمارسه ميليشيات خاصة كانت تخضع في القرون الوسطى للاقطاعيين وتمكنهم من فرض الخضوع وعمل السخرة على الفلاحين الأقنان، وتمارسه اليوم الميليشيات المتنافسة على السلطة والموارد في البلاد العديدة التي انهارت فيها الدولة وأصبحت نهبا لأصحاب المشاريع الشخصية والخاصة من هواة الحرب والقتال. وهو الذي يفرق بين السلطة القائمة على مؤسسات تعمل بموضوعية وثبات، والسلطة الشخصية المستندة إلى إرادة الحاكم الفرد وتفضيلاته وأهوائه ومشاعره الذاتية. فبدل أن يكون الحاكم أو صاحب السلطة والمسؤولية خادما للدولة وأداة في يدها لتحقيق مطالب العدل القائم على تطبيق قواعد قانونية متساوية وموضوعية، أي لا تتبدل حسب وضع الشخص وأصله، تتحول الدولة ومؤسساتها من إدارة وشرطة وجيش وحكومة وبرلمان وقضاء إلى أدوات في خدمة إرادة شخصية تنزع بطبيعة سلطتها المطلقة إلى تبني سياسة العظمة والسمعة الذاتية، وتقود حتما إلى الاستبداد.
يهدف هدر معنى القانون والحق وإقامة العلاقات الاجتماعية على منطق العنف والقوة في البلاد العربية وغيرها إلى الحؤول دون ظهور أي قوى واعية ومنظمة بديلة، وتحطيم أي قوى ناشئة مهما كانت جنينية. والنتيجة تعقيم المجتمع ومنعه من توليد أي نخب سياسية يمكن أن تشكل تحديا في يوم ما للنخبة الحاكمة. وهذا ما تشهده مجتمعاتنا العربية تماما. فعلى مدى نصف قرن، لم تكف آلة التعقيم عن تصفية أي نواة نخب سياسية جديدة نشأت في سياق تفاقم الأزمات والتناقضات الداخلية أو تبدل السياقات الخارجية. وقد طورت لتحقيق ذلك ترسانة هائلة من الدعاية الايديولوجية والتلاعب بالتمايزات الدينية والقومية، وتأبيد القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية والحكم بالطرق العسكرية والأمنية والإدارية، التي لا تقيدها فيها قوانين، ولا تلزمها دساتير، ولا تضطرها لإخضاع عملها لأي قواعد مرعية ثابتة سوى إرادة الحاكم وحاجة السلطة لتأكيد قوتها وإبراز عظمتها أو تلقين من يطمح إلى معاداتها أو حتى تجاهلها درسا في القسوة والانتقام. هكذا أصبحت حالة الطواريء هي الحالة العادية وصارت العودة إلى الحالة الطبيعية التي يسود فيها القانون وتحترم فيها حقوق الأفراد مشروع ثورة سياسية حقيقية.
يضمن غياب القانون للحاكم أن يقضي على خصومه من دون أن يتحمل أي مسؤولية، وأن يحرم المجتمع من إمكانية توليد نخب بديلة سياسية، وأن يلقن الأفراد الذين يرفضون الخضوع للأمر الواقع درسا لا ينسى في ضرورة الإذعان والانصياع لحكم القوة. ويحلم بسبب ذلك بأن يبقى على سدة السلطة من دون رقيب، وأن لا يكون لحكمه حدا زمنيا واضحا ولا معقولا، أي بأن يتحول حكمه إلى قضاء وقدر. وهو غالبا ما ينجح في ذلك، لكن مقابل تكليف المجتمع ثمنا باهظا قد لا ينجح في تحمله. فالنتيجة الطبيعية لمثل هذا الحكم وتلك الإدارة هي خراب البلدان وجعل شروط الحياة الإنسانية والمدنية الطبيعية مستحيلة في البلاد. فأول ما يتأثر بغياب القانون والحق هو الاستثمار، عند الأفراد والجماعات معا، ليس بالمعنى الشائع والضيق اليوم لاستثمار رؤوس الأموال ولكن، أكثر من ذلك بكثير، بمعنى الاستعداد للانخراط الايجابي في العالم، مما لا غنى عنه لحث الأفراد على بذل الجهد وشحذ الإرادة والإجادة والإبداع.
والحال، لا تجد النخب المتكونة والمحرومة من فرص تحقيق ذاتها والمشاركة في تقرير مصيرها، في مجتمعات يغيب عنها منطق الحق وحكم القانون، سوى الرحيل نحو فضاءات أرحب تستطيع أن تثمر مواهبها فيها بشكل أفضل، أو الانخراط في سياسة المواجهة الانتحارية القاتلة. بينما تصبح الاستقالة الوطنية والإنسانية هي القاسم المشترك للنخب المندمجة في النظام والطامحة إلى الاندراج في مشروع سلطة يكاد ينحط إلى مستوى المؤامرة على مصير شعب والتعاون على سلبه سيادته وحقوقه وموارده. وهكذا بينما تتجمع مواهب المجتمع وصفوة أعضائه الأكثر استعدادا لبذل الجهد والتضحية في الخارج، تفرض شروط الإذعان والانصياع على النخب الباقية التقزيم الذاتي، السياسي والفكري والأخلاقي، بل التجرد من القيم الوطنية والإنسانية معا، وتحل المنافسة بين أفرادها على احتلال مواقع الحظوة عند الحاكمين محل المنافسة على حمل المسؤوليات العمومية والنجاح فيها، ويسود التصفيق والتسبيح بحمد الحاكم وتمجيده محل الاجتهاد والجد في تكوين الكفاءات وتحسين الخبرات والمهارات.
ليس من الصعب أن يتحول الحاكم في مثل هذا النظام القائم على قاعدة الالحاق الشخصي والاستتباع والانصياع، إلى ملك إله، ويترسخ عنده الاعتقاد بامتلاك رسالة كونية أو شبه كونية انتدب لتحقيقها، سواء أرادت الغالبية من المجتمع ذلك أم لا. وهو ما يفسر عودة نظمنا إلى تقاليد وممارسات العهود البائدة التي اعتقدنا أنها ذهبت إلى الأبد، أعني عهود السلاطين الذين يتصرفون ببلادهم وعبادهم كما لو كانوا أتباعا لهم، ولا يطلبون من رعاياهم مشاركة ولا مشورة سوى الدعاء لهم في المساجد والجامعات، والتسبيح بحمدهم ومديح أفعالهم وأقوالهم في وسائل الإعلام. وهم يرون في هؤلاء الرعايا عبئا عليهم، ولا يشعرون تجاههم بأي واجب أو التزام، بل يتوجب على هؤلاء في نظرهم تقديم فروض الطاعة اليومية والتعبير عن تبجيلهم وامتنانهم للحاكمين لتوفيرهم شروط إبقائهم على قيد الحياة. وينعكس تأليه الحكام وتقديسهم تلقائيا ومباشرة في تبخيس قيمة الأفراد أمام أنفسهم، وتحويلهم بل تحولهم الطوعي إلى عبيد وأرقاء وأقنان. فهم يشعرون حقا بعد فترة من الزمن بأنهم مدينون بوجودهم وحياتهم وأمنهم واستقرارهم وحلهم وترحالهم لصاحب أمرهم، الذي هو في الوقت نفسه ولي نعمتهم ومربيهم ومعلمهم. هو وحده الذي يستحق الشكر والعبادة، وهم جميعا، من أعلى الهرم إلى أسفله، عيال لا عقل ولا إرادة لهم، ولا صلاح لأمرهم إلا برضى سيدهم وكرمه وغفرانه.
غياب القانون بمعنى وجود مفهوم للحق واحترام الحقوق، هو جوهر نظام العرب السياسي الراهن، وهو القاعدة التي يقوم عليها استمرار السلطة الراهنة وتجديد النظام. وكما يفسر الخراب العام الذي تعيشه البلاد في جميع ميادين النشاط الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي والفكري، وتنامي مشاعر الاحباط والبؤس وانعدام الثقة والمسؤولية معا عند الغالبية العظمى من فئات المجتمع وأفراده، يفسر أيضا استقطاب المجتمع بين أباطرة مؤلهين، من ذوي السلطة والمال والجاه، الذين يفعلون ما يريدون، ويأمرون، ولا يسألون عما يفعلون، وعبيد محرومين، لا يملكون مالا ولا سلطة ولا عطفا ولا جاها، لا قيمة لهم ولا احترام.
الحياة السياسية في العديد من البلاد العربية مأساة حقيقية، يخاطر فيها المرء بدفع سنوات طويلة من عمره في السجون والمعتقلات لممارسة نشاطات لا تتجاوز التعبير السلمي عن الرأي أو المشاركة في ندوة أو اجتماع غالبا ما يحصل داخل أسوار قاعات الاستقبال الشخصية، بينما يحتل الحزب الحاكم وأجهزته دوائر الدولة من القمة إلى القاعدة ويسيطر، بترتيبات شبه قانونية أو قانونية مزيفة، على جميع المؤسسات الأهلية النقابية وغير النقابية، ولا يترك مساحة داخل أجهزة الإعلام الرسمية والخاصة حتى للتعبير عن اختلاف وجهات النظر داخل صفوف الحزب أو الإئتلاف الحاكم نفسه.
يعتقد الكثير من المسؤولين أن قهر حركات المعارضة وأعضائها لا يؤثر كثيرا على حياة البلاد ما دام الأمر لا يتعلق إلا بمجموعة قليلة من الأفراد الذين يرفضون الانصياع للأمر الواقع، ويصرون على الاشتغال في قضايا، أدرك الجمهور الواسع أن لا أمل في الاشتغال بها، ولم يعد لممارستها، والمقصود هنا بالتأكيد السياسة، أي قاعدة شرعية. و ربما اعتقد بعضهم أن هذا القهر، بأي ذريعة جاء، يصب في النهاية في مصلحة المجتمع بقدر ما يجنب البلاد مشاكل التنازع السياسي والتنافس على السلطة، ويضمن مناخا هادئا لجذب الاستثمارات والعناية بالتنمية الاقتصادية. فهو ثمن بخس لكسب المزيد من سنوات الاستقرار وضمان التحكم بمستقبل البلاد ومصيرها بعيدا عن تيارات التوتر الداخلية والنفوذ الخارجية.
لكن الواقع غير ذلك تماما. وبصرف النظر عما تمثله هذه السياسة من اعتداء على حقوق الأفراد الشخصية - فنحن نفترض أنهم مناضلون يعرفون منذ انخراطهم في عملهم أنهم اختاروا طريق التضحية ونكران الذات - من الواضح اليوم أن هذه السياسة أصبحت تدفع بالدول بشكل أكبر إلى الوقوع في المخاطر التي تسعى إلى تجنبها بالضبط، أي إلى الاحباط والتوتر والانقسام في الداخل، وانهيار الثقة الخارجية بمستقبل واضح ومستقر للبلاد. فهي تظهر أكثر فأكثر للرأي العام، العربي والعالمي، الطبيعة الاحتكارية والانفرادية للسلطة القائمة، وطلاقها الكامل، في سبيل تأكيد نفسها وفرض احترامها على مجتمعها، مع المباديء المدنية والسياسية الرئيسية التي لا تقوم من دونها حياة مدنية ولا سياسية في أي مجتمع معاصر. أعني مبدأ الشرعية واحترام الحريات الفردية والمساواة القانونية والمشاركة السياسية لجميع الأفراد. ولعل أخطر ما تشير إليه هو أن السلطة لا تقوم في هذه البلاد على مبدأ ولا نظام، وإنما هي سلطة تعسفية واعتباطية، يتصرف فيها القابض على زمام الأمر أو يستطيع أن يتصرف ويبيح لنفسه أن يفعل ما يشاء بمن يشاء وأينما شاء. فهي تعطي للعالم صورة عن مجتمعات بدائية لا تخضع في سلوكها لقانون آخر سوى قانون الغلبة والاستئثار. وهي تعيد تربية مجتمعاتها بالفعل على حسب قاعدة الغلبة والاستئثار التي تتحول إلى قانون مستبطن ومتمثل من قبل جميع الأفراد والفئات.
والحال أن منطلق تكوين الأمم والدول والشعوب هو تأكيد قانون الحق مقابل حكم القوة. ذلك أنه من دون حق يعلو على القوة ليس هناك أمل في بناء أي علاقات ايجابية ومثمرة بين الأفراد. وهذا هو الذي ميز منذ البداية مجتمع الإنسان عن مجتمع الحيوان، وجعله منتجا لثقافة وحضارة ومدنية. ولم تنشأ الدولة في العصر الحديث وتستقطب ولاء الناس وتتحول إلى مركز رابطة سياسية، أي أمة، بديلا عن السلطنة وحكم العصبية الطبيعية أو قوة الاستيلاء، إلا بقدر ما أصبح مفهومها متطابقا مع مفهوم الحق أو قانون الحق، وتكريس سلطة القانون وضمان ممارسة هذه السلطة بما يعزز كل يوم بشكل أكبر مفهوم الحق والعدل والانصاف والمساواة، ويحد من إقامة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد على قاعدة القوة والغلبة الطبيعية، أي الحيوانية.
هذا هو الذي يفرق في الواقع بين الحضارة والبربرية، أي بين العنف الذي تمارسه سلطة سياسية شرعية، باسم القانون وتطبيقا له بالفعل، والذي يشكل أساس المدنية والسلام والاستقرار الاجتماعيين، بقدر ما يلغي الحاجة إلى استخدام الخواص للقوة، والعنف الذي تمارسه ميليشيات خاصة كانت تخضع في القرون الوسطى للاقطاعيين وتمكنهم من فرض الخضوع وعمل السخرة على الفلاحين الأقنان، وتمارسه اليوم الميليشيات المتنافسة على السلطة والموارد في البلاد العديدة التي انهارت فيها الدولة وأصبحت نهبا لأصحاب المشاريع الشخصية والخاصة من هواة الحرب والقتال. وهو الذي يفرق بين السلطة القائمة على مؤسسات تعمل بموضوعية وثبات، والسلطة الشخصية المستندة إلى إرادة الحاكم الفرد وتفضيلاته وأهوائه ومشاعره الذاتية. فبدل أن يكون الحاكم أو صاحب السلطة والمسؤولية خادما للدولة وأداة في يدها لتحقيق مطالب العدل القائم على تطبيق قواعد قانونية متساوية وموضوعية، أي لا تتبدل حسب وضع الشخص وأصله، تتحول الدولة ومؤسساتها من إدارة وشرطة وجيش وحكومة وبرلمان وقضاء إلى أدوات في خدمة إرادة شخصية تنزع بطبيعة سلطتها المطلقة إلى تبني سياسة العظمة والسمعة الذاتية، وتقود حتما إلى الاستبداد.
يهدف هدر معنى القانون والحق وإقامة العلاقات الاجتماعية على منطق العنف والقوة في البلاد العربية وغيرها إلى الحؤول دون ظهور أي قوى واعية ومنظمة بديلة، وتحطيم أي قوى ناشئة مهما كانت جنينية. والنتيجة تعقيم المجتمع ومنعه من توليد أي نخب سياسية يمكن أن تشكل تحديا في يوم ما للنخبة الحاكمة. وهذا ما تشهده مجتمعاتنا العربية تماما. فعلى مدى نصف قرن، لم تكف آلة التعقيم عن تصفية أي نواة نخب سياسية جديدة نشأت في سياق تفاقم الأزمات والتناقضات الداخلية أو تبدل السياقات الخارجية. وقد طورت لتحقيق ذلك ترسانة هائلة من الدعاية الايديولوجية والتلاعب بالتمايزات الدينية والقومية، وتأبيد القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية والحكم بالطرق العسكرية والأمنية والإدارية، التي لا تقيدها فيها قوانين، ولا تلزمها دساتير، ولا تضطرها لإخضاع عملها لأي قواعد مرعية ثابتة سوى إرادة الحاكم وحاجة السلطة لتأكيد قوتها وإبراز عظمتها أو تلقين من يطمح إلى معاداتها أو حتى تجاهلها درسا في القسوة والانتقام. هكذا أصبحت حالة الطواريء هي الحالة العادية وصارت العودة إلى الحالة الطبيعية التي يسود فيها القانون وتحترم فيها حقوق الأفراد مشروع ثورة سياسية حقيقية.
يضمن غياب القانون للحاكم أن يقضي على خصومه من دون أن يتحمل أي مسؤولية، وأن يحرم المجتمع من إمكانية توليد نخب بديلة سياسية، وأن يلقن الأفراد الذين يرفضون الخضوع للأمر الواقع درسا لا ينسى في ضرورة الإذعان والانصياع لحكم القوة. ويحلم بسبب ذلك بأن يبقى على سدة السلطة من دون رقيب، وأن لا يكون لحكمه حدا زمنيا واضحا ولا معقولا، أي بأن يتحول حكمه إلى قضاء وقدر. وهو غالبا ما ينجح في ذلك، لكن مقابل تكليف المجتمع ثمنا باهظا قد لا ينجح في تحمله. فالنتيجة الطبيعية لمثل هذا الحكم وتلك الإدارة هي خراب البلدان وجعل شروط الحياة الإنسانية والمدنية الطبيعية مستحيلة في البلاد. فأول ما يتأثر بغياب القانون والحق هو الاستثمار، عند الأفراد والجماعات معا، ليس بالمعنى الشائع والضيق اليوم لاستثمار رؤوس الأموال ولكن، أكثر من ذلك بكثير، بمعنى الاستعداد للانخراط الايجابي في العالم، مما لا غنى عنه لحث الأفراد على بذل الجهد وشحذ الإرادة والإجادة والإبداع.
والحال، لا تجد النخب المتكونة والمحرومة من فرص تحقيق ذاتها والمشاركة في تقرير مصيرها، في مجتمعات يغيب عنها منطق الحق وحكم القانون، سوى الرحيل نحو فضاءات أرحب تستطيع أن تثمر مواهبها فيها بشكل أفضل، أو الانخراط في سياسة المواجهة الانتحارية القاتلة. بينما تصبح الاستقالة الوطنية والإنسانية هي القاسم المشترك للنخب المندمجة في النظام والطامحة إلى الاندراج في مشروع سلطة يكاد ينحط إلى مستوى المؤامرة على مصير شعب والتعاون على سلبه سيادته وحقوقه وموارده. وهكذا بينما تتجمع مواهب المجتمع وصفوة أعضائه الأكثر استعدادا لبذل الجهد والتضحية في الخارج، تفرض شروط الإذعان والانصياع على النخب الباقية التقزيم الذاتي، السياسي والفكري والأخلاقي، بل التجرد من القيم الوطنية والإنسانية معا، وتحل المنافسة بين أفرادها على احتلال مواقع الحظوة عند الحاكمين محل المنافسة على حمل المسؤوليات العمومية والنجاح فيها، ويسود التصفيق والتسبيح بحمد الحاكم وتمجيده محل الاجتهاد والجد في تكوين الكفاءات وتحسين الخبرات والمهارات.
ليس من الصعب أن يتحول الحاكم في مثل هذا النظام القائم على قاعدة الالحاق الشخصي والاستتباع والانصياع، إلى ملك إله، ويترسخ عنده الاعتقاد بامتلاك رسالة كونية أو شبه كونية انتدب لتحقيقها، سواء أرادت الغالبية من المجتمع ذلك أم لا. وهو ما يفسر عودة نظمنا إلى تقاليد وممارسات العهود البائدة التي اعتقدنا أنها ذهبت إلى الأبد، أعني عهود السلاطين الذين يتصرفون ببلادهم وعبادهم كما لو كانوا أتباعا لهم، ولا يطلبون من رعاياهم مشاركة ولا مشورة سوى الدعاء لهم في المساجد والجامعات، والتسبيح بحمدهم ومديح أفعالهم وأقوالهم في وسائل الإعلام. وهم يرون في هؤلاء الرعايا عبئا عليهم، ولا يشعرون تجاههم بأي واجب أو التزام، بل يتوجب على هؤلاء في نظرهم تقديم فروض الطاعة اليومية والتعبير عن تبجيلهم وامتنانهم للحاكمين لتوفيرهم شروط إبقائهم على قيد الحياة. وينعكس تأليه الحكام وتقديسهم تلقائيا ومباشرة في تبخيس قيمة الأفراد أمام أنفسهم، وتحويلهم بل تحولهم الطوعي إلى عبيد وأرقاء وأقنان. فهم يشعرون حقا بعد فترة من الزمن بأنهم مدينون بوجودهم وحياتهم وأمنهم واستقرارهم وحلهم وترحالهم لصاحب أمرهم، الذي هو في الوقت نفسه ولي نعمتهم ومربيهم ومعلمهم. هو وحده الذي يستحق الشكر والعبادة، وهم جميعا، من أعلى الهرم إلى أسفله، عيال لا عقل ولا إرادة لهم، ولا صلاح لأمرهم إلا برضى سيدهم وكرمه وغفرانه.
غياب القانون بمعنى وجود مفهوم للحق واحترام الحقوق، هو جوهر نظام العرب السياسي الراهن، وهو القاعدة التي يقوم عليها استمرار السلطة الراهنة وتجديد النظام. وكما يفسر الخراب العام الذي تعيشه البلاد في جميع ميادين النشاط الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي والفكري، وتنامي مشاعر الاحباط والبؤس وانعدام الثقة والمسؤولية معا عند الغالبية العظمى من فئات المجتمع وأفراده، يفسر أيضا استقطاب المجتمع بين أباطرة مؤلهين، من ذوي السلطة والمال والجاه، الذين يفعلون ما يريدون، ويأمرون، ولا يسألون عما يفعلون، وعبيد محرومين، لا يملكون مالا ولا سلطة ولا عطفا ولا جاها، لا قيمة لهم ولا احترام.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire