الجزيرة نت سبتمبر07
في تحليلهم للمشاكل الاجتماعية، يركز أغلب علماء الاجتماع عادة على الشروط الاجتماعية-السياسية التي تشكل من منظورهم مفتاح فهم أي نظام اجتماعي، في أسلوب عمله وآفاق تطوره أو بالعكس انسداده وانحطاطه. والتركيز على هذه الشروط يعطي أهمية مركزية للعلاقات الاجتماعية وطبيعة الأسس والقواعد التي تقوم عليها، بما تتضمنه من تنويعات في الهياكل الاجتماعية والطبقية وتوزيع الثروة وأنماط ممارسة السلطة وتوزيعها. وهم يخالفون في ذلك نزعة قوية معاصرة نشأت مع تطور الانتروبولوجيا الثقافية تؤكد على العوامل الثقافية وتجعل من هذه العوامل، أي من أنماط المعرفة والايديولوجيات والأفكار والمذاهب والتقاليد التي تمثلها ثقافة ما، كما درج على ذلك المحللون الأمريكيون الثقافويون، مفتاح فهم سلوك المجتمعات ومصائرها.
وبالرغم من أنني لا أعتبر الثقافة عاملا محددا رئيسيا حسب المصطلحات الماركسية التقليدية للعوامل المحددة، في ما يتعلق بالمستوى الأول من التحليل الاجتماعي، أي مستوى إنتاج النظام، إلا أنني أعتقد أنه من دون تحليل العوامل الثقافية لا يمكن أن نفهم عملية إعادة إنتاج أي نظام، وبالتالي استمراره. والواقع، لا يخضع المجتمع في بلورة نظامه لعامل واحد تشتق منه جميع العوامل الاخرى ولكنه ثمرة تضافر عوامل مختلفة نوعيا، وبالتالي فهو نظام مركب، وفي الوقت نفسه معقد.
هذا يعني أنه لا يوجد نظام اجتماعي سياسي من دون نظام ثقافي. ليس ذلك بمعنى أن الأول خاضع للثاني ولا أن الثاني خاضع للأول أو تابع له، وإنما بالعكس في أن لكل نظام اجتماعي سياسي نظام ثقافي مواز له ومرتبط به، لا يمكن إعادة إنتاجه من دونه، بالرغم من أن الثقافة ليست الحاضنة للنظم ولا المولدة لها. النظم الاجتماعية السياسية نظم تاريخية تولد في سيروات الصراع الجيوسياسية والاقتصادية والتقنية الكبرى، وتتخذ أشكالها المختلفة ونمط وجودها من السياقات الخاصة التي ترافق ولادتها. لكنها منذ ولادتها تتمفصل مع نظم ثقافية وتعمل على بنائها حتى تضمن لنفسها الاستقرار والاستمرار أي الصدقية والشرعية والديمومة.
لكن بعكس ما درج عليه المحللون الغربيون والمستشرقون أيضا، أعتقد أن من الخطأ مطابقة هذه الثقافة التي تشكل شرطا لا ماديا لإعادة إنتاج نظام العلاقات الاجتماعية المادي، مع التراث أو الإرث الثقافي الماضي، ولا من باب أولى مع الأديان والاعتقادات الكبرى التي يشارك فيها عادة عدد كبير من المجتمعات المتباعدة في بنياتها واختياراتها وقواعد عملها. الثقافة المعنية هنا هي مجموع الاختيارات الثقافية التي يدفع إليها ويشجع عليها نظام اجتماعي سياسي معين، والتي تشكل بالمقابل البيئة اللامادية التي تضمن بقاءه. وهذه الخيارات لا علاقة لها بالثقافة التقليدية المفترضة لأي مجتمع أو شعب. إنها تنبع من التأويلات التاريخية المتغيرة التي يقوم بها المجتمع لهذه الثقافة وللتراث المرتبط بها، بالإضافة إلى الاقتباسات العديدة والحاسمة التي يستعيرها من الثقافات الأخرى ومن عصور ثقافية متباينة ليكون نظاما ثقافيا منسجما مع النظام المجتمعي القائم.
والنظام العربي الاجتماعي السياسي القائم قد طور ثقافة لا علاقة لها في الواقع بالاسلام ولا بالثقافة العربية الكلاسيكية، ولا حتى بتلك المنبثقة عن عصر اليقظة العربية في النصف الثاني من التاسع عشر، اللهم إلا من حيث المظهر. إنها ثقافة جديدة نشأت في العقود الماضية عبر المقاومات متعددة الأشكال ضد السيطرة الخارجية، المتعددة الاوجه والأشكال هي أيضا. وهو ما شكل جوهر تجربة العرب الجماعية التاريخية في العصر الحديث. ففي رد فعله على هذه السيطرة وبموازاتها، ولد المجتمع، على مستوى الأفراد والجماعة ككل، نظاما جديدا من الاستعدادات والتوجهات والتطلعات والتفاعلات ومباديء العمل والقيم والأفكار التي كونت ثقافة أو نظاما ثقافيا جديدا يمكن وصفه بثقافة المواجهة في أشكالها المختلفة قيمتها الرئيسية.
لكن من ثقافة مواجهة السيطرة هذه وفي طياتها سوف ينشأ ما أسميه ثقافة مضادة أو ثقافة الضد، التي تدفع المجتمع إلى توجيه طاقاته الفكرية والنفسية كلها لحماية الذات ودفع الأذى عنها، بدل العناية بتجديدها وتثوير أسس بقائها. وهي على العموم ثقافة تبجيلية بالنسبة للذات وتشهيرية بالنسبة للآخر، تسيطر عليها القيم والتوجهات السلبية وتفتقر لملكات التفكير البناء، المبدع والبعيد المدى، حتى في ما يتعلق بمقاومة السيطرة الخارجية. وتغلب عليها الآليات الدفاعية والميول التبريرية وضعف الحساسية لكل ما يحيل إلى الأخلاق والقانون والحق والجمال، في مقابل نزوعها المتأصل إلى الرهان على العنف والقوة. بمعنى آخر، لقد سكننا هاجس السيطرة الأجنبية حتى سمم حياتنا وأبعدنا عن الاهتمام ببناء مجتمعاتنا نفسها من الداخل، فأصبحنا مستلبين لها، نقوم بانتاجها في الواقع المادي بقدر ما ننتجها في أذهاننا ونشرط وجودنا بها. لقد أصبحنا رهائن هذه السيطرة بقدر ما نجحت في أن تجعلنا دائرين في فلكها وغير قادرين على تصور أنفسنا وتحديد هويتنا من دونها او بعيدا عنها. بل لقد أصبحت هذه السيطرة نفسها لا تستمر إلا بمقاومتنا ولا تعيش إلا منها وبها. تماما كما لا تعيش الحرب المعلنة ضد الارهاب من دون إرهاب ولا يمكن تبريرها إلا به.
هكذا أصبحنا ضحايا السيطرة التي نكافح ضدها بقدر ما سمحنا لهاجسها أن يسككنا ويحرمنا من فرصة التحرر النفسي منها، أي التفكير المستقل والأصيل النابع من مطالب أخلاقية ومدنيةا. وهو شرط تكوين الذاتية الضرورية لأي فعل حرية بناء، ولأي تحرر فعلي من السيطرة الخارجية. والحال أننا بقدر ما فقدنا هذه الذاتية بالانمحاء في السيطرة ذاتها التي نحارب ضدها والتفكير من خلالها وكرد فعل عليها، أي بقدر ما أصبحت ثقافتنا نفسها ردود أفعال، فقدنا القدرة على الفعل التحرري ولم نعد نعيش الحرية إلا كفاحا ضد السيطرة الخارجية، لا شرطا تكوينيا ومشروعا لبناء ذات مستقلة فعلية. وبقدر ما أصبحت ثقافتنا ردود أفعال على ثقافة الخصم ورفض لها وتصد لكل ما يصدر عنها، لم يعد لدينا في الواقع ثقافة بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي خيارات خاصة مستمدة من مشروع بنائنا الخاص وبناء ذاتيتنا المستقلة. هكذا أصبحت ثقافتنا هي رفض ثقافة الآخر وقيمه، وفي ما وراء ذلك التجرد عن القيم الثقافية ذاتها.
الثقافة المضادة التي أصبحنا حامليها أسوأ من التبعية الثقافية، لأنها إستلاب محض يغطي على نفسه باسم المقاومة ويعطي لنفسه الوهم بأنه حر، لا لأنه يملك شروط الحرية، ولكن لأنه يرفض العبودية المفروضة عليه، في الوقت الذي يعيد إنتاجها في ردود أفعاله نفسها. ولأننا فقدنا الحرية التي لا ثقافة من دونها، وجعلنا من حرية الآخرين وثقافتهم عدوا لنا، حكمنا على أنفسنا بأن نعيش في فراغ يعادل شرط الهمجية بقدر ما يعني غياب أي معيار حقيقي وفعال نخضع له أفعالنا وسلوكنا الفردي والجماعي. والواقع أن الغريزة كما تتجسد في المصلحة الآنية والمادية هي التي تغلب في ثقافة الضد على سلوك الفرد وتوجهاته، وهي التي تفسر تأويلنا السلبي العبودي واللأخلاقي الراهن لعقائدنا الدينية وقيمنا التراثية وهويتنا، حتى لو كان الخطاب الذي يرافقها يكرر إلى ما لانهاية كلمات الحرية والاستقلال والهوية. بل إن هذ التكرار يعكس تماما غياب الحرية والاستقلال والهوية، أي كل ما يؤسس لثقافة ولمنظومة أخلاقية.
الحل ليس بترك المقاومة أو إلغاء قيمها والاندماج أو الانصهار بالمعتدي والمتسلط والمتجبر، الداخلي والخارجي معا، فهذا هو الانتحار بعينه، وإنما في إخضاع برنامج المقاومة لبرنامج بناء الذاتية، وهو ما يجعل من بناء الحرية الشخصية، أي بناء الوعي والضمير والإرادة عند كل فرد، ومن وراء ذلك تأسيس الفعل الأخلاقي، وتاليا الثقافة، شرطا للحرية الخارجية. من دون ذلك لن تكون المقاومة إلا استهلاكا للذات وإفقارا مستمرا للروح واستنفادا لآخر ما تبقى لنا من قيم المدنية الموروثة وتراثها. لن نتغلب على الغربيين المسيطرين بتبني وسائل همجية، حتى لو حققنا بعض انتصارات مادية عليهم، تكلفنا أضعافها من الناحية المدنية والروحية، كما يدل على ذلك ما يحصل في العراق من انفلات النزاعات الطائفية والعشائرية والمذهبية. وهو ما يعني أنه ليس هناك حل خارج إعادة بناء الثقافة والحياة المدنية والأخلاقية التي لا تقوم دولة من دونها.
وبالرغم من أنني لا أعتبر الثقافة عاملا محددا رئيسيا حسب المصطلحات الماركسية التقليدية للعوامل المحددة، في ما يتعلق بالمستوى الأول من التحليل الاجتماعي، أي مستوى إنتاج النظام، إلا أنني أعتقد أنه من دون تحليل العوامل الثقافية لا يمكن أن نفهم عملية إعادة إنتاج أي نظام، وبالتالي استمراره. والواقع، لا يخضع المجتمع في بلورة نظامه لعامل واحد تشتق منه جميع العوامل الاخرى ولكنه ثمرة تضافر عوامل مختلفة نوعيا، وبالتالي فهو نظام مركب، وفي الوقت نفسه معقد.
هذا يعني أنه لا يوجد نظام اجتماعي سياسي من دون نظام ثقافي. ليس ذلك بمعنى أن الأول خاضع للثاني ولا أن الثاني خاضع للأول أو تابع له، وإنما بالعكس في أن لكل نظام اجتماعي سياسي نظام ثقافي مواز له ومرتبط به، لا يمكن إعادة إنتاجه من دونه، بالرغم من أن الثقافة ليست الحاضنة للنظم ولا المولدة لها. النظم الاجتماعية السياسية نظم تاريخية تولد في سيروات الصراع الجيوسياسية والاقتصادية والتقنية الكبرى، وتتخذ أشكالها المختلفة ونمط وجودها من السياقات الخاصة التي ترافق ولادتها. لكنها منذ ولادتها تتمفصل مع نظم ثقافية وتعمل على بنائها حتى تضمن لنفسها الاستقرار والاستمرار أي الصدقية والشرعية والديمومة.
لكن بعكس ما درج عليه المحللون الغربيون والمستشرقون أيضا، أعتقد أن من الخطأ مطابقة هذه الثقافة التي تشكل شرطا لا ماديا لإعادة إنتاج نظام العلاقات الاجتماعية المادي، مع التراث أو الإرث الثقافي الماضي، ولا من باب أولى مع الأديان والاعتقادات الكبرى التي يشارك فيها عادة عدد كبير من المجتمعات المتباعدة في بنياتها واختياراتها وقواعد عملها. الثقافة المعنية هنا هي مجموع الاختيارات الثقافية التي يدفع إليها ويشجع عليها نظام اجتماعي سياسي معين، والتي تشكل بالمقابل البيئة اللامادية التي تضمن بقاءه. وهذه الخيارات لا علاقة لها بالثقافة التقليدية المفترضة لأي مجتمع أو شعب. إنها تنبع من التأويلات التاريخية المتغيرة التي يقوم بها المجتمع لهذه الثقافة وللتراث المرتبط بها، بالإضافة إلى الاقتباسات العديدة والحاسمة التي يستعيرها من الثقافات الأخرى ومن عصور ثقافية متباينة ليكون نظاما ثقافيا منسجما مع النظام المجتمعي القائم.
والنظام العربي الاجتماعي السياسي القائم قد طور ثقافة لا علاقة لها في الواقع بالاسلام ولا بالثقافة العربية الكلاسيكية، ولا حتى بتلك المنبثقة عن عصر اليقظة العربية في النصف الثاني من التاسع عشر، اللهم إلا من حيث المظهر. إنها ثقافة جديدة نشأت في العقود الماضية عبر المقاومات متعددة الأشكال ضد السيطرة الخارجية، المتعددة الاوجه والأشكال هي أيضا. وهو ما شكل جوهر تجربة العرب الجماعية التاريخية في العصر الحديث. ففي رد فعله على هذه السيطرة وبموازاتها، ولد المجتمع، على مستوى الأفراد والجماعة ككل، نظاما جديدا من الاستعدادات والتوجهات والتطلعات والتفاعلات ومباديء العمل والقيم والأفكار التي كونت ثقافة أو نظاما ثقافيا جديدا يمكن وصفه بثقافة المواجهة في أشكالها المختلفة قيمتها الرئيسية.
لكن من ثقافة مواجهة السيطرة هذه وفي طياتها سوف ينشأ ما أسميه ثقافة مضادة أو ثقافة الضد، التي تدفع المجتمع إلى توجيه طاقاته الفكرية والنفسية كلها لحماية الذات ودفع الأذى عنها، بدل العناية بتجديدها وتثوير أسس بقائها. وهي على العموم ثقافة تبجيلية بالنسبة للذات وتشهيرية بالنسبة للآخر، تسيطر عليها القيم والتوجهات السلبية وتفتقر لملكات التفكير البناء، المبدع والبعيد المدى، حتى في ما يتعلق بمقاومة السيطرة الخارجية. وتغلب عليها الآليات الدفاعية والميول التبريرية وضعف الحساسية لكل ما يحيل إلى الأخلاق والقانون والحق والجمال، في مقابل نزوعها المتأصل إلى الرهان على العنف والقوة. بمعنى آخر، لقد سكننا هاجس السيطرة الأجنبية حتى سمم حياتنا وأبعدنا عن الاهتمام ببناء مجتمعاتنا نفسها من الداخل، فأصبحنا مستلبين لها، نقوم بانتاجها في الواقع المادي بقدر ما ننتجها في أذهاننا ونشرط وجودنا بها. لقد أصبحنا رهائن هذه السيطرة بقدر ما نجحت في أن تجعلنا دائرين في فلكها وغير قادرين على تصور أنفسنا وتحديد هويتنا من دونها او بعيدا عنها. بل لقد أصبحت هذه السيطرة نفسها لا تستمر إلا بمقاومتنا ولا تعيش إلا منها وبها. تماما كما لا تعيش الحرب المعلنة ضد الارهاب من دون إرهاب ولا يمكن تبريرها إلا به.
هكذا أصبحنا ضحايا السيطرة التي نكافح ضدها بقدر ما سمحنا لهاجسها أن يسككنا ويحرمنا من فرصة التحرر النفسي منها، أي التفكير المستقل والأصيل النابع من مطالب أخلاقية ومدنيةا. وهو شرط تكوين الذاتية الضرورية لأي فعل حرية بناء، ولأي تحرر فعلي من السيطرة الخارجية. والحال أننا بقدر ما فقدنا هذه الذاتية بالانمحاء في السيطرة ذاتها التي نحارب ضدها والتفكير من خلالها وكرد فعل عليها، أي بقدر ما أصبحت ثقافتنا نفسها ردود أفعال، فقدنا القدرة على الفعل التحرري ولم نعد نعيش الحرية إلا كفاحا ضد السيطرة الخارجية، لا شرطا تكوينيا ومشروعا لبناء ذات مستقلة فعلية. وبقدر ما أصبحت ثقافتنا ردود أفعال على ثقافة الخصم ورفض لها وتصد لكل ما يصدر عنها، لم يعد لدينا في الواقع ثقافة بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي خيارات خاصة مستمدة من مشروع بنائنا الخاص وبناء ذاتيتنا المستقلة. هكذا أصبحت ثقافتنا هي رفض ثقافة الآخر وقيمه، وفي ما وراء ذلك التجرد عن القيم الثقافية ذاتها.
الثقافة المضادة التي أصبحنا حامليها أسوأ من التبعية الثقافية، لأنها إستلاب محض يغطي على نفسه باسم المقاومة ويعطي لنفسه الوهم بأنه حر، لا لأنه يملك شروط الحرية، ولكن لأنه يرفض العبودية المفروضة عليه، في الوقت الذي يعيد إنتاجها في ردود أفعاله نفسها. ولأننا فقدنا الحرية التي لا ثقافة من دونها، وجعلنا من حرية الآخرين وثقافتهم عدوا لنا، حكمنا على أنفسنا بأن نعيش في فراغ يعادل شرط الهمجية بقدر ما يعني غياب أي معيار حقيقي وفعال نخضع له أفعالنا وسلوكنا الفردي والجماعي. والواقع أن الغريزة كما تتجسد في المصلحة الآنية والمادية هي التي تغلب في ثقافة الضد على سلوك الفرد وتوجهاته، وهي التي تفسر تأويلنا السلبي العبودي واللأخلاقي الراهن لعقائدنا الدينية وقيمنا التراثية وهويتنا، حتى لو كان الخطاب الذي يرافقها يكرر إلى ما لانهاية كلمات الحرية والاستقلال والهوية. بل إن هذ التكرار يعكس تماما غياب الحرية والاستقلال والهوية، أي كل ما يؤسس لثقافة ولمنظومة أخلاقية.
الحل ليس بترك المقاومة أو إلغاء قيمها والاندماج أو الانصهار بالمعتدي والمتسلط والمتجبر، الداخلي والخارجي معا، فهذا هو الانتحار بعينه، وإنما في إخضاع برنامج المقاومة لبرنامج بناء الذاتية، وهو ما يجعل من بناء الحرية الشخصية، أي بناء الوعي والضمير والإرادة عند كل فرد، ومن وراء ذلك تأسيس الفعل الأخلاقي، وتاليا الثقافة، شرطا للحرية الخارجية. من دون ذلك لن تكون المقاومة إلا استهلاكا للذات وإفقارا مستمرا للروح واستنفادا لآخر ما تبقى لنا من قيم المدنية الموروثة وتراثها. لن نتغلب على الغربيين المسيطرين بتبني وسائل همجية، حتى لو حققنا بعض انتصارات مادية عليهم، تكلفنا أضعافها من الناحية المدنية والروحية، كما يدل على ذلك ما يحصل في العراق من انفلات النزاعات الطائفية والعشائرية والمذهبية. وهو ما يعني أنه ليس هناك حل خارج إعادة بناء الثقافة والحياة المدنية والأخلاقية التي لا تقوم دولة من دونها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire