الاتحاد 30 جنفييه 08
وصف يوري أفنيري سقوط معبر رفح على أيدي الفلسطينيين المحاصرين منذ سبعة أشهر بأنه حدث تاريخي يساوي في مغزاه سقوط جدار برلين. وكان هذا الجدار قد أقيم في وسط ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ليكرس تقسيم القوتين العظميين المنتصرتين في هذه الحرب، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، العالم إلى مناطق نفوذ لهما، وضمان استمرار النظام ثنائي القطبية الذي قام على هذا الاقتسام. ومن المعروف أن سقوط جدار برلين قد شكل ضربة قاضية لاتفاقيات يالطا التي ولد منها، في 12 فبراير 1945، النظام الجديد، وأنهى بالمناسبة نفسها تقسيم أوروبة بين كتلة شرقية وكتلة غربية، كما دق جرس إعادة توحيد ألمانيا الفدرالية وتطبيع العلاقات بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى، وفي مقدمها عدوتها التاريخية فرنسا. وكان ذلك إشعارا بقرب مخاض توحيد أوروبة وولادة الاتحاد الأوروبي الذي يشكل اليوم أحد أهم التكتلات الدولية الناجحة في العالم.
لست متاكدا من أنه سيكون لفتح معبر رفح الدوي نفسه الذي قاد إلى انهيار النظام الأوروبي بل والعالمي القديم وولادة نظام جديد مكانه. لكن ليس هناك شك في نظري في أن فتح هذا المعبر بالقوة الشعبية ذاتها التي أسقط بها جدار برلين قد أعلن كما لم يحصل في أي وقت سابق إفلاس سياسة إسرائيل الفلسطينية وانهيار دفاعاتها التي أقامتها لعزل الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه وحرمانه من حقوقه الوطنية. وفي ما وراء ذلك يحمل هذا الإفلاس في طياته إفلاس النظام الإقليمي الذي نشأ من تطبيق اتفاقيات يالطا المحلية، أقصد اتفاقيات كمب ديفيد الشهيرة (17 سبتمبر 1978) التي أنهت سياسيا حرب أكتوبر 1973 وفككت المعسكر العربي وكرست انسحابه من المواجهة الاسرائيلية، وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره لوحده أمام إسرائيل منتصرة وعاتية، حليفة استراتيجية للولايات المتحدة. وهو ما مهد لانتصار التيارات المتطرفة في المشروع الاسرائيلي وتبوء اليمين القومي والديني والعنصري الداعي إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهويد جميع أراضي فلسطين وإلحاقها بالدولة العبرية، سدة السلطة في إسرائيل من دون انقطاع منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهذا الوضع نفسه هو الذي سيشجع الاتجاهات الامبرطورية في الإدارة الأمريكية ويغذي، منذ وصول بوش الابن إلى السلطة في واشنطن، الحلم الأمريكي بالسيطرة الانفرادية والمباشرة على الشرق الأوسط وإلحاق جميع الدول العربية باستراتيجيتها الدولية.
لا يعني هذا الإفلاس انهيار هذا النظام الإقليمي ولا سقوط الاتفاقيات التي قام عليها ولكنه يمهد لحقبة قادمة من التخبط والانشقاق والتصدع داخل هذا النظام في أكثر من مكان ومستوى، والتي ستنتهي بتقويضه واستبداله بنظام آخر، من المبكر اليوم تحديد معالمه أو التأمل فيه نظرا للسيولة الكبيرة التي تتسم بها علاقات القوى المحلية والإقليمية. ومن بوادر هذا التصدع وأهمها في اعتقادي تفتت جدار العزل العنصري الذي تستند إليه بقوة سياسة إسرائيل التوسعية والاستعمارية العدوانية. ولا أعني بجدار العزل العنصري الجدار المادي الذي بنته سلطات الاحتلال في السنوات الماضية في الضفة الغربية لتكريس قطع الصلات تماما مع الفلسطينيين، وإجبارهم على العيش في معزل لا إنساني، وإنما ذاك الجدار الكامن في الفكر والشعور الاسرائيليين عموما، أعني العنصرية ذاتها التي نمت وترعرعت هي نفسها في حضن الاحتلال، وصارت العامل الأهم في إعادة إنتاجه أيضا. ومنذ الآن سوف تتعالى أصوات عديدة، في إسرائيل والعالم أجمع، أسكتها في العقود الماضية اليأس والاستسلام للأمر الواقع، لتعلن رفضها لسياسة الميز العنصري والحكم على شعب كامل بالحصار الدائم والموت. ومثل ما فرضت الأحداث على القاهرة العودة عن قرار إعادة إغلاق الحدود مع فلسطين، سوف تفرض على إسرائيل التراجع عن سياسة العزل والتجويع الجماعي والتنكيل بالسكان. وفي موازاة ذلك ستسقط أيضا مبررات بناء الجدار العازل الكبير في الضفة الغربية، بقدر ما سيكتشف الرأي العام، في إسرائيل والعالم أجمع، عجز سياسات القمع واستخدام القوة عن تشكيل مخرج أو حل للاحتلال، أي أن تكون بديلا عن الحل الحقيقي الذي هو ببساطة إنهاء الاحتلال بما يعنيه ويتضمنه من سياسات استعمارية واستيطانية.
لكن سقوط هذا الجدار، وما يعنيه من أخراج القضية الفلسطينية من الطريق المسدود يتوقف، منذ الآن وإلى حد كبير، على ما سيحصل في فلسطين وداخل الصف الفلسطيني نفسه. فلن يكون لإسقاط جدار العزل العنصري الاسرائيلي قيمة إذا استمر بإزائه جدار العزل والانقسام والتفتت السياسي الفلسطيني، الذي لم يفصل الضفة عن القطاع فحسب ولكنه فصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ووضع بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر كالأعداء. ويستدعي هذا تجاوز الاستراتيجيات الحزبية وإعادة بناء الجبهة الوطنية كمقدمة لإعادة توحيد الأرض والشعب الفلسطينيين. وفي هذا المجال تقع على حركة حماس مسؤوليات استثنائية في التحرر من أوهام الاستمرار في بناء دولة مستقلة في غزة والقبول بتنازلات وتضحيات كبيرة في سبيل إعادة الصدقية للسلطة ولمنظمة التحرير، أي للوحدة ا لفلسطينية، والمراهنة على الصراع من داخلهما ومع جميع قطاعات الرأي الفلسطيني لتعديل السياسة الفلسطينية وتقويمها. كما يتوقف على ما سيحصل داخل الدول العربية أيضا، من مبادرات شعبية وردود أفعال تقطع الطريق على إمكانية استعادة المبادرة من قبل النظام الإقليمي الناشيء في حضن اتفاقات كمب ديفيد ومتعلقاتها.
لقد نجح تدمير جدار برلين في تقويض النظام الدولي القديم، وإسقاط نظام القهر السوفييتي الذي قام عليه، بقدر ما قدمت الأوضاع القارية لشعوب أوروبة الشرقية النازعة للانعتاق فرصا للتقدم والاندماج في عملية إعادة بناء إقليمية شاملة رعتها الدول الديمقراطية القوية القائمة. وهو ما يفسر السرعة التي جرى فيها بناء الاتحاد الأوروبي أيضا في غضون سنوات من انهيار الجدار. وفي الشرق الاوسط لن ينجح فتح معبر رفح في كسر حصار غزة ما لم يتحول إلى إشارة الإنطلاق لكسر الحصار المفروض داخل البلاد العربية نفسها على الشعوب، وهدم جدران العزل المشادة في عموم المنطقة بوسائل ومناهج تختلف قليلا او كثيرا عن الوسائل والمناهج الاسرائيلية الفجة، وفتح المعابر الآمنة بين بلدانها وشعوبها.
لكن مهما كان الحال، يشكل ما حدث على معبر رفح إشارة إضافية إلى الاتجاه الجديد الذي تسير إليه الاحداث في المنطقة، وأعني به اتجاه عودة الشعوب، بعد تغييب طويل، إلى الانخراط في الحياة العمومية وانتزاع المبادرة من النظم والقوى الأجنبية معا. ولا ينفصل نمو هذا الاتجاه عما جرى ولا يزال يحصل في المنطقة من تغيرات عميقة تحصل في العمق، ربما كان أبرز أحداثها في السنوات القليلة الماضية انهيار الاستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية وإخفاق الاستراتيجية الاسرائيلية. الأولى بسبب نزعتها الانفرادية الامبرطورية التي وحدت في مواجهتها جميع دول العالم وشعوبه، بما فيها الشعب الأمريكي نفسه، والثانية بسبب تسممها بالفكرة الاستعمارية الاستيطانية وإمعانها في إنكار الحقوق الفلسطينية ومراهنتها الكلية على مراكمة القوة واستخدام العنف لتحقيق أهدافها اللاأخلاقية.
لست متاكدا من أنه سيكون لفتح معبر رفح الدوي نفسه الذي قاد إلى انهيار النظام الأوروبي بل والعالمي القديم وولادة نظام جديد مكانه. لكن ليس هناك شك في نظري في أن فتح هذا المعبر بالقوة الشعبية ذاتها التي أسقط بها جدار برلين قد أعلن كما لم يحصل في أي وقت سابق إفلاس سياسة إسرائيل الفلسطينية وانهيار دفاعاتها التي أقامتها لعزل الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه وحرمانه من حقوقه الوطنية. وفي ما وراء ذلك يحمل هذا الإفلاس في طياته إفلاس النظام الإقليمي الذي نشأ من تطبيق اتفاقيات يالطا المحلية، أقصد اتفاقيات كمب ديفيد الشهيرة (17 سبتمبر 1978) التي أنهت سياسيا حرب أكتوبر 1973 وفككت المعسكر العربي وكرست انسحابه من المواجهة الاسرائيلية، وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره لوحده أمام إسرائيل منتصرة وعاتية، حليفة استراتيجية للولايات المتحدة. وهو ما مهد لانتصار التيارات المتطرفة في المشروع الاسرائيلي وتبوء اليمين القومي والديني والعنصري الداعي إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهويد جميع أراضي فلسطين وإلحاقها بالدولة العبرية، سدة السلطة في إسرائيل من دون انقطاع منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهذا الوضع نفسه هو الذي سيشجع الاتجاهات الامبرطورية في الإدارة الأمريكية ويغذي، منذ وصول بوش الابن إلى السلطة في واشنطن، الحلم الأمريكي بالسيطرة الانفرادية والمباشرة على الشرق الأوسط وإلحاق جميع الدول العربية باستراتيجيتها الدولية.
لا يعني هذا الإفلاس انهيار هذا النظام الإقليمي ولا سقوط الاتفاقيات التي قام عليها ولكنه يمهد لحقبة قادمة من التخبط والانشقاق والتصدع داخل هذا النظام في أكثر من مكان ومستوى، والتي ستنتهي بتقويضه واستبداله بنظام آخر، من المبكر اليوم تحديد معالمه أو التأمل فيه نظرا للسيولة الكبيرة التي تتسم بها علاقات القوى المحلية والإقليمية. ومن بوادر هذا التصدع وأهمها في اعتقادي تفتت جدار العزل العنصري الذي تستند إليه بقوة سياسة إسرائيل التوسعية والاستعمارية العدوانية. ولا أعني بجدار العزل العنصري الجدار المادي الذي بنته سلطات الاحتلال في السنوات الماضية في الضفة الغربية لتكريس قطع الصلات تماما مع الفلسطينيين، وإجبارهم على العيش في معزل لا إنساني، وإنما ذاك الجدار الكامن في الفكر والشعور الاسرائيليين عموما، أعني العنصرية ذاتها التي نمت وترعرعت هي نفسها في حضن الاحتلال، وصارت العامل الأهم في إعادة إنتاجه أيضا. ومنذ الآن سوف تتعالى أصوات عديدة، في إسرائيل والعالم أجمع، أسكتها في العقود الماضية اليأس والاستسلام للأمر الواقع، لتعلن رفضها لسياسة الميز العنصري والحكم على شعب كامل بالحصار الدائم والموت. ومثل ما فرضت الأحداث على القاهرة العودة عن قرار إعادة إغلاق الحدود مع فلسطين، سوف تفرض على إسرائيل التراجع عن سياسة العزل والتجويع الجماعي والتنكيل بالسكان. وفي موازاة ذلك ستسقط أيضا مبررات بناء الجدار العازل الكبير في الضفة الغربية، بقدر ما سيكتشف الرأي العام، في إسرائيل والعالم أجمع، عجز سياسات القمع واستخدام القوة عن تشكيل مخرج أو حل للاحتلال، أي أن تكون بديلا عن الحل الحقيقي الذي هو ببساطة إنهاء الاحتلال بما يعنيه ويتضمنه من سياسات استعمارية واستيطانية.
لكن سقوط هذا الجدار، وما يعنيه من أخراج القضية الفلسطينية من الطريق المسدود يتوقف، منذ الآن وإلى حد كبير، على ما سيحصل في فلسطين وداخل الصف الفلسطيني نفسه. فلن يكون لإسقاط جدار العزل العنصري الاسرائيلي قيمة إذا استمر بإزائه جدار العزل والانقسام والتفتت السياسي الفلسطيني، الذي لم يفصل الضفة عن القطاع فحسب ولكنه فصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ووضع بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر كالأعداء. ويستدعي هذا تجاوز الاستراتيجيات الحزبية وإعادة بناء الجبهة الوطنية كمقدمة لإعادة توحيد الأرض والشعب الفلسطينيين. وفي هذا المجال تقع على حركة حماس مسؤوليات استثنائية في التحرر من أوهام الاستمرار في بناء دولة مستقلة في غزة والقبول بتنازلات وتضحيات كبيرة في سبيل إعادة الصدقية للسلطة ولمنظمة التحرير، أي للوحدة ا لفلسطينية، والمراهنة على الصراع من داخلهما ومع جميع قطاعات الرأي الفلسطيني لتعديل السياسة الفلسطينية وتقويمها. كما يتوقف على ما سيحصل داخل الدول العربية أيضا، من مبادرات شعبية وردود أفعال تقطع الطريق على إمكانية استعادة المبادرة من قبل النظام الإقليمي الناشيء في حضن اتفاقات كمب ديفيد ومتعلقاتها.
لقد نجح تدمير جدار برلين في تقويض النظام الدولي القديم، وإسقاط نظام القهر السوفييتي الذي قام عليه، بقدر ما قدمت الأوضاع القارية لشعوب أوروبة الشرقية النازعة للانعتاق فرصا للتقدم والاندماج في عملية إعادة بناء إقليمية شاملة رعتها الدول الديمقراطية القوية القائمة. وهو ما يفسر السرعة التي جرى فيها بناء الاتحاد الأوروبي أيضا في غضون سنوات من انهيار الجدار. وفي الشرق الاوسط لن ينجح فتح معبر رفح في كسر حصار غزة ما لم يتحول إلى إشارة الإنطلاق لكسر الحصار المفروض داخل البلاد العربية نفسها على الشعوب، وهدم جدران العزل المشادة في عموم المنطقة بوسائل ومناهج تختلف قليلا او كثيرا عن الوسائل والمناهج الاسرائيلية الفجة، وفتح المعابر الآمنة بين بلدانها وشعوبها.
لكن مهما كان الحال، يشكل ما حدث على معبر رفح إشارة إضافية إلى الاتجاه الجديد الذي تسير إليه الاحداث في المنطقة، وأعني به اتجاه عودة الشعوب، بعد تغييب طويل، إلى الانخراط في الحياة العمومية وانتزاع المبادرة من النظم والقوى الأجنبية معا. ولا ينفصل نمو هذا الاتجاه عما جرى ولا يزال يحصل في المنطقة من تغيرات عميقة تحصل في العمق، ربما كان أبرز أحداثها في السنوات القليلة الماضية انهيار الاستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية وإخفاق الاستراتيجية الاسرائيلية. الأولى بسبب نزعتها الانفرادية الامبرطورية التي وحدت في مواجهتها جميع دول العالم وشعوبه، بما فيها الشعب الأمريكي نفسه، والثانية بسبب تسممها بالفكرة الاستعمارية الاستيطانية وإمعانها في إنكار الحقوق الفلسطينية ومراهنتها الكلية على مراكمة القوة واستخدام العنف لتحقيق أهدافها اللاأخلاقية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire