تعليق على ورقة المستشار طارق البشري
الجماعة السياسة والمواطنة من منظور إسلامي
ندوة القومية والدين، الاسكندرية، 11-12 ديسمبر 2007
يقدم لنا المستشار طارق البشري في ورقته رؤية منفتحة لمسألة المواطنية في منظور ما أصبح يسمى الاسلام السياسي، بجميع تياراته، تمييزا له عن الاسلام الذي لا يمكن أن يحتكر أي شخص او تيار سياسي حق الكلام باسمه أو تفسير نصوصه الأساسية. بيد أن هذا الانفتاح لا يمنع من أن مسائل كثيرة لا تزال تحتاج إلى مناقشة وتطوير في هذه الرؤية الاسلاموية للمواطنية. وأكتفي هنا بالإشارة إلى نوعين منها، تتعلق الأولى بمفهوم الجماعة والجماعة السياسية نفسها، وهو ما يستمد منه مفهوم المواطنية معناه، وتتعلق الثانية بمسألة مرجعية الدولة الاسلامية أو المرجعية الاسلامية للدولة.
1- في مفهوم الجماعة والجماعة السياسية
يعرف المستشار الجماعة السياسية بأنها "... مجموعة من البشر تتحدد بوصف لصيق يشملها ويميزها عن غيرها من المجموعات، وهي مرشحة لأن تقوم على أساسها الدولة، وإذا كانت المواطنة هي صفة الفرد الذي ينتمي إلى جماعة سياسية قامت على أساسها الدول، وبحسبان أن المواطن هو الطرف المقابل للدولة، فقد وجب النظر في مدى ما تنتجه المواطنة للمندرجين في وصفها من حقوق متساوية".
من الواضح أن هذا التعريف يربط بشكل تلقائي بين مفهوم الجماعة عموما ومفهوم الجماعة السياسية، فلا يلحظ أي تمييز بين أنماط الجماعات السياسية، تلك التي تقوم على أساس رابطة الدين وتعطي مفهوم الأخ المؤمن، وتلك التي تقوم على رابطة السياسة وتعطي مفهوم المواطنية. والحال، ليس جميع الجماعات جماعات سياسية، وليست كلها مؤهلة لتوليد جماعة سياسية، وليست الجماعات السياسية الناجمة عنها متشابهة في معناها ومضمون سياسيتها. والقصد أن نصاب السياسة ليس واحدا، وليست ماهية السياسي متطابقة في كل العصور والأقطار. نصاب السياسة في العصر الوسيط ليس هو في العصر الحديث. وهو ليس في العصر الوسيط بالمضمون ذاته في القطر الأثيني والقطر المصري أو العراقي. بمعنى آخر، لا تتأسس الدولة، محور السياسة وغايتها، على الأركان ذاتها في كل حقبة وكل مكان. فقد تقوم الدولة على الدين، كما يمكن أن تقوم على القومية، كما يمكن أن تقوم على القانون، وتكون دولة ديمقراطية قانونية. ونصاب السياسة، أي مشمولاتها من مجالات وطرائق ووسائل وغايات، ليست واحدة في كل الحالات. وما نسميه دولة في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية ليس له علاقة بمفهوم الدولة الحديثة، كما نعرفه في العصر الراهن، وإن كان يشكل نمطا من أنماط الكيانات السياسية.
قد تكون الرابطة الدينية أساسا لرابطة سياسية، وقد تتطابق جماعة الدين مع جماعة الدولة، أو الجماعة السياسية، لكن هذا ليس شرطا، ولا يمثل الحالة السائدة في التاريخ. وهو في العصر الحديث أكثر ندرة من أي فترة سابقة. فلا توجد اليوم جماعة دينية متطابقة تماما مع الجماعة السياسية، ولا يستثنى من ذلك الدول القائمة صراحة على الرابطة الدينية، مثل إسرائيل وباكستان. وبالعكس لا تقوم السياسة اليوم، من حيث هي تحقيق لسلطة ودولة، من خارج الرابطة السياسية. ذلك أن السلطة والدولة الحديثتين تستدعيان كشرط لهما تراجع أسبقية علاقات العصبية الطبيعية أو شبه الطبيعية لصالح نشوء علاقة مواطنية قائمة على وحدة القانون ومساواة المواطنين أمامه معا.
وليست العلاقة بين الجماعة السياسية والدولة واحدة في كل الأنماط السياسية. فعلاقة الدولة بالجماعة الدينية في الحقبة الاسلامية ليست من النوع ذاته الذي يحكم علاقة الدولة الحديثة بالأمة. فالدولة في النمط الأول مضافة إلى الجماعة من خارجها، أو آلة قهر خاصة تسندها شرعية دينية مستمدة من مطابقة تشريعاتها، فعليا أو شكليا، لأحكام الشريعة الدينية أو ما يعتقد أنه كذلك. أما الدولة الحديثة، في شكلها المكتمل الديمقراطي، فهي دولة معبرة عن الجماعة ومنبثقة عنها. بل هي الجماعة ذاتها وقد تجسدت في شكل مؤسسي منظم. وهي تستمد شرعيتها من نفسها، أي من آلية التمثيل الديمقراطي نفسه المعبر عنه في مجلس تشريعي منتخب. في الحالة الأولى تكون الدولة سلطانية، خاضعة للعصبية التي تستبد بسلطتها وتسيطر عليها، وتخضع من خلالها المجتمع لنظام ثابت. وفي الحالة الثانية تكون دولة أمة، تعكس نشوء رابطة سياسية تجمع بين مواطنين، وتترجم إرادتهم في العيش المشترك، وترجع إليهم في كل ما يتعلق بمصالحهم العامة والخاصة، وتعمل من خلال مباديء دستوية وقانونية واضحة ومضبوطة، من حيث أسلوب التشريع وضبط أصوله وقواعد عمله وتعديله.
وكما يتطلب تحديد مفهوم الجماعة التدقيق في الدلالات المختلفة لمصطلح الدولة، السلطانية والديمقراطية، يتطلب تحديد مفهوم الدولة التدقيق في استخدام مصطلح الامة. فالأمة بالمعنى الديني، وهنا الأمة الاسلامية، ليست هي نفسها المقصودة بالمعنى الوضعي، أي الأمة الحديثة المواطنية. فعندما نتحدث عن الامة أو الجماعة السياسية اليوم فنحن لا نشير إلى الجماعة الدينية، أو إلى الجماعة الدينية بوصفها جماعة سياسية، ولكن إلى رابطة سياسية مختلفة كليا عن الرابطة الدينية، من دون أن تكون نقيضا لها أو في صراع معها. وهذا التمييز مهم جدا في نقاشنا حول الأوضاع العربية الراهنة التي لا تتطابق الدول القائمة فيها مع الجماعة الدينية بأي شكل. وعلى سبيل المثال، عندما نتحدث عن إجماع الأمة، من منظور الفقه الاسلامي، ونعني به إجماع الأكثرية الإسلامية في هذا البلد أو ذاك، فنحن ننفي وجود الأمة بالمعنى السياسي، ونرد الرابطة السياسية الجديدة، ربما من دون أن ندري، إلى الرابطة الدينية، ونجعل من غير المسلمين حتما مواطنين مختلفين أو مغايرين، يمكن أن نفكر بأفضل السبل لمعالجة مشكلتهم وضمان العدالة تجاههم، وحتى المساواة، إلا أننا ندمر معنى الأمة بالمعنى الحديث الذي يعني الرابطة السياسية المستندة إلى وجود دولة وسلطة مركزية موحدة وقانون، تتعامل مع المجتمع كأفراد لهم حقوق وعليهم واجبات، أي كأفراد متساوين أمام القانون، ولا تنظر في اعتقاداتهم سواء أكانت دينية أو غير دينية، ولا يهمها إصلاح هذه الاعتقادات أو التدخل في شؤونها. هذا مفهوم آخر للأمة يشير إلى رابطة سياسية قانونية تجمع بين الأفراد بصرف النظر عن اعتقاداتهم، يختلف كليا عن مفهوم الأمة بمعنى الجماعة الدينية التي تؤلف بين أفراد ينتمون إلى عقيدة واحدة هي محور إئتلافهم، وبالتالي وبالضرورة مرجعهم في كل ما يصدر عنهم ويؤسس لوجودهم، بما في ذلك الدولة التي ينضوون تحت جناحها.
وربما كان من الأنسب لإزالة الالتباس استخدام مصلح الرابطة السياسية التي تمر حتما عبر الدولة، سواء أكانت قائمة فعلا أو في مسار التكوين، كما هو الحال لدى الحركات القومية الحديثة. فكما ذكرت ليست سياسية أو منتجة لنصاب سياسي وبالتالي لدولة أي جماعة أو رابطة بين الأفراد. رابطة الدين والعقيدة والعصبية القبلية والعائلية ليست رابطة سياسية، وليست منتجة تلقائيا، مهما توسعت دائرة نفوذها وانتشارها، لرابطة سياسية. حتى تتحول كل منها أو بعضها إلى رابطة سياسية لا بد أن تطرأ عليها، أو تكون قد طرأت عليها، تحولات عميقة، أي حصلت فيها طفرة، تنتقل بموجبها روح التكافل من إطار العصبية المرتبطة بمشاعر القرابة العضوية، العقيدية أو الدموية، إلى إطار الوعي السياسي بمصير مشترك مرتبط بوجود الدولة، وبالوجود معا داخل الدولة، وبالمسؤولية عنها. لذلك لا تنفصل الأمة بالمعنى السياسي الحديث عن وجود الدولة، ولا يمكن التفكير فيها خارجها. وحتى عندما يكون الوعي السياسي مرتبطا بمشروع أمة تتجاوز حدود الكيانات السياسية القائمة، كما هو الحال بالنسبة للقومية العربية، فإن فكرة الأمة لا تستقيم من دون التفكير بدولة الوحدة. بل إن مبرر وجود القومية العربية وهدفها هو تكوين الدولة الواحدة. فالأمة بالمعنى السياسي، أي كرابطة بين أفراد يوحدهم الولاء للدولة القائمة والخضوع لقوانينها، لا تنفصل عن الدولة بالمعنى الوضعي، أي كنتاج إرادة الأفراد واختياراتهم، بما في ذلك، بل في مقدمة ذلك المباديء والقوانين التي تقوم عليها.
وعدم التمييز بين مفهوم الأمة بالمعنى الديني والمعنى السياسي هو الذي منع المستشار من إدراك أن الحديث عن أكثرية وأقلية دينيتين، حتى في إطار الدفاع عن مبدأ المساواة، لا معنى له في إطار المفهوم الوطني للدولة. إذ متى ما طبقت فكرة الأمة بالمعنى الحديث الذي يجعل منها التجسيد السياسي لإرادة أعضائها، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم، تساوى أفرادها امام القانون، وأصبحوا شركاء متساوين في مشروع أو شركة واحدة هي الدولة، ومنتمين لقانون هو ثمرة اختيارهم وإرادتهم الحرة، ولم تعد الاعتقادات الدينية مكانا للتعريف داخل الدولة وعلى مستواها، حتى إن استمرت محددا أساسيا على مستوى الحياة المدنية والأهلية. وتنتفي في هذه الحالة الحاجة إلى التذكير بالنسبة العددية لهذه الجماعة أو تلك إلى مجموع السكان، ولا يعود لهذه النسبة أيضا أي قيمة في تحديد العلاقة بين الفرد المواطن والدولة. فليس للمسلم أو لا ينبغي أن يكون له، في منظور الدولة الديمقراطية القائمة على المساواة في المواطنية، مزايا خاصة في علاقته بالدولة تترتب على انتمائه إلى جماعة تشكل أكثرية دينية، ولا للمسيحي واجبات مختلفة أو أكثر لأنه ينتمي إلى جماعة تمثل أقلية دينية. بمعنى آخر ليس للحديث عن أقليات واكثريات دينية أي معنى في ميدان العلاقة بين الدولة والمواطن الفرد، ولا بالتالي للكلام في المساواة بين الجماعات الدينية أو إنصاف جماعة ضد أخرى، بسبب حجمها أو موقعها، اللهم إلا على سبيل احترام خصوصية بعض الجماعات الثقافية.
2- مسألة مرجعية الدولة الاسلامية
في هذه المسألة أيضا، يبدو لي أن من الصعب جدا، انطلاقا من منطق الفكر السياسي الحديث، فهم الاستنتاج الذي يتوصل إليه سيادة المستشار عندما يكتب مثلا في نهاية بحثه:
" والحال أن الدستور عندما يؤكد على إسلامية الدولة، فهو يؤكد أيضًا على حقوق المساواة بين المواطنين جميعًا، ويؤكد الحقوق المتساوية المستقاة من مبدأ المواطنة، وهو بهذا الجمع بين النصّ على إسلامية الدولة وأن مرجعيتها هي مبادئ التشريع الإسلامي، والنصّ على المساواة بين المواطنين، إنما يكون قد اعتمد من وجهات النظر الإسلامية ما يؤكد على المساواة بين المواطنين، ويكون قد أقرّ بأن المساواة بين المواطنين هي مما يعتمده من المبادئ المستندة إلى الفقه الإسلامي. والمعروف في أصول الفقه الإسلامي أن لولي الأمر - إمامًا كان أو قاضيًا - أن يرجح من الآراء التي يسعها الفقه الإسلامي ما يرى ترجيحه، فيصير هذا الرأي هو ما يكتسب الشرعية في الحالة العينية التي رجح فيها، وذلك كله ما دامت وجوه النظر الفقهي تسع هذا النظر".
ربما كان المقصود أن دين الاسلام هو دين المساواة بين البشر، والدولة التي تعلنه مرجعا لها لا يمكن إلا أن تكون دولة مساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن اعتقاداتهم الدينية. لكن في هذه الحالة من الذي يحدد مباديء التشريع الاسلامي ويسهر على تفسيرها، وما الذي يضمن أن لا يزوغ الفقيه الذي سيتولى تلك المهمة، إماما كان أو قاضيا، عن الحق ما دام لا يخضع لمرجعية أخرى سوى مرجعية النص الذي يملك وحده، أو يعتقد أنه يملك مفتاحه؟ وكيف يمكن أن تستقيم المساواة، بين المواطنين، مسلمين ومسيحيين ولا متدينين، إذا كانت الدولة وقوانينها مستمدة من شريعة أو ما يعتقد أنه شريعة فئة واحدة منها؟ لعل المستشار يرى في المساواة نوعا من التوزيع العادل أو الاحترام المتبادل للحقوق، وهنا حقوق الأقليات الدينية بشكل خاص. لكن ما هو الموقف من حق المواطنين من غير المسلمين في المساهمة في صوغ قوانين البلاد وتشريعها؟
من الواضح أن طارق البشري لا يأخذ تماما بالنظرية الفقهية التقليدية التي تقر بمشاركة غير المسلمين في قضايا التنفيذ والتفويض، مع الاحتفاظ بقضايا التشريع أو بكل منصب يتضمن التشريع، حكرا على المسلمين. لكن الأسلوب الذي يختاره لتجاوزها، وإن نجح في الالتفاف على الاعتراضات القديمة، إلا أنه يعجز عن تلبية حاجات بناء منطق مواطني جديد. فهو يبيح ولاية المرأة وولاية غير المسلم في المناصب التشريعية، انطلاقا من التأكيد على أن الشخص لم يعد هو صاحب القرار في الدولة الحديثة وإنما هو يعمل ضمن مؤسسة، تضبط عمله وتتحكم هي نفسها بقراره، وبالتالي فلا حرج في أن يتولى المسؤولية العليا في هذه المؤسسات، غير مسلم. لكن هذا التخريج الفقهي الجميل لا يستقيم في الواقع إلا إذا كانت هناك ضمانة في أن تبقى المؤسسات خاضعة للإسلام أو محكومة بمنطق الشريعة الاسلامية. وهذا هو هدف التاكيد على المرجعية الاسلامية للدولة، وفي ما وراء ذلك، العداء غير المفهوم في نظري لمفهوم علمنة الدولة، أو إخضاعها لإرادة مواطنيها من دون فرض التزام ديني أو عقائدي عليها. وهذا يشبه ما كان عليه الامر في النظم الشيوعية أو القومية المرتبطة بثوابت تحد من سيادة الشعب وتؤطر قراراته ضمن صيغة لا تفيد إلا من يضعون انفسهم في موقع الوصاية على الدولة والشعب، أعني حماية العقيدة ونقاءها.
يبدو لي أن هناك مشكلة لا يمكن حسم مسألة المرجعية الاسلامية، أي علاقة المسلمين بالدولة، والعرب منهم بشكل خاص، من دون الاجابة عنها. وهذه المشكلة تنبع من الشعور السائد عندنا نحن المسلمين بأن كوننا أكثرية من السكان يرتب لنا حقوقا على الدولة، أو يعطينا الحق في حيازة حصة أكبر منها، وبشكل خاص في ما يتعلق بالمرجعية والتشريع. كما لو كانت هناك حقوق إضافية للأغلبية الدينية تمكنها من المطالبة بجعل دينها مرجعية للدولة. وهو ما يؤدي حقيقة إلى قطع الطريق تماما على بناء مفهوم الدولة والجماعة السياسية.
والحال إن الأغلبية الوحيدة المعترف بها رسميا في الدولة الحديثة هي الأغلبية السياسية. على الأغلبية الدينية أن تعبر عن نفسها عبر الأغلبية السياسية لا أن تفرض نفسها عليها من خارجها. هذه هي قاعدة العمل في الدولة الديمقراطية. ولكل دولة قاعدة عمل. لا يمكن وضع قاعدة الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية معا. هذا يخلق تناقضا لا يمكن تجاوزه، هو ما نعيشه ويحرمنا من التقدم. علينا أن نقر بقاعدة الاغلبية السياسية التي لا تعني أبدا نفي الأغلبية الدينية، وإنما تمييز إطار التعبير عن كل منهما: السياسية في الدولة وفي كل ما يتعلق بالعلاقة معها، والدينية في المجتمع وكل ما يتعلق بالهداية الروحية والتربية البشرية والصراع على حقل الثقافة وتكوين الوعي وتسويد القيم الاجتماعية. فميدان الدين هو الجدال، أي الوعي والعقل والروح، لأن الدين يخاطب الإنسان والعقل، وميدان السياسة هو الأصول الإجرائية والقانونية التي يقوم عليها النظام العام، والتي تهدف إلى تنظيم أمور الهيئة الاجتماعية الاعتبارية، والسهر على شؤونها، والعناية باستقرارها وتقدمها وازدهارها.
لا يمكن للمسلمين أن يطالبوا بحقوق إضافية أو بمزايا خاصة للأغلبية الدينية في إطار علاقتهم بالدولة، إذا كانوا يريديون بالفعل دولة ديمقراطية، قائمة على علاقة بين مواطنين أحرار، ومكونة لحريتهم ومساواتهم أو لمواطنتهم معا. وليس من المنطق أيضا أن يسعوا إلى ذلك بينما هم أغلبية تتمتع بحكم الواقع بمزايا الأغلبية، وتفرض حتما، ومن دون اختيار، ثقافتها ورموزها وأذواقها على المجتمع ككل. من يحتاج إلى اتخاذ احتياطات، وربما المطالبة بمزايا خاصة أو باستثناءات، هي الأقلية الدينية أو القومية. ولا يمكن لمطالبة الأغلبية بمزايا فوق ما يقدمه لها وزنها العددي النسبي منها، إلا أن يفسر على أنه محاولة لقطع الطريق على مطالبة الأقليات بحقوقها المتساوية، أي على نشوء مواطنية متساوية وحرة بالفعل، بعيدة عن أي إكراه. في إطار نظام سياسي يعتمد قاعدة الأغلبية السياسية ويأخذ بالديمقراطية والمساواة بين أبناء الدولة جميعا، تعمل هذه النزعة بعكس المطلوب. أقصد أن من المفروض أن تقدم الأغلبية الدينية أو القومية التي لا خطر على هيمنتها الثقافية، هي نفسها، ضمانات تطمئن الأقلية الدينية أو القومية وليس العكس.
متى ما نظرنا إلى الأمة بالمعنى السياسي وصرفنا النظر عن التميزات الدينية والإتنية، لم يعد هناك معنى للحديث عن مرجعية إسلامية. فالاسلام مرجعية الجماعة المسلمة والمسلمين، بصرف النظر عن صفتهم كمواطنين، وعن الدولة التي هم مواطنون فيها، أو بالإضافة إلى مواطنيتهم، التي لا ينبغي أن يزيدها الانتماء لدين ولا ينقص منها الانتماء لدين آخر قوة أو قيمة. لكن مرجعية الدولة لا يمكن أن تكون سوى الشعب، أي مجموع الأفراد المنضوين تحت لواء الدولة، والمسؤولين عن تسييرها والمشاركة في صوغ تشريعاتها وتطبيق قوانينها. وهذا هو معنى العبارة : الشعب مصدر السلطات، وإليه يكون الرجوع حتما، عبر الانتخابات والاستفتاءات، كلما تعرض المجتمع لأزمة، أو حصل اختلاف في تفسير القوانين والنصوص. والحديث عن مرجعية إسلامية مسبقة تحدد سقف الحرية والعدالة والمساواة في الدولة يعنى وضع شرعية أخرى إلى جانب الشرعية الديمقراطية المتمثلة في إرادة الناخبين وقبولهم، هي الشرعية الدينية التي لا يمكن أن تتحقق من دون وصاية فقهية تحدد، كما هو الحال في الجمهورية الاسلامية الايرانية اليوم على سبيل المثال، تطابق قوانين البلاد المشترعة في المجلس النيابي مع أحكام الفقيه الولي أو الوصي، أي مع إرادة المرشد العام للثورة او للدولة.
وبعكس ما يعتقد أصحاب نظرية مرجعية الدولة الاسلامية، لا تكمن المشكلة الرئيسية في هذه النظرية في تحويلها غير المسلمين إلى مواطنين من الدرجة الثانية، أو في ما يمكن أن تسببه من انتقاص في حقوقهم وتمثيل مصالحهم، وإنما، أخطر من ذلك، في قطع الطريق على نشوء علاقة مواطنة فعلية، وإجبار المسلمين على التصرف باعتبار كل فرد منهم عضوا في طائفة دينية، قبل أن يكون مواطنا حرا وعضوا في دولة ، أي حرمان المسلمين أنفسهم من صفة المواطنين، وتحويل الدولة إلى زعامة قبلية. فما يميز الطائفة عن الجماعة الدينية هو بالضبط قيامها على مبدأ العصبية الذي لخصه القدماء في عبارة قوية : أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، أي إلى ما يشبه القبيلة التي تتصرف بدافع التضامن العصبي ضد قبائل أخرى. فيصبح مصير المسلم وتفكيره مرتبطين بمنطق الدفاع عن العصبية القبلية التي تمثلها جماعة لم يعد فيها أحد يحتكم إلى العقل ولا يستند في سلوكه إلى مباديء الايمان وقيم الدين الأخلاقية والإنسانية، وإنما إلى مصلحة الطائفة ومكانتها وموقعها في الدولة. إن مشكلتها كامنة في تجريد المسلم نفسه من حقوقه في أن يكون فردا حرا ومستقلا ومجتهدا في الدين وفي السياسة معا، من دون كنيسة ومن دون كهنوت ومن دون زعامة دينية طائفية مفترضة، وبالتالي في مصادرة إرادة المسلمين كأفراد من أجل تكوين زعامة عصبية تحكم باسمهم في إطار الصراع على الموارد وتوزيع الحصص في دولة فرغت من مضمونها، وأصبحت ضحية تفاهم زعماء الطوائف ونزاعاتهم الأبدية، على مثال ما هو قائم في لبنان وما يراد له أن يقوم بالقوة والعنف في العراق.
من هنا لا ينبع الاعتراض على فكرة مرجعية الدولة الاسلامية من اعتراض على الدين نفسه، ولا على مكانته الاجتماعية أو هيمنته الثقافية والفكرية، ولا على حق الأكثرية المسلمة في تسويد قيمها وأسلوب حياتها حيث هي أغلبية، وإنما من الاعتقاد بأن استقلال الدولة عن جميع الزعامات والقيادات الدينية والفلسفية، وارتفاعها عن التدخل في الشؤون الروحية، في أي صورة جاءت، باستثناء تمكين أصحاب الأديان من ممارسة عباداتهم واعتقاداتهم بحرية، وتوفير وسائل هذه الممارسة المادية والمعنوية، هو شرط نشوء رابطة جديدة بين أعضاء المجتمع المكون من مذاهب واديان واعتقادات مختلفة ومتعددة ومتباينة حتى داخل الدين الواحد، هي رابطة الوطنية التي تجمع الأفراد، عبر الطوائف والمذاهب جميعا، وتؤلف منهم شعبا واحدا. ووسيلة هذا الجمع وذاك التأليف هي بالضبط تكوين المواطنية التي تعبر عن ضمان مكانة واحدة للأفراد كافة، مرتبطة هي نفسها بإقرارهم لبعضهم البعض حقوقا واحدة، يترتب عليها مسؤوليات واحدة وواجبات متساوية أيضا. وفي هذه المساواة في الحقوق والواجبات على مستوى العلاقة بالدولة والسياسة، يعاد بناء الفرد كمواطن، ويتم تجاوز تمايزه على مستوى المجتمع المدني كمؤمن أو صاحب اعتقاد مختلف وعضو في جماعة أهلية متميزة. من دون بناء هذه الرابطة الموحدة من خلال مفهوم المساواة في الحقوق والواجبات، لا يمكن الخروج من نزاعات المجتمع الأهلي واختلافاته وتمايزه، ولا بناء دولة أمة ومواطنية.
بديل ذلك سيكون بالضرورة إما الفوضى والنزاع الدائم بين طوائف وقبائل لا رابط بينها، لأنها لم ترتفع إلى مستوى المبدا السياسي، أو حكم الطائفية أو القبلية أو المافيا النابع من نجاح إحدى الجماعات الأهلية الخاصة في اختطاف الدولة، التي نشات في السياق التاريخي الخاص لنزع الاستعمار، والسيطرة عليها واستخدامها كأداة وآلة لإخضاع الطوائف والقبائل والجماعات الأهلية المتفرقة الأخرى، وفرض الإذعان عليها، واستعبادها لتحقيق مصالح خاصة أو مآرب وأمجاد شخصية لزعاماتها.
مهما أجرينا من تعديل على الصيغة الأساسية للايديولوجية الاسلاموية، لن يكون من الممكن تحويل الاسلام، وهو رابطة دينية واعتقادية أصلا، إلى أساس لرابطة سياسية تجمع بين المسلم والمسيحي والبوذي وغير المؤمن. بل ليس من الممكن في نظري، مهما خففنا من مطالب هذه الدعوة ومن مغالاة أصحابها أو بعض أصحابها، إعادة بناء الرابطة الإسلامية المفككة، أي إحياء الجماعة الدينية، انطلاقا من تأكيد المرجعية الإسلامية للدولة والدعوة لها، ولا تجاوز التمايزات والاختلافات المتفاقمة بين أبنائها بسبب تباعد مصالحهم الاجتماعية وتباين انتماءاتهم السياسية وتعدد ولاءاتهم الفكرية وتطلعاتهم الفردية والجمعية. ولن تكون نتيجة هذه المحاولات والمساعي النبيلة سوى إضاعة فرصة بناء الرابطة السياسة ودولة المواطنة، وإضعاف قدرة المسلمين على مواجهة مخاطر الانقسام والاختلاف الديني والمذهبي وما يقود إليه من توسيع دائرة الفتنة والاقتتال في ما بينهم، كما هو قائم اليوم في أكثر من قطر من أقطارنا.
الجماعة السياسة والمواطنة من منظور إسلامي
ندوة القومية والدين، الاسكندرية، 11-12 ديسمبر 2007
يقدم لنا المستشار طارق البشري في ورقته رؤية منفتحة لمسألة المواطنية في منظور ما أصبح يسمى الاسلام السياسي، بجميع تياراته، تمييزا له عن الاسلام الذي لا يمكن أن يحتكر أي شخص او تيار سياسي حق الكلام باسمه أو تفسير نصوصه الأساسية. بيد أن هذا الانفتاح لا يمنع من أن مسائل كثيرة لا تزال تحتاج إلى مناقشة وتطوير في هذه الرؤية الاسلاموية للمواطنية. وأكتفي هنا بالإشارة إلى نوعين منها، تتعلق الأولى بمفهوم الجماعة والجماعة السياسية نفسها، وهو ما يستمد منه مفهوم المواطنية معناه، وتتعلق الثانية بمسألة مرجعية الدولة الاسلامية أو المرجعية الاسلامية للدولة.
1- في مفهوم الجماعة والجماعة السياسية
يعرف المستشار الجماعة السياسية بأنها "... مجموعة من البشر تتحدد بوصف لصيق يشملها ويميزها عن غيرها من المجموعات، وهي مرشحة لأن تقوم على أساسها الدولة، وإذا كانت المواطنة هي صفة الفرد الذي ينتمي إلى جماعة سياسية قامت على أساسها الدول، وبحسبان أن المواطن هو الطرف المقابل للدولة، فقد وجب النظر في مدى ما تنتجه المواطنة للمندرجين في وصفها من حقوق متساوية".
من الواضح أن هذا التعريف يربط بشكل تلقائي بين مفهوم الجماعة عموما ومفهوم الجماعة السياسية، فلا يلحظ أي تمييز بين أنماط الجماعات السياسية، تلك التي تقوم على أساس رابطة الدين وتعطي مفهوم الأخ المؤمن، وتلك التي تقوم على رابطة السياسة وتعطي مفهوم المواطنية. والحال، ليس جميع الجماعات جماعات سياسية، وليست كلها مؤهلة لتوليد جماعة سياسية، وليست الجماعات السياسية الناجمة عنها متشابهة في معناها ومضمون سياسيتها. والقصد أن نصاب السياسة ليس واحدا، وليست ماهية السياسي متطابقة في كل العصور والأقطار. نصاب السياسة في العصر الوسيط ليس هو في العصر الحديث. وهو ليس في العصر الوسيط بالمضمون ذاته في القطر الأثيني والقطر المصري أو العراقي. بمعنى آخر، لا تتأسس الدولة، محور السياسة وغايتها، على الأركان ذاتها في كل حقبة وكل مكان. فقد تقوم الدولة على الدين، كما يمكن أن تقوم على القومية، كما يمكن أن تقوم على القانون، وتكون دولة ديمقراطية قانونية. ونصاب السياسة، أي مشمولاتها من مجالات وطرائق ووسائل وغايات، ليست واحدة في كل الحالات. وما نسميه دولة في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية ليس له علاقة بمفهوم الدولة الحديثة، كما نعرفه في العصر الراهن، وإن كان يشكل نمطا من أنماط الكيانات السياسية.
قد تكون الرابطة الدينية أساسا لرابطة سياسية، وقد تتطابق جماعة الدين مع جماعة الدولة، أو الجماعة السياسية، لكن هذا ليس شرطا، ولا يمثل الحالة السائدة في التاريخ. وهو في العصر الحديث أكثر ندرة من أي فترة سابقة. فلا توجد اليوم جماعة دينية متطابقة تماما مع الجماعة السياسية، ولا يستثنى من ذلك الدول القائمة صراحة على الرابطة الدينية، مثل إسرائيل وباكستان. وبالعكس لا تقوم السياسة اليوم، من حيث هي تحقيق لسلطة ودولة، من خارج الرابطة السياسية. ذلك أن السلطة والدولة الحديثتين تستدعيان كشرط لهما تراجع أسبقية علاقات العصبية الطبيعية أو شبه الطبيعية لصالح نشوء علاقة مواطنية قائمة على وحدة القانون ومساواة المواطنين أمامه معا.
وليست العلاقة بين الجماعة السياسية والدولة واحدة في كل الأنماط السياسية. فعلاقة الدولة بالجماعة الدينية في الحقبة الاسلامية ليست من النوع ذاته الذي يحكم علاقة الدولة الحديثة بالأمة. فالدولة في النمط الأول مضافة إلى الجماعة من خارجها، أو آلة قهر خاصة تسندها شرعية دينية مستمدة من مطابقة تشريعاتها، فعليا أو شكليا، لأحكام الشريعة الدينية أو ما يعتقد أنه كذلك. أما الدولة الحديثة، في شكلها المكتمل الديمقراطي، فهي دولة معبرة عن الجماعة ومنبثقة عنها. بل هي الجماعة ذاتها وقد تجسدت في شكل مؤسسي منظم. وهي تستمد شرعيتها من نفسها، أي من آلية التمثيل الديمقراطي نفسه المعبر عنه في مجلس تشريعي منتخب. في الحالة الأولى تكون الدولة سلطانية، خاضعة للعصبية التي تستبد بسلطتها وتسيطر عليها، وتخضع من خلالها المجتمع لنظام ثابت. وفي الحالة الثانية تكون دولة أمة، تعكس نشوء رابطة سياسية تجمع بين مواطنين، وتترجم إرادتهم في العيش المشترك، وترجع إليهم في كل ما يتعلق بمصالحهم العامة والخاصة، وتعمل من خلال مباديء دستوية وقانونية واضحة ومضبوطة، من حيث أسلوب التشريع وضبط أصوله وقواعد عمله وتعديله.
وكما يتطلب تحديد مفهوم الجماعة التدقيق في الدلالات المختلفة لمصطلح الدولة، السلطانية والديمقراطية، يتطلب تحديد مفهوم الدولة التدقيق في استخدام مصطلح الامة. فالأمة بالمعنى الديني، وهنا الأمة الاسلامية، ليست هي نفسها المقصودة بالمعنى الوضعي، أي الأمة الحديثة المواطنية. فعندما نتحدث عن الامة أو الجماعة السياسية اليوم فنحن لا نشير إلى الجماعة الدينية، أو إلى الجماعة الدينية بوصفها جماعة سياسية، ولكن إلى رابطة سياسية مختلفة كليا عن الرابطة الدينية، من دون أن تكون نقيضا لها أو في صراع معها. وهذا التمييز مهم جدا في نقاشنا حول الأوضاع العربية الراهنة التي لا تتطابق الدول القائمة فيها مع الجماعة الدينية بأي شكل. وعلى سبيل المثال، عندما نتحدث عن إجماع الأمة، من منظور الفقه الاسلامي، ونعني به إجماع الأكثرية الإسلامية في هذا البلد أو ذاك، فنحن ننفي وجود الأمة بالمعنى السياسي، ونرد الرابطة السياسية الجديدة، ربما من دون أن ندري، إلى الرابطة الدينية، ونجعل من غير المسلمين حتما مواطنين مختلفين أو مغايرين، يمكن أن نفكر بأفضل السبل لمعالجة مشكلتهم وضمان العدالة تجاههم، وحتى المساواة، إلا أننا ندمر معنى الأمة بالمعنى الحديث الذي يعني الرابطة السياسية المستندة إلى وجود دولة وسلطة مركزية موحدة وقانون، تتعامل مع المجتمع كأفراد لهم حقوق وعليهم واجبات، أي كأفراد متساوين أمام القانون، ولا تنظر في اعتقاداتهم سواء أكانت دينية أو غير دينية، ولا يهمها إصلاح هذه الاعتقادات أو التدخل في شؤونها. هذا مفهوم آخر للأمة يشير إلى رابطة سياسية قانونية تجمع بين الأفراد بصرف النظر عن اعتقاداتهم، يختلف كليا عن مفهوم الأمة بمعنى الجماعة الدينية التي تؤلف بين أفراد ينتمون إلى عقيدة واحدة هي محور إئتلافهم، وبالتالي وبالضرورة مرجعهم في كل ما يصدر عنهم ويؤسس لوجودهم، بما في ذلك الدولة التي ينضوون تحت جناحها.
وربما كان من الأنسب لإزالة الالتباس استخدام مصلح الرابطة السياسية التي تمر حتما عبر الدولة، سواء أكانت قائمة فعلا أو في مسار التكوين، كما هو الحال لدى الحركات القومية الحديثة. فكما ذكرت ليست سياسية أو منتجة لنصاب سياسي وبالتالي لدولة أي جماعة أو رابطة بين الأفراد. رابطة الدين والعقيدة والعصبية القبلية والعائلية ليست رابطة سياسية، وليست منتجة تلقائيا، مهما توسعت دائرة نفوذها وانتشارها، لرابطة سياسية. حتى تتحول كل منها أو بعضها إلى رابطة سياسية لا بد أن تطرأ عليها، أو تكون قد طرأت عليها، تحولات عميقة، أي حصلت فيها طفرة، تنتقل بموجبها روح التكافل من إطار العصبية المرتبطة بمشاعر القرابة العضوية، العقيدية أو الدموية، إلى إطار الوعي السياسي بمصير مشترك مرتبط بوجود الدولة، وبالوجود معا داخل الدولة، وبالمسؤولية عنها. لذلك لا تنفصل الأمة بالمعنى السياسي الحديث عن وجود الدولة، ولا يمكن التفكير فيها خارجها. وحتى عندما يكون الوعي السياسي مرتبطا بمشروع أمة تتجاوز حدود الكيانات السياسية القائمة، كما هو الحال بالنسبة للقومية العربية، فإن فكرة الأمة لا تستقيم من دون التفكير بدولة الوحدة. بل إن مبرر وجود القومية العربية وهدفها هو تكوين الدولة الواحدة. فالأمة بالمعنى السياسي، أي كرابطة بين أفراد يوحدهم الولاء للدولة القائمة والخضوع لقوانينها، لا تنفصل عن الدولة بالمعنى الوضعي، أي كنتاج إرادة الأفراد واختياراتهم، بما في ذلك، بل في مقدمة ذلك المباديء والقوانين التي تقوم عليها.
وعدم التمييز بين مفهوم الأمة بالمعنى الديني والمعنى السياسي هو الذي منع المستشار من إدراك أن الحديث عن أكثرية وأقلية دينيتين، حتى في إطار الدفاع عن مبدأ المساواة، لا معنى له في إطار المفهوم الوطني للدولة. إذ متى ما طبقت فكرة الأمة بالمعنى الحديث الذي يجعل منها التجسيد السياسي لإرادة أعضائها، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم، تساوى أفرادها امام القانون، وأصبحوا شركاء متساوين في مشروع أو شركة واحدة هي الدولة، ومنتمين لقانون هو ثمرة اختيارهم وإرادتهم الحرة، ولم تعد الاعتقادات الدينية مكانا للتعريف داخل الدولة وعلى مستواها، حتى إن استمرت محددا أساسيا على مستوى الحياة المدنية والأهلية. وتنتفي في هذه الحالة الحاجة إلى التذكير بالنسبة العددية لهذه الجماعة أو تلك إلى مجموع السكان، ولا يعود لهذه النسبة أيضا أي قيمة في تحديد العلاقة بين الفرد المواطن والدولة. فليس للمسلم أو لا ينبغي أن يكون له، في منظور الدولة الديمقراطية القائمة على المساواة في المواطنية، مزايا خاصة في علاقته بالدولة تترتب على انتمائه إلى جماعة تشكل أكثرية دينية، ولا للمسيحي واجبات مختلفة أو أكثر لأنه ينتمي إلى جماعة تمثل أقلية دينية. بمعنى آخر ليس للحديث عن أقليات واكثريات دينية أي معنى في ميدان العلاقة بين الدولة والمواطن الفرد، ولا بالتالي للكلام في المساواة بين الجماعات الدينية أو إنصاف جماعة ضد أخرى، بسبب حجمها أو موقعها، اللهم إلا على سبيل احترام خصوصية بعض الجماعات الثقافية.
2- مسألة مرجعية الدولة الاسلامية
في هذه المسألة أيضا، يبدو لي أن من الصعب جدا، انطلاقا من منطق الفكر السياسي الحديث، فهم الاستنتاج الذي يتوصل إليه سيادة المستشار عندما يكتب مثلا في نهاية بحثه:
" والحال أن الدستور عندما يؤكد على إسلامية الدولة، فهو يؤكد أيضًا على حقوق المساواة بين المواطنين جميعًا، ويؤكد الحقوق المتساوية المستقاة من مبدأ المواطنة، وهو بهذا الجمع بين النصّ على إسلامية الدولة وأن مرجعيتها هي مبادئ التشريع الإسلامي، والنصّ على المساواة بين المواطنين، إنما يكون قد اعتمد من وجهات النظر الإسلامية ما يؤكد على المساواة بين المواطنين، ويكون قد أقرّ بأن المساواة بين المواطنين هي مما يعتمده من المبادئ المستندة إلى الفقه الإسلامي. والمعروف في أصول الفقه الإسلامي أن لولي الأمر - إمامًا كان أو قاضيًا - أن يرجح من الآراء التي يسعها الفقه الإسلامي ما يرى ترجيحه، فيصير هذا الرأي هو ما يكتسب الشرعية في الحالة العينية التي رجح فيها، وذلك كله ما دامت وجوه النظر الفقهي تسع هذا النظر".
ربما كان المقصود أن دين الاسلام هو دين المساواة بين البشر، والدولة التي تعلنه مرجعا لها لا يمكن إلا أن تكون دولة مساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن اعتقاداتهم الدينية. لكن في هذه الحالة من الذي يحدد مباديء التشريع الاسلامي ويسهر على تفسيرها، وما الذي يضمن أن لا يزوغ الفقيه الذي سيتولى تلك المهمة، إماما كان أو قاضيا، عن الحق ما دام لا يخضع لمرجعية أخرى سوى مرجعية النص الذي يملك وحده، أو يعتقد أنه يملك مفتاحه؟ وكيف يمكن أن تستقيم المساواة، بين المواطنين، مسلمين ومسيحيين ولا متدينين، إذا كانت الدولة وقوانينها مستمدة من شريعة أو ما يعتقد أنه شريعة فئة واحدة منها؟ لعل المستشار يرى في المساواة نوعا من التوزيع العادل أو الاحترام المتبادل للحقوق، وهنا حقوق الأقليات الدينية بشكل خاص. لكن ما هو الموقف من حق المواطنين من غير المسلمين في المساهمة في صوغ قوانين البلاد وتشريعها؟
من الواضح أن طارق البشري لا يأخذ تماما بالنظرية الفقهية التقليدية التي تقر بمشاركة غير المسلمين في قضايا التنفيذ والتفويض، مع الاحتفاظ بقضايا التشريع أو بكل منصب يتضمن التشريع، حكرا على المسلمين. لكن الأسلوب الذي يختاره لتجاوزها، وإن نجح في الالتفاف على الاعتراضات القديمة، إلا أنه يعجز عن تلبية حاجات بناء منطق مواطني جديد. فهو يبيح ولاية المرأة وولاية غير المسلم في المناصب التشريعية، انطلاقا من التأكيد على أن الشخص لم يعد هو صاحب القرار في الدولة الحديثة وإنما هو يعمل ضمن مؤسسة، تضبط عمله وتتحكم هي نفسها بقراره، وبالتالي فلا حرج في أن يتولى المسؤولية العليا في هذه المؤسسات، غير مسلم. لكن هذا التخريج الفقهي الجميل لا يستقيم في الواقع إلا إذا كانت هناك ضمانة في أن تبقى المؤسسات خاضعة للإسلام أو محكومة بمنطق الشريعة الاسلامية. وهذا هو هدف التاكيد على المرجعية الاسلامية للدولة، وفي ما وراء ذلك، العداء غير المفهوم في نظري لمفهوم علمنة الدولة، أو إخضاعها لإرادة مواطنيها من دون فرض التزام ديني أو عقائدي عليها. وهذا يشبه ما كان عليه الامر في النظم الشيوعية أو القومية المرتبطة بثوابت تحد من سيادة الشعب وتؤطر قراراته ضمن صيغة لا تفيد إلا من يضعون انفسهم في موقع الوصاية على الدولة والشعب، أعني حماية العقيدة ونقاءها.
يبدو لي أن هناك مشكلة لا يمكن حسم مسألة المرجعية الاسلامية، أي علاقة المسلمين بالدولة، والعرب منهم بشكل خاص، من دون الاجابة عنها. وهذه المشكلة تنبع من الشعور السائد عندنا نحن المسلمين بأن كوننا أكثرية من السكان يرتب لنا حقوقا على الدولة، أو يعطينا الحق في حيازة حصة أكبر منها، وبشكل خاص في ما يتعلق بالمرجعية والتشريع. كما لو كانت هناك حقوق إضافية للأغلبية الدينية تمكنها من المطالبة بجعل دينها مرجعية للدولة. وهو ما يؤدي حقيقة إلى قطع الطريق تماما على بناء مفهوم الدولة والجماعة السياسية.
والحال إن الأغلبية الوحيدة المعترف بها رسميا في الدولة الحديثة هي الأغلبية السياسية. على الأغلبية الدينية أن تعبر عن نفسها عبر الأغلبية السياسية لا أن تفرض نفسها عليها من خارجها. هذه هي قاعدة العمل في الدولة الديمقراطية. ولكل دولة قاعدة عمل. لا يمكن وضع قاعدة الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية معا. هذا يخلق تناقضا لا يمكن تجاوزه، هو ما نعيشه ويحرمنا من التقدم. علينا أن نقر بقاعدة الاغلبية السياسية التي لا تعني أبدا نفي الأغلبية الدينية، وإنما تمييز إطار التعبير عن كل منهما: السياسية في الدولة وفي كل ما يتعلق بالعلاقة معها، والدينية في المجتمع وكل ما يتعلق بالهداية الروحية والتربية البشرية والصراع على حقل الثقافة وتكوين الوعي وتسويد القيم الاجتماعية. فميدان الدين هو الجدال، أي الوعي والعقل والروح، لأن الدين يخاطب الإنسان والعقل، وميدان السياسة هو الأصول الإجرائية والقانونية التي يقوم عليها النظام العام، والتي تهدف إلى تنظيم أمور الهيئة الاجتماعية الاعتبارية، والسهر على شؤونها، والعناية باستقرارها وتقدمها وازدهارها.
لا يمكن للمسلمين أن يطالبوا بحقوق إضافية أو بمزايا خاصة للأغلبية الدينية في إطار علاقتهم بالدولة، إذا كانوا يريديون بالفعل دولة ديمقراطية، قائمة على علاقة بين مواطنين أحرار، ومكونة لحريتهم ومساواتهم أو لمواطنتهم معا. وليس من المنطق أيضا أن يسعوا إلى ذلك بينما هم أغلبية تتمتع بحكم الواقع بمزايا الأغلبية، وتفرض حتما، ومن دون اختيار، ثقافتها ورموزها وأذواقها على المجتمع ككل. من يحتاج إلى اتخاذ احتياطات، وربما المطالبة بمزايا خاصة أو باستثناءات، هي الأقلية الدينية أو القومية. ولا يمكن لمطالبة الأغلبية بمزايا فوق ما يقدمه لها وزنها العددي النسبي منها، إلا أن يفسر على أنه محاولة لقطع الطريق على مطالبة الأقليات بحقوقها المتساوية، أي على نشوء مواطنية متساوية وحرة بالفعل، بعيدة عن أي إكراه. في إطار نظام سياسي يعتمد قاعدة الأغلبية السياسية ويأخذ بالديمقراطية والمساواة بين أبناء الدولة جميعا، تعمل هذه النزعة بعكس المطلوب. أقصد أن من المفروض أن تقدم الأغلبية الدينية أو القومية التي لا خطر على هيمنتها الثقافية، هي نفسها، ضمانات تطمئن الأقلية الدينية أو القومية وليس العكس.
متى ما نظرنا إلى الأمة بالمعنى السياسي وصرفنا النظر عن التميزات الدينية والإتنية، لم يعد هناك معنى للحديث عن مرجعية إسلامية. فالاسلام مرجعية الجماعة المسلمة والمسلمين، بصرف النظر عن صفتهم كمواطنين، وعن الدولة التي هم مواطنون فيها، أو بالإضافة إلى مواطنيتهم، التي لا ينبغي أن يزيدها الانتماء لدين ولا ينقص منها الانتماء لدين آخر قوة أو قيمة. لكن مرجعية الدولة لا يمكن أن تكون سوى الشعب، أي مجموع الأفراد المنضوين تحت لواء الدولة، والمسؤولين عن تسييرها والمشاركة في صوغ تشريعاتها وتطبيق قوانينها. وهذا هو معنى العبارة : الشعب مصدر السلطات، وإليه يكون الرجوع حتما، عبر الانتخابات والاستفتاءات، كلما تعرض المجتمع لأزمة، أو حصل اختلاف في تفسير القوانين والنصوص. والحديث عن مرجعية إسلامية مسبقة تحدد سقف الحرية والعدالة والمساواة في الدولة يعنى وضع شرعية أخرى إلى جانب الشرعية الديمقراطية المتمثلة في إرادة الناخبين وقبولهم، هي الشرعية الدينية التي لا يمكن أن تتحقق من دون وصاية فقهية تحدد، كما هو الحال في الجمهورية الاسلامية الايرانية اليوم على سبيل المثال، تطابق قوانين البلاد المشترعة في المجلس النيابي مع أحكام الفقيه الولي أو الوصي، أي مع إرادة المرشد العام للثورة او للدولة.
وبعكس ما يعتقد أصحاب نظرية مرجعية الدولة الاسلامية، لا تكمن المشكلة الرئيسية في هذه النظرية في تحويلها غير المسلمين إلى مواطنين من الدرجة الثانية، أو في ما يمكن أن تسببه من انتقاص في حقوقهم وتمثيل مصالحهم، وإنما، أخطر من ذلك، في قطع الطريق على نشوء علاقة مواطنة فعلية، وإجبار المسلمين على التصرف باعتبار كل فرد منهم عضوا في طائفة دينية، قبل أن يكون مواطنا حرا وعضوا في دولة ، أي حرمان المسلمين أنفسهم من صفة المواطنين، وتحويل الدولة إلى زعامة قبلية. فما يميز الطائفة عن الجماعة الدينية هو بالضبط قيامها على مبدأ العصبية الذي لخصه القدماء في عبارة قوية : أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، أي إلى ما يشبه القبيلة التي تتصرف بدافع التضامن العصبي ضد قبائل أخرى. فيصبح مصير المسلم وتفكيره مرتبطين بمنطق الدفاع عن العصبية القبلية التي تمثلها جماعة لم يعد فيها أحد يحتكم إلى العقل ولا يستند في سلوكه إلى مباديء الايمان وقيم الدين الأخلاقية والإنسانية، وإنما إلى مصلحة الطائفة ومكانتها وموقعها في الدولة. إن مشكلتها كامنة في تجريد المسلم نفسه من حقوقه في أن يكون فردا حرا ومستقلا ومجتهدا في الدين وفي السياسة معا، من دون كنيسة ومن دون كهنوت ومن دون زعامة دينية طائفية مفترضة، وبالتالي في مصادرة إرادة المسلمين كأفراد من أجل تكوين زعامة عصبية تحكم باسمهم في إطار الصراع على الموارد وتوزيع الحصص في دولة فرغت من مضمونها، وأصبحت ضحية تفاهم زعماء الطوائف ونزاعاتهم الأبدية، على مثال ما هو قائم في لبنان وما يراد له أن يقوم بالقوة والعنف في العراق.
من هنا لا ينبع الاعتراض على فكرة مرجعية الدولة الاسلامية من اعتراض على الدين نفسه، ولا على مكانته الاجتماعية أو هيمنته الثقافية والفكرية، ولا على حق الأكثرية المسلمة في تسويد قيمها وأسلوب حياتها حيث هي أغلبية، وإنما من الاعتقاد بأن استقلال الدولة عن جميع الزعامات والقيادات الدينية والفلسفية، وارتفاعها عن التدخل في الشؤون الروحية، في أي صورة جاءت، باستثناء تمكين أصحاب الأديان من ممارسة عباداتهم واعتقاداتهم بحرية، وتوفير وسائل هذه الممارسة المادية والمعنوية، هو شرط نشوء رابطة جديدة بين أعضاء المجتمع المكون من مذاهب واديان واعتقادات مختلفة ومتعددة ومتباينة حتى داخل الدين الواحد، هي رابطة الوطنية التي تجمع الأفراد، عبر الطوائف والمذاهب جميعا، وتؤلف منهم شعبا واحدا. ووسيلة هذا الجمع وذاك التأليف هي بالضبط تكوين المواطنية التي تعبر عن ضمان مكانة واحدة للأفراد كافة، مرتبطة هي نفسها بإقرارهم لبعضهم البعض حقوقا واحدة، يترتب عليها مسؤوليات واحدة وواجبات متساوية أيضا. وفي هذه المساواة في الحقوق والواجبات على مستوى العلاقة بالدولة والسياسة، يعاد بناء الفرد كمواطن، ويتم تجاوز تمايزه على مستوى المجتمع المدني كمؤمن أو صاحب اعتقاد مختلف وعضو في جماعة أهلية متميزة. من دون بناء هذه الرابطة الموحدة من خلال مفهوم المساواة في الحقوق والواجبات، لا يمكن الخروج من نزاعات المجتمع الأهلي واختلافاته وتمايزه، ولا بناء دولة أمة ومواطنية.
بديل ذلك سيكون بالضرورة إما الفوضى والنزاع الدائم بين طوائف وقبائل لا رابط بينها، لأنها لم ترتفع إلى مستوى المبدا السياسي، أو حكم الطائفية أو القبلية أو المافيا النابع من نجاح إحدى الجماعات الأهلية الخاصة في اختطاف الدولة، التي نشات في السياق التاريخي الخاص لنزع الاستعمار، والسيطرة عليها واستخدامها كأداة وآلة لإخضاع الطوائف والقبائل والجماعات الأهلية المتفرقة الأخرى، وفرض الإذعان عليها، واستعبادها لتحقيق مصالح خاصة أو مآرب وأمجاد شخصية لزعاماتها.
مهما أجرينا من تعديل على الصيغة الأساسية للايديولوجية الاسلاموية، لن يكون من الممكن تحويل الاسلام، وهو رابطة دينية واعتقادية أصلا، إلى أساس لرابطة سياسية تجمع بين المسلم والمسيحي والبوذي وغير المؤمن. بل ليس من الممكن في نظري، مهما خففنا من مطالب هذه الدعوة ومن مغالاة أصحابها أو بعض أصحابها، إعادة بناء الرابطة الإسلامية المفككة، أي إحياء الجماعة الدينية، انطلاقا من تأكيد المرجعية الإسلامية للدولة والدعوة لها، ولا تجاوز التمايزات والاختلافات المتفاقمة بين أبنائها بسبب تباعد مصالحهم الاجتماعية وتباين انتماءاتهم السياسية وتعدد ولاءاتهم الفكرية وتطلعاتهم الفردية والجمعية. ولن تكون نتيجة هذه المحاولات والمساعي النبيلة سوى إضاعة فرصة بناء الرابطة السياسة ودولة المواطنة، وإضعاف قدرة المسلمين على مواجهة مخاطر الانقسام والاختلاف الديني والمذهبي وما يقود إليه من توسيع دائرة الفتنة والاقتتال في ما بينهم، كما هو قائم اليوم في أكثر من قطر من أقطارنا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire