الاتحاد 16 كانون الثاني 08
اخذ علي البعض في مقال سابق استخدام صفة الليبرالية للتعبير عن التوجه العام الذي مثلته وتمثله المعارضة السورية التي ائتلفت في إطار إعلان دمشق. وكنت قد كتبت بالفعل أن نجاح المعارضة الديمقراطية في عقد مجلسها الموسع في الأول من ديسمبر الماضي، بالرغم من الإجراءات الأمنية الاستثنائية التي تمنع التعبير عن أي شكل من أشكال المعارضة، سواء كان باليد أو باللسان أو بالقلب، يؤكد أن حركة المعارضة ليست طفرة سطحية وإنما تعبر عن موجة عميقة تعكس وقائع بنيوية، في مقدمها ولادة نخبة ليبرالية تتغذى من انحسار أفكار الاشتراكية الشمولية على الصعيد الدولي، وتحول البلاد نحو اقتصاد السوق، وما ينجم عنه من تمايزات وتوترات طبقية جديدة، وعطش الجمهور إلى لغة تقطع مع أدبيات البيرقراطية الحاكمة التي فقدت صدقيتها وترفض أن تخضع سيطرتها الطويلة لأي استفتاء شعبي. فقد وجد بعض ممثلي اليسار في هذا الاستخدام تهمة أو ما يشبه التهمة باليمينية. ورد رياض الترك قائلا نحن لسنا ليبراليين وإنما عقلانيين. وشك الليبراليون في أن يكون وراء هذا الاستخدام اتهام يساري لهم وللمعارضة بالمراهنة على الضغوط الأجنبية أو للتفاهم مع القوى الغربية لتحقيق الديمقراطية. ولا يخفى ما تتعرض له الليبرالية عادة من انتقادات من قبل التيارات الاسلامية على اختلافها.
وقد لفتت ردود الأفعال هذه نظري إلى مسألة استخدام المصطلحات في لغتنا السياسية الراهنة التي لا تزال قيد الإنشاء. وأعتقد أننا لن ننجح في بناء كلام أو خطاب متسق في السياسة، ولا بلورة لغة سياسية مفهومة من الجميع، لا تكون مصدر سوء تفاهم متجدد، من دون أن نتغلب على صعوبتين رئيسيتين يعملان كفخ لإمكانية التفاهم، ويحولان دون الفهم والتواصل بين المتخاطبين. الأولى ناجمة عن التعددية الدلالية الطبيعية الكامنة في كل مصطلح، من حيث هو تركيب تراكمي يشبه تماما تركيب الأرض الجيولوجي، لطبقات من المعاني والدلالات الخاصة بالحقب المختلفة التي استخدم فيها، وللسياقات التي شرطت استخدامه. والصعوبة الثانية الأكبر ناجمة عن الانحياز الذي يدفع القاريء إلى اختيار هذه الدلالة أو تلك للمفهوم، وتفسيره حسب ما يخدم مصالحه الايديولوجية أو السياسية، ليبني عليه موقفه الخاص. فالصعوبة الاولى ابستمولوجية بامتياز، يمكن تجاوزها بالتمرن على النظر العلمي والنقدي، بينما الصعوبة الثانية سياسية بالمعنى العميق للكلمة، تنبع من أن الخطاب، أي خطاب، لا يمكن أن يتجاوز شرط الصراع القائم بين الأفراد والجماعات على الموارد المختلفة، وبالتالي نزعة هؤلاء إلى إخضاع المصطلحات إلى حاجات بناء خطاب ينسجم مع طموحاتهم في الوصول إلى المكانة التي يحلمون بها، أو يعكس هذه المكانة ويكرسها من خلال تعميم الدلالة وضبط المعنى أو السيطرة عليه في مواجهة "معاني" الآخرين "الخصوم" وخطاباتهم أيضا.
ومن هذه المصطلحات الرائجة اليوم، والتي تشكل شركا للفكر بقدر ما تمثل ضرورة لفهم الواقع الدولي والمجتمعي الراهن، مصطلح الليبرالية. فهي تصف سياسة سائدة تؤكد على نجاعة منطق السوق في تنظيم الحياة الاجتماعية والدولية، في مواجهة سياسات التخطيط الحكومية أو إخضاع العملية الاقتصادية لمنطق سياسي أو أخلاقي قادم من خارجها. كما تصف موقفا فكريا وسياسيا يعبر عن فكر أولئك الذين قادوا منذ القرن الثامن عشر حركة التحرر من وصايات الدولة والكنيسة التي كبلت الأفراد وأجهزت على حرياتهم الفردية، وبالتالي حقوقهم الطبيعية. ففي الحالة الأولى تتساوى الليبرالية مع سياسة تحرير التجارة وإطلاق يد رأس المال من دون قيود والاحتكام إلى قانون المنافسة الاقتصادية. وهو ما يمكن وصفه بالرأسمالية المتجردة من أي قيود أو وصاية اجتماعية. وفي الحالة الثانية تتساوى الليبرالية مع الديمقراطية من حيث أنها دعوة كل فرد إلى التحرر من الوصايات الخارجية، وإلى تحمل المسؤولية إزاء نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه، ومقاومة كل أشكال تقييد الحرية وانتهاك حقوق الانسان، من أي مصدر جاءت، بما في ذلك رأس المال والسلطة الاقتصادية. وتتضمن الفلسفة الليبرالية بهذا المعنى فرضية تقول بإمكانية المراهنة على قدرة الأفراد في تطوير ملكاتهم والدفاع عن مصالحهم والتفاهم والتواصل في ما بينهم إذا أزيلت من طريقهم عوامل القهر والقمع التي كانت من سمات النظم الدولوية التقليدية.
والموقفان، كما اكتشف ذلك ماركس، لا يتفقان. فكلاهما ينفي الآخر. ولا يمكن تجاوز التناقض الجذري الذي يميز العلاقة بينهما إلا بالدمج الافتراضي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، أي إلا باعتبار الديمقراطية التعبير السياسي عن الرأسمالية، والاعتقاد بأن حرية السوق وحرية الفرد السياسية أمران مترابطان ومتماهيان تماما. وهذا هو أساس تحويل الليبرالية إلى ايديولوجية طبقة اجتماعية. وكما أثارت المطابقة بين الحرية السياسية والسياسات الرأسمالية اليمينية في مرحلة صعودها الأولى، ردود فعل قوية، عبرت عنها الايديولوجيات اليسارية الثورية التي وحدت بين الحريات الفردية والسيطرة الرأسمالية. يثير انبعاثها اليوم، ردود أفعال مشابهة لدى الجماعات القومية الاتنية والدينية، التي تمثل الاسلاموية أحد أهم تنويعاتها، بقدر ما تبدو الديمقراطية مرتبطة فيها بالأمبريالية أو بالسيطرة الأجنبية.
وبالمثل، ليس هناك ارتباط حتمي بين نزعة الحرية والانعتاق التي تعبر عنها الليبرالية ونزعة العداء للدين، حتى لو أن وجود الأخيرة ما كان ممكنا من دون نشوء النزعة العقلية والانسانية. ولا بينها والبرامج الاجتماعية اليمينية، ولا الرأسمالية كمنظومة اقتصادية، حتى لو أنها لم تكن ممكنة من دون تطور المجتمع الصناعي الذي حملته الرأسمالية. فالفلسفة الليبرالية هي التي أسست لحرية الاعتقاد، وكانت ولا تزال الملهم الرئيسي لحركات مقاومة الرأسمالية ومناهضتها. وبعكس ما هو شائع اليوم، لم تأت الفكرة اليسارية كنقيض لقيم الليبرالية، وإنما جاءت من داخلها، وباسم تحقيقها الفعلي، أعني قيم الحرية والانعتاق الكامل للفرد من الاستلابات المادية والايديويولوجية المتمثلة في نظر ماركس في سيطرة الملكية الخاصة والاستغلال الطبقي والوعي الزائف. وهذا ما سعى ماركس إلى إبرازه موجها نقده إلى الرأسمالية، التي فتكت بقيم الليبرالية وخانتها بقدر ما أسست لديكتاتورية رأس المال وأصحابه، وليس لليبرالية ذاتها. ولم يكن لمشروعه الشيوعي غاية أخرى سوى التحقيق الفعلي لقيم الليبرالية وغاياتها. هكذا كان ماركس سليل الفكر الليبرالي وثمرته. ولا يغير ذلك أنه كان مفجره أيضا بقدر ما دفع طروحاته النسبية إلى حدودها القصوى.
كذلك، ليس هناك أي علاقة حتمية بين الليبرالية والتبعية للغرب أو للسيطرة الأجنبية والخضوع للمؤسسات الدولية الرأسمالية كما يبدو لنا اليوم. فقد اهتم الليبراليون الأوائل ببناء الأسواق القومية باعتبارها مفرخة للرأسماليات الوطنية. وكان دفاعهم عن السيادة مرتبطا بايمانهم بأن الدولة لا تخضع لأي مرجعية أخرى غير مرجعية الإرادة العامة للمواطنين المكونين لها.
والقصد أن أشكال تحقيق الليبرالية في التاريخ تخضع لشروط وجود وحياة المجتمعات والبلدان والنخب الحاكمة وتراثها، أكثر مما تعبر عن اتساق الفكرة نفسها. ولهذا سوف يقدم لنا التاريخ ليبراليين من كل الأصناف، منهم من يتبع سياسات قومية تركز على حماية السوق الداخلية من المنافسة الأجنبية. وآخرون يؤكدون على دعم سياسات امبريالية واليوم عولمية تهدف إلى توسيع هامش المبادرة الاقتصادية. وفريق ثالث، خاصة في البلدان الفقيرة والتابعة، ينزع، بسبب وجوده المأزوم وضعف القاعدة المادية لنظامه، إلى المراهنة على المعونة وأحيانا الحماية الخارجية. لكن ليست هذه السياسات جميعا جزءا من الفلسفة الليبرالية ولا امتدادا ضروريا لها. فالليبرالية غير الليبراليين ولا ينبغي تخفيضها إلى مستوى ممارساتهم التاريخية، تماما كما أنه لا ينبغي توحيد الفكرة القومية آليا مع أي سياسة تمارسها هذه النخبة القومية أو تلك. وهو ما ينطبق أيضا على الفكرة الاشتراكية والاسلامية. وبالمثل ليس لليبرالية كفلسفة مدنية وسياسية علاقة ضرورية مع اقتصاد السوق. فهو سابق عليها، وإنما هناك سوق رأسمالية، وسياسات اقتصادية تتغير معالمها وآليات عملها أيضا من حقبة لأخرى ومن بلد لآخر، تتخذ من الليبرالية غطاءا ايديولوجيا ومصدر شرعية لها.
وفي اعتقادي إن الليبرالية من حيث هي فلسفة أخلاقية وسياسية، لم تفقد مكانتها كمصدر للقيم الرئيسية التي تحرك مجتمعاتنا وتوجه ثقافة عصرنا. فهي تكمن في قلب الحداثة من حيث هي تحرير وانعتاق للإنسان. وما سوف ينشأ من ثقافات سياسية، تقلل من أهمية الحريات الفردية، أو لا توليها أي أهمية، ولا تعتبر أن لها أي أسبقية منطقية أو سياسية في تحقيق أهداف الجماعات وبناء نظمها السياسية، مثل الثقافة الشمولية والعصبية الجمعية القومية أو غير القومية، وفي أيامنا الراهنة الرؤية الاسلاموية، ليست جميعا سوى أشكال من ثقافة المقاومة والاعتراض والاحتجاج على الثقافة الليبرالية السائدة وقيمها. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن لا يكون تاريخ الاجتماع السياسي الحديث سوى سجل الصراع بين ثقافة الليبرالية السائدة من جهة وايديولوجيات الاحتجاج التي تسعى إلى تقييدها أو إخضاعها لمنطق آخر غير منطق التطابق المفترض بين اقتصاد السوق ودولة الحرية، ولمعايير تنبع من الحرص على الانسجام والتكافل الاجتماعيين. وهو ما سوف يتجسد في تناوب حقبتين جيوثقافيتين على التوالي، ليبرالية وضد ليبرالية. فبقدر ما تقود الحقبة الليبرالية التي تراهن على توسيع هامش استقلالية الأفراد إلى نمو قيم الفردية، وتعمق في سياق ذلك نزعة الأنانية وتراجع آليات التضامن والتكافل المجتمعي، تمهد الأرض لعودة أشكال من الدولة الشمولية المتماهية مباشرة مع الجماعة القومية أو الدينية كجماعة عضوية، والمعادية للاستقلالية الفردية. وليس هناك شك في نظري أن العالم يعيش اليوم انبعاثا ليبراليا، نشأ كرد فعل على ما عرفته الثقافات الشمولية على مختلف أنواعها، القوموية والشيوعية والاشتراكية الوطنية، من هدر لاستقلال الأفراد وتضحية بحرياتهم واستقلالهم الفكري والسياسي الذي قاد بالضرورة إلى انحطاط شامل في النظام المجتمعي بأكمله. وهذا الانبعاث يشرط تفكيرنا جميعا، ويحدد أفق عملنا ونشاطنا.
فنحن اليوم، يساريين ويمينيين، إسلاميين وقوميين، اشتراكيين ورأسماليين، ليبراليون بالمعنى السياسي والثقافي، أي تحرريون نؤمن بأن ضمان الحريات الفردية ودولة القانون شرط ضروري لبناء منظومتنا السياسية والاجتماعية المدنية أيضا، بصرف النظر عن برامجنا الاجتماعية والقومية الخاصة وأهدافنا. بهذا المعنى أصبحت الليبرالية، بوصفها ثقافة الحرية، معيارا مشتركا لفكرنا السياسي، وقاسما مشتركا يجميع بيننا. وهي تمثل اليوم، بعد انهيار الصيغ الدولوية التي سيطرت في الحقبة الماضية، مرجعية الحقبة التاريخية التي نعيش، في كل مكان. ومن يرفض التفاعل مع هذه المرجعية، إسلاميا كان أم قوميا أم يساريا أم يمينيا، يدين نفسه بالعزلة والانكفاء والديناصورية.
بالمقابل، لا أعتقد أن لدينا في العالم العربي فكر ليبرالي مكتمل، بأي معنى من هذه المعاني، ولا اقتصاد ولا حزب وبالاحرى حكم ليبرالي. وما نعرفه منها في مجتمعاتنا لا يتعدى ممارسات شبكات مصالح ورجال أعمال تنتمي بشكل أكبر إلى منطق الصراع الوحشي وغير المضبوط على الموارد أكثر مما تعبر عن قيم الليبرالية، حتى في أسوأ تعبيراتها يمينية، وسياسات حكومية فوضوية، ونزوعات فكرية شبه ليبرالية تربط بين السياسات التخصيصية، والتبعية الاستراتيجية للغرب، والدفاع عن نظم سياسية مؤسسة على الاقصاء والاحتكار، وإعدام الحريات الفردية والجمعية، والتلاعب بالإرادة الشعبية. وتكاد هذه التوجهات جميعا، لسوئها الواضح وعواقبها المأساوية، تخجل من الافصاح الصريح عن ذاتها، أو من إعطاء نفسها اسما صريحا حتى لا تؤخذ بتهمة الخيانة الفكرية، وتجهد كي تبقي ليبراليتها المجهضة والمشوهة، متخفية تحت رداء من الطروحات الايديولوجية الاسلامية أو القومية أو العلمانية.
من هنا، يبدوا لي أن الهجوم الدائم لبعض تيارات لاسلام السياسي واليسار العربي على الليبرالية لا يمس بسوء سياسات الرأسمالية المتوحشة التي تعرفها اليوم مجتمعاتنا، ولا التبعية البنيوية التي تستبطنها، كما يعتقد أصحابها، وإنما تستخدم بشكل رئيسي لقطع الطريق على روح التحرر والانعتاق الناشئة، التي توحدها خطأ مع الرأسمالية والسيطرة الاجنبية. ولا تستفيد من هذا الهجوم اليوم سوى النظم التسلطية التي تريد أن تقتل هذه الروح في مهدها. ولن تكون ثمرة تسفيه الليبرالية ودفن أفكارها وفلسفتها سوى الحكم على مجتمعاتنا بالغرق أكثر في الرثاثة الثقافية والإستغراق في اجترار التراث والحياة فيه.
لا يعني ذلك الكف عن نقد الليبرالية، تماما كما لا يعني تقديس الحداثة وقيمها، وإنما التمييز في هذا النقد، من جهة أولى بين معاني الليبرالية ووجوهها المختلفة، حتى لا نرمي الوليد مع ماء الولادة، ومن جهة ثانية بين الفكرة الأصلية وتطبيقاتها على يد هذه النخبة أو تلك. وكما ان من المفيد أن نفصل بين الليبرالية السياسية التي تؤسس للديمقراطية، والليبرالية الاقتصادية، كما أخذت تشيع منذ خطف اليمين الرأسمالي فكرة الحرية الفردية ودمجها مع سياسات اجتماعية لا تأخذ بالاعتبار إلا مصالح تراكم رأس المال، من المفيد كذلك أن نفصل الليبرالية عن التبعية للدول الغربية، ولا نعتبر أي ليبرالي حليفا كامنا للقوى الاستعمارية، كما يفعل كثير منا اليوم. فمن دون تمثل الليبرالية، أي استيعاب قيمها ومفاهيمها ونقدها معا، لن يكون بإمكاننا، مهما فعلنا، تجاوزها، وأهم من ذلك سيكون من المستحيل علينا أن ننجح في تخصيب ثقافتنا البالية وبناء حياة فكرية حقيقية وتجديد أسس حياتنا السياسية.
وقد لفتت ردود الأفعال هذه نظري إلى مسألة استخدام المصطلحات في لغتنا السياسية الراهنة التي لا تزال قيد الإنشاء. وأعتقد أننا لن ننجح في بناء كلام أو خطاب متسق في السياسة، ولا بلورة لغة سياسية مفهومة من الجميع، لا تكون مصدر سوء تفاهم متجدد، من دون أن نتغلب على صعوبتين رئيسيتين يعملان كفخ لإمكانية التفاهم، ويحولان دون الفهم والتواصل بين المتخاطبين. الأولى ناجمة عن التعددية الدلالية الطبيعية الكامنة في كل مصطلح، من حيث هو تركيب تراكمي يشبه تماما تركيب الأرض الجيولوجي، لطبقات من المعاني والدلالات الخاصة بالحقب المختلفة التي استخدم فيها، وللسياقات التي شرطت استخدامه. والصعوبة الثانية الأكبر ناجمة عن الانحياز الذي يدفع القاريء إلى اختيار هذه الدلالة أو تلك للمفهوم، وتفسيره حسب ما يخدم مصالحه الايديولوجية أو السياسية، ليبني عليه موقفه الخاص. فالصعوبة الاولى ابستمولوجية بامتياز، يمكن تجاوزها بالتمرن على النظر العلمي والنقدي، بينما الصعوبة الثانية سياسية بالمعنى العميق للكلمة، تنبع من أن الخطاب، أي خطاب، لا يمكن أن يتجاوز شرط الصراع القائم بين الأفراد والجماعات على الموارد المختلفة، وبالتالي نزعة هؤلاء إلى إخضاع المصطلحات إلى حاجات بناء خطاب ينسجم مع طموحاتهم في الوصول إلى المكانة التي يحلمون بها، أو يعكس هذه المكانة ويكرسها من خلال تعميم الدلالة وضبط المعنى أو السيطرة عليه في مواجهة "معاني" الآخرين "الخصوم" وخطاباتهم أيضا.
ومن هذه المصطلحات الرائجة اليوم، والتي تشكل شركا للفكر بقدر ما تمثل ضرورة لفهم الواقع الدولي والمجتمعي الراهن، مصطلح الليبرالية. فهي تصف سياسة سائدة تؤكد على نجاعة منطق السوق في تنظيم الحياة الاجتماعية والدولية، في مواجهة سياسات التخطيط الحكومية أو إخضاع العملية الاقتصادية لمنطق سياسي أو أخلاقي قادم من خارجها. كما تصف موقفا فكريا وسياسيا يعبر عن فكر أولئك الذين قادوا منذ القرن الثامن عشر حركة التحرر من وصايات الدولة والكنيسة التي كبلت الأفراد وأجهزت على حرياتهم الفردية، وبالتالي حقوقهم الطبيعية. ففي الحالة الأولى تتساوى الليبرالية مع سياسة تحرير التجارة وإطلاق يد رأس المال من دون قيود والاحتكام إلى قانون المنافسة الاقتصادية. وهو ما يمكن وصفه بالرأسمالية المتجردة من أي قيود أو وصاية اجتماعية. وفي الحالة الثانية تتساوى الليبرالية مع الديمقراطية من حيث أنها دعوة كل فرد إلى التحرر من الوصايات الخارجية، وإلى تحمل المسؤولية إزاء نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه، ومقاومة كل أشكال تقييد الحرية وانتهاك حقوق الانسان، من أي مصدر جاءت، بما في ذلك رأس المال والسلطة الاقتصادية. وتتضمن الفلسفة الليبرالية بهذا المعنى فرضية تقول بإمكانية المراهنة على قدرة الأفراد في تطوير ملكاتهم والدفاع عن مصالحهم والتفاهم والتواصل في ما بينهم إذا أزيلت من طريقهم عوامل القهر والقمع التي كانت من سمات النظم الدولوية التقليدية.
والموقفان، كما اكتشف ذلك ماركس، لا يتفقان. فكلاهما ينفي الآخر. ولا يمكن تجاوز التناقض الجذري الذي يميز العلاقة بينهما إلا بالدمج الافتراضي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، أي إلا باعتبار الديمقراطية التعبير السياسي عن الرأسمالية، والاعتقاد بأن حرية السوق وحرية الفرد السياسية أمران مترابطان ومتماهيان تماما. وهذا هو أساس تحويل الليبرالية إلى ايديولوجية طبقة اجتماعية. وكما أثارت المطابقة بين الحرية السياسية والسياسات الرأسمالية اليمينية في مرحلة صعودها الأولى، ردود فعل قوية، عبرت عنها الايديولوجيات اليسارية الثورية التي وحدت بين الحريات الفردية والسيطرة الرأسمالية. يثير انبعاثها اليوم، ردود أفعال مشابهة لدى الجماعات القومية الاتنية والدينية، التي تمثل الاسلاموية أحد أهم تنويعاتها، بقدر ما تبدو الديمقراطية مرتبطة فيها بالأمبريالية أو بالسيطرة الأجنبية.
وبالمثل، ليس هناك ارتباط حتمي بين نزعة الحرية والانعتاق التي تعبر عنها الليبرالية ونزعة العداء للدين، حتى لو أن وجود الأخيرة ما كان ممكنا من دون نشوء النزعة العقلية والانسانية. ولا بينها والبرامج الاجتماعية اليمينية، ولا الرأسمالية كمنظومة اقتصادية، حتى لو أنها لم تكن ممكنة من دون تطور المجتمع الصناعي الذي حملته الرأسمالية. فالفلسفة الليبرالية هي التي أسست لحرية الاعتقاد، وكانت ولا تزال الملهم الرئيسي لحركات مقاومة الرأسمالية ومناهضتها. وبعكس ما هو شائع اليوم، لم تأت الفكرة اليسارية كنقيض لقيم الليبرالية، وإنما جاءت من داخلها، وباسم تحقيقها الفعلي، أعني قيم الحرية والانعتاق الكامل للفرد من الاستلابات المادية والايديويولوجية المتمثلة في نظر ماركس في سيطرة الملكية الخاصة والاستغلال الطبقي والوعي الزائف. وهذا ما سعى ماركس إلى إبرازه موجها نقده إلى الرأسمالية، التي فتكت بقيم الليبرالية وخانتها بقدر ما أسست لديكتاتورية رأس المال وأصحابه، وليس لليبرالية ذاتها. ولم يكن لمشروعه الشيوعي غاية أخرى سوى التحقيق الفعلي لقيم الليبرالية وغاياتها. هكذا كان ماركس سليل الفكر الليبرالي وثمرته. ولا يغير ذلك أنه كان مفجره أيضا بقدر ما دفع طروحاته النسبية إلى حدودها القصوى.
كذلك، ليس هناك أي علاقة حتمية بين الليبرالية والتبعية للغرب أو للسيطرة الأجنبية والخضوع للمؤسسات الدولية الرأسمالية كما يبدو لنا اليوم. فقد اهتم الليبراليون الأوائل ببناء الأسواق القومية باعتبارها مفرخة للرأسماليات الوطنية. وكان دفاعهم عن السيادة مرتبطا بايمانهم بأن الدولة لا تخضع لأي مرجعية أخرى غير مرجعية الإرادة العامة للمواطنين المكونين لها.
والقصد أن أشكال تحقيق الليبرالية في التاريخ تخضع لشروط وجود وحياة المجتمعات والبلدان والنخب الحاكمة وتراثها، أكثر مما تعبر عن اتساق الفكرة نفسها. ولهذا سوف يقدم لنا التاريخ ليبراليين من كل الأصناف، منهم من يتبع سياسات قومية تركز على حماية السوق الداخلية من المنافسة الأجنبية. وآخرون يؤكدون على دعم سياسات امبريالية واليوم عولمية تهدف إلى توسيع هامش المبادرة الاقتصادية. وفريق ثالث، خاصة في البلدان الفقيرة والتابعة، ينزع، بسبب وجوده المأزوم وضعف القاعدة المادية لنظامه، إلى المراهنة على المعونة وأحيانا الحماية الخارجية. لكن ليست هذه السياسات جميعا جزءا من الفلسفة الليبرالية ولا امتدادا ضروريا لها. فالليبرالية غير الليبراليين ولا ينبغي تخفيضها إلى مستوى ممارساتهم التاريخية، تماما كما أنه لا ينبغي توحيد الفكرة القومية آليا مع أي سياسة تمارسها هذه النخبة القومية أو تلك. وهو ما ينطبق أيضا على الفكرة الاشتراكية والاسلامية. وبالمثل ليس لليبرالية كفلسفة مدنية وسياسية علاقة ضرورية مع اقتصاد السوق. فهو سابق عليها، وإنما هناك سوق رأسمالية، وسياسات اقتصادية تتغير معالمها وآليات عملها أيضا من حقبة لأخرى ومن بلد لآخر، تتخذ من الليبرالية غطاءا ايديولوجيا ومصدر شرعية لها.
وفي اعتقادي إن الليبرالية من حيث هي فلسفة أخلاقية وسياسية، لم تفقد مكانتها كمصدر للقيم الرئيسية التي تحرك مجتمعاتنا وتوجه ثقافة عصرنا. فهي تكمن في قلب الحداثة من حيث هي تحرير وانعتاق للإنسان. وما سوف ينشأ من ثقافات سياسية، تقلل من أهمية الحريات الفردية، أو لا توليها أي أهمية، ولا تعتبر أن لها أي أسبقية منطقية أو سياسية في تحقيق أهداف الجماعات وبناء نظمها السياسية، مثل الثقافة الشمولية والعصبية الجمعية القومية أو غير القومية، وفي أيامنا الراهنة الرؤية الاسلاموية، ليست جميعا سوى أشكال من ثقافة المقاومة والاعتراض والاحتجاج على الثقافة الليبرالية السائدة وقيمها. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن لا يكون تاريخ الاجتماع السياسي الحديث سوى سجل الصراع بين ثقافة الليبرالية السائدة من جهة وايديولوجيات الاحتجاج التي تسعى إلى تقييدها أو إخضاعها لمنطق آخر غير منطق التطابق المفترض بين اقتصاد السوق ودولة الحرية، ولمعايير تنبع من الحرص على الانسجام والتكافل الاجتماعيين. وهو ما سوف يتجسد في تناوب حقبتين جيوثقافيتين على التوالي، ليبرالية وضد ليبرالية. فبقدر ما تقود الحقبة الليبرالية التي تراهن على توسيع هامش استقلالية الأفراد إلى نمو قيم الفردية، وتعمق في سياق ذلك نزعة الأنانية وتراجع آليات التضامن والتكافل المجتمعي، تمهد الأرض لعودة أشكال من الدولة الشمولية المتماهية مباشرة مع الجماعة القومية أو الدينية كجماعة عضوية، والمعادية للاستقلالية الفردية. وليس هناك شك في نظري أن العالم يعيش اليوم انبعاثا ليبراليا، نشأ كرد فعل على ما عرفته الثقافات الشمولية على مختلف أنواعها، القوموية والشيوعية والاشتراكية الوطنية، من هدر لاستقلال الأفراد وتضحية بحرياتهم واستقلالهم الفكري والسياسي الذي قاد بالضرورة إلى انحطاط شامل في النظام المجتمعي بأكمله. وهذا الانبعاث يشرط تفكيرنا جميعا، ويحدد أفق عملنا ونشاطنا.
فنحن اليوم، يساريين ويمينيين، إسلاميين وقوميين، اشتراكيين ورأسماليين، ليبراليون بالمعنى السياسي والثقافي، أي تحرريون نؤمن بأن ضمان الحريات الفردية ودولة القانون شرط ضروري لبناء منظومتنا السياسية والاجتماعية المدنية أيضا، بصرف النظر عن برامجنا الاجتماعية والقومية الخاصة وأهدافنا. بهذا المعنى أصبحت الليبرالية، بوصفها ثقافة الحرية، معيارا مشتركا لفكرنا السياسي، وقاسما مشتركا يجميع بيننا. وهي تمثل اليوم، بعد انهيار الصيغ الدولوية التي سيطرت في الحقبة الماضية، مرجعية الحقبة التاريخية التي نعيش، في كل مكان. ومن يرفض التفاعل مع هذه المرجعية، إسلاميا كان أم قوميا أم يساريا أم يمينيا، يدين نفسه بالعزلة والانكفاء والديناصورية.
بالمقابل، لا أعتقد أن لدينا في العالم العربي فكر ليبرالي مكتمل، بأي معنى من هذه المعاني، ولا اقتصاد ولا حزب وبالاحرى حكم ليبرالي. وما نعرفه منها في مجتمعاتنا لا يتعدى ممارسات شبكات مصالح ورجال أعمال تنتمي بشكل أكبر إلى منطق الصراع الوحشي وغير المضبوط على الموارد أكثر مما تعبر عن قيم الليبرالية، حتى في أسوأ تعبيراتها يمينية، وسياسات حكومية فوضوية، ونزوعات فكرية شبه ليبرالية تربط بين السياسات التخصيصية، والتبعية الاستراتيجية للغرب، والدفاع عن نظم سياسية مؤسسة على الاقصاء والاحتكار، وإعدام الحريات الفردية والجمعية، والتلاعب بالإرادة الشعبية. وتكاد هذه التوجهات جميعا، لسوئها الواضح وعواقبها المأساوية، تخجل من الافصاح الصريح عن ذاتها، أو من إعطاء نفسها اسما صريحا حتى لا تؤخذ بتهمة الخيانة الفكرية، وتجهد كي تبقي ليبراليتها المجهضة والمشوهة، متخفية تحت رداء من الطروحات الايديولوجية الاسلامية أو القومية أو العلمانية.
من هنا، يبدوا لي أن الهجوم الدائم لبعض تيارات لاسلام السياسي واليسار العربي على الليبرالية لا يمس بسوء سياسات الرأسمالية المتوحشة التي تعرفها اليوم مجتمعاتنا، ولا التبعية البنيوية التي تستبطنها، كما يعتقد أصحابها، وإنما تستخدم بشكل رئيسي لقطع الطريق على روح التحرر والانعتاق الناشئة، التي توحدها خطأ مع الرأسمالية والسيطرة الاجنبية. ولا تستفيد من هذا الهجوم اليوم سوى النظم التسلطية التي تريد أن تقتل هذه الروح في مهدها. ولن تكون ثمرة تسفيه الليبرالية ودفن أفكارها وفلسفتها سوى الحكم على مجتمعاتنا بالغرق أكثر في الرثاثة الثقافية والإستغراق في اجترار التراث والحياة فيه.
لا يعني ذلك الكف عن نقد الليبرالية، تماما كما لا يعني تقديس الحداثة وقيمها، وإنما التمييز في هذا النقد، من جهة أولى بين معاني الليبرالية ووجوهها المختلفة، حتى لا نرمي الوليد مع ماء الولادة، ومن جهة ثانية بين الفكرة الأصلية وتطبيقاتها على يد هذه النخبة أو تلك. وكما ان من المفيد أن نفصل بين الليبرالية السياسية التي تؤسس للديمقراطية، والليبرالية الاقتصادية، كما أخذت تشيع منذ خطف اليمين الرأسمالي فكرة الحرية الفردية ودمجها مع سياسات اجتماعية لا تأخذ بالاعتبار إلا مصالح تراكم رأس المال، من المفيد كذلك أن نفصل الليبرالية عن التبعية للدول الغربية، ولا نعتبر أي ليبرالي حليفا كامنا للقوى الاستعمارية، كما يفعل كثير منا اليوم. فمن دون تمثل الليبرالية، أي استيعاب قيمها ومفاهيمها ونقدها معا، لن يكون بإمكاننا، مهما فعلنا، تجاوزها، وأهم من ذلك سيكون من المستحيل علينا أن ننجح في تخصيب ثقافتنا البالية وبناء حياة فكرية حقيقية وتجديد أسس حياتنا السياسية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire