الاتحاد 10 اكتوبر 07
خلف انهيار النظام شبه الاستعماري الذي حكم المنطقة الشرق أوسطية منذ بداية الحقبة الاستقلالية بعد الحرب العالمية الثانية في شقيه الخارجي (السيطرة العسكرية والسياسية الغربية) والداخلي (نظم الاستبداد المحلية)، فراغا كبيرا، لا يقتصر على الناحية الاستراتيجية فحسب، ولكن يشمل الحياة السياسية أيضا. ويعني الفراغ السياسي غياب أي مشروع للعمل الجمعي، وطنيا كان أم إقليميا، يضع القواعد والمباديء الضرورية للسلام والاستقرار والتعاون والتبادل والإثراء المتبادل والابداع والتجديد الضروري لاستمرار المدنية وتطور الحضارة الانسانية.
لا يمكن للإرهاب الذي انتشر منذ عقدين على يد بعض الجماعات المتطرفة الاسلامية أن يشكل مشروعا سياسيا بالمعني الذي ذكرت. وبالمثل ليس بإمكان الحرب الطائفية ولا النظم الطائفية أيضا أن تنتج مشروعا سياسيا. ولا تستطيع فكرة الديمقراطية التي انتشرت في أوساط الرأي العام بكثرة أن تصبح مشروعا بديلا أيضا، مع استمرار سياسات الغرب الراهنة، لأنها لا يمكن أن تنشأ وتستمر، في منطقة مثل منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية من دون تعاون الغرب الذي يحتكر النفوذ والقوة فيها، أو على الأقل عدم مواجهته لها وقبوله بحق شعوب المنطقة بالفعل في تقرير مصيرها. ولا تملك القومية حظا أفضل في توفير مثل هذا المشروع. فهي لم تعد تحرك شعورا ولا تجمع شعبا، بعد أن حولتها النظم الفئوية إلى شعار ايديولوجي لتبرير سلطة جائرة تفتقر لكل مقومات الشرعية والنجاعة. أما الفكر الإسلامي الذي أصبح موردا للعديد من نظريات الصراع على السلطة والحكم، فقد دخل هو نفسه في مازق بعد أن تحول في العديد من المواقع إلى مذاهب متنابذة، وارتبط ذكره في أوساط الرأي العام بتجارب النظم التي ادعت الاستناد إلى الاسلام، أو بحركات الارهاب والعداء المستحكم والشامل للغرب، وكل ما يرتبط به من قيم العقل والحرية الفردية والحداثة.
هذا الفراغ الفكري السياسي هو الذي يفسر بقاء النظم المفتقرة لأي مبدأ أو قانون سوى حفظ مصالح القائمين عليها وتعظيمها. وهو الذي يشكل التربة الأخصب لنمو الفساد وتفاقمه. ففي غياب أي مشروع سياسي، بل غياب الشروط التي تمكن من بناء مشروع سياسي على درجة من الشرعية والنجاعة والاقناع، تعطيه الصدقية وإمكانية التحقيق، يمكن لكل أصحاب المشاريع الشخصية والفئوية الصغيرة أن يجدوا مجالا فسيحا لمغامراتهم الأكثر غرابة ولا معقولية. المشاريع الجزئية ما تحت الوطنية وما فوق الوطنية تنمو وتزدهر مع غياب المشروع العمومي (الوطني). والغرب يقضي بسياساته الخرقاء على كل القوى العمومية (الوطنية)، ويسد الطريق بها على أي مشروع تاريخي ممكن الظهور، بقدر ما يقضي على إمكانية وجود سياسة وطنية، وبالتالي قيادة وطنية أيضا تتماهى مع المصالح العامة وتعمل لها.
فالمستبدون الطغاة والانتهازيون والطامحون من علمانويين وإسلامويين يستثمرون الفراغ القائم كما يستثمرون سياسات العدوان الخارجية ليخضعوا الشعب لمشاريعهم الخاصة، أو ليجعلوا من هذه المشاريع البديل الوحيد عن الفوضى، أي ليسدوا الفراغ.
إذا لم تتغير الشروط القائمة، وفي مقدمها علاقة المنطقة بالمنظومة الدولية، وعلاقة أطرافها فيما بينهم، ستغرق أكثر وتغوص في حقبة طويلة من التخبط والنزاع المعمم المفتوح.
أمام مخاطر الانجراف وراء المشاريع الوهمية الفارغة، ربما كان الانكفاء على المشاريع الوطنية، والعمل على بلورة استراتيجيات تهدف إلى إعادة بناء ما تهاوى منها، على أمل تحويلها إلى وطنيات مستقرة وفاعلة، هو اليوم الملجأ الوحيد للقوى الديمقراطية، في انتظار فرص أفضل للعودة إلى استراتيجيات أكثر طموحا في إطار إطلاق ديناميكية الحداثة العميقة في الثقافة والحضارة العربيتين. لكن، في هذه الحالة، على أي أساس يمكن إعادة بناء هذه الوطنيات المحطمة؟ أي ديمقراطية وأي تسوية وطنية يمكن تصورهما للتغلب على الجراحات وتجاوز التصدعات؟ كيف يتم جمع الكسور الطائفية والمذهبية والاجتماعية والإتنية في بوتقة واحدة؟
تستدعي إعادة بناء الوطنية، فكرة وسلوكا، تحرير الفرد من الإمعية وغياب الهوية والذاتية، وتأكيد استقلال المجتمع عن سيطرة القوى الخارجية، وسيادته تجاه جميع القوى وشبكات المصالح الخاصة المحلية، وتوسيع دائر ة مشاركة الأفراد جميعا في بناء نظام قائم على احترام مباديء الحق والعدل والقانون التي لا يمكن قيام رابطة سياسية اليوم، أي نشوء جماعة سياسية حية، من دونها. وهو ما يجمع تحت اسم نظام الديمقراطية. والحال أن مشروع الديمقراطية لا يولد في الفراغ القيمي والسياسي والاستراتيجي. فهي جزء من مشروع تحديث شامل. والصراع مع الغرب كله يجري حول طبيعة هذا التحديث وفرصه المتاحة. فالاندماج بالعصر واستيعاب التجديدات المدنية والعلمية والتقنية والحضارية عموما، أي إطلاق عملية التحديث العربي العميقة، الفكرية والمادية، التي توقفت، هي المشروع التاريخي الوحيد الممكن في الواقع، وليس هناك أي مشروع آخر. وهذا يحتاج إلى شروط داخلية وخارجية لا تزال بعيدة عن التحقيق. وبانتظار ذلك، تستمر سياسات الغرب الراهنة في دفع النواة الديمقراطية الوليدة إلى المزيد من التهميش، وتقضي على آفاق الحداثة العربية كما تزرع اليأس والشك بالمستقبل بدل تنمية الثقة والأمل. يكفي للبرهان على ذلك رؤية الدمار الذي يعم الشرق في فلسطين والعراق والسودان والصومال والخراب الذي يلف البلاد الأخرى من دون تمييز.
كي ينفتح من جديد طريق الحداثة المادية والسياسية والمدنية ينبغي أن يغير الغرب من سياساته الشرق أوسطية بصورة جذرية، وينتقل من مفهوم الأمن والإخماد إلى مفهوم الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعوب واحترام القانون واتباع طريق التعاون والتفاوض في حل الخلافات، أي اعتبار الشعوب الشرقية شعوبا بالمعنى الكامل للكملة، لا سكانا يخضعون للوصاية، لا تهدف السياسات الدولية إلا إلى احتواء حركتهم بوصفهم مصدر أخطار كبيرة ومستمرة. وليس هناك في الأفق أمل في نظري في تغيير سريع لهذه السياسات. لأن المصالح الآنية تعمي المستفيدين منها داخل العالم العربي وخارجه.
أما إعادة بناء المجتمعات على أسس الوطنية الجامعة فيستدعي تغيير المناخ الثقافي والنفسي في المنطقة، ووضع حد لانتشار الطاعون الأسود والرهان الوحيد على العنف. وهذا هو عمل المثقفين والحركات المدنية. عملنا. لكن سيبقى أي تغيير هشا وقابلا للتراجع إذا لم تنشأ الظروف التي تسمح بتزامن التحولات الفكرية والتحولات الجيوستراتيجية. فليس هناك أمل في تقدم عملية التحويل الثقافي المدني، وربما في انطلاقها، مع استمرار السياسات الغربية العداونية التي تستثير العنف المقابل، وتشجع على نمو ثقافة الانكفاء والاحتجاج والانتقام ورد الفعل. ولا بد لمثل هذه السياسات إلا أن تعزل براعم التقدم المدني والديمقراطي وتحولهم في نظر الأغلبية الخائفة والمتسمرة كليا على رد العدوان، إلى ما يشبه الأصداء للغرب. كما لا فائدة من تغيير السياسات الغربية، سواء أحصل تحت تأثير استخدام القوة والمقاومة أو الحوار، إذا لم يحصل بموازاتها عمل ثقافي واسع يهدف إلى تحرير الشعوب من الخوف والاستلاب والنظرة الدونية للذات، وإعادة ثقتها بنفسها وتعميق وعيها المدني والتاريخي، وضمان مشاركتها الفعالة في عملية التنمية والبناء.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire