الاتحاد 4 اكتوبر 07
لم أشارك في السنوات الأخيرة في ندوة أو محاضرة لم تطرح فيها الأسئلة الصعبة والمحيرة معا حول المصير العربي: كيف صار العالم العربي على ما هو عليه اليوم من تخلف وضعف وانتشار للعنف وسيطرة عقلية التكفير والرأي الواحد ورفض الآخرين، وكيف يمكن الخروج بالمجتمعات العربية من حالة الاستبداد والسيطرة الخارجية وعقليات القرون الوسطى إلى رحاب الحرية والسيادة والحداثة المادية والسياسية والثقافية؟
جوابي في مواجهة هذا الاحباط العربي العميق هو أنه لا يوجد في ذلك أي سر. فنحن ببساطة مجتمعات تأخرت في استيعاب التجديدات والابداعات والتنظيمات التي كونت المجتمعات الأوروبية والصناعية الحديثة عموما. ولذلك نحن بحاجة إلى بذل مجهود أكبر وأسرع من الدول المتقدمة حتى نستطيع أن نساير العصر ونسير بموازاة الآخرين الذين سبقونا. فوضعنا كوضع التلميذ الذي يلتحق متأخرا بالصف الدراسي. لا يستطيع أن يكون على المستوى نفسه مع زملائه من دون بذل جهد استثنائي. بنبغي أن يعمل أكثر ويواظب أكثر ويجد أكثر ويتعب اكثر.
مشكلتنا اننا فعلنا العكس ولا نزال. قمنا بثورة لم نوفق بها، ففشلنا ثم أصابنا شعور بأننا مهما فعلنا لن نستطيع أن نتدارك التأخر الذي حصل لنا، فاخترنا طريق التغطية على تأخرنا، سواء بالتدجيل والدعاية وادعاء الانجاز الشكلي من دون تحقيق أي إنجاز في الواقع، أوبالهرب من الحاضر لإخفاء خجلنا من ضعفنا وعجزنا وراء إنجازات الماضي وتمجيدها، أو أخيرا بتحويل تأخرنا إلى قيمة خاصة بنا وعنصر من عناصر هويتنا، بل بتحويل تقدم الآخرين إلى عيوب ومثالب. فبدل أن نسعى للتقدم بشكل أسرع حتى نتمكن من الالتحاق بالركب، انكفأنا على ذاتنا، وشغلنا أنفسنا بهواجسنا وأسرفنا في تغذية أوهامنا ورعايتها، تحت شعار الحفاظ على هويتنا أو العمل على استعادتها، وهي التي لم نضيعها لحظة، وليس هناك أي سبب كي نضيعها. ولأن مواردنا ما فتئت تقل مع قعودنا عن العمل وهمود همتنا، حكمنا على أنفسنا بالاقتتال والنزاع في ما بيننا على تقاسم ثروة مادية ومعنوية متناقصة ومتراجعة باستمرار، في مواجهة حاجات متنامية، تحت تأثير تمثلنا أنماط الاستهلاك الخارجية وتزايد عدد السكان بمعدلات تتجاوز كل معدلات زيادة السكان العالمية، حتى لو أنها، كما تدل إحصاءات آخر كتاب صدر بالفرنسية، بدأت تتراجع بصورة جدية (موعد الحضارات أو لقاؤها، للكاتبين يوسف كرباج وإمانويل تود). هذا هو جوهر المشكلة الحقيقي التي نعاني منها، وما تبقى تبريرات واختراعات وهمية وخيالية للدفاع عن النفس تجاه الشعور بالنقص والخجل والإخفاق والتأخر غير المستدرك واليأس.
ولذلك، بعكس ما أوحت به، في العقود الثلاث الماضية، ثقافة الهرب والانكفاء على الذات والتغطية على الفشل، باسم الدفاع عن الهوية والتراث، لم تشهد مجتمعاتنا أي صحوة دينية أو مدنية او مادية، ولكنها دخلت في أزمة عميقة وشاملة معنوية واقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، أي في أزمة هوية أشد من السابق أيضا. فتحن نشكك اليوم بعروبتنا أكثر مما كان عليه الأمر في أي فترة أخرى، ونعتقد بعجزنا أكثر من أي وقت سابق أيضا، ونعاني من الضعف والتخاذل والانحناء أمام القوى الأجنبية كما لم نعرفه حتى في حقبة السيطرة العثمانية. فالاستسلام شامل، اما المقاومة فبؤر صغيرة مشتتة، ومعظمها متمفصل على منافسات ومنازعات مذهبية أو عشائرية أو دينية أو سلطوية أيضا. وقد زاد النزاع في ما بيننا، ونمت إرادة السيطرة بين أبناء جلدتنا بعضهم على البعض الآخر، وانهارت مفاهيم التعددية والقبول بالآخر في مجتمعاتنا، سواء أكان هذا الآخر سياسيا أو دينيا أو أقواميا أو حتى من جنس آخر. فكل واحد منا يعتقد أنه الأوحد والأصلح والأفضل والأحق من كل ما عداه بتبؤ مكانة متميزة واستثنائية. وأن له الحق في خدمة نفسه قبل الآخرين ومن دون النظر إليهم أو أخذ مصالحهم بالاعتبار. هذه هي حالة الفوضى والاضطراب الناجمة عن انهيار المعايير والقواعد والتخلي عن الالتزامات الجماعية والاستسلام لسيطرة المصالح الخاصة والشخصية، التي تميز سلوك أعضاء مجتمعاتنا، من قمة هرم السلطة حتى أبسط عامل.
وأصل الاستبداد هو هذا : أي غياب التضامن الجمعي، بما يعنيه من رؤية مشتركة، ومن التزام طوعي بضوابط وقواعد ومعايير وقيم إنسانية جامعة. فعندما لا يفكر كل واحد من أبناء المجتمع إلا في خدمة نفسه لماذا نريد أن يفكر أولئك المستفردين بسلطة القرار والمسيطرين على الدولة ومواردها بخدمة غيرهم من أبناء الشعب؟ إنهم لا يتصرفون إلا كما يتصرف كل واحد منا.
لن نخرج من هذه الأزمة الشاملة، التي أسميها أزمة الاجتماع العربي بأكمله، إلا بمواجهتها والتعرف عليها من حيث هي كذلك، لا صحوة ولا عودة للأصالة ولا تاكيد على هوية أو ثقافة أو حضارة مختلفة. عندئذ فقط يمكن التحقق من المشاكل وفهمها والتعرف عليها لا طمسها وتزيينها وتخريجها كمزايا او انتصارات أو عناصر هوية. وعندئذ يمكن أيضا البحث فيها وايجاد الحلول لها. وهذه الحلول تتلخص كلها في جملة واحدة: أن يتحمل الجميع وكل فرد مسؤوليته في ما حدث من تراجع في بنية علاقاتنا الاجتماعية، ومن تقهقر في أوضاعنا الأخلاقية والسياسية. وهذا ما يرتب على كل واحد منا أن يتحلى بالشجاعة الكافية لمراجعة أهدافه وتوجيه النقد لنفسه والتعرف على العطب الكامن في سلوكه. ثم، وهذه الخطوة الثانية الضرورية، تحمل الجميع وكل فرد مسؤوليته الخاصة، ومعرفة ما يترتب عليه لإرساء أسس نظام اجتماعي جديد، أي ببساطة، علاقة اجتماعية، أو علاقة مع الآخر، يحترم فيها الانسان وكل فرد الإنسان والفرد الآخر، بصرف النظر عن دينه ومذهبه وأصله الاجتماعي وجنسه، ويجعل من الارتقاء بشروط حياة الانسان المادية والمعنوية، وتنمية مواهبه، وتعميق وسائل التواصل والتضامن والتكافل بين أفراد مجتمعاته، أي باختصار سعاده المجتمع، غاية الدولة أو التنظيم السياسي والمدني.
من دون ذلك سوف نستمر نتخبط في الأزمة الشاملة التي نعيش فيها، مع خطر أن نفقد بشكل أكبر شعورنا بأننا نعيش في أزمة، ونقبل بتخلفنا وفوضانا واستبدادنا وغياب نظام القانون والسياسة والأخلاق عن مؤسساتنا، بما فيها الدولة، باعتبار كل ذلك من سماتنا الوطنية وعوامل أساسية في بناء هويتنا الثقافية. وفي هذه الحالة سوف ندخل في حقبة من الهمجية والبربرية المستدامة التي لن نخرج منها قبل عقود طويلة.
البداية تكمن في أن ندرك أننا نحن المسؤولين عن أنفسنا، وعن مصيرنا، ولا أحد غيرنا، أي أن يدرك كل واحد منا أنه مسؤول عما يحصل لنا جميعا، وإن لم تكن مسؤولية كل منا مساوية للأخرى.
جوابي في مواجهة هذا الاحباط العربي العميق هو أنه لا يوجد في ذلك أي سر. فنحن ببساطة مجتمعات تأخرت في استيعاب التجديدات والابداعات والتنظيمات التي كونت المجتمعات الأوروبية والصناعية الحديثة عموما. ولذلك نحن بحاجة إلى بذل مجهود أكبر وأسرع من الدول المتقدمة حتى نستطيع أن نساير العصر ونسير بموازاة الآخرين الذين سبقونا. فوضعنا كوضع التلميذ الذي يلتحق متأخرا بالصف الدراسي. لا يستطيع أن يكون على المستوى نفسه مع زملائه من دون بذل جهد استثنائي. بنبغي أن يعمل أكثر ويواظب أكثر ويجد أكثر ويتعب اكثر.
مشكلتنا اننا فعلنا العكس ولا نزال. قمنا بثورة لم نوفق بها، ففشلنا ثم أصابنا شعور بأننا مهما فعلنا لن نستطيع أن نتدارك التأخر الذي حصل لنا، فاخترنا طريق التغطية على تأخرنا، سواء بالتدجيل والدعاية وادعاء الانجاز الشكلي من دون تحقيق أي إنجاز في الواقع، أوبالهرب من الحاضر لإخفاء خجلنا من ضعفنا وعجزنا وراء إنجازات الماضي وتمجيدها، أو أخيرا بتحويل تأخرنا إلى قيمة خاصة بنا وعنصر من عناصر هويتنا، بل بتحويل تقدم الآخرين إلى عيوب ومثالب. فبدل أن نسعى للتقدم بشكل أسرع حتى نتمكن من الالتحاق بالركب، انكفأنا على ذاتنا، وشغلنا أنفسنا بهواجسنا وأسرفنا في تغذية أوهامنا ورعايتها، تحت شعار الحفاظ على هويتنا أو العمل على استعادتها، وهي التي لم نضيعها لحظة، وليس هناك أي سبب كي نضيعها. ولأن مواردنا ما فتئت تقل مع قعودنا عن العمل وهمود همتنا، حكمنا على أنفسنا بالاقتتال والنزاع في ما بيننا على تقاسم ثروة مادية ومعنوية متناقصة ومتراجعة باستمرار، في مواجهة حاجات متنامية، تحت تأثير تمثلنا أنماط الاستهلاك الخارجية وتزايد عدد السكان بمعدلات تتجاوز كل معدلات زيادة السكان العالمية، حتى لو أنها، كما تدل إحصاءات آخر كتاب صدر بالفرنسية، بدأت تتراجع بصورة جدية (موعد الحضارات أو لقاؤها، للكاتبين يوسف كرباج وإمانويل تود). هذا هو جوهر المشكلة الحقيقي التي نعاني منها، وما تبقى تبريرات واختراعات وهمية وخيالية للدفاع عن النفس تجاه الشعور بالنقص والخجل والإخفاق والتأخر غير المستدرك واليأس.
ولذلك، بعكس ما أوحت به، في العقود الثلاث الماضية، ثقافة الهرب والانكفاء على الذات والتغطية على الفشل، باسم الدفاع عن الهوية والتراث، لم تشهد مجتمعاتنا أي صحوة دينية أو مدنية او مادية، ولكنها دخلت في أزمة عميقة وشاملة معنوية واقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، أي في أزمة هوية أشد من السابق أيضا. فتحن نشكك اليوم بعروبتنا أكثر مما كان عليه الأمر في أي فترة أخرى، ونعتقد بعجزنا أكثر من أي وقت سابق أيضا، ونعاني من الضعف والتخاذل والانحناء أمام القوى الأجنبية كما لم نعرفه حتى في حقبة السيطرة العثمانية. فالاستسلام شامل، اما المقاومة فبؤر صغيرة مشتتة، ومعظمها متمفصل على منافسات ومنازعات مذهبية أو عشائرية أو دينية أو سلطوية أيضا. وقد زاد النزاع في ما بيننا، ونمت إرادة السيطرة بين أبناء جلدتنا بعضهم على البعض الآخر، وانهارت مفاهيم التعددية والقبول بالآخر في مجتمعاتنا، سواء أكان هذا الآخر سياسيا أو دينيا أو أقواميا أو حتى من جنس آخر. فكل واحد منا يعتقد أنه الأوحد والأصلح والأفضل والأحق من كل ما عداه بتبؤ مكانة متميزة واستثنائية. وأن له الحق في خدمة نفسه قبل الآخرين ومن دون النظر إليهم أو أخذ مصالحهم بالاعتبار. هذه هي حالة الفوضى والاضطراب الناجمة عن انهيار المعايير والقواعد والتخلي عن الالتزامات الجماعية والاستسلام لسيطرة المصالح الخاصة والشخصية، التي تميز سلوك أعضاء مجتمعاتنا، من قمة هرم السلطة حتى أبسط عامل.
وأصل الاستبداد هو هذا : أي غياب التضامن الجمعي، بما يعنيه من رؤية مشتركة، ومن التزام طوعي بضوابط وقواعد ومعايير وقيم إنسانية جامعة. فعندما لا يفكر كل واحد من أبناء المجتمع إلا في خدمة نفسه لماذا نريد أن يفكر أولئك المستفردين بسلطة القرار والمسيطرين على الدولة ومواردها بخدمة غيرهم من أبناء الشعب؟ إنهم لا يتصرفون إلا كما يتصرف كل واحد منا.
لن نخرج من هذه الأزمة الشاملة، التي أسميها أزمة الاجتماع العربي بأكمله، إلا بمواجهتها والتعرف عليها من حيث هي كذلك، لا صحوة ولا عودة للأصالة ولا تاكيد على هوية أو ثقافة أو حضارة مختلفة. عندئذ فقط يمكن التحقق من المشاكل وفهمها والتعرف عليها لا طمسها وتزيينها وتخريجها كمزايا او انتصارات أو عناصر هوية. وعندئذ يمكن أيضا البحث فيها وايجاد الحلول لها. وهذه الحلول تتلخص كلها في جملة واحدة: أن يتحمل الجميع وكل فرد مسؤوليته في ما حدث من تراجع في بنية علاقاتنا الاجتماعية، ومن تقهقر في أوضاعنا الأخلاقية والسياسية. وهذا ما يرتب على كل واحد منا أن يتحلى بالشجاعة الكافية لمراجعة أهدافه وتوجيه النقد لنفسه والتعرف على العطب الكامن في سلوكه. ثم، وهذه الخطوة الثانية الضرورية، تحمل الجميع وكل فرد مسؤوليته الخاصة، ومعرفة ما يترتب عليه لإرساء أسس نظام اجتماعي جديد، أي ببساطة، علاقة اجتماعية، أو علاقة مع الآخر، يحترم فيها الانسان وكل فرد الإنسان والفرد الآخر، بصرف النظر عن دينه ومذهبه وأصله الاجتماعي وجنسه، ويجعل من الارتقاء بشروط حياة الانسان المادية والمعنوية، وتنمية مواهبه، وتعميق وسائل التواصل والتضامن والتكافل بين أفراد مجتمعاته، أي باختصار سعاده المجتمع، غاية الدولة أو التنظيم السياسي والمدني.
من دون ذلك سوف نستمر نتخبط في الأزمة الشاملة التي نعيش فيها، مع خطر أن نفقد بشكل أكبر شعورنا بأننا نعيش في أزمة، ونقبل بتخلفنا وفوضانا واستبدادنا وغياب نظام القانون والسياسة والأخلاق عن مؤسساتنا، بما فيها الدولة، باعتبار كل ذلك من سماتنا الوطنية وعوامل أساسية في بناء هويتنا الثقافية. وفي هذه الحالة سوف ندخل في حقبة من الهمجية والبربرية المستدامة التي لن نخرج منها قبل عقود طويلة.
البداية تكمن في أن ندرك أننا نحن المسؤولين عن أنفسنا، وعن مصيرنا، ولا أحد غيرنا، أي أن يدرك كل واحد منا أنه مسؤول عما يحصل لنا جميعا، وإن لم تكن مسؤولية كل منا مساوية للأخرى.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire